د. فوزي خيري كاظم
كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية الجامعة – جمهورية العراق
Fawzy1000@gmail.com
009647713721500
الملخص:
يتناول البحث موضوعاً في غاية الأهمية ألا وهو موضوع الحداثة والتجديد في الفكر والتراث لاسيما التراث الإسلامي في مؤلفات واحد من أكثر الباحثين عطاءً وهو الدكتور صالح الطائي، وهو من المفكرين الذين اتخذوا منهجاً علمياً دقيقاً يقوم على إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة تتسم بالموضوعية والتجديد. في محاولة منه لذا كانت محاولات هذا الباحث الكبير منطلقة من هذا الباب الذي يحاول فيه التأسيس لمنهج تحليلي يقوم على إعادة دراسة هذه النصوص التي تؤسس لثقافة العنف، وتأطيرها بإطار إسلامي، وهو ما لا يتفق وتعاليم الدين الحنيف الذي يدعو إلى التسامح ونبذ التفرقة.
مشكلة البحث: تسليط الضوء على مؤلفات الدكتور صالح الطائي وهو من أهم المؤلفين المعاصرين الذين تميزوا بنتاجهم الفكري الغزير الي عالج مسألة إعادة التراث الإسلامي بصورة جديدة بعيدة عن العنف والتطرف ومحاولات الإقصاء، وتقديمه بفكر يتساوق مع روح العصر والتقدم العلمي الذي نعيشه.
أهمية البحث: بحث فكرة التجديد لدراسة التراث الفكري العربي والإسلامي عموماً، كون ذلك يعدُّ من المؤثرات الكبيرة على عموم المجتمع، لأن بعض نصوص التراث الفكري الاسلامي لابد من إعادة قراءتها قراءة متأنية، بفكر يواكب روح العصر الذي نعيشه ولا نبقى متمسكين بقراءة المفكرين الأقدمين الذين بثّوا فيه مختلف أنواع السموم لتغذية النزعات النفسية والمصالح الفئوية الضيقة والتي انتجت بالتالي فكراً متطرفاً يقوم على إقصاء الآخر.
أهداف البحث: تسليط الضوء على كتابات هذا المؤلف الكبير، وتقديم قراءاته لما لها من أهمية كونها تؤسس لثقافة التعايش السلمي ونبذ العنف والتطرف. مع إعطاء قراءة لأهم ما تضمنته مؤلفاته القيِّمة.
حدود البحث: لا حدود معيَّنة للبحث حيث أنه يتناول كتابات لمؤلف معاصر تناول كتابات التراث الإسلامي العام.
الدراسات السابقة: هناك عدة دراسات تناولت سيرة الباحث الدكتور صالح الطائي منها كتاب بعنوان (صالح الطائي – مخاض ألم وإبداع قلم) لمؤلفه الدكتور فوزي خيري كاظم، وكذلك بحث منشور في مجلة لارك في كلية الآداب/جامعة واسط بعنوان (صالح الطائي وآثاره في الفكر الإسلامي) للباحثين الدكتور فوزي خيري كاظم والباحث سجاد ماجد. وكذلك رسالة ماجستير بعنوان (سيميائية العنونة ووظائفها الدلالية في ديوان نوبات شعرية لصالح الطائي) للطالبة مينا غانم – جامعة خليج فارس/بوشهر. ورسالة ماجستير منونة بـ(سوسيولجيا الادب في أشعار صالح الطائي) للطالب جمال غافلي جامعة ايلام للعلوم الانسانية. ورسالة ماجستير ثالثة بعنوان (مقاربة شعرية في وطنيات صالح الطائي) للطالب مسعود محمدي – كلية الشهيد بهشتي جامعة طهران. وبحث بعنوان (الدكتور صالح الطائي داعية العقيدة العلمي) للأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح – جمعية علماء النفس العراقيين.
منهجية البحث: اعتمدنا المنهج الوصفي التحليلي في قراءة بعض مؤلفات الباحث وقدمنا قراءة لمنهجه الذي استخدمه في غالب كتاباته الفكرية.
الكلمات المفتاحية: الحداثة، التجديد، الفكر، التراث، صالح الطائي.
Modernity and renewal in the writings of Dr. Saleh Al-Taie
Dr.Fawzi Khairy Kadhum
Imam AL- Kadhum College of
Sciences Islamic University
Abstract
This study deals with a very important topic, that of modernity and renewal of ideas and heritage, especially the Islamic heritage in the work of one of the most generous researchers. He tried to discuss newer ideas. We should pay special attention to the Arab and Islamic intellectual heritage because it has an impact on society as a whole, some texts of the Islamic intellectual heritage are carefully written, and their ideas must be reinterpreted in line with the spirit of the times in which we live, and we cannot stick to the interpretations of ancient thinkers, In it they spread poisons that promote psychological tendencies and narrow sectarian interests, giving rise to an extremist ideology based on the exclusion of others. It is thus based on this section that the great researcher attempts to establish an analytical method based on re-examining these texts that established a culture of violence, placing them within an Islamic framework that is incompatible with it. are the teachings of true religion, calling for tolerance and the rejection of discrimination.
Research problem
We highlight the work of Ph.D. Saleh Altaei is one of the most important contemporary writers, known for his rich intellectual output, who addresses the issue of recovering the Islamic heritage in new ways, moving away from violence, extremism and other attempts at exclusion and engaging with them Together, this concept is presented in keeping with the zeitgeist and scientific progress in which we live.
Importance of Research
Discussion of updated ideas, especially the study of Arabic and Islamic intellectual heritage, because of its impact on society as a whole, because some texts of Islamic intellectual heritage need to be carefully re-read, an idea that resonates with the heart and with us Staying abreast of the times in which he lived, rather than restricting himself to reading the older thinkers who shaped him. Various poisons fuel psychological tendencies and narrow sectarian interests, which in turn breed xenophobic extremist ideologies.
Research objectives
We highlight the works of this great author and present his readings to understand their importance for building a culture of peaceful coexistence that rejects violence and extremism. Read the most important of his valuable works.
Search restrictions
There are no particular limitations to the study since these are the works of a contemporary author who studied the Islamic heritage in general.
Previous Research
There are several studies involving the biography of researcher Dr. Saleh Al-Tai, which includes a book titled Saleh Al-Tai – Pain and Creativity of the Pen, by Dr. Saleh Al-Tai. Fawzi Khairy Kazem, and a study titled “Saleh Altai and his influence on Islamic thought” published in the Lark magazine of Wasit University Faculty of Arts. ) by researcher Dr Fawzi Khairy Kazem and researcher Sajjad Majid. and Mina Ghanem’s master’s thesis, a student at the University of the Persian Gulf/Bushehr, titled (The Semiotics of Addressing and Its Semantic Functions in the Transformational Concentrations of Saleh Tai’i Poetry). Jamal Ghafli, a student at Ilam University for Humanities, wrote his master’s thesis titled “Literary Sociology in the Poems of Saleh Ta’i.” The third master’s thesis is titled “Poetic Approach to Patriotism in Saleh Altaei” and was written by Masoud Mohammadi, a student of Tehran University’s Shahid Beheshti College. Research entitled (Dr Saleh Al-Tai, preacher of the Scientific Faith) by Professor Dr. Qasim Hussein Saleh – Iraqi Psychologists Association.
Research Methodology
We adopted the descriptive and analytical approach in reading some of the researcher’s works and provided a reading of his method, which he used in most of his intellectual writings.
Keywords: modernity, innovation, thought, heritage, Saleh Al-Taie.
المقدمة
تبرز في الوقت الحاضر فيه أهمية الفكر بشكل كبير جداً لاسيما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لكونها متأصلة الجذور سواء بفكرها الديني المستمد من روح الشريعة الاسلامية السمحاء، أو المستمد من جذورها العربية الأصيلة التي تتخذ من امتدادها هذا أساساً وجودياً كاملاً يتبنى من خلاله فكرة التأصيل الفكري لثقافة الأمة وعنصراً من عناصر وجودها وتكيفها الثقافي والديني والاجتماعي.
وهنا لابد أن يبرز دور المفكر العربي – بمختلف مشاربه الثقافية – ليسلط الضوء على التراكمات الفكرية الهائلة التي تداخلت مع تراثنا الإسلامي – على وجه التحديد – ليخلصه من غبار ما لحق به من فكر دخيل تناثر بين ثنايا ذلك التراث، حتى عاد مختلطاً لا يكاد أن يُميز.
ولعل التراث الديني أكثر من تأثر بتلك الأفكار، فاختلطت محاولات المفكرين الذين خاضوا في ذلك بجدار الفكر الغربي الذي تشظى بين ثنايا هذا التراث فخلق منه فكراً مشوهاً نتج عنه اختلاط الفكر الديني الحق بتراث مشوّه قلب جذور الفكر العربي والإسلامي رأساً على عقب.
ومن هنا جاءت محاولات الدكتور صالح الطائي لمحاولة معالجة هذا التراث وتنقيته مما لحق به من محاولات التشويه، في محاولاته التجديدية لإعادة قراءة النص الديني قراءة جديدة منطلقة من روح الإسلام القويم. ولأهمية هذا الموضوع ولتسليط الضوء على تلك المحاولات فقد اتخذناها عنواناً لبحثا هذا والموسوم “الحداثة والتجديد في كتابات الدكتور صالح الطائي”.
وقد استخدمنا المنهج الوصفي التحليلي في حدود هذه الدراسة لبيان إسهامات الدكتور صالح الطائي في دراسة هذا الموضوع من ناحية النص الديني ومحاولة قراءتها قراءة تناسب روح العصر ولا تخرج بها عن إطارها الشرعي .
مفهوم الحداثة والتجديد في اللغة والاصطلاح
تبدو الحاجة ضرورية – ونحن في خضم دراسة موضوع الحداثة والتجديد في الفكر الإسلامي – لضبط تلك المصطلحات ومدلولاتها، ومعرفة كيفياتها، لكي نحافظ على الهوية الثقافية الإسلامية التي نعتزُّ بها.
وانطلاقاً من مفهوم الحداثة، فقد عُرّفت في اللغة بأنها: ” لفظة مشتقة من الفعل الثلاثي (حدث)، بمعنى وقع، حدث – الشيء ويحدث حدوثاً وحداثةً فهو محدَث وحديثٌ، وحدث الأمر أي: وقع وحصل، وأحدثَ الشيء أوجده، والمحدث هو الجديد من الأشياء “. (ابن منظور، 1955، ج2، ص535).
وهي أيضاً مصدر حدث: الْحَدِيثُ: نَقِيضُ الْقَدِيمِ. وَالْحُدُوثُ: نَقِيضُ الْقُدْمَةِ. حَدَثَ الشَّيْءُ يَحْدُثُ حُدُوثًا وَحَدَاثَةً، وَأَحْدَثَهُ هُوَ، فَهُوَ مُحْدَثٌ وَحَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ اسْتَحْدَثَهُ. وَأَخَذَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا قَدُمَ وَحَدُثَ؛ وَلَا يُقَالُ حَدُثَ، بِالضَّمِّ، إِلَّا مَعَ قَدُمَ، كَأَنَّهُ إِتْبَاعٌ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ (ابن منظور، 1955، ج2، ص535).
وجاء في المعجم الفلسفي: “أن (الحديث) في اللغة نقيض القديم ويرادفه الجديد وعلى هذا تصبح الصفة الحديث ذات دلالة معيارية تعلي من شأن المساير للزمان والمنتج مؤخراً والصادر في وقت قريب، فيما يوصف القديم بعدم الصلاحية والانسجام مع معطيات الزمن الراهن أي تجاوزه الزمن”. )جميل صليبا، 1982، ج2، ص445).
أما عند أهل الأدب فتعني: “الْمُعاصَرَةُ وَتَبَنِّي أَشْكالٍ وَأَساليبَ حَديثَةٍ في الكِتابَةِ تُلائِمُ مَفاهِيمَ العَصْرِ”، )النحوي، 1984، ص35). ومن اعتبار هذا التعريف نرى أنها تجاوزت حدود التراث القديم لتشمل كل مجالات الحياة؛ لأنها تسعى لإطلاق الفكر فيها متجاوزاً كل محدود ومتوقع. (امامة، 1424هـ، ص17).
أما اصطلاحاً: فقد وجد الباحثون في مفهوم هذا المصطلح صعوبة في تحديد مدلولها، وذلك لتشعب المجالات التي يدور حولها المصطلح، إذ لا يقتصر ارتباطه بالفكر فحسب، بل يمتد إلى كافة الجوانب الحياتية. ونتيجة لهذا التشعب فقد اختلفت الرؤى ومواقف المفكرين والباحثين حوله.)عبد الوهاب المسيري، وفتحي التريكي، 2003، ص15).
ولعل ما ذكره الباحث محمد برادا يعطينا فكرة كافية عن مدى صعوبة إيجاد تعريف محدد لمصطلح الحداثة، فيقول: “ليس هناك مفهوماً سوسيولوجياً أو مفهوماً سياسياً أو مفهوماً تاريخياً يحصر المعنى، وانما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، ومع ذلك تظل الحداثة موضوعا عاما يتضمن في دلالته إجمالا لإثارة تطور تاريخي بأكمله والتي تبدل في الذهنية” (محمد برادة، 1984، ص12).
ولكننا في ضوء هذه الدراسة نجد إن تعريف قاموس أكسفورد الحديث للحداثة يتساوق مع ما نحن بصده، فالحداثة هنا تعني: “التجديد أو جعل الشيء ملائماً لمقتضيات العصر”. (قاموس أكسفورد الحديث، د.ت). فمسألة الحداثة – في هذه الحدود – تعني تغييراً وتطوراً وتبديلاً وتجديداً (مصطفى الشريف، 1999، ص12).
مفهوم التجديد
أولاً: التجديد في اللغة: “من الجدّة التي هي نقيض البلى، يقال شيء جديد ، وتجدد الشيء صار جديداً وهو نقيض الخلق، وجدَّ الثوب يجِدَّ (بالكسر) صار جديداً، والجديد مالا عهد لك به” )الجوهري، 1407هـ، ج2، ص454).
وعرَّفه صاحب المصباح المنير بالقول: هو خلاف القديم.)الفيومي، د.ت، ص92). و”جدّد فلان الأمر وأجدَّه واستجدَّه إذا أحدثه، فالتجديد لغة يعني: وجود شيء كان على حالة ما، ثم طرأ عليه ما غيره وأبلاه فإذا أعيد إلى مثل حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يصيبه البلى والتغيير كان ذلك تجديداً”.)الفيومي، د.ت، ص92).
مما تقدم نجد أن التجديد يعني إعادة ترميم الشيء البالي (نقيض البالي). وليس خلق شيء لم يكن موجوداً (نقيض الخلق) (ابن منظور، 1955، ج3، ص111). وبهذا المعنى فإن التجديد في مجال الفكر والعلوم أو في مجال الأشياء على السواء، هو أن تعيد الفكرة أو الشيء الذي بلى أو قدم أو تراكمت عليه من السمات والمظاهر ما طمس جوهره . وأن تعيده إلى حالته الأولى يوم كان أول مرة ، فتجدد الشيء أن تعيده (جديداً) )الفيومي، د.ت، ج2، ص92). وكذلك الحال في العلوم والفكر وسائر الأشياء (امامة، 1424هـ، ص16).
ومن حيث الشرع فلم يخرج التعريف عن مفهومه اللغوي، مضافاً له مدلول خاص يقتضيه الشرع ليعطيه متعلقاً خاصاً به بنحوٍ خاصٍ ومعانٍ جديدة. )الفيومي، د.ت ج2، ص93).
وعليه فيمكن القول بأن تجديد العلوم الإسلامية يحتاج إلى وضع قاعدة صلبة لكي يستطيع حمل تراث ثقيل لحقبة امتدت لأكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان. (العلواني، 2003، ص21).
صالح الطائي وسيرته العلمية والشخصية
اسمه ونسبه
هو الباحث الأستاذ صالح عبد حسن الطائي، والمشهور باسم صالح الطائي، من قبيلة طي العربية الأصيلة. ولد سنة 1951م، وتحديداً في الأول من شهر تموز من تلك السنة. وهو من عائلة ميسورة الحال، استقرت في بغداد بمحلة الوزيرية. هاجرت عائلته إلى ديالى قبل ولادته، وفيها ولد، وعندما بلغ الثالثة من عمره، عادت العائلة إلى بغداد، وسكنت في إحدى البساتين التي يملكونها والكائن في الكاظمية المقدسة. (مقابلة شخصية، 2021).
تحصيله العلمي والثقافي
نتيجة لاستقرار عائلته في الكاظمية المقدسة – بعد عودتهم من ديالى – درس مرحلة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في هذه المدينة وتخرج من مدارسها.
قُبل بعدها في كلية الآداب الجامعة المستنصرية – قسم علم المكتبات سنة 1970-1971 فحصل على دبلوم مكتبات.
ولشغفه وولعه بالتاريخ، قدّم بعد ذلك في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية – قسم التاريخ (الدراسة المسائية) 1971- 1974، فحصل على بكالوريوس تاريخ. وبعد إكماله لدراسته الجامعية، كان لابد من أن يلتحق بالجيش لأداء خدمة العلم كما هو المعمول به آنذاك، فالتحق بها مدة سنة واحدة كانت بين 1974 و1975. وبعد إكماله للخدمة أواخر عام 1975، عُيِّن موظفاً في البنك المركزي العراقي. (مقابلة شخصية، 2021).
وقد عانى الدكتور صالح الطائي من ملاحقة النظام البعثي المقبور – شأنه في ذلك شأن أغلب المثقفين العراقيين – الأمر الذي تعذر عليه إكمال دراسته العالية، فقد اعتقل من قبل الأمن لأكثر من مرة كان أولها عام 1975، وثانيها عام 1976، وثالثة عام 1977. وفي عام 1977 حصل على إجازة دراسية لغرض إكمال دراسته العليا، “ولكن الأمن الصدامي أخرجني من الجامعة بالقوة، وحذرني من العودة ثانية إليها، فنسيت الموضوع كلياً”. (مقابلة شخصية، 2021).
وفي عام 1995 قدّم طلباً لغرض إحالته على التقاعد بعد صدور قانون يجيز التقاعد لمن لديه 15 سنة خدمة فأكثر، متفرغاً للبحث والكتابة.(مقابلة شخصية، 2021).
الانتقال إلى واسط
بعد ما عاناه الباحث، وما جرى عليه في بغداد، إبان الأحداث الطائفية ما بعد سقوط النظام البعثي وما تعرض له من خطف وتعذيب على يد بعض العصابات الإجرامية التي نشطت آنذاك وكانت تقتل على الهوية، قرر الدكتور صالح الطائي مغادرة العاصمة بغداد إلى بلدة أخرى تكون مستقرة الجديد، ومحط رحاله، فاختار محافظة واسط، لتكون محل سكناه الجديد، وبالفعل بعد عودته من رحلته العلاجية خارج العراق استقر في واسط ولازال فيها حتى يومنا هذا. وقد تحدث إلينا بلهجة تفيض امتناناً لهذه المدينة ولأهلها حين سألناه عن موعد عودته إلى مدينته الأم بغداد، فأجابنا قائلاً: “أرغب بشدة بأن يخرج جثماني من هنا، من الكوت، حينما يكتب الله تعالى لي الرحيل، لأني وجدت هنا الأهل والأقرباء والأصدقاء والخلان وهذه من نعم الله الكبرى”.(مقابلة شخصية، 2021).
مما يدل على إن الباحث قرر المكوث في المدينة، وقطع أي تفكير في العودة إلى مدينته ومحله الأول بغداد، لما لاقاه من أهل الكوت من مودة.
حصوله على الدكتوراه
وعلى الرغم من إبعاده – قسراً – عن نيل طموحه بإكمال دراسته العليا نتيجة للملاحقات والمضايقات التي مارستها عليه السلطة البعثية الصدامية آنذاك، إلا إن إبداعه الفكري والثقافي لم يقف عند حد، بل أطلق لنفسه العنان ليثبت أن الشهادات لا يمكن أن تخلق باحثاً مرموقاً، بل إن الإبداع هو موهبة فطرية تُنمَّى بالعمل والبحث المستمر والاجتهاد، وهو ما تحقق للباحث صالح الطائي، فبادرت إحدى الجامعات الأمريكية لطلب مجموعة من مؤلفاته للنظر في موضوع تقييمها، وحينما أرسلها إليهم، نالت رضاهم واستحسانهم، وقاموا بمنحه درجة الدكتوراه بالفلسفة يوم 17/8/2016.
كما قام مركز الحرف وهو قسم الدراسات العربية في جامعة ستراتفورد الأمريكية/فرع الهند، بمنحي درجة دكتوراه ثانية تقديراً لبحوثه وآرائه، مع شهادة منجز؛ وهي شهادة تمنح لكبار المفكرين والباحثين في العالم”.)فوزي خيري كاظم، 2020، ص44).
آثاره العلمية والفكرية
بعد رحلة إبداع طويلة لأكثر من 40 عاماً – ولا يزال قلمه يقطر إبداعاً – خرج من تحت يديه مؤلفات كثيرة، تنوعت مجالاتها بين الفكري والتربوي والأدبي، فكان موسوعياً، كتب في التاريخ والسيرة والفكر، وتناول موضوعات تربوية مهمة، تعد بأساليب مثالية في تهذيب وتقويم السلوك المجتمعي، مثلما كان أديباً وشاعراً، ترك إرثاً أدبياً على شكل ديوان مطبوع وآخر في طريقه للطبع . وهكذا كان قلمه ولا يزال. وقد بلغ مجموع مؤلفاته الـ(77) كتاباً عدا المقالات التي لا تكاد أن تحصى لكثرتها والمنشورة في المجالات العلمية المحكمة والرصينة في مختلف أصقاع الأرض. ومن هذه المؤلفات نذكر منها:) فوزي خيري كاظم، 2020، ص44-46).
- نظرة إسلامية في التسلط الاجتماعي والتربوي، مؤسسة المنقذ الفكرية، بغداد، 2008.
- الحركات المهدوية المدعية لماذا الآن، جمعية النهوض الفكري، بغداد، 2008.
- نحن والآخر والهوية، صدر بطبعته الأولى عن جمعية النهوض الفكري، بغداد، 2008 وبطبعته الثانية عن شبكة الإعلام العراقي، 2013.
- جزئيات في السيرة النبوية عرض وتحليل، دار ميزوبوتوميا، بغداد، 2010.
- نظرية فارسية التشيع بين الخديعة والخلط التاريخي والمؤامرة ـ صدر عن مؤسسة دار العارف للمطبوعات/ بيروت، 2011.
- الإمام موسى بن جعفر والظلم التاريخي ـ صدر عن مؤسسة مصر مرتضى 2011.
- محمد r رسول الرحمة والهادي البشير، 2011.
- عوالم الحكومة المهدوية، صدر عن مؤسسة دار العارف للمطبوعات، بيروت، 2012 ـ
- خرافة كثرة زوجات الإمام الكاظم، دار المرتضى، بيروت، 2013.
- الحسن بن علي الإمامة المنسية، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، العتبة العباسية المشرفة، كربلاء، 2015.
- أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير، دار المرتضى، بيروت، 2015.
- ثائر في قرن الدماء سعيد بن جبير، دار المرتضى، بيروت، 2015.
- مفاوضات كربلاء الأصل والتحريف، معالم الفكر، بيروت، 2016.
- علي بن أبي طالب الحاكم الديني للدولة المدنية، معالم الفكر/ بيروت، 2016.
- إليك فقط، معالم الفكر، بيروت، 2017.
- قراءات انطباعية، منشورات العطار، قم، إيران، 2017.
- نوبات شعرية، دار ليندا، السويداء ـ سوريا، 2017.
- الحسن العسكري آخر الممهدين للغيبة، العتبة الحسينية المقدسة، 2018
- إليك فقط، تتولى طباعته العتبة الحسينية المقدسة،
- رجال البصرة في كتاب ربيع الأبرار للزمخشري، مركز تراث البصرة، 2021.
الحداثة والتجديد في كتابات الدكتور صالح الطائي
لابد وأن هناك دوافع مُلحّة تقف وراء رغبتنا الشديدة في الكتابة عن الدكتور صالح الطائي ومنهجه البحثي، وأهمها ذلك الخط والمنهج الذي اتبعه على خطى بقية المصلحين التاريخيين، الذين لا زالت آثارهم شامخة في صفحات التاريخ، إذ حاول الباحث الطائي من خلال منهجه الإسهام في تصحيح مسار تاريخ احتفظ بانحرافه على مدى أربعة عشر قرنا، وتأتي أهمية هذا المحور من كونه يسعى إلى تفكيك المنهج التقليدي الموروث، والتأسيس لقاعدة فهم جديدة ممكن أن تخرج الإنسان من قطيعية الانسياق خلف الموروث بعلله وهنّاته وأخطائه وسيئاته وتحريفه وكذبه إلى دنيا الانفتاح، فالإنسان متى ما نجح بالوصول إلى مرحلة الانفتاح على الآخر ممكن أن يعيد النظر بقناعاته واعتقاداته، ويصبح من السهولة عليه أن يتخلى عن كثير من الموروث الذي كان يراه مقدسا، وما هو بمقدس، وأن يعود إلى المنابع الصافية العذبة ليرتشف منها عبق الحقيقة.
فلقد تبين لنا يقينا ومن خلال البحث أن منهج التفكيك والتصحيح دون غيره له قدرة إعادتنا إلى رحاب جوهر ديننا قبل أن تشوه صورته الآراء الشخصية والمواقف والرؤى السياسية. وربما لهذا السبب تجدنا نسعى حثيثا إلى تسليط الضوء على بداية التغيير والمراحل التي مر بها منهج التفكيك للفكر الإسلامي والنتائج التي تركها، وما قام به الأوائل عن قصد أو بدونه، ولاسيما أولئك الذين يمكن أن نطلق عليهم تسمية “الباحثين”، فهؤلاء بآرائهم ورؤاهم وتحليلاتهم وفتاواهم وأقوالهم، وبدل أن يصححوا المسارات، تمكنوا من توجيه المجتمع قطيعياً إلى الجهة التي يريدونها أو التي أمروا أن يسيروه نحوها. (صالح الطائي، 2018، ص34).
وبناء عليه تبدو مهمتنا صعبة جدا، فهي ليست مجرد سرد تاريخي لسيرة هذا الرجل؛ الذي تحدى الواقع وخرج عن المألوف، مما دفعنا إلى السعي الجاد لتوثيق حياته ومنهجه البحثي، ولا مجرد استذكار لمحطات حياته، أو الإشارة إلى نبذة من تجربته، محصورة في الحقبة التي عاشها، أو في مضامين مؤلفاته التي ناف عددها على الخمسين مؤلفا، بل تعود إلى عمق التاريخ الإسلامي الأول، لتغور في بحر تكوينه، واستكناه أصول المدارس التي أعادت صياغته بعيداً عن مساره الإلهي القويم، فسلبت قدسيته الحقيقية، وصبغته بالقدسية الزائفة، وحولته إلى مشروع سياسي فيه الكثير من التوحش والكراهية، خال من نفحات الإيمان.
ونحن – في سبيل – أن نكوِّن صورة نقية ناصعة عن هذه التجربة الثرة، اندفعنا نقلّب في مؤلفات الدكتور صالح الطائي لنتيح لأنفسنا فرصة البحث من خلالها، ومن نمط تناوله للمادة المستهدفة في دقائق حيثيات وجزئيات أفكاره، بعد أن وجدناه قد استنطق شبهات الموروث، وحاكم أراءه بحيادية، ولاسيما بعد أن قارنا منهجه التفكيكي – الذي تبناه – مع المناهج التقليدية القديمة والحديثة، فعرفنا أي المنهجين يمكن أن يحافظ على ديننا نقياً، ويقربنا إلى الآخر، بل ويدفعه ليحترم ديننا بدل الواقع المأزوم المملوء بالحقد والكراهية المتبادلة التي بناها المنهج القديم، وغذّتها حركاته المتطرفة؛ التي ولدت من عباءته، وتبناها المعاصرون وطبلوا لها، ولاسيما الرافضون منهم للتغير ممن جمدوا على النص ولم يغادروا معناه الظاهر ويغوصوا في كنه مقصده!. (صالح الطائي، 2021، ص44).
ولو حاولنا أن نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه، سنلاحظ بوضوح أنها تنتظم في مشروع واحد، وهو محاولة تحديد إطار نظري في بحث ودراسة الفكر الإسلامي، وتحديد منهج آخر في البحث يتواءم مع متطلبات الحياة المعاصرة.
فالباحث الطائي كان يرى إن ما وَصَلَنا من فكر ديني لا يمثل الإسلام الحقيقي الذي بُعث به محمد r، وإن كثيراً من الدوافع الطائفية والمذهبية والولاءات السياسية قد عملت جاهدة على تقويض هذا البناء العظيم، بما أدخلته عليه من المستحدثات الهجينة والتحريف الغريب حتى تبدلت ملامحه السامية لتظهره بحلةٍ جديدة لا يليق به ارتدائها. (صالح الطائي، 2010، ص12).
وبالنظر لوجود الموانع الكثيرة – على مر الأجيال – لتصحيح مثل هذه الانحرافات، فقد تُركت الأمور على عواهنها، فازدادت كثرة، بل وتضاعفت نتيجة اعتمادها من قبل المستفيدين من هذا التحوّل في المسار والانحراف عن المبادئ لخدمة مصالح بعض المنتفعين من رجالات السلطة وأعوانهم، أما في عصرنا الحالي فقد تغيّرت الأمور وتطورت المناهج العلمية ووصل العالم إلى مستوى عالٍ من التقدم والرقي، فضلاً عن تطور الفهم الإنساني أفراداً وجماعات، ولهذا يرى الباحث الطائي ضرورة إعادة النظر في كثيرٍ مما وصل إلينا واخضاعه للنقد العلمي البناء لتنقيته من الشوائب والتحريف للوصول إلى إسلام صحيح خالٍ من الشوائب قدر الإمكان، لاسيما وإننا – مع هذا التقدم العلمي الكبير – نواجه هجمة شرسة من الآخر الذي لا يؤمن بما نؤمن، بل ويحاول أن يشوّه عامداً صورة الإسلام من خلال اعتماده على تلك النصوص التي نحن – كمسلمين – نتحفظ على الكثير منها. (صالح الطائي، 2021، ص24).
لذا فهو يقدم على تناول هذه الموضوعات بمنهج علمي دقيق قائم على الأدلة العلمية الدقيقة من الكتاب والسنة الشريفة، فيناقشها بأسلوب الناقد الخبير الذي يحاول الوصول إلى قراءة عصرية تتناغم ومتطلبات روح العصر وتطوره العلمي، فيحاكم الأصول الحديثية بالدليل العلمي المتوافق مع نهج الإسلام الحقيقي، وليس الإسلام السياسي الذي حاكت معظم أصوله وفروعه يد السلطة المتحكمة آنذاك، فصاغت منه إسلاماً مشوهاً لا يمت للإسلام القويم بأي صلة، وهذا ما يؤكده الباحث في أحد كتبه بالقول: “إن الإسلام الحقيقي الذي جاء برسالة السماء عن طريق الوحي، صودر في الأيام الأولى لعصر ما بعد البعثة، وأصبح هناك إسلامان: عقائدي مهمل ومعطل، وسياسي له وجود على أرض الواقع”. (صالح الطائي، 2015، ص11).
وهذا هو المبدأ الأساس الذي اختاره الطائي نهجاً له في غالب مؤلفاته، ففي كتابه “جزئيات في السيرة النبوية عرض وتحليل” قدم الباحث قراءة تحليلية مطوّلة عمّا وصلنا من حديث النبي r وما لحق به من دسٍ وتحريف وتضليل، ناهيك عن حجم الروايات الإسرائيلية الكبير؛ التي دخلت في منظومة الحديث الشريف ولاسيما في الأحاديث الواردة في تفسير بعض الآيات الكريمة وبشكل خاص في تلك الروايات التي تتحدث عن سيرة الأنبياء (سلام الله عليهم) أو الأقوام السالفة التي ذُكرت في القرآن، وقد ركز الطائي على التحريف المتعمد لمنظومة الحديث وتحريفه بما يخدم المصالح السياسية للسلطة الحاكمة، وكيف قامت السلطات المتعاقبة بتوظيف هذه الأحاديث لخدمة ارادتها السياسية. فوقف الطائي تجاه هذه الأحاديث موقف الناقد لها، مبيناً موضع الدسّ فيها بالدليل العلمي النقلي والعقلي، مفنداً أغراضه السياسية الموضوعة لأجله.
وكان هذا المنهج هو السائد في غالب كتاباته وكتبه، أقصد منهج إعادة كتابة الفكر الإسلامي بما يتساوق مع الإسلام الصحيح الذي جاء به النبي الأكرم محمد r، وثبّت أركانه في مراحله الأولى من الدعوة، إلا أن ما تلا تلك الفترة بعد لحوقه r بالرفيق الأعلى، وطغيان المصلحة الخاصة للطبقة السياسية الحاكمة وتقديمها على مصلحة الإسلام والمسلمين عامة، محاولة تأسيس قناعات سياسية جديدة لاسيما في العصر الأموي، الذي انصب اهتمامهم خلاله بجوانب معينة من السيرة النبوية الشريفة بحثاً عن توظيفها توظيفاً يخدم أهدافهم السياسية في سعيهم لشرعنة نظامهم وتمرير ذلك على العامة. (صالح الطائي، 2010، ص19).
وعلى الرغم من المحاولات التصحيحية – القليلة – التي قام بها بعض المؤرخين على مر الأزمنة في تصحيح ما لحق بالسيرة النبوية الشريفة من دس وتحريف، كمحاولة ابن هشام (ت 218هـ) تهذيب سيرة ابن اسحاق (ت 151هـ)، إلا أن هذه المحاولات – على الرغم من محدوديتها – فهي لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فقد تسربت إلى السيرة النبوية كثير من الأحاديث الموضوعة والاسرائيليات محتفظة لها بمكانة مميزة في كتب السيرة، لاسيما بعد أن اعتمدها المؤرخون بعده فضموها لصحاحهم ومسانيدهم، متناولينها بالشرح والتأويل وتبرير ما لا يمكن تبريره، فأسست عليها فيما بعد منظومة فقهية متكاملة تناولها الفقهاء بالدراسة مؤسسين عليها أحكاماً فقهية ظلت متداولة حتى يومنا هذا (صالح الطائي، 2010، ص21).
والطائي في كتابه هذا تناول هذا الموضوع بمنظور علمي دقيق، محاولاً كشف أهم الإشكالات القائمة على مثل هذه الأحاديث، من حيث السند أولاً والمتن ثانياً والتأويل ثالثاً، وإبراز الحقيقة من وراء هذا الدس والتحريف والوضع، وما هي أهداف الوضاعين من وراء هذا.
وهذا المنهج، هدفه الأساس تنقية الموروث الإسلامي مما لحق به، وإعادة قراءة هذا الفكر بما يتناسب مع روح الإسلام الصحيح، وبما يتلاءم كذلك مع العصر الذي نعيشه، فكما يعلم الجميع إن بعض النصوص المقدسة في القرآن الكريم – على سبيل المثال – كانت قد اختصت بحادثة معينة وفي زمن معين وبيئة خاصة تختلف عن بيئتنا هذه، وفي ظروف أخرى غير التي نعيشها الآن، فالخطاب في زمن النزول استهدف طائفة معينة من الناس كانت تعيش في ظل بيئتها، ولها أفكارها الخاصة التي استهدفها الخطاب لتحقيق هدف سامٍ يعدُّ أهم أهداف الرسالة، وهو هدايتهم إلى الدين الجديد أولاً، لذا فقد كانت لغة الخطاب تأخذ بنظر الاعتبار حالهم هذا، وطريقة معيشتهم وأفكارهم، وكل ما له علاقة بذلك، ومقارنة بما لدينا اليوم فذات الخطاب – بتفسير المفسرين له، وتأويلهم لمراده، لا يمكن أن يحقق نفس الأهداف المرجوة منه، لأننا ببساطة مسلمون بما أُنزل على محمدٍ r منذ ولادتنا بحكم البيئة التي ولدنا فيها، فبيئتنا بيئة مسلمة تتخذ من تعاليم الإسلام منهجاً حياتياً كاملاً، لذا فإعادة تفسير مثل هذه الآيات بشكل يناسب الزمان والمكان الذي نحن فيه الآن ضرورة ملحّة من ضروريات إعادة تراتبية الفكر الإسلامي في الحياة، وتحقيق تكامل تام بينه وبين الإنسان، وهو ما اراده الله سبحانه وتعالى (صالح الطائي، 2021، ص62).
ونفس الشيء يقال على منظومة الحديث الشريف التي وصلتنا وفيها ما فيها من الدس والوضع، فإذا تركنا هذا كله وأخذنا الصحيح من تلك الأحاديث فلابد لنا أن نطبق عليها نفس المعايير الآنفة الذكر، وأن تتكامل لدينا تلك الصورة المغايرة لما كانت عليه بيئة الحديث آنذاك، وأن نوازن الفكر الديني موازنة عقلية وتطبيقية مع بيئتنا بكل أشكال الاختلاف التي أصبحت عليه منذ بدء الدعوة حتى يومنا هذا.
فكانت هذه الأفكار تراود الباحث في كتاباته، ليتابع هذه النصوص ويوليها تدقيقاً وتمحيصاً، ليحاول تقديم قراءة متناغمة مع فكر الإسلام الذي جاء به المصطفى r بما يحمل من محبة وفكر إنساني خلّاق.
وأمام الكم الهائل من نصوص التكفير والتطرف التي ملأت بواطن الكتب في تراثنا الإسلامي، ففعلت فعلها في عقول ونفوس الكثير من المسلمين؛ الذين وقعوا فريسة سهلة لمثل هذه النصوص التي، وإن كان بعضها صحيحا سنداً، إلا أن الفهم المنحرف في تفسيرها – وتأويلها – سيطر على تلك العقول، عزَّزه كثير ممن الفقهاء والمفسرين الذين أسهموا في تقديم هذه النصوص تقديماً مغايرا لما تحمله – في الغالب – النصوص المقدسة من فكر سمح ودين يسعى للتعايش السلمي وبناء الإنسان بناءً فكرياً سليماً، خالياً من التطرف ونبذ الآخر. فضلاً عن المصالح الدنيوية الفاسدة التي اتبعتها السلطة في مختلف مراحل الدولة الإسلامية وعصورها، ولاسيما عصر الدولتين الأموية والعباسية اللتين ساهمتا بشكل كبير في تحريف العديد من تلك النصوص بما يخدم أغراضها، نتيجة التنافس الشديد على السلطة من جانب، ومحاولة طمس الحقائق تجاه من اعتبرتهم منافسين لها – ونقصد بهم آل النبي r من جانبٍ آخر.) عبد الوهاب المسيري، وفتحي التريكي، 2003، ص15).
وقد أسهمت أسباب عدة في رسوخ هذه الأفكار في نفوس المسلمين، لعل منها: إن الدقة العالية في وضع وتحريف بعض هذه الأحاديث كانت كبيرة لدرجة أنه صًعُب على اللاحقين متابعة مواضع التحريف وإيجادها.
ومن الأسباب أيضاً كان ضعف المنهج النقدي عند المحدثين والمفسرين ممن جاء بعد عصر هؤلاء الوضاعين، حيث افتقد هؤلاء للمنهج النقدي السليم الذي كان ليسهم في إعادة ضبط مثل هذه الانحرافات على غرار ما فعله البخاري (ت 256هـ) ومسلم بن الحجاج (ت 261هـ) وغيرهم ممن جاء بعدهم، حيث وضعوا شروطاً معينة يجب توافرها في الراوي لكي يتُعتمد روايته، وألّفوا – اعتماداً على تلك الشروط – صحاحهم ومسانيدهم، حتى إن المسلمين بعدهم عدَّوا هذه الصحاح والمسانيد من أصح الكتب وأتمَّها من ناحية الرواية، (إسماعيل، 2021، ص65). وجاء بعدهم من صححها وعدّها أصولاً لا تقبل الطعن (النووي، 1393هـ، ج1، ص22).
ومن خلال هذه التراكمات الفكرية المنحرفة لبعض الجماعات التي تبنَّت تلك الأفكار مؤسسةً أجندتها الأيديولوجية ومفهومها العقدي الخاص، وعدم وجود اتجاه واضح لدى الفقهاء والمحدثين المسلمين يؤسس لرغبةٍ صادقة في تعديل هذا المسار المنحرف للفكر التطرفي.
ولتعاظم تلك الآثار منذ بدايات التدوين التاريخي وحتى يومنا هذا، كان لزاماً على المفكرين واصحاب الشأن أن يحاولوا تصحيح هذا المسار، وتقديم قراءة جديدة تواكب التقدم العلمي الحاصل في المناهج والرؤى والفكر بحسب مقتضيات العصر الحالي، لمحاولة فهم الإسلام كأيديولوجية فكرية سليمة قائمة على التسامح والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، والعمل من أجل أن تكون الإنسانية هي السائدة في عملية الاستخلاف الالهي. ولعل أهم عناصر الاستخلاف هي التي يشير إليها السيد محمد باقر الصدر بالقول: ” تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط. فما دام الله سبحانه وتعالى واحداً ولا سيادة إلا له والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا إخوةً متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق كأسنان المشط على ما عبّر الرسول الأعظم r . ولا تفاضل ولا تمييز في الحقوق الإنسانية، ولا يقوم التفاضل في مقاييس الكرامة عند الله تعالى إلا على أساس العمل الصالح تقوىً أو علماً أو جهاداً “. (الصدر، 1403هـ، ص129).
وهذا الخلاف تطور فيما بعد ليصبح فكراً قائماً بذاته وبخصوصياته. وكان المحفِّز الأكبر له خلافهم بشان حقيقة الاستخلاف والإمامة الذي كان أكبر الخلافات واساسها ونبعها؛ الذي تفرعت عنه كل الخلافات فيما بعد. وهو الخلاف الذي عمَّر طويلاً حتى صار فيما بعد الدافع الأكبر، والمحفز الأعظم الذي دفع المسلمين للانقسام الى خمسة مذاهب عامة، وانقسام المذهب الواحد الى فرق وملل ونحل وطوائف. (صالح الطائي، 2008، ص8).
وفي تحليل هذا الاختلاف يرى الباحث الطائي أن ذلك يرجع إلى الإسلام نفسه الذي هو دين مملوء بالديناميكية والحركية، وليس من المستغرب – اعتماداً على تلك المؤشرات – أن تتمايز الآراء وتتنوع حتى لو أنتج هذا التمايز كل هذا الكم الكبير من المذاهب والفرق (صالح الطائي، 2008، ص8).
لكنه يستغرب – في ذات الوقت – أن تتخذ تلك الديناميكية ذلك المسار المنحرف من التغيير والتحول في المبادئ الأساسية للفكر أو الأيديولوجية المتبناة من قبل البعض، وهو ما ظهر – فيما بعد – على شكل انحراف عقائدي كان السبب الأساس لنشوئه وتطوره هو عملية الفهم الخاطئ لهذه النصوص (صالح الطائي، 2008، ص8).
ولعل تصدي الباحث صالح الطائي لمثل هذه الأفكار ومحاولة تنقية الموروث الحديثي مما لحق به من وضع وتحريف، يمكن أن يكون من أبرز مصاديقه – عند الطائي – كتابه القيِّم الموسوم “أثر النص المقدّس في صناعة التكفير”، ففي هذا الكتاب يعالج الباحث مسألة التكفير التي تنامت في المجتمع الإسلامي بشكل كبير عبر عصوره المختلفة، على الرغم من المخزون الهائل من الموروث القيمي في الفكر الإسلامي الذي يحثُّ على الرحمة والتسامح وقبول الآخر والتعايش معه. لذا فهو ينطلق من هذا المفهوم لمعالجة المشكلة الأساس وهي تفشّي ثقافة التكفير في الفكر الإسلامي، وقد حدّد الباحث هذه المشكلة بالقول: “لا يمكن لعقيدة مثل (عقيدة التكفير) بشكلها الوحشي المعروف وبكل ما تمثله من سطحية وتحدٍّ لطبيعة الإنسان السوية، أن تولد في مجتمع عقائدي يؤمن بدين قد يكون من أكثر الأديان السماوية اعتقاداً بالنهي عن تكفير الآخر، وبثقافة التسامح والقبول بالآخر مثل الدين الإسلامي السمح الرحيم، إلا إذا ما كانت هنالك آليات عظيمة يتبناها مجتمع بدوي التفكير قد نجحت في مصادرة العقيدة، ومحو رؤاها، والاستعاضة عنها برؤية وضعية من صنع الفكر السياسي الإنساني”. (صالح الطائي، 2015، ص12-13).
فضلاً عن ذلك كان للسلطة السياسية أثرها البارز في تحويل تلك الأحاديث إلى منهج رسمي سارت عليه الحكومات المتعاقبة لتأسيس ايديولوجيا الحكم التي ارادت تبنيه بعد وفاة رسول الله r. فسعت لتقييد الموروث الحديثي زمناً طويلاً تحت ذريعة الاختلاط بالقرآن، وكأن القرآن الكريم سهل ممتنع يستطيع العرب الاتيان بمثله متى شاءوا، وليس هو الذي تحدّاهم بأن يأتوا بآية واحدة منه فقط؟!
وكان ذلك بعد أن نجحت السياسة في فرض هيمنتها على الفكر العقائدي الذي نشأ بفضل هذه المتبنيات، حتى أصبحت ثقافة الخلاف هي السائدة، تبعاً للتباين في فهم النص الذي أسهم في ولادة المذاهب والفرق المتعددة. (صالح الطائي، 2021، ص72).
ويرجح الباحث الطائي هنا أن: إدارة الخلاف الذي كان سببه التباين الفكري والعقائدي لم تكن لها علاقة بالفهم ذاته، لاسيما بعد أن بلور كل مذهب منها حدود هويته الخاصة، وصار على استعداد للتقاتل مع الآخر لحماية ما عدَّه ثوابت مقدسة، ليس بالذهنية السائدة وحدها، بل وفي ظلِّ الأعراف والتقاليد والعادات الموروثة؛ ولذلك عجز التنظير الفقهي للمذاهب أن يخرج عن محيط الجذب الهائل للنظم الاجتماعية السائدة التي كانت – ولازالت – شديدة التمسك بمنظومة المعايير الموروثة. لاسيما وأن منظومة المعايير المشتركة هذه كانت عاجزه عن التصدي للموروث الشعبي الذي ترك الأثر الأوضح في المنظومة الخلافية كلها. (صالح الطائي، 2008، ص35).
أما المحنة للكبرى للدين عموماً فقد صوَّرها الطائي على أنها تكمن في تنافس اتباع المذاهب الإسلامية فيما بينهم، ومحاولة كل منهم اثبات صحّة معتقده وخطل معتقد الآخر في نسق تنافسي ضمَّخته الدماء في الكثير من مراحله، حيث كان كل منهم يعتقد أن اتباع مذهبه افضل إيماناً وعقيدة من اتباع باقي المذاهب، وفي حالة من الارتباك والفوضى شغلتهم عن أعدائهم الحقيقيين، بحيث أنهم لم ينظروا لأعدائهم كمنافسين لهم بقدر ما حصروا اهتمامهم بإخوانهم من المذاهب الإسلامية الأخرى. (صالح الطائي، 2008، ص35). وهذه الحالة – كما يراها الباحث – قريبة الشبه بالحالة التي وصفها صموئيل هنتنغتن بالقول: قد ينظر فريق كرة قدم الى فريق كرة قدم آخر منافسا له، ولكنه لكنه لا ينظر إلى فريق هوكي بتلك الطريقة، )هنغتن، 2005، ص42). فكل فريق منها كان يرى المذاهب ألأخرى منافسة له، وكان يفضل أن يكون الاسوأ على الاطلاق، ولكن الأفضل مقارنة مع شخص يرونه منافساً، بدلاً من أن يكون الافضل حالاً على الاطلاق ولكن بسوية ذلك المنافس. فهزيمة المجموعة المنافسة أكثر أهمية من الفائدة المحضة. )هنغتن، 2005، ص41).
ويعتقد بعض الحداثويين أن منشأ الصراعات المذهبية بين مختلف المدارس الإسلامية ما هو إلا نتيجة لتعارض الأفكار الناتجة من ذلك الاختلاف، مما يؤدي إلى ظهور أفكار جديدة هي في ذاتية الصراع العقائدي تمثل – بالنسبة لهم – صورة من صور التجديد. وكثيراً ما نرى خروج الفقهاء عن نسق مشايخهم في محاولة لتجديد الأفكار القديمة.
مع الأخذ بنظر الاعتبار أن معارضة رأي ما لا يؤدي – بالضرورة – إلى تجديدها، بل قد يكون الرأي الناتج أكثر رجعية من الرأي السابق. لذا فلابد من أن تكون المعارضة قائمة على النقد البنّاء وفق منهج علمي ثابت، حتى يصار إلى تقديم البديل الناجع السليم الذي يحاول إعادة البناء، لا أن يساهم في عملية الهدم.
ولو أخذنا – على سبيل المثال – استعراض الفكر الإسلامي، نرى أن النقد الموجه والمعارضة لذلك الفكر كانت كلها تأتي من زوايا سياسية وطائفية ومذهبية، وحين دوّن أهل الحديث كتبهم وضعوا لهم شروطاً معيّنة لقبول الروايات من عدمها، في محاولة لتنقية الحديث من الموضوعات، لكنهم استخدموا منهجاً علمياً غير دقيق في محاولة البحث عن الرواية، فاعتمدوا معيار الوثوق عند الراوي ومدى صدقه أو كذبه، متناسين أن الصدق بذاته هو قيمة نسبية وليست مطلقة، فلا يمكن للمرء أن يكون صادقاً أو كاذباً في عموم حياته، لذا كان معيارهم هذا متضارباً في نقل الصحيح والفاسد من الأحاديث، مما دفع المحدّثون والفقهاء بعدهم إلى محاولة تصحيح ذلك المعيار، فأوجدوا علماً جديداً يختص بدراسة أولئك الرواة هو علم (الجرح والتعديل)، و(علم الرجال)، وكسابقيهم من المحدثين فقد وقعوا في نفس ما وقع فيه أسلافهم، وهو أنهم جعلوا الخلاف الطائفي والمذهبي يتحكم في معيار القبول وعدمه، فكانت النتائج أكثر سلبية مما سبقها. (صالح الطائي، 2021، ص72).
لذا فغياب المنهج الهج العلمي الواضح في مسألة قراءة الفكر وتجديده أدى إلى تناقض الآراء وتعددها، وبالتالي ظهرت الفرق وتعددت المدارس الفقهية الإسلامية دون أن تعتمد منهجاً علمياً دقيقاً، فظهرت تيارات فكرية عدة نتيجة للاضطراب لذي ساد تلك المدارس.
وعليه فالحديث عن التجديد في التراث الفكري الإسلامي يجب أن يترافق مع وجود منهج علمي يساعد الباحثين على تمكينهم من الوصول إلى مبتغاهم، لاسيما أن المعارف العلمية قد تطورت تطوراً كبيراً في عصورنا الحالية، وتداخلت فيما بينها، وصار باستطاعة الباحث أن يستخدم العلوم والمعارف التجريبية لخدمة غايته في تحديث التراث وتجديده، فمثلاُ أصبح علم الكيمياء من الأدوات المفيدة في التحقق من صحة وثيقة معينة ومصداقيتها، كما أن بإمكان علم النفس أن يفيد الباحثين في فهم سيكولوجية الإنسان الذي كان يعيش في المدة التاريخية محل البحث. (صالح الطائي، 2015، ص14).
بناءً على ذلك بالإمكان أن تتظافر الجهود وتتكامل في مسألة نقد التراث الفكري الإسلامي، ولكن يجب على الباحثين – في البداية – أن يتركوا المنهج القديم، ويسمحوا لأنفسهم بالاستفادة من المناهج العلمية الحديثة التي تساعدهم في معالجة قضايا ترهل التراث الفكري الإسلامي، والبحث في هذه المسألة تتطلب فكراً منفتحاً على النقد وتقبل الرأي الآخر، فالجمود والانغلاق على الفكر القديم لن يقدم للتراث سوى مزيداً من التحجر وبقاء التراث عرضة للنقد والفهم الضيق الذي يؤدي إلى توسيع الهوّة بين الفكر الديني عموماً وبين الأجيال اللاحقة.
على الرغم من الإقرار بصعوبة تطبيق فكرة تجديد التراث وتحديثه، وذلك لسببين، الأول: النظرة العامة للشخص المسلم الذي يرى أن مجرد التفكير في التجديد هو كفر بحد ذاته، فهو يرى النقد الديني جريمة وخروجاً عن الإسلام كلياً. أما السبب الثاني: فهو الإقصاء والتهميش للرأي الآخر، فالعقلية السائدة لا تميز بين الخلاف في الرأي والعداء للآخر، فكل رأي لا يتساوق مع رأيهم هو بمثابة خروج عن الإسلام يجب استئصاله. (مصطفى الشريف، 1999، ص12).
وهذا الاقصاء هو من ألغى الحوار بين المذاهب الإسلامية وأتباع المدارس المختلفة، وقد أثمر ذلك تشدداً غير مبرر تجاه أصحاب الآراء المخالفة، وقد نتج عن تلك الآراء حملات قوية من التكفير والإرهاب التي انتجت حروباً مذهبية وطائفية كثيرة. ولولا هذا التزمّت والانغلاق الفكري لما نتج عن ذلك كل تلك المحن. (صالح الطائي، 2008، ص11).
الخروج من دائرة الصراع
هكذا، ومن خلال ما يذكره صالح الطائي، تتضح صورة الفوضى الفكرية التي أحدثها أغلب الباحثين الأوائل، والتي تسببت في خلق هنّات ومشاكل ومماحكة واختلاف وخلاف، ولا يمكن فكّ هذا الاشتباك والتخلص من تبعاته المادية والمعنوية إلا من خلال إتباع المناهج العلمية الرصينة المحايدة، التي تأخذ على عاتقها إعادة ترتيب ساحة الحدث والواقعة استنادا إلى القرآن والسنة الصحيحة والمنطق والعقل والحياد، وهذا إن لم يكن متوفراً بعضه أو كله في الباحثين القدماء الذين أخذوا على عاتقهم شرح مضامين العقيدة للعامة من الناس، أو لم يكن متاحا لهم بسبب الضغوط السياسية والمجتمعية والفرقية، فإنه اليوم متاح للجميع، ومن خلاله ممكن للجميع أن يبدعوا ويتألقوا إذا ما التزموا منهجا علميا منصفا محايدا في محاكمة الموروث وتحليله وتفكيكه، وإعادة بنائه وفق رؤى إنسانية حقيقية.
ويتضح من هذا كله أن دائرة الصراع التاريخي لم تستطع أن تقدم لنا نتيجة إيجابية، فما زلنا عالقين في صراعاتنا التي ابتدعناها، والنزاعات التاريخية التي فرضنا على أنفسنا الدخول فيها، وبقيت اهتماماتنا تدور حول الجغرافية الفئوية، والفكر القديم نفسه، بدلاً من البحث عن مشتركات فكرية نزيل بها تلك القيود، أو نحاول – على الأقل – التقليل منها. على الرغم من محاولات بعض المفكرين كسر القيود والبحث عن أسباب لتقليل حجم هوّة الخلاف بين أطراف النزاع الفكري القديم الجديد.
ولعل ما يؤخذ على مفكرينا إنهم لم يراعو التطور الذي شهدته – وتشهده – الحياة في مجالاتها المختلفة ومنها الفكرية، فما ينطبق على عصر النبي r لا ينطبق على العصر الذي يليه، وعصر هذا لا ينطبق على من يليه، وهكذا كل عصرٍ يختلف بكل تفاصيله عن لاحقه. وهذا بتحديد ما نفهمه من كلمة (عصر) التي عنينا بها حقبة زمنية معينة تطلق على مدة حكم دولة معينة أو مدة حكم مجموعة من الخلفاء ينتمون إلى دولة معينة، كقولنا (عصر الخلفاء الراشدين)، و(عصر الدولة الأموية)، و(العصر العباسي) وهكذا.
هذا فضلاً عن وجود وعاظ السلاطين وفقهاء الدولة ممن كانوا يتبنون أفكار السلطة لتلبية رغابتهم الدنيوية، فهؤلاء هم المشكلة التي جرّت على المجتمع الويلات، لأنهم ببساطة يباركون عمل الظلمة، فهم كما يقول الدكتور علي الوردي: “إنهم يأخذون جانب الحاكم ويحاربون المحكوم، فتجدهم يعترفون بنقائض الطبيعة البشرية حين يستعرضون أعمال الحكام. فإذا ظلم الحاكم رعيته أو ألقى بها في مهاوي السوء، قالوا: إنه اجتهد فأخطأ، وكل إنسان يخطئ، والعصمة لله وحده”. (علي الوردي، 2013، ص12).
وعلى مر التاريخ بقيت تلك الثوابت السلطوية النامية في الفكر تتهدد هذه المنظومة بموجات من التسلط والقهر وقمع كل مقومات الإبداع الفكري تحت طائلة الاقتلاع القسري لكل ما يمت للتحرر – الفكري – بصلة، حتى استطاعت شلَّ حركته بشكل تام. فتقلصت مساحة الإبداع، وحلَّ محله الجمود، والتقليد، وتتابعت الأجيال المتعاقبة متناولة ذلك بالتقديس حتى طُبع على مفاهيم الأمة جمعاء إنها مقدسات لا يجوز أن تمسّ بأي شكلٍ من الأشكال.
لذلك فإن الباحث الطائي يرى ضرورة معالجة مثل هذه المفاهيم بكسر تلك القيود المصطنعة التي قيّدت حرية الفكر، وحملته بعيداً عن رحابة العقل البشري الذي اصطفاه الله ليحمل مشعل التحرر من كل قيد وتسلط، بل جعل العقل مقياساً للمفاضلة بين البشر والكائنات الأخرى.
فهو يرى أن مثل هذه الثوابت المغلفة بالطلاسم السحرية والاسرار الخفية المبالغ فيها للحد الاقصى تعلن عن عجزها عن التوافق مع الثقافة الكونية السائدة، وهو يؤشر عظيم حاجتها إلى الامتحان والجرح والتعديل، ولآليات فهم ثقافي جديد لمجموعة نظمها المتوارثة، والمجاهدة في تصحيح ما يحتاج للتصحيح منها، لا بالاجتهاد الكيفي العبثي أمام النص المقدس، إذ لا اجتهاد أمام النصوص، ولكن عن طريق رفع القدسية والحصانة عن الكثير من النصوص الموروثة التي يشك في اصالتها وصحتها. مع ايمانه المطلق أن هذا النهج الانتقائي التفاضلي غير المألوف لن يكون بالسهولة التي يتصورها البعض؛ لأن من طبيعة الانسان إنه عندما ينشأ منذ طفولته على معتقدات وقيم معينة في بيئته المحلية، يتصور إنها أفضل المعتقدات والقيم في العالم، وهو لذلك يسخط على أية دعوة جديدة تدعو إلى مخالفتها، او اصلاحها بل هو بسبب علمه بهشاشتها وعدم قدرتها على الصمود في المواجهة يرفض التجديد والتغيير والتطوير بصرامة شديدة. (صالح الطائي، 2008، ص40-41).
ومن الغريب الملفت للنظر بشكل مدهش أن المفكرين المسلمين في كل العصور لم يحاولوا البحث في هذه الأصول، ولم يسعوا إلى البحث عن حقيقتها بشكل محايد ومنطقي وعلمي، بل أسهموا جميعهم في تضخيم إحداها على حساب الأخريات، بما يبدو وكأنه أعلى أنواع الانحيازية. وهي الانحيازية التي أسهمت على مر التاريخ في تعميق الخلاف بين المسلمين.
أما من يرفض الاحتكاك بالتطور خوفاً على ثوابته من التضرر، فهو بذلك يدلل على عدم اصالتها، وعليه اعادة النظر فيها كلها او في جزئها الذي يرفض الافادة من منظومة التطور الحضاري الانساني؛ لأن عجلة التطور ستستمر في الدوران، وقوتها ستستمر في النمو بإفراط، وهذا يمنحها قدرة التأثير على الكثير من المفاهيم، وتغيير الكثير من القناعات، وتبديل الكثير من الثوابت، وجعلها متحركات وربما بلا اهمية. (صالح الطائي، 2008، ص39).
الخاتمة وأهم الاستنتاجات
توصل البحث في نهايته إلى مجموعة من النتائج نلخصها بالآتي:
- يعد تجديد الفكر ومحاولة إعادة قراءة النصوص لاسيما الدينية منها قراءة تلائم روح العصر الذي يعيشه الإنسان من الضروريات الملحّة التي يجب أن يوليها المفكرون وأهل الاختصاص في دراسة التراث عموماً أهمية خاصة لكونها ترتبط بروح الشريعة من جهة وتكامل الإنسان وتعايشه مع الآخر داخل المجتمع الواحد.
- إن فكرة التجديد والحداثة في التراث تعد اليوم من المهمات التي يجب أن يلتفت إليها الدارسون للفكر الإنساني عموماً لما فيها من إزدهار لفكرة التعايش السلمي بين كافة طوائف المجتمع، فلابد عليهم أن يحاولوا إعادة قراءة النصوص المتطرفة والتي تحثّ على العنف ومحاولة تفسيرها تفسيراً جديداً يتساوق مع روح العصر الذي نعيشه.
- يُعدُّ الدكتور صالح الطائي من أبرز المفكرين المعاصرين في العراق الذي خطَّ لنفسه منهجاً واضحاً في غالب كتاباته ومؤلفاته يتخذ من محاولة إعادة فهم التراث الإسلامي الكبير برؤية جديدة حداثوية معاصرة للتناسب مع روح الإسلام الحنيف وروح العصر الذي نعيش فيه.
- تبرز في كتابات الدكتور صالح الطائي منهجية النقد والتحليل بصورة كبيرة، بل يمكن القول إن مؤلفاته تنطلق من هذا الجانب الذي يوليه أهمية كبيرة لكونه يؤسس إلى ثقافة التسامح ونقد النصوص التي تدعو إلى العنف واقصاء الآخر.
- كان للحداثة والتجديد في الفكر الإسلامي جانب مهم في مؤلفات الدكتور صالح الطائي لكونه المنهج الذي اختطه لنفسه منهجاً رائداً في محاولة التجديد التي تبناها.
المصادر والمراجع
- امامة. ع.م. (1424هـ). التجديد في الفكر الإسلامي. الدمام: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع.
- جميل صليبا. (1982). المعجم الفلسفي. بيروت: دار الكتاب اللبنانية.
- الجوهري، إ.ح. (1407هـ). الصحاح. بيروت: دار العلم للملايين.
- صالح الطائي، (2105). أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير. بيروت: دار المرتضى.
- صالح الطائي، (2021). الإسلام ومحنة افتراق الطرق. دمشق: دار ليندا للطباعة والنشر.
- صالح الطائي، (2021). ازدراء الأديان – قتال من أجل الجهل أم قتال من أجل المعرفة. بغداد: دار المتن للطباعة والنشر.
- صالح الطائي، (2021). الألهي والبشري والدين والتراث. دمشق: دار أمل الجديدة.
- صالح الطائي، الشمائل المحمدية. بابل: مؤسسة الصادق الثقافية.
- صالح الطائي، )2018). الغزوة السادسة – طبيعة العنف الإسلامي. سوريا: دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع.
- صالح الطائي، )2010). جزئيات في السيرة النبوية. بغداد: دار ميزوبوتاميا.
- صالح الطائي، (2008). نحن والآخر والهوية. بغداد: جمعية النهوض الفكري.
- الصدر. م.ب. (1403هـ). الإسلام يقود الحياة. طهران وزارة الإرشاد الإسلامي.
- العلواني، ط.ج. (2003). التّوحيد والتّزكية والعمران “محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة”. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع.
- عبد الوهاب المسيري، وفتحي التريكي. (2003). الحداثة وما بعد الحداثة. دمشق: دار الفكر.
- علي الوردي. (2013). وعاظ السلاطين. بيروت: دار ومكتبة دجلة والفرات.
- فوزي خيري كاظم. (2020). صالح الطائي مخاض ألم وإبداع قلم. بيروت: دار ليندا للنشر والتوزيع.
- فؤاد، السعيد، وفوزي، خليل. (2008). الثقافة والحضارة مقاربة بين الفكرين الغربي والإسلامي. دمشق. دار الفكر.
- الفيومي. أ.م. (د.ت). المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. بيروت: المكتبة العلمية.
- قاموس أكسفورد الحديث.
- محمد برادة. (1984). اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، مجلة فصول، العدد (4). القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب.
- مصطفى الشريف. (1999). الاسلام والحداثة. الاسكندرية: دار الفكر العربي .
- ابن منظور. م.م. (1955). لسان العرب. بيروت: دار بيروت للطباعة و النشر.
- النحوي. (1984). تقويم نظرية الحداثة. نقلا عن مجلة فصول ص (35)، المجلد (4)- عدد (3) .
- النووي. م.ي. (1393هـ). صحيح مسلم بشرح النووي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- هنتنغتن، ص.ن. (2005). من نحن، التحديات التي تواجه الهوية الامريكية، دمشق: دار الرأي.
الدكتور فوزي خيري قوة بحثية أكاديمية تمتلك قدرة التحليل والاستنتاج والاستقصاء والمتابعة الجادة فضلا عن حيادية علمية مقرونة بمنهجية أسلوبية راقية وقد قيض لي بحكم صداقتنا المتينة ان اقرأ اغلب مؤلفاته فخرجت بمحصلة مفادها انه لو امتلك وقتا كافيا لرفد المكتبة الإنسانية بدراسات واقعية تسهم في نشر الوعي المعرفي في العالم
تحياتي وشكري له ولكم