نوفمبر 23, 2024 4:56 ص

بقلم : أ.د. علي جميل السامرائي

أستاذ الصرف ،معاون رئيس جامعة دجلة للشؤون العلمية، بغداد، العراق

تحاول رواية ولاّدة بنت المستكفي أنْ  تجسّد أدق المشاعر الإنسانية , عازفة على أوتار قلقها ,وأوجاعها, و أحزانها  القتامة ,ٍ وقد حاول الروائي أنْ يتوغل بعيداً في فضاءات المكان المغربي  , حيث عاش الكاتب هناك مدة طويلة ,ويبدو المكان واقعياً تارة , وسحرياً تارة اخرى , وموغلاً في الغرابة والأسطورة والتخيّل , فهناك المدن الواقعيّة : فاس ومكناس والرباط والدار البيضاء وخنيفرة , واليكانت وقرطبة, وهناك الفضاءات التخيليّة البعيدة , التي تنسج من عالم الأسطورة والتخيّل . ومن الملاحظ أنّ فضاءات المدينة في الرواية , تبدو فضاءات للاغتراب والاستلاب, فضاءات يفتقد المرء فيها الى حريته وكرامته وكبريائه, فضاءات ملوثة  بشراهة قاطني هذه الفضاءات صوب الاستهلاك, وطحن الإنسان, إذ لا يستطيع الفرد أنْ يحقق فيها  أبسط متطلبات حياته , وكل سكان هذه الفضاءات منهمكون في البيع والشراء.

     إنّ ثنائية الواقعي والتخيلي تتزامن في نسق جمالي , يصعب فيه فصلهما, فالواقع يشكل  خلفيّة مرجعيّة وحقلاً سوسيولوجياً يتحرك فيه الأبطال, حالمين بالفرح والحريّة والحب النظيف , والعلاقات الإنسانّية التي لم تتلوث بعد…والتخيلي ينسج من  الحلمي والتأريخي والأسطوري . ومن خلال هذا الواقع  ترتسم الفضاءات أمامنا  مشكلة  لوحات رومانسيّة شفيفة تارة , وسوداء قاتمة تارة أخرى,و تبدو  الأزقة والشوارع والخمارات والمقاهي والقصور, نسيجا متشابكا من الحلمي والتخيلي …

 و من خلال هذه الفضاءات , تتناثر الأحداث السرديّة , واصفة أخلاقيات الشخوص ورؤاهم الاجتماعيّة والأيديولوجية والسياسيّة ,وعبر لغة جريئة خادشة أحيانا, وشاعرية رومانسية تارة أخرى.

و يدين الروائي  من خلال تشكيلات  السرد مجمل  العلاقات الجنسية المتهتكة , التي تفتقد إلى الحب, بحيث تبدو هذه العلاقات غارقة بكل ما هو استهلاكي, في فضاءات شرهة تلتهم إنسانيّة الإنسان وكرامته . ومن خلال هذه العلاقات يفرز السرد الروائي  مجموعة من الأنساق الأيديولوجيّة , السياسيّة  والاقتصاديّة  والمجتمعيّة, بحيث نرى أنّ هذه العلاقات تتشابك وتتنامى, وتخضع بدورها لبنى سياسيّة ومعرفيّة تفرزها وتؤطرها. ونقرأ في إحدى مظاهر هذه العلاقات  نغمة حزينة, تستحضر منها فاطمة الإدريسي, إحدى بطلات الرواية, مأساتها و مأساة أسرتها , من خلال تسلط  والٍ جديد عليها، و ظالم لها  ولأسرتها , تقول فاطمة: “وستأتي الأزمنة السوداء القاصفة للنخيل والسرو، وتحاصر قصر والدها في فاس.. وستقودها إلى زنزانات والي  البلدة ” قرقوش الاسخريوطي ” . ومن قلب “لا لا فاطمة الإدريسي ” سيتفجّر ينبوع طال انحباسه , ويفيض غزيراً, وتأخذ عهداً على نفسها أن تروي أرض فاس الخربة , علّ نرجسة أو زهرة بيلسان تتسامق لتزيل عفونة الجدران والأقبية..( محمد عبد الرحمن يونس (1997)، 21-22)

     وستتكرر إيديولوجيا الحزن هذه , وتتأجج في فضاء الزنزانة التي تسجن فيها فاطمة الأدريسي ,لأنها رفضت الشخصيّة الأسطورية “قرقوش الأسخريوطي”, والتي يمكن أن تنسحب في كثير من سماتها على الواقع المعيش: “في سجن فاس المركزي بدت الدهاليز رطبة موحشة , تكوّر الوطن المنفي مقيداً بسلاسل داخل أقفاص ..اجتمعت حوله الخنازير والوحوش وبدأت تفترسه .. هنا يلتقي السجناء ، والذين لا يعرفون لماذا سجنوا .. يهمسون ويبيحون .. صدى يقتل الروح.. وأين مناهل الماء؟ ظلام دامس وأين ضوء النجمة ؟ سهام.. نصال.. سيوف.. مخارز مسمومة تشكّ في جسد فاطمة.. وأنّ القلب .. وانسحقت الأحلام وتراجعت المنى..(المصدر نفسه : 108)

     إنّ نغمة الحزن بنية شموليّة , تسكن تخيلات الشخوص وأحلامهم ,والواقع الذي يعايشونه , فعبّاس بن فرناس العالم العربيّ الكبير, في الكيمياء, والرياضيات, أوّل شخص في البشريّة , فكّر في أنْ يطير ,لا تعطيه مدينته, ولا المدن التي يصبو إليها حقه , ولا تجلّه في علومه ومعارفه ,لأنّ هذه الفضاءات شرهة اقتصاديّة, وتحتقر المعرفي وتسخر منه, وتفضّل عليه التجاريّ الاستهلاكيّ, ولا يبشّر مستقبل هذه المدن , بأنها ستحتضن أفقه  العلميّ والمعرفي , وتقدّر أبحاثه, والقيم والجهود العلميّة التي دعا إليها, لأنّ الواقع المعيش هو واقع اعتاد أنْ يقيّم الإنسان من خلال قدراته الماليّة , ووضعه الاقتصاديّ وأرصدته البنكيّة “المصرفيّة”, في حين أنّه استلذّ في تهميشه علميا  ومعرفيّا, ورؤية أخلاقيّة النبيلة , إلاّ أنّ هذا المعرفي الذي يصاب بالخيبة والفشل في هذا النسق الاستهلاكيّ الشره , يظلّ مؤمناً بقدراته على أن يكون منارة وأفقاَ مستقبلياَ,على الرغم من فشله الآني, و إحباطات الوعي  الجمعي الاستهلاكيّ له, و يترجم ذلك عبّاس بن فرناس فيقول:” إجرِ..إجرِ يا عبّاس بن فرناس ..هؤلاء الجاحدون لن يهبوك شيئاً..البحر أمامك وخلفك , والصحراء عن يمينك وشمالك , والمراكب تعلوها السماء القاتمة .. ولا بدّ لها من هاد ودليل .. وأنت الهادي والدليل والمنارة… أنت الأفق الذي يلوح محتضناً البحر والشفق , ومنى المسافرين والمرتحلين عن أوطانهم جبراً وقسراً في ساعات الوجد والخوف والعتمة ..( المصدر نفسه : 39) 

     ومما يلاحظ على الرواية , أنّ الكاتب اعتمد التأريخ , وحاول أنْ يفهم علاقاته , وقيمه, وينقلها إلى الواقع المعيش , فبدا التأريخ  خلفيّة معرفية , ينهل منها الأبطال , حكاية وأدباً وشعراً. ومن الشخوص التاريخية  التي حملتها الوحدات السردية, وسجلت كثيراً من أخبارها: ولاّدة بنت المستكفي ,وعبّاس بن فرناس , وابن زيدون , وعبد الرحمن الداخل. , وقد أسهم في تنويع هذه الخلفيّة المعرفيّة المرجعيّة وثرائها, كثير من الخطابات الشعريّة العربيّة في العصر الأمويّ والأندلسيّ والعباسيّ والمعاصر, ينضاف إلى ذلك بعض معطيات خطابات الفلسفة الصوفيّة الإسلاميّة , ويستثمر الروائي محمد عبد الرحمن يونس, في تشكيل فضاءات روايته السرديّة والمعرفيّة , قراءاته الكثيرة في التراث العربيّ والإسلامي, من شعر ونثر , وفلسفة صوفية , محملة أبعاداّ رمزية , بعيدة  الإشارة , وموغلة في الترميز تارة , وقريبة تارة أخرى , إلاّ أنّها في نهاية المطاف لا تخرج عن معماريته الروائية , التي تحاول أنْ تقدّم كل ما هو جميل وإنساني نبيل, مقابل جحافل الظلم , والبشاعة التي تهجم شرسة على أحلام الواقع , فتفتت المنى والأحلام، وتأسر الروح .

     إنّ ثنائيّة الواقعي والتخيلي التي يشيّد الكاتب أسسها, تشيّد ثنائيّات ضديّة أخرى, …فهناك المدينة المركز, السياسة والاقتصاد والتجارة ,هذا الفضاء المفتوح لكل الموبقات والمنكرات من خمور وغش في كل الأشياء , المدينة المعقدة نمواً حضرياّ  وديمغرافياً, مقابل البادية أو الريف الشفيف الهادئ الجميل ,التي تصبو فيها الروح إلى الطمأنينة، و هناك القصور المترفة بكل ملذّات العيش وتقنياته,  قصر” قرقوش الأسخريوطي”, وهناك المنازل الوضيعة البائسة في أحياء المدينة الفقيرة , التي يسميها الروائي الناقد بنفس أسمائها الحقيقية “زقاق موسى بن نصير( المصدر نفسه : 16)  , “زنقة البارودي مع زنقة مولاي عبد الله” ( المصدر نفسه 20), حي” سيدي عمرو لحسيني”,”زنقة درب القاضي( المصدر نفسه 22) وغيرها من الأماكن والفضاءات الحقيقية , التي لا تزال بنفس الأسماء حتى الآن في مدينتي فاس ومكناس المغربيتين.

     لقد استطاعت هذه الثنائيّات الضديّة  كشف ما استتر من خبايا المكان الواقعي, بعلاقاته السوسيولجيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة , تقول المقدمة التي كتبتها الكاتبة نادية إبراهيم  الخطيب عن الرواية “ولا شك أنّ الكاتب امتلك جرأة غريبة في معاينة شخوصه واقتحامها , فقد أنطقها بما يصعب النطق به , وفي هذا تمرد على معقوليّة المعتاد,وجنوح صوب اللا تهذيب  المقونن وفق كلاسيكيّات معقّدة, تحتاج لتحطيم بؤر تشكّلها عندما تقتضي الضرورة , ولا اعتقد أنّ الكاتب يقصد التهكم أو الإباحية , أو جرح مشاعر التهذيب والذوق العام , وإذا اعتمد في بعض الأحيان على مفردات واخزة وصريحة , فلأنّ ذلك يعكس واقعاً مراً ومستهلكاً, تبدو فيه العبارات أكثر قبولاً بحد ذاته.( المصدر نفسه 9)

     إنّ الواقع الذي يصفه الروائي محمد عبد الرحمن يونس, يبدو غرائبياً وأسطورياً, لكنه واقع يمكن أنْ يكون حقيقياً , بكثير من علاقاته وقيمه , وعاداته التي يصعب على العقل الإنساني تصديقها, وفي أحايين كثيرة يبدو الواقع نفسه أشدّ غرابة من التخيلي والأسطوري , إلاّ أننا من عبر  هذا الواقع الغرائبي يمكن أن نعرّج في الرواية, على كثير من العلاقات الجماليّة الإنسانيّة , ومن بينها العلاقات النبيلة الوفية التي ربطت بين المثقف المؤدلج “سي الهادي” والمرأة الجميلة “زنّوبة ” القادمة من جبال شفشاون, التي تقف مندهشة أمام أفكار زوجها, التي لا تفهم منها شيئاّ , لكنها تعلن ولاءها المطلق وحبّها له ولذكرياته التي لا تنساها أبداً,  بعد أنْ اغتاله مناوئيه في انتماءاته الأيديولوجيّة وصفّوه جسديّاً.

     إنّ هذه العلاقة الواقعيّة, يمكن أنْ نجد لها نداً تاريخياً في الرواية ,وهي علاقة ابن زيدون بولاّدة بنت المستكفي, التي ركّز عليها الروائي , ونقلها من فضائها التأريخي بغرناطة , إلى فضاء واقعي معاصر بمدينة فاس.

     إننا في” ولاّدة بنت المستكفي في فاس”,  أمام عمل روائيّ يوغل بعيداً في أحلامنا الملغاة , وأمانينا الجميلة, التي ستحضر ساعة فكّ حصارها , عمل جريء يخدش فينا سكونيتنا, وهزيمتنا, ويعلن مشروعه الجماعي, وطموحه الحلمي, وفق معماريّة ,متشابكة ومعقّدة, فنيّة في سردها وحوارها, وتقنياتها المتعددة في التشعب المكاني والزماني , والتداعيات, وتقنية القطع والوصل , وشاعريّة الفضاءات الشعريّة القديمة والمعاصرة , والتداعيات الفلسفيّة الصوفيّة الإسلاميّة بأبعادها المعرفيّة المتجددة , ولا شك أنّ هذا الجهد قي تشكيل هذه الفضاءات يحتاج إلى قراءات موسوعيّة وإلى دربة ودراية بتقنيات الفن الروائي, و قد بذل الروائي   جهداً كبيراً في تشكيل هذه التقنيات , عبر قراءاته الموسوعيّة, وقد وجدنا في الرواية إشارات إليها , حرصاّ منه على  الأمانة العلميّة , وقد ثبّتها في هوامشه, التي سنذكر نماذج منها عند تأصيلنا للغة هذه الرواية , التي سنقف عندها في محاور البحث.   

  1. بنية اللغة العربيّة الفصحى في الرواية , جمالياً , وتخليلياً , ووصفاً من خلال تراكيب الجمل  واستعمال الألفاظ ,ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ في نماذج مختارة :-

استطاع الروائي الناقد, محمد عبد الرحمن يونس , أنْ يعطي لتراكيب روايته لغة جماليّة أقضاها التوظيف الدقيق, والسياقي المتعدد, في نحو, قوله: “دغدغ الرمش الجفن( المصدر السابق 8) وبقيت هذه الظاهرة حتى نهاية الرواية “الباخرة العملاقة يحتضنها البحر .. ويشدّ ضلوعها , فتدخله في أشرعتها وصواريها.. ( المصدر السابق 228)  . وكذلك في اختياره المفردة الواخزة الصريحة , التي تحتاج أحياناً لمراجعة معجميّة نافعة , نحو “وكانت المرأة تعرف شوقه الراعف.. ( المصدر السابق 185), كما لاحظت الصيغ والجموع المعبّرة عن المشاهد الدالة , التي تلهب المشاعر, وتدغدغ الأحاسيس في مواطن منها :

” مرحبا بكم في أليكانت , أمّ مدن العالم ..وأشهى نساء الأرض والتأريخ .. وأنظف مسابح الأرض …إقامة طيّبة بين أهليكم وأحبابكم وعشيقاتكم … ( المصدر السابق 228) هذه اللغة هنا ليست تعبيراً دارجاً, فقواعدها هدفها إنتاج التعبيرات التي ينتجها السرد في شكله اللغوي , كما وقفنا عند مفاصل الرواية , وفي ماهيّتها البنيويّة , فوجدناها تحاول أنْ تفصح بمدلولاتها المجازيّة , وحركة المفردات المستعملة داخلها, كما تبيّن ذلك في كثير من الصور البلاغيّة , كما في: “وغدت زنّوبة واحة نخيل, وتمنى لو أنّ النخيل زحف على الشوارع والأزقة , فغطاها وهدم دار

الوالي والعمدة .( المصدر السابق 16)  , وأخذ يردد أشعار صديقه أبي العلاء المعري:

خفف الوط ء ما أظنّ أديم ال             أرض إلاّ من هذه الأجساد

  وفي تشبيه لعينيّ ولّادة “اتسعت عيناها فبدتا بحراً وشاطئاً وموجاً وملّاحاً وسفناً(المصدر نفسه 27) .جسد هذه المدينة فاتر سديمي .. حار ناري .. صقيع ثلجي, كجسد الأفعى ينسلخ في مطلع كل شهر, وفي الأعياد الرسمية التي يقيمها الجنرال “قرقوش الأسخريوطي” جسد حرباء تغيّر شكلها كل صباح.( المصدر السابق 27) وهذا نص آخر:  “تهاوى النخيل والبرتقال ..  كانوا حزانى.. وكان السائق  كئيباً أسود كسيارته. ( المصدر السابق 216).

     إنّ هذه الصور المختارة من النص الروائي وأمثالها كثيرة , قد أحالت النص إلى نص لغويّ إبداعي , فترى قدرة في التعبير, من بنى ومعانِ تجسّدها الألفاظ المختارة ذات الدلالات السطحيّة والعميقة , و أنّ البنى الصرفيّة والتركيبيّة وغيرها من الأدوات التي تنتظم داخل السياق بقرائن أو بغيرها, تجعل البعد الدلالي وصوره قريبة من مفاهيم الكلام , ومن ثم ّتتفاعل هذه الصور في نفس المتلقي, وتؤدي الإبلاغ بأيسر الأساليب وأجملها.   

3-اللغة الدارجة في الرواية :-

تضمنت كثير من الحوارت مزجاً بين اللغة المعياريّة “الفصحى” واللغات الدارجة واللهجة المغربيّة الدارجة خاصة , وإنْ كانت هذه الدارجة في بعض مفرداتها وأساليبها تتخطى الرقعة الجغرافية المغربيّة  , فقد وجدت أنّ كثيراً منها يستعمل في العراق وبالتحديد في مدينتي التاريخية سامرّاء…هذه اللهجات تعطينا صوراً مشرقة, ومتعددة, عن طريقها نستطيع أنْ نقف ونكشف عن الخلفيّة الحواريّة لكل فئة, مما يضيف لنا اكتشاف زوايا لم تتمكن الفصحى وحدها من التعبير عنها بدقة, وبذلك تكون هذه اللغات المحكيّة , رافداً أساسيا للكشف عن مكنونات الحواريين, وتوظيف هذه اللغات توظيفاً تجتاز به الحواجز بين اللغة الفصحى والعاميّات , كما سنرى في مشاهد شتّى: “ولن يسرقوا منبرك ولا جمعتك …كن ليبرالياً ومتحرراً –

قال “العومري”: يامرا “روحي راك طالقه ” من الدارجة المغربيّة :اذهبي فأنت طالق( المصدر السابق 19)  ,وقال لها بلكنته الفاسيّة: “يامد موزيل .. نبغي ال أدريس ديالك ..واش من بلاصه راك ساكنه ( المصدر السابق 26)  وتبدو الدارجة هنا غريبة في مفرداتها “يا آنسة , أريد عنوانك , في أي مكان تسكنين. “هامش الكاتب( المصدر السابق 26)  , ثم أردفها بالفصحى الموحية  “إني أدعوك إلى ليلة حمراء حافلة. ( المصدر السابق 50) ,وهنا أيضاً صورة معبّرة من هذه اللغة الممزوجة ببعدها الاجتماعي, والمغلّفة بالعادات والتقاليد المختلفة والمتباينة, لتعبر عن طبيعة المجتمع في الرواية ..”وتستيقظ ..وتطلب الكسكسي وأطيّبه لك” “نوع من الطعام, أبيض اللون” …”وتتساءل ابنتك :بابا شكون هادا “قرقوش ( المصدر السابق 50 ) ..هيّا.. ازربي”  دارجة مغربيّة , غريبة , يوضّحها  الروائي :أسرعي( المصدر السابق 53)  ,كما ضمّت اللغة الدارجة لغات الطبقات الاجتماعيّة التي اعتادت مجالس اللهو والعربدة , وقد وظّفت توظيفاً جيّداً وموفقاً في خطاب السكارى والمتسكعين والفسقة في عبارات مثل :آيا قحبة,( المصدر السابق 54-55) ,هذه القحبة ستبيّعك شفشاون ذات يوم ( المصدر السابق 62)  هيّا..ماكاش قواده ..مانحبوش التمسخير.. يلعن بوك وامك …أوه شحال راك خامجه ( المصدر السابق 63-189) .  

          وأرى أنّ هذا الصراع اللغوي, قائم , وقد خلّف هذه الازدواجية الباقية حتى الساعة ,إذ نجد استعمالات للغات الدارجة ممزوجة باللغات الأجنبيّة والفرنسيّة خاصة , لما لها من أثر في الحياة المغربيّة والمغرب العربيّ على وجه العموم ,مثل : “و الفورم جينرال ديالا” من هوليود.. ( المصدر السابق 65) ,وفي أمسيات شهر (جويليه ) يعربش هذا الكل الخالي فوق هامات الرجال وأثداء الصبايا البكر ( المصدر السابق 14) , كما تدخل الأمثال المغربيّة, في صلب النص السردي,كما في قول الفقيه عبد الله من الأمثال المغربيّة الدارجة: “اللهمّ اجعل هذه المرأة غابة ,واجعلني حطّابه( المصدر السابق 16) وظلّت المزاوجة الإيجابيّة بين الفصحى والدارجة ومكوّناتها المختلفة موظفة توظيفاّ يؤدي إلى الإفهام وسهولة المتابعة والاتصال حتى نهاية الرواية ( المصدر السابق 190،191، 202)

          إنّ توظيف هذه الملفوظات الدارجة تجعل التواشج بينها وبين الفصحى في إدارة الحورات أمراً مقبولا، ولا يشكل عائّقاً وحاجزاً لفهم النص الروائي في عمومه , وهذه خاصيّة يمتلكها من له دربة ودراية في هذا الحقل اللغوي, المتعدد الجوانب في قضايا التعبير,إذ يعدّ اللغة, قائمة على وظيفة دلاليّة, هي بمثابة الرباط الحتمي الحاصل بين مجموع الألفاظ الواردة في الكلام المقصود بالذات .

          و ممّا يلاحظ أنّ الروائي يدرك تماماً أنّ اللغة الدارجة المغربيّة يحتاجها للإبانة ,لأنّ الرواية يراد لها أن تكون كلماتها مفهومة ومؤثّرة , ولذلك عمد إلى التنبيه على هذه اللغة في أحايين كثيرة منبهاً إليها وإلى معانيها في الهوامش حين تكون عسيرة على فهم القارئ غير العارف باللهجات المحليّة في هذا الزمان والمكان,  نلحظ هذا في صفحات , وقد اتسعت دائرة توظيف هذه العاميّة,ومما يجدر الإشارة إليه أنّ كثيراً من  هذه الدارجة المغاربيّة مستعملة في بعض مدن  العراق ,  مثل: سامرّاء, والموصل , وتكريت , مثل:”يزّي” بمعنى يكفي, و “بشويش” سمعتها بالقاهرة , واللاذقيّة، ومعناها( بهدوء، أو بلا عجلة)، و هذا يعني: أنّ هذه اللغات تتخطى في وظائفها الدلاليّة حدودها المكانيّة “، الخ، وهي وإنْ ضمّت مستويات لغويّة مختلفة , وبخاصّة لغات الطبقات الاجتماعيّة مثل , لغة السكارى, والمخمورين , لكنّها تجعل النص الروائي ثرياً متعدد السياقات كسياق الموقف , وهو الموقف الخارجي, الذي يفضي إلى تغيير الدلالة ,فضلاّ عن وجود السياق الثقافي , وهو ما يحيط بالمفردة من القيم الثقافيّة والاجتماعيّة في الرواية مما يضفي على دلالاتها من المعاني , ربما لا نجدها في المعنى المعجمي القديم , يضاف إلى ذلك السياق النفسي,  وهذا ما وجدناه في تصرفات شخصيات الرواية , بدءاً من ولادة وانتهاءً بآخر شخصية أسطورية ,فالمفردة هنا لايمكن عزلها عن هذه السياقات المختلفة , مما انعكس ذلك على السرد الروائي , فالمعالجة الأسلوبية في هذا النص, توضّح العلاقة بين معرفة الروائي وعوالمه التي ينسجها في التشكيل اللغوي المتسع في مداراته لتكتمل عنده الوظيفة اللغوية المستمدة من الصور المجازيّة و الترميزيّة والبلاغيّة وسواها . 

 المراجع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]1- د. محمد عبد الرحمن يونس ,( 1997) ، ولّادة بنت المستكفي في فاس (رواية), الكنوز الادبية, بيروت,الطبعة الأولى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *