نوفمبر 23, 2024 3:59 ص
36

م.د. فوزي خيري كاظم

 كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية/واسط / العراق

fawzy1000@gmail.com

009647713721500

 

الملخص

يُعدُّ موضوع التعايش السلمي من أهم المواضيع التي لابد للمجتمعات – على اختلاف تكوينها الثقافي والعرقي – أن تهتم بها وتوليها العناية اللازمة لاسيما إن كانت تلك المجتمعات متنوعة الأديان أو الأثنيات أو القوميات، وأن تكون من أولويات تلك المجتمعات تعزيز فهم أفراده لمفهوم التعايش ليتسنى لهم العيش في ظل مجتمع يسوده الود والاحترام، ومحاولة فهم الآخر واحترام خلفياته الدينية والعرقية والثقافية.

وقد أولى الدين الإسلامي لهذه المفهوم أولوية خاصة، عززته النصوص الدينية الكثيرة في القرآن والسنة النبوية، التي حثَّت على أن يكون العنوان السائد في العلاقات المجتمعية هو مفهوم التعايش السلمي لأنه الضمانة الأكيدة لسلامة المجتمع واستقراره.

مشكلة البحث

يناقش البحث مشكلة التعايش السلمي بين مكونات المجتمع الواحد، سواء أكانت تلك المكونات مختلفة دينياً، أو عرقياً أو اجتماعياً، بناءً على ما أسسه القرآن الكريم – باعتباره إحدى الشرائع السماوية – من تعاليم تؤسس للتعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وتطبيق ذلك على أرض الواقع، من حيث إلتزام المسلمين – قبل غيرهم – بهذه التعاليم. لذا فالبحث يناقش التعايش السلمي بين النظرية – من خلال النص القرآني – وبين تطبيق تلك النصوص تطبيقاً عملياً بين المسلمين.

أهمية البحث

لا يختلف اثنان على أهمية موضوع التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، لاسيما إذ كان هذا المجتمع يضمُّ بين مكوناته اختلافاً دينياً أو عرقياً أو اجتماعياً، فبدون تعايش الأفراد – على اختلاف مكوناتهم – لن يكون هناك استقرار بينهم مما يؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمع ككل، فتدخل الفوضى من الباب الواسع فينتهي بذلك المجتمع إلى الدمار الحتمي. لذا ولأهمية هذا الموضوع ارتأينا تسليط الضوء عليه كونه أساس استقرار المجتمعات المتعددة المكونات. ولكون الددين الإسلامي قد أسس لذلك المبدأ المهم ولارتباط المسلمين روحياً بذلك كان هذا دافعنا لاختيار هذا الموضوع المهم.

أهداف البحث

يخلص البحث إلى الوصول إلى جملة من الأهداف لعل أهمها: بيان أهمية التعايش السلمي الذي جاء به القرآن الكريم، وإنه دين إنساني قبل أن يكون ديناً عقائدياً فقط، فضلاً عن إبراز أهمية التعايش من خلال تطبيق ما جاء في النصوص القرآنية على أرض الواقع من خلال مناقشة كيفيثة تحويل تلك النظرية الى واقع جميل لعمَّ بذلك الاستقرار في ربوع المجتمع الواحد. كما إننا نهدف من خلال البحث إلى شيوع ثقافة التسامح والتعايش السلمي من خلال البحث في ربوع الآيات الكريمة وتبانها وتسليط الضوء عليها لأهمية الموضوع في حياة الناس جميعاً على اختلاف مكوناتهم.

حدود البحث

لا توجد للبحث مكانية أو زمانية، بقدر ما هو تعامل بين النصوص القرآنية منذ نزولها على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم – والخاصة بالتايش السلمي – وبين تطبيق تلك النصوص على أرض الواقع في كل زمان ومكان.

الدراسات السابقة

لا يُعدُّ موضوع التعايش السلمي جديداً في بابه من حيث التأليف والكتابة، بل إن هناك الكثير من المؤلفات التي كُتبت في موضوع التعايش السلمي والحوار وغير ذلك من مواضيع التعايش ومرادفاته، إلا إننا لم نكد نصل – فيما اطلعنا عليه من مؤلفات – على مؤلف يجمع بين النظرية والتطبيق في موضوع التعايش،  ومن أهم المؤلفات التي اطلعنا عليها: كتاب: (التعايش مع غير المسلمين واثره في الفكر الإسلامي) للدكتور احمد محمد عبد الله عباس، وكتاب (التربية بالحوار من أساليب التربية الإسلامية) لعبدالرحمن النحلاوي، فضلاً عن بحوثٍ كثيرة منها: بحث بعنوان (التعايش في القرآن الكريم دراسة تأصيلية)، إعداد : د. محاسن حسن الفضل عبد اﷲ، وكذلك بحث (منهج القرآني والتعايش السلمي في المجتمع الإنساني) إعداد: أ. د.وجدان فريق عناد، وبحث (التعايش السلمي في ضوء القرآن الكريم) للدكتورة رشيدة عبد السلام بو خبرة. وغيرها الكثير.

منهجية البحث

استخدمنا المنهج الوصفي التحليلي في عملنا في هذا البحث، حيث عرضنا للآيات الكريمة التي تؤصِّل لموضوع التعايش السلمي – بمعانيها المترادفة للكلمة، والمعاني التي أُريد بها من خلال فهم النص وتجسيده على أرض الواقع. وقد أثبتنا جميع الآيات الكريمة التي تؤسس لذلك المبدأ العظيم. وقد قسمنا البحث على ثلاثة مباحث، فضلاً عن مقدمة وخاتمة خصصناها لأهم ما توصل إليه البحث من نتائج.

أهم النتائج المستخلصة

  1. ركز القرآن الكريم – باعتباره كتاب هداية في المقام الأول – على أهمية التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد .
  2. أكد القرآن الكريم وفي العديد من الآيات الكريمة على ضرورة إشاعة الألفة والمحبة والتعاون بين الناس على اختلاف عقائدهم .
  3. إن القرآن الكريم أسس لمجموعة من المبادئ المهمة التي يحافظ من خلالها المجتمع على تماسكه وثباته في مواجهة مختلف الظروف .
  4. أكد القرآن الكريم على ضرورة التأسيس لثقافة التسامح والحوار والتعايش السلمي بين الناس من خلال عديد الآيات التي حثّت على ذلك .
  5. التأكيد على العلاقات الحسنة والمبنية على أواصر الألفة والمحبة بين فئات المجتمع كافة بمختلف طوائفها واختلافاتها الدينية والمذهبية .
  6. التأكيد على أساسيات التعايش السلمي بين الديانات المختلفة في المجتمع، وحدّد الأصول الواجب توافرها في تحسين تلك العلاقات وكيفية صيرورتها .
  7. من الأمور التي أكد عليها القرآن الكريم في تطبيق مفهوم التعايش هو الحوار الذي يعد الركيزة الأساسية في متبنيات التعايش؛ فالحوار الهادئ والهادف يعمل على ترسيخ مفهوم التعايش من خلال محاولة حل المشكلات القائمة من خلال التحاور للوصول إلى حل يرضي كل الأطراف.

الكلمات المفتاحية: مفهوم التعايش، القرآن الكريم، النظرية، التطبيق، المجتمع،

Peaceful coexistence in the Holy Quran between theory and practice – a descriptive-analytical study

Fawzi Khairy Kazem

Al-Imam Al-Kadhim College of Islamic Sciences University

Wasit departments – Iraq

Abstract

 The issue of peaceful coexistence is one of the most important issues that societies – regardless of their cultural and ethnic composition – must take care of and give them the necessary care, especially if those societies are diverse in religions, ethnicities or nationalities, and that one of the priorities of those societies is to enhance the understanding of its members of the concept of coexistence so that they can live in It remained a friendly and respectful society, trying to understand the other and respect their religious, ethnic and cultural backgrounds. The Islamic religion gave this concept a special priority, which was reinforced by the many religious texts in the Qur’an and the Sunnah of the Prophet, which urged that the dominant title in community relations be the concept of peaceful coexistence because it is the sure guarantee for the safety and stability of society.

Research problem

The research discusses the problem of peaceful coexistence between the components of the same society, whether those components are different religiously, ethnically or socially, based on the foundations of the Holy Qur’an – as one of the heavenly laws – of teachings that establish peaceful coexistence among members of the same society, and applying this on the ground. In terms of the commitment of Muslims – before others – to these teachings. Therefore, the research discusses the peaceful coexistence between theory – through the Qur’anic text – and the practical application of these texts among Muslims.

research importance

No one disagrees with the importance of the issue of peaceful coexistence among the members of the same society, especially if this society includes religious, ethnic or social differences among its components. Chaos is from the wide door, so society ends up in inevitable destruction. Therefore, due to the importance of this topic, we decided to highlight it as the basis for the stability of multi-component societies. And the fact that the Islamic religion has established the foundations for that important principle, and the Muslims are spiritually connected to that, was our motive for choosing this important topic.

research aims

The research concludes to reach several goals, perhaps the most important of which are: a statement of the importance of peaceful coexistence that the Holy Qur’an came with, and that it is a human religion before it was an ideological religion only, as well as highlighting the importance of coexistence through the application of what came in the Qur’anic texts on the ground through a discussion How is that theory transformed into a beautiful reality so that stability prevails throughout the same society? We also aim, through research, to spread the culture of tolerance and peaceful coexistence by examining the various verses, explaining them, and highlighting them for the importance of the subject in the lives of all people of all their different components.

Search limits

There is no spatial or temporal research, as much as it deals with the Qur’anic texts since they were revealed to our Prophet Muhammad, may God’s prayers and peace be upon him and his family – and related to peaceful coexistence – and the application of these texts on the ground in reality in every time and place.

Previous studies

 The topic of peaceful coexistence is not considered new in its field in terms of authorship and writing. Rather, there are many books that have been written on the topic of peaceful coexistence, dialogue, and other topics of coexistence and its synonyms, but we have hardly reached – in what we have seen of the literature – an author that combines theory And application in the subject of coexistence, and among the most important books that we have seen: the book: (Coexistence with non-Muslims and its impact on Islamic thought) by Dr. Ahmed Muhammad Abdullah Abbas, and the book (Education through dialogue is one of the methods of Islamic education) by Abd al-Rahman al-Nahlawi, as well as many researches, including: research Entitled (Coexistence in the Holy Quran, an original study), prepared by: Dr. The virtues of Hassan Al-Fadl Abdullah, as well as research (The Qur’anic Approach and Peaceful Coexistence in Human Society) Prepared by: Prof. Dr. Conscience of Enid’s team, and research (peaceful coexistence in the light of the Holy Quran) by Dr. Rashida Abdel Salam Bou Khebra. and many more.

Research Methodology

 We used the descriptive analytical approach in our work in this research, where we presented the noble verses that root the issue of peaceful coexistence – with their synonymous meanings for the word, and the meanings that are intended by understanding the text and embodying it on the ground. We have proven all the noble verses that establish that great principle. We divided the research into three sections, in addition to an introduction and a conclusion that we devoted to the most important findings of the research.

The most important findings

  • The Holy Qur’an – as a book of guidance in the first place – focused on the importance of peaceful coexistence among members of the same community.
  • The Holy Qur’an, in many verses, stressed the need to spread familiarity, love and cooperation among people regardless of their beliefs.
  • The Holy Qur’an establishes a set of important principles through which society maintains its cohesion and steadfastness in the face of various circumstances.
  • The Holy Qur’an emphasized the necessity of establishing a culture of tolerance, dialogue and peaceful coexistence among people through many verses that urged this.
  • Emphasis on good relations is based on the bonds of familiarity and love between all segments of society with their various sects and religious and sectarian differences.
  • Emphasizing the basics of peaceful coexistence between different religions in society, and defining the principles that must be available in improving these relations and how they should be developed.
  • One of the things emphasized by the Holy Qur’an in applying the concept of coexistence is dialogue, which is the main pillar in adopting coexistence. Calm and purposeful dialogue consolidates the concept of coexistence by trying to solve existing problems through dialogue to reach a solution that satisfies all parties.

Keywords : the concept of coexistence, the Holy Quran, theory, application, society,

مقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد أشرف الخلق r وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، أما بعد :

يعد موضوع بحثنا والموسوم (مفهوم التعايش السلمي في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق-دراسة وصفية تحليلية) من المواضيع المهمة في الدراسات القرآنية؛ وذلك لأهمية التعايش السلمي بين أفراد المجتمع عموماً، بمختلف دياناته وشرائحه، كما قال الله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات: 13) . باعتباره أحد أهم الوسائل التي تملكها الأمة للوصول إلى آلية تضمن تطبيق آليات التعايش السلمي بوصفه ضرورة ملحة للوصول حالة الاستقرار المعيشي بين أفراد المجتمع بصورة عامة على اختلاف تنوعهم العرقي والديني والمذهبي. وللتعايش آليات معينة يجب أن يتم تطبيقها للوصول إلى هذا المستوى من السلوك الحضاري، ولعل أبرز هذه الآليات هو الحوار الهادئ والهادف الذي يضمن بصورة لا تقبل اللبس تحقيق هذه الغاية، ولكوننا مسلمين وانطلاقاً من المفهوم الاسلامي تشريعياً، ولأن مصدر التشريع الذي رسم لنا طريقاً واضحاً للتأسيس للتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع وهو القرآن الكريم، الذي اختط لنا منهجاً مهماً في تعزيز هذا المفهوم، فقد اتخذنا من آياته المباركة منطلقاً تشريعياً وبناءً فكرياً للنظر في أساليب تحقيق هذا المفهوم من خلال تأكيده على الأسلوب الهادئ في التعامل مع القضايا الخلافية بين أفراد المجتمع، وتأكيده على إن الحوار الهادف والحجة البليغة هي الأساس للوصول إلى تحقيق التعايش في المجتمع الواحد على اختلاف مكوناته.

ومن هنا يأتي سبب اختيارنا لهذا الموضوع، فالإسلام حريص على إشاعة فكرة التعايش السلمي مع كافة المجتمعات، فضلاً عن التسامح من الخصائص المهمة التي عمل على تقوية أواصرها بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال النصوص الآيات القرآنية الكثيرة التي زخر بها القرآن الكريم والحاثّة على التسامح وإشاعة روح المحبة والألفة بين الناس.

وقد جاء بحثنا على ثلاثة مباحث، حمل الأول عنوان: (تعريف التعايش السلمي ودلالاته في القرآن الكريم)، فيما عنونا المبحث الثاني بـ(أساليب القرآن في الدعوة الى التعايش السلمي)، وفي المبحث الثالث تطرقنا إلى: (الحوار في القرآن الكريم وأثره في التأسيس للتعايش السلمي).

المبحث الاول

تعريف التعايش السلمي ودلالاته في القرآن الكريم

أولاً: التعايش لغة واصطلاحاً

التعايش في اللغة:

التعايش مشتق من كلمة عيش العين والياء والشين أصل صحيح يدل على الحياة والبقاء، العيش والحياة والمعيشة، اسم لما يعاش به وكل شيء يعاش به فهو مشاع، كقوله تعالى: )وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا( (النبأ: 11)، أي ملتمس للعيش والتعيش تكلف أسباب العيشة وعايشه عاش معه (ابن فارس، 1399هـ) .

والعيشة ضرب من العيش، ويقال عاش عيشة صدق وعيشة سوء والمعاش والمعيش والمعيشة ما يعاش به وجمع المعيشة معايش على القياس ومعائش على غير القياس، وقد قرئ بها قوله تعالى: )وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ( (الحجر: 20)، يقال إنهم ليعيشون إذا كانت لهم بلغة من العيش (ابن منظور، 1414هـ) .

ويقال: عاش عيشاً وعيشة ومعاشاً، صار ذو حياة فهو عائش، او أعاشه جعله يعيش، ويقال: أعاشه الله عيشة راضية، وتعايشوا: عاشوا على التآلف، ومنه التعايش السلمي، والعيش: معناه الحياة (ابراهيم مصطفى وآخرون، 1425هـ)  .

التعايش في الاصطلاح :

وردت كلمة العيش باشتقاقات متعددة في القرآن الكريم لكن لم ترد باشتقاق تعايش، وبالنظر إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي فإن التعايش يقصد به التفاعل والمشاركة بين الأفراد بالعيش بسلام، وذلك بتوفير المقومات الحياتية اللازمة التي تنطوي عليها الحياة الكريمة بكل مقوماتها، كقوله تعالى: )فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ( (الحاقة: 21)، ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه (الراغب الاصفهاني، 1412هـ) .

وذكر العلماء المعاصرين مجموعة من التعريفات للتعايش، إلا أن التعريف الأقرب له هو: “اجتماع  مجموعة من الناس في مكان معين ترتبهم وسائل العيش في المأكل والملبس وأساسيات الحياة بغض النظر عن الدين والانتماءات الأخرى يعرف كل منهما بحق الآخر” (عباس، 1433هـ) .

ويبدو من خلال هذه التعاريف أن مصطلح “التعايش السلمي” هو البديل الناجح والمناسب للتعبير عن العلاقات غير السلمية أو العدائية بين الناس، ومع هذا فلا مانع في التوسع في استخدامه في العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة (شوقي جلال، 1393هـ) .

ثانياً: دلالات التعايش في القرآن الكريم

استناداً لما جاء في الكتاب العزيز فأن بيان العلاقات بين البشر جاءت بمكافئ يعبر عن الأخوة والمحبة فيما بينهم، قال تعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( (الحجرات: 10)، وهذا ما كان نبي الرحمة r يؤسس عليه المنهج العام لعلاقة المسلمين مع بعضهم بعضاً، بعيداً عن الغضب والتعصب الطائفي، وقد كانت سيرة النبي مبنيّة على ذلك (الحميري، 1410هـ) .

وتأسيساً على ذلك، فقد شجّع القرآن الكريم على التعاون بين أفراد المجتمع، فالتعاون سمة من سمات المجتمع المسلم، والمسلمون مضطرون إلى التعاون بينهم، فكل فرد هو من أفراد المجتمع له دور يؤديه ليتكامل المجتمع ويتآلف، وهذا التعاون مشروط بأن يكون تعاملاً على أعمال البر والتقوى وليس غير، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: )وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ( (المائدة: 2). وهو مصداق قوله تعالى: )إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ( (النحل: 90).

فالتعاون من القيم الإنسانيّة العظيمة، لذلك جاء الاسلام مشجعاً على التعاون بين أفراد المجتمع؛ لأنّه الأساس الناجح والسليم الذي تقوم عليه المجتمعات، وبه يقوم دين الأفراد ودُنياهم.

ويمكن القول أن التّضامن والتّعاون يدمج الفرد ببيئته، ويُبعِده عن الانعزال، كما يُبعده عن الأنانيّة المُبالَغ بها، ويُمكّنه من تحقيق معنى التّعاضُد أو ما يُسمّى بالجسديّة الواحدة، ويُوفّر البيئة الملائِمة لنموّ الإنجاز التطبيقيّ والعلميّ، حتى إن ابن خلدون عدّه من الضرورات الحتمية للإنسان، إذ قال: “الاجتماع الانساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الانسان مدني بالطبع، أي لا بدله من الاجتماع” (خلدون، 2004) .

وحتى يتحقق المعنى الأساس من التعاون والتقارب بين الناس، حذّر القرآن الكريم الناس عن التعرض للآخر بكل أشكال الظلم، حتى ولو كان هذا الآخر مخالفاً له في الاعتقاد، قال تعالى: )وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ( (الانعام: 108)، حيث أوجب الله تعالى في كل زمان ومكان الالتزام بآداب المعاشرة، وعدم الانتقاص منهم ومن عقائدهم. فيمكن التعايش مع الكفار وإقامة روابط صلح ما داموا لم يلحقوا الأذى بالمسلمين، وهو ما يُفهم من قوله تعالى: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ( (الممتحنة: 8) .

وقد أقرّ الإسلام الصلح مع الكفار في حال ميلهم إليه، ويجب حينها على المسلمين قبول ذلك منهم كما أشار عزّ وجلّ بقوله: )وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ( (الانفال: 61) .

أما في حالة الحرب فقد شدّد القرآن الكريم على التعامل الحسن مع الأسرى بصورة خاصة، فأكد على إنه يجب عدم إلحاق الأذى أو قتل طاعني السن والنساء والأطفال، ولا يمنع من ماء أو طعام، كما شدّد على عدم التمثيل بجثث القتلى (الطبرسي، 1427هـ) .

وأوصى بالعفو والصفح عن الناس، وعدم أخذ الأمور بالظواهر، وأن لا يحاسبوا ولا يعاقبوا  قبل أن يتأكدوا، قال تعالى: )وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( (المائدة، 13).

ولعل  أبلغ وأوفى دلالة على التسامح مع الآخر، وعمق مبدأ التعايش في المفهوم الإسلامي في القرآن الكريم قوله تعالى: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ( (آل عمران: 64).، ذلك أن المساحة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب مساحة كبيرة، وإذا كانت هذه المساحة موجودة بين المسلمين ومناوئيهم، فمن باب أولى أن تكون موجودة بين المسلمين أنفسهم، على الرغم من الاختلاف العقائدي بينهم في بعض المسائل الدينية (حسان حتحوت، 1423هـ) .

ثالثاً: التأكيد على العلاقة الحسنة بين المسلمين وغيرهم

ظهر الإسلام في الجزيرة العربية وقد كان يعيش فيها بعض اليهود الذين سماهم الله تعالى في القرآن الكريم أهل الكتاب، فأهل الكتاب هو اسم يطلق على اليهود والنصارى باعتبارهم من أتباع الديانات التي لا تعبد الأصنام، وسمو بذلك؛ لأن الله أنزل عليهم كتابين، على بني إسرائيل, الأول على موسى u وهو التوراة, والثاني على عيسى u وهو الإنجيل (منير غبور وعثمان أحمد، 2009)

وقد اكد القرآن الكريم ضرورة عدم القتال او الصدام مع اهل الكتاب ما لم يعتدوا ، وعدم اكراههم في الدين ، ودعانا الى مجادلتهم بالتي هي احسن الا من ظلم منهم ، قال تعالى )وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( (العنكبوت: 46) . أي إلهنا واحد من حيث الأصل قبل تحريفكم لكتبكم (منير غبور وعثمان أحمد، 2009)

وعلى الرغم من الخلاف الايديولوجي الكبير بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى من جهة أخرى، إلا أن الإسلام لم يفرق بين الأديان الثلاثة، إذ اعتبرها جميعاً ديانات سماوية ثابتة، وتعامل – من خلال النصوص القرآنية – معهم وفق ذلك المبدأ، على الرغم من التحريف الكبير الذي لحق بكتبهم السماوية، فضلاً عن إن الإسلام قد استوعب تلك الاختلافات العقائدية لاسيما في التشريعات الكثيرة التي رسمت صورة التسامح والتراحم فيما بينهم. (حسان حتحوت، 1423هـ) .

ويرى سيد قطب: “التسامح في المنظور الإسلامي هو ثمرة التصوّر الإسلامي للإنسان الذي يقوم على أساس معيارين اثنين هما:

1- تحديد غاية الوجود الإنساني، التي يتخذ الإنسان الأسباب لتحقيقها، والالتزام بالأسباب التي تتلاءم مع هذه الغاية ولا تصادمها.

2-  مدُ الوعي بالوجود الإنساني إلى ما وراء الحياة الدنيا القصيرة الفانية، إلى الحياة الخالدة الباقية” (سيد قطب، 1412هـ).

فقد خلق اللَّه الإنسان لأهداف سامية، وهي أهداف لا تتساوى مع باقي المخلوقات، خلقه اللَّه بقدرته، فالهدف من خلق الإنسان هو الاستخلاف في الأرض واعمارها، ولذلك فقد أعطاه العديد من المزايا التي تساعده على ذلك، وأنزل عليهم الكتب وأرسل الرسل والأنبياء ليقودوا المنهج الإصلاحي برمته (سيد قطب، 1412هـ) .

ولعل الغاية من إرسال الرسل كانت إشاعة العدل والقسط بين الناس، وأن يقودوا منهج التعايش بين الأمم كلها، القائم على مبدأ العدالة والمساواة بين الجميع على اختلاف مشاربهم، وهذا المعنى هو المقصود بقوله تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ( (الحديد: 25).

وقد أخذ المسلمون هذا المعنى منهجاً لهم في التعامل مع الآخر بمختلف اعتقاداته وتوجهاته، سواء في التعامل مع غير المؤمنين بالإسلام، أو مع في التعامل مع المسلمين أنفسهم على اعتبارهم أفراداً في مجتمع معين. وقد قدم المسلمون – على مرِّ تاريخهم – نماذج رائعة  لاسيما في البلدان التي فتحوها، في التعامل مع أفراد تلك الشعةب من ضروب التآلف والتراحم ما يعد منهجاً واضحاً على إيمانهم الثابت بتلك الثوابت الأخلاقية (سيد قطب، 1412هـ) .

والحقوق من خلال التعايش تشمل:

1- الحرية :

من الثوابت الإسلامية التي تعد من المبادئ التي آمن بها الإسلام هي أن الفرد يولد حراً، ويموت حراً، والتركيز على هذا المبدأ عند المسلمين هو لحفظ كرامة الإنسان أولاً، ولأنها ثناياً تعد الركيزة الأساسية للإيمان، فالإنسان حين يتحرر من قيود العبودية والذل التي قيّد بها نفسه، سيتحرر بشكل كامل،  فيصبح حر الإرادة محفوظ الكرامة، وهذا ما يرديه الإنسان أن يحسّ به، لأن شعوره بأن كرامته محفوظة كفيل بأن يقدم له كل ما هو كفيل بتحرره من قيوده وهو ما سيقوده بالتالي لطريق الإيمان (محمد الغزالي، 1388هـ) . وحق الحرية عام وشامل وأصل لحقوق متعددة كفلها الإسلام للإنسان مثل: حرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية الرأي أو التعبير، وحرية التملك، وغيرها من الحريات (محمد شلتوت، 1418هـ).

2- العدل :

نبّهت جميع الشرائع السماوية على إقامة القسط والعدل منهجاً ثابتاً لجميع البشر، وهذا ما تضمنته جميع رسالات الأنبياء، فقد كان الشعار الدائم لهذه الرسالات هو إقامة العدل في الأرض وتقديم صورة المساواة بين الناس أساساً تقوم عليه العلاقات والارتباطات بين الأفراد على اختلاف دياناتهم وتوجهاتهم وألوانهم، فضلاً عن أن النصوص التشريعية للديانات السماوية تؤكد على أن الأرض والسماء قامت على أساس العدل والقسط، والتآلف والتراحم كان شعار تلك الشرائع على امتداد أزمانها التاريخية، فتساوي الحقوق والواجبات بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير هو ما أكدته جميع تلك الرسالات، لأن العدل هو الأساس الذي تقوم به المجتمعات واصلاحها يبدأ من هذه النقطة. أما شيوع الظلم والفساد فهو آفة تأكل لا تقوم معها لتلك المجتمعات أو التجمعات البشرية قائمة أبداً (محمد شلتوت، 1418هـ) .

3- التسامح :

لعل من الأولويات التي أكدت عليها الشرائع السماوية لاسيما الشريعة الخاتمة – شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو إشاعة التسامح بمختلف صوره وأشكاله، ومعنى التسامح هو أن يسود التآلف والمودة بين أفراد المجتمع الواحد، وتجنب أن يكون الاختلاف بين الأفراد سواء أكان دينياً او اجتماعياً او غير ذلك من الاختلافات سبباً في تصدع تلك العلاقات، وبالتالي انهيار المجتمعات. فلا يجوز إكراه الغير على تغيير ديانته ومعتقداته، بل إن الشريعة الخاتمة رسمت حدوداً لشكل هذه العلاقات المختلفة، فلا جبر ولا إكراه بل تقبلٌ للآخر تقبلاً يقوم على أساس الإنسانية الحقّة التي أوصت بها الشريعة الغراء، فكلنا بشر وأصلنا واحد وأبونا واحد (محمد الغزالي، 1388هـ) .

4- الوفاء بالعهد :

يعدُّ الوفاء بالعهود شكلاً من أشكال ترسيخ الثقة والتعاون بين المجتمعات ككل، وبين الأفراد فيما بينهم، فكل ما كانت تلك الثقة مترسخة بجذورها في المجتمع ساد التآلف والمحبة، وشيوع ثقافة التسامح بين أفرادها، وفي حالة فقدان الثقة والتعاون يتهدم المجتمع وتنعدم فيه الإنسانية، لهذا نرى إن الإسلام قد شدد على مسألة المحافظة على العهود وعدم النكث فيها، لأنها الضمانة الأكيدة لاستمرار المجتمعات الإنسانية في حالة البناء الإنساني القويم، كما شدد على عدم النكث في العهود لأن فيها من أسباب الضعف ما يؤدي بتلك المجتمعات إلى الضعف والتشتت والانكسار. وهو في حدِّ ذاته باب من أبواب النكث مع الله وضعف الإيمان به، لأن العهد هو عهد مع الله قبل أن يكون عهداً مع الآخر (محمد أبو زهرة، 1415هـ) .

المبحث الثاني

أساليب القرآن في الدعوة الى التعايش السلمي

أولاً: الدعوة الى الله

)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ  وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( (الحجرات: 10)، أي إن الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله r: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه” (الكليني، 1992). وفي الصحيح:  “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ” (الحر العاملي، 1414). وفي الصحيح أيضاً: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”.  (مسلم، د.ت) . والأحاديث في هذا كثيرة.

إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان ، كما يألم الجسد لما في الرأس (ابن كثير، 1420هـ). فالقرآن الكريم وضع قواعداً ثابتة للبشرية، أعلن من خلالها أن الناس كلهم خُلقوا من أصل واحد، وهو ما يعني اتحاد الأصل الإنساني، قال الله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( (الاسراء: 1). وقيل أن: ” يا أيها الناس خطاب لأهل مكة ” (الطبري، 1415هـ). والصحيح عام لجميع الناس، لأن ظاهره يشمل الجميع دون استثناء، ولا دلالة هنا على تخصيصه، بل إن ارتباط الكلام بالتقوى يؤكد على شمول العموم به، لأن اتقاء المعصية لا يخص فرداً ويستثني آخر (مغنية، 1427هـ) .

ومنّ الله تعالى علينا بأن خلقنا من نفس واحدة ، والناس جميعاً  أخوة في الإنسانية وقوله تعالى : )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات: 13) يؤكد على هذا المعنى.

فلا يجوز أن تكون الاختلافات – على اختلافها – سبباً في العداوة، بل يجب الافادة من تلك الاختلافات في زيادة الاثراء المعرفي بمحاولة تقبل تلك الأفكار على أقل تقدير أن نسمح بوجودها لا أن نلغيها، فوجود هذه الأفكار المختلفة هو سبيل للتعارف والتنوع الثقافي الذي يزيد من الفائدة ولا يخلو من مصلحة مشتركة.

فالكل مخلوقون لأبٍ واحد ولأم واحدة، بغض النظر عن اختلاف الأعراق والقوميات والعقائد، ولا كرامة لأحد على أحد إلا بما اختطه الله سبحانه وتعالى بما أنزل في الشرائع وهو خطَ التقوى والإيمان. ولهذا أمر سبحانه بالتعارف والتواصل بين أفراد الجنس البشري على اختلافه، لأن هذا التواصل هو أساس التقدم والرقي، أما حديث الفخر بالأنساب وغيرها من أدوات الفخر التي يتعامل بعض ممن لم يفهم المنهج الرسالي فهو حديث باطل لا ينتج عنه سوى التباعد والتنافر، ويشيع ثقافة البغضاء بين الناس، مما يؤدي إلى فساد المجتمعات وهلاكها (الطباطبائي، 1417هـ) .

ولعل الحكمة من جعل الناس على شعوب وقبائل شتى هو ما أشار إليه القرآن الكريم في التعارف والتناسب فيما بيهم، وهذا الأمر أدعى لشيوع المحبة والتآلف بين أفرادها، فالتقرب عن طريق الزواج والتصاهر يقرّب من التلاحم بين الناس، فضلاً عن أن التقارب بحد ذاته يعطي أسباب التعاون أهميتها التي أرادها الله تعالى أن يحثّ الناس عليها، فبالتعاون والتقارب تنهض المجتمعات وتزدهر، وبالفرقة والتباعد يسود البغض والتنافر والتناحر، وبالتالي تهلك تلك المجتمعات وتنتهي (الطبري، 1415هـ).

أما بالنسبة للاختلاف في العقيدة والمخالفين في الدين، فقد أكد الله سبحانه وتعالى على احترامهم حتى مع اختلافهم، لأنهم بشر، ورفض محاربتهم على أساس عقيدتهم وأكد على عدم اجبارهم وفرض عقيدة أخرى عليهم، حتى وإن رفضوا الدخول في عقيدة الإسلام، قال تعالى: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( (البقرة: 256)، فلا إكراه في المعاملة ولا إجبار على عقيدة (الطبري، 1415هـ).

والخلاصة إن الإسلام كان حريصاً على عدم جرح مشاعر الآخرين – المخالفين – ففي ذلك ترغيب لهم بالدخول الى الإسلام؛ كون المعاملة الحسنة التي يتلقونها من المسلمين هو عامل ترغيب في التعرف على مبادئ هذا الدين ودراسته وبالتالي الدخول فيه، على عكس المعاملة الخشنة التي تجعل من المخالف يبتعد عن الاسلام لما بدا لهم من معاملة.

عدم الاكراه في اساليب الدعوة :

الإكراه هو ” حمل الغير على قولٍ أو فعلٍ لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك” (طنطاوي، 1417هـ) .

وَ” الدِّينُ” يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ. يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ أَيْ: ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ، وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ ” (ابن تيمية، 1416هـ).

والدين هو اسم يطلق على جميع التشريعات التي شرعها الله سبحانه بما فيها من أحكام، وسمي ديناً لأننا مدينون لله بحقوق وواجبات لابد لنا من القيام بها لنظهر التزامنا وعبوديتنا له سبحانه (سعدي ابو حبيب، 1408هـ) .

ولفظ الدين في اللغة أطلق على معانٍ عدة منها: المذهب والعادة، والطريقة، والقهر والحساب، وغيرها الكثير. ولم يثبت عن المسلمين فيما سبق من العصور أنهم أكرهوا الناس على أن يدخلوا في الدين الإسلامي، ولو كانوا كذلك لما بقي أحد من الشعوب على غير الإسلام حتى اليوم. ولحاربوا الجميع وأجبروهم على الدخول في دينهم كرهاً وطوعاً (أحمد عبد الوهاب وابراهيم خليل، 1413هـ) .

وقال ابن جبرين: “يحرم إكراه اليهود والنصارى والمجوس على تغيير أديانهم، قال الله تعالى:  )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ( ” (البقرة: 256).

“وَنَفْيُ الْإِكْرَاهِ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فِي حُكْمِ الإسلام، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى إتباع الإسلام قَسرا، وَجِيءَ بِنَفْيِ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ نَصًّا، وهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى إِبْطَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ”.  (ابن عاشور، 1404هـ) .

وتأكيداً على احترام الديانات الأخرى حذّر القرآن الكريم كل المسلمين من ظلم الكفار بأي نوع من أنواع الظلم حتى لو كان قليلاً كسبّهم أو النيل من عقائدهم، قال تعالى: )وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ( (الانعام، 108)، فقد أوجب سبحانه عليهم الالتزام بالآداب العامة، وعدم التنقص من الآخر بأي شكل من الأشكال، قال تعالى: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ( (الممتحنة: 8).

كما أمر سبحانه وتعالى بالتصالح مع الكفار إن أرادوا الصلح، وعلى المسلمين القبول به، قال تعالى: )وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ( (الانفال: 61).

فضلاً عن ذلك كله، نهى الله تعالى عن قتل النساء والأطفال وكبار السن وأسرى الحرب أيضاً، كما نهى عن قطع الماء عنهم حتى لو كانوا في حالة حرب معهم، فضلاً عن التمثيل بجثث قتلاهم (الطبرسي، 1427هـ) .

الوسطية والاعتدال في الدعوة :

أمر القرآن الكريم بحسن التعامل حتى الأعداء، فأوصاهم بالصفح والعفو وغض الأبصار عمّا يصدر منهم قدر الإمكان، قال سبحانه: ) وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( (المائدة: 13).

كما أوصى المسلمين بالحفاظ على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمخالفين، فإن تألف الكفار والتعطف بهم قد يميل بقلوبهم نحو الإسلام وبالتالي يسارعون بالدخول فيه. بل وذهب بعض المفسرين إلى ان الصداقة معهم لا إشكال فيها مطلقاً (محمد رشيد رضا، 1366هـ). وهو ما يؤكده قوله تعالى: )عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً…(. (الممتحنة: 7). إذا هو باب التقرب بالتسامح المحبب وإشاعة روح التسامح بين المسلمين وغيرهم من المخالفين في العقيدة، لأن ذلك أقرب إلى جذبهم للإسلام من معاداتهم وبغضهم.

أما من يقول إن الإسلام قد عاملهم بقسوة وتعنُّت، وفرض عليهم أعباءً مالية تثقل كاهلهم مستشهداً بفرض الجزية عليهم، فنقول: إن الجزية فرضت عليهم لقاء حمايتهم أولاً، وثانياً أنها ضريبة المراد منها تقوية اقتصاد الدولة، كما أن حالها كحال فرض الخمس والزكاة على المسلمين كونها فرضت لنفس السبب أعلاه، فضلاً عن أنها تعزز التآلف والتراحم بين أفراد المجتمع، وتقوي العلاقات وتشيع التعاون بينهم (الطباطبائي، 1417هـ) . وأن معنى كلمة (صاغرون) التي ذهب بعض المفسرين إلى أنها تعني التعنّت في التحصيل، فلا يستلزم معناها بالضرورة ذلك بحسب ما جاء عند غيرهم، بل أنها تعني التمكين، فضلاً عن طاعة الحكومة الإسلامية التي هم تحت جناحها آمنين (النجفي، 1411هـ) .

المبحث الثالث

الحوار في القرآن الكريم وأثره في التأسيس للتعايش السلمي

يعد  الحوار أحد أهم الوسائل التي يستخدمها الانسان للتواصل مع الآخرين، ولعلها السمة البارزة التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، فالحوار نمط حياة وأسلوب تفكير؛ لذلك أولى القرآن الكريم عناية كبيرة بالحوار، فكان الأسلوب الغالب في القصص التي قدمها كأداة رئيسية استعملها الأنبياء في نشر دعوتهم، ووسيلتهم في عرض مسائل العقيدة ومحاولة اقناع الناس بها. وسنحاول أن نقدم هنا نماذج من تلك الحوارات:

أولا : الحوار مع المشركين

من خلال الآيات الكريمة الواردة في القرآن الكريم حول مناظرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين يتضح أن المنهج الذي اتبعه في وصف هذه الحوارات كان منهجاً وصفياً لما كان يدور على ألسنة المشركين من علامات استغراب وتعجب لأحوال القرآن الكريم ونبيه الأعظم. فقد كان المشركون متعجبين من بعث نبي من بينهم فيشككون في الرسالة وفي البعث، قال تعالى: )وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ( (ص: 4-7).

في مقابل ذلك أكد القرآن الكريم على النهج الثابت للرسالة المحمدية ونبيها الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار الهادئ المبني على الحجة، فطلب منهم دليلاً على شركهم بالله سبحانه، وعلى صحة ما يدعون، فقال مخاطباً نبيّه الأكرم بالقول: )قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (الاحقاف: 3).

وعلى هذا النحو سارت المحاورات بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين في أغلب الآيات التي ذكرت ذلك، ولعل سورة الأحقاف توضح بشكل كبير طبيعة هذه الحوارات وأبعادها (الآلوسي، 1415هـ) .

يقول الله تعالى: )وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شيئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( (الاحقاف: 7-9).

وهذه الآيات المباركة توضح بشكل صريح طبيعة الحوار عند المشركين الذين اتهموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ما جاء به هو السحر المبين، وأنه افترى هذه الآيات من عنده، وهي ليست من عند الله سبحانه. وهذا مجمل ما جاء على لسانهم، أما ردُّ النبي عليهم فكان التأكيد على أنه لم يكن مبتدعاً ولا ساحراً، بل أكد على أنه رسول ربّ العالمين (الطبري، 1415هـ).

ويصف القرآن الكريم موقف المشركين من تلك الحجج والبراهين التي أدلى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بآيات مباركة تؤكد ثبات نبوته وقوة حججه التي لم يتمكنوا من دحضها، فما كان منهم إلا أن يهربوا من هذا النقاش الذي كشف عن زيفهم وعدم قدرتهم على مبادلة الحجة بالحجة، فقال تعالى واصفاً موقفهم هذا: )لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ( (الاحقاف: 11)، وهذا التبرير الساذج والسطحي يعبِّر عن عجزهم عن الوقوف أمام تلك الحجج الدامغة، فقد كانوا يرون أنهم الأحق بالرسالة والنبوة من البسطاء الذي يحملون مشعل هذه الرسالة (ابن كثير، 1420هـ).

وإزاء هذا العجز أمام تلك الحجج يمكن ملاحظة أنهم اتجهوا بعد ذلك اتجاهات أخرى على نحو الطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلبات ليس المراد منها التأكيد من دعواه، وإنما كانوا يريدون تعجيزه تعنتاً منهم وتجبراً بعد فشلتهم في مجاراة حججه وبراهينه (ابن هشام، 1375هـ) .

ثانياً: الحوار مع أهل الكتاب (اليهود والنصارى)

1- حوار نبي الله موسى مع قومه :

حوار النبي موسى u مع قومه في القرآن الكريم هو الحوار الاكثر تكرارا من جهة والاكثر تفصيلا من جهة اخرى، في اشارة الى عناية بهذا النموذج من الحوار ولفت الانتباه اليه لمزيد من الاتعاظ والتنور بحكمته . وقد شرح لنا القرآن هذا الحوار في العديد من الاطوار والمواقف التي مر بها نبي الله موسى وعاصرها في حياته ومع العديد من الفئات والاشخاص في قومه وخارج قومه كقوله تعالى )وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (البقرة: 54-56)، وتطرق الحوار في هذه الآيات الى ابرز القضايا التي حصلت بين موسى وقومه مثل قضية العجل والنظر الى الله جهرة وطلب الاطعمة المتنوعة (فضل الله ، 1415هـ) .

قال تعالى:) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( (المائدة: 20-23) .

وتطرق الحوار في هذه الآيات الى الارض المقدسة التي رفض قوم موسى ان يدخلوها وكانت سببا لأن يطلب موسى من ربه أن يفرق بينه مع اخيه وبين قومه (فضل الله ، 1415هـ) . ولنا أن نتعرف على الأسلوب الذي اتبعه النبي موسى عليه السلام في محاولة اقناع المتعنتين من قومه بأن يقوموا بما يراه صحيحاً بناءً على متطلبات العقيدة وحتميات الإيمان الذي لابد لهم من اتباعه، وهذا هو أسلوب الحوار بما فيه من خصائص التي يجب أن تراعى في الحوار كما يريد القرآن الكريم ووفق قواعد معينة تضمن الوصول إلى المطلوب دون تعصب أو إكراه، فالرفق واللين والدعوة بالتي هي أحسن واتباع الحجة والاقناع العقلي، كل تلك الخصائص والقواعد يجب أن تراعى في الحوار والتي أكدت عليها الآيات السالفة، وغيرها كذلك الكثير.

قال تعالى: )ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَٰذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ *قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ( (يونس: 75-78)، جرى هذا الحوار في هذه الآيات حوار بين موسى وفرعون وملأه حول السحر والسحرة وفتنة فرعون (النحلاوي، 1421هـ) . وتنطوي هذه الآيات المباركة في حوار موسى عليه السلام مع فرعون وسحرته على حجة موسى في حواره مع القوم المعاندين، وإن عمله لو كان سحراً سيتبين ذلك لأن السحر لا يفلح صاحبه، وهو ما كان وما حصل معهم، لأنهم عاندوا وتوقعوا بأن سحرهم هو الغالب في قبالة ما سيقدمه موسى عليه السلام، وكانت النتيجة من ذلك إن السحرة أقروا – في نهاية الأمر – بأن ما قدمه موسى شيء يفوق السحر، وإنه – كما قال لهم وبيّنه في حواره معهم.

وفي مستويات حوارية أخرى نتلمس بوضوح الصورة الحوارية المفتوحة التي رسمها القرآن الكريم لترسيخ مبدأ التعايش بين المسلمين وغيرهم، بترسيخ مفهوم الحوار والتأكيد على الأسلوب الهادئ الذي لا يعمق هوة الخلاف بل يحاول ردمها وتقريب وجهات النظر بين المسلمين وغيرهم، يؤكد ذلك العديد من الآيات القرآنية التي تحاول ترسيخ فكرة الحوار في مفهوم المجتمع، ومن ذلك قوله تعالى: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ[ (آل عمران: 63)، وقوله تعالى: ]وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[ (العنكبوت: 46).

ويلاحظ من الآيات السالفة تأكيد القرآن الكريم على الأسلوب الهادئ والسلس في عرض المسائل العقائدية وطريقة الرد عليها من قبل المسلمين حين يحاججهم أهل الكتاب، فلابد أن يبقى الباب مفتوحاً للحوار الذي قد يجنب الجميع الدخول في متاهات كبرى هم في غنى عنها.

الخاتمة (الاستنتاجات) :

توصل البحث في نهايته إلى مجموعة من النتائج نوجزها بالآتي:

  • ركز القرآن الكريم – باعتباره كتاب هداية في المقام الأول – على أهمية التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد .
  • أكد القرآن الكريم وفي العديد من الآيات الكريمة على ضرورة إشاعة الألفة والمحبة والتعاون بين الناس على اختلاف عقائدهم .
  • إن القرآن الكريم أسس لمجموعة من المبادئ المهمة التي يحافظ من خلالها المجتمع على تماسكه وثباته في مواجهة مختلف الظروف .
  • أكد القرآن الكريم على ضرورة التأسيس لثقافة التسامح والحوار والتعايش السلمي بين الناس من خلال عديد الآيات التي حثّت على ذلك .
  • التأكيد على العلاقات الحسنة والمبنية على أواصر الألفة والمحبة بين فئات المجتمع كافة بمختلف طوائفها واختلافاتها الدينية والمذهبية .
  • التأكيد على أساسيات التعايش السلمي بين الديانات المختلفة في المجتمع، وحدّد الأصول الواجب توافرها في تحسين تلك العلاقات وكيفية صيرورتها .
  • من الأمور التي أكد عليها القرآن الكريم في تطبيق مفهوم التعايش هو الحوار الذي يعد الركيزة الأساسية في متبنيات التعايش؛ فالحوار الهادئ والهادف يعمل على ترسيخ مفهوم التعايش من خلال محاولة حل المشكلات القائمة من خلال التحاور للوصول إلى حل يرضي كل الأطراف.

المصادر والمراجع

  • القرآن الكريم
  1. ابراهيم مصطفى وآخرون. (1425هـ). المعجم الوسيط، سوريا: مكتبة الشروق للنشرـ .
  2. أحمد عبد الوهاب وابراهيم خليل. (1413هـ). مناظرة بين الإسلام والنصرانية. بيروت: دار الابحاث العربية.
  3. الآلوسي، ش.م. (1415هـ). روح المعانيفي تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. بيروت: دار الكتب العلمية .
  4. ابن تيمية، ت.أ. (1416هـ). مجموع الفتاوي. السعودية: مجمع الملك فهد للنشرـ .
  5. حسان حتحوت، ح.ح. (1423هـ). رسالة إلى العقل العربي المسلم. السعودية: مؤسسة فهد المرزوق الصحفية .
  6. الحر العاملي، م.ح. (1414هـ). وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث .
  7. الحميري، ع.ج. (1410هـ). قرب الاسناد. بيروت: مؤسسة اهل البيت لأحياء التراث .
  8. الرازي، م.ض. (1401هـ). مفاتيح الغيب – التفسير الكبير. بيروت: دار الفكر للنشر والتوزيع.
  9. الراغب الاصفهاني، ح.م. (1412هـ). المفردات في غريب القرآن. دمشق: دار القلم الشامية .
10.    سعدي ابو حبيب، س.ح. (1408هـ). القاموس الفقهي. بيروت: دار الفكر.
  1. سيد قطب، أ.ح. (1412هـ). في ظلال القرآن. مصر: جمعية الازهرية للنشر .
  2. شوقي جلال، ش.ج. (1393هـ). مشكلاتالحرب والسلام. بيروت: دار الثقافة الجديدة .
  3. الصدوق، م.ع. (1404هـ). من لا يحضره الفقيه، قم: مطبعة ردمك .
  4. الطباطبائي، م.ح. (1417هـ). الميزان في تفسير القرآن. بيروت: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات.
  5. الطبرسي، ف.ح. (1427هـ). مجمع البيان في تفسير القرآن. بيروت: دار المرتضى للنشر.
  6. الطبري، م.ج. (1415هـ). جامع البيان في تأويل القرآن. بيروت: مؤسسة الرسالة للنشر.

17.  طنطاوي، محمد سيد، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ط1، دار نهضة مصر للطباعة، 1417هـ .

  1. ابن عاشور، م.ط. (1404هـ).التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر .
  2. عباس، أ.م. (1433هـ). التعايشمع غير المسلمين واثره في الفكر الإسلامي. بغداد.
  3. فضل الله ، م.ح. (1415هـ). الحوار في القرآن قواعده – اساليبه – معطياته. بيروت: دار الملاك للطباعة.
  4. ابن فارس، أ.ف. (1399هـ). معجم مقاييس اللغة. بيروت: دار الفكر .
22.   ابن كثير، ع.أ. (1420هـ). تفسير القرآن العظيم. السعودية: دار طبية للنشر.
  1. الكليني، م.م، (1992). فروع الكافي، بيروت: دار الأضواء. محمد بن يعقوب (ت 329هـ)،
  2. محمد أبو زهرة، م.ز. (1415هـ). العلاقات الدولية في الإسلام. بيروت: دار الفكر .
  3. محمد رشيد رضا،م.ر. (1366هـ). تفسير المنار. مصر: الهيئة المصرية للكتاب.
  4. محمد الغزالي. م.غ. (1388هـ). حقوق الانسان بين تعاليم الإسلام واعلان الامم المتحدة. مصر: دار الكتاب الإسلامي .
  5. محمد شلتوت، م.ش. (1418هـ). الإسلام عقيدة وشريعة. سوريا: دار الشروق.
  6. مغنية، م.ج. (1427هـ). التفسير الكاشف، بيروت: مؤسسة دار الكتاب السلامي .
  7. مسلم، م. ح. (د.ت). الصحيح، بيروت: دار الفكر .
  8. منير غبور وأحمد عثمان، (2009). المسيحية في الإسلام، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  9. ابن منظور، ج.م. (1414هـ). لسان العرب. بيروت: دار صادر .
  10. النجفي، م.ح. (1411هـ). جواهر الكلامفي شرح شرائع الإسلام. بيروت: دار احياء التراث العربي .
  11. النحلاوي. ع.ر. (1421هـ). التربية بالحوار من أساليب التربية الإسلامية. بيروت: دار الفكر.
  12. ابن هشام، ع.ه. (1375هـ). السيرة النبوية. سوريا: مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *