نوفمبر 23, 2024 1:03 ص
16

الباحث/ يوسف نجيب

طالب باحث بسلك الدكتوراه

مختبر البحث : الإنسان والمجتمعات والقيم

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل

youssef.najib@uit.ac.ma

00212662291845

البروفيسور/ مولاي التهامي باديدي

أستاذ التعليم العالي

مختبر البحث : الإنسان والمجتمعات والقيم

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية،جامعة ابن طفيل

 badidimoulay.touhami @uit.ac.ma

00212677512140

الملخص

تتموقع “المقاربة الانبثاقية” « l’approche d’énaction »،  كمقاربة معرفية حديثة ومعاصرة كانت بداياتها سنة 1990 لواضعها Francisco Javier Varela، ضمنالأنظمة الديناميكية المجسدة والمموضعة ثم الإنبثاقية« Les systèmes dynamique incarnés, situé et d’énaction »، والتي انتقدت البراديغمات السابقة عنها والمتمثلة في السلوكية « le béhaviorisme »، المعرفية « le cognitivisme »والاقترانية « le connexionnisme » ، إذ لم تهتم بالدماغ فقط، ولكن صبّت اهتمامها أيضا على الجسم خاصة  (le corps)، والبيئة (l’environnement)التي يعيش فيها الكائن وينمو بشكل حقيقي وواقعي.

إذ تتمحور أهمية هذه النظرية في فهم عملية تشكل المعرفة من خلال تفاعل الفرد المستمر مع العالم المحيط به. وبفضل الحركة والتفاعل المستمر، يتم تشكيل نماذج معرفية مختلفة تساعد الفرد على التكيف مع بيئته واتخاذ القرارات الملائمة.

سنعرض في مقالتنا لمفهوم المقاربة الانبثاقية وأهم خصائصها، فبراديغمات العلوم المعرفية التي تجاوزتها الانبثاقية، كالسلوكية والتي تركز على تأثير البيئة على عملياتنا العقلية من خلال المدخلات والمخرجات دون الاهتمام بما يحدث بالدماغ، باعتباره صندوقا اسودا بطبيعته، غير مراقب ويستعصي الوصول غليه بطريقة منهجية، لذلك تهتم فقط بالمحفزات التي تؤثر على الكائن الحي والاستجابات التي يقدمها هذا الكائن. المعرفية كمجال هيمن على العلوم المعرفية من منتصف الخمسينات حتى الثمانينات، اهتم بالدماغ ومقارنته بجهاز الكمبيوتر، فالمعرفية عنده هي معالجة للمعلومات من خلال التمثلات باستخدام القواعد دون الاهتمام بأي عنصر أو جهاز قادر على تمثيل الرموز. الاقترانية التي تحدَّت تقاليد المعرفية في أوائل الثمانينات، بأخذ الدماغ بالحسبان ومحاولة فهم المعرفية باستخدام شبكات العصبونات، على اعتبار أن المعرفية تتأسس على ظهور حالات عامة في شبكة مكونة من عناصر بسيطة، إنه براديغم أكثر قربا من التدريب أكثر من الترميز.

ثم سنعمل على توضيح ومناقشة ما تقدمة الانبثاقية التي تجاوزت البراديغمات السابقة بأخذها بعين الاعتبار ليس فقط الدماغ، ولكن جسم الكائن الحي من جهة والبيئة التي يتطور فيها في الوقت الحقيقي المعيش من جهة أخرى أثناء تشكل المعرفية في حقل السيكولوجيا خلال دراسة الظواهر الإنسانية.

 

الكلمات المفتاحية : الانبثاقية، السلوكية، المعرفية، الاقترانية، السيكولوجيا.

 

The emergent approach: a contemporary approach in psychological studies

Researcher/Youssef Najib

Doctoral research student

Research Laboratory: Humans, Societies and Values

Faculty of Humanities and Social Sciences, Ibn Tofail University

Professor Moulay Thami Badidi

Professor of higher education

Research Laboratory: Humans, Societies and Values

College of Humanities and Social Sciences, Ibn Tofail University

 

Abstract

The “Enactive Approach,” as a modern and contemporary cognitive framework, emerged in the 1990s with its founder Francisco Varela. It is part of the embodied and situated dynamical systems, and it criticized the previous paradigms such as behaviourism, cognitivism, and connectionism. Unlike these paradigms, the Enactive Approach does not solely focus on the brain but also emphasizes the body and the environment in which the organism lives and develops authentically and realistically.

The significance of this approach lies in understanding the process of knowledge formation through the continuous interaction of the individual with the surrounding world. Thanks to continuous movement and interaction, various cognitive models are shaped, helping the individual adapt to their environment and make appropriate decisions.

In this article, we will present the concept of the enactive approach and its key features, transcending the paradigms of cognitive sciences. We will explore behaviourism, which focuses on the influence of the environment on our mental processes through inputs and outputs, without concerning itself with what happens in the brain, viewing it as a black box, inherently inaccessible and unobservable. In contrast, the cognitive approach, which dominated cognitive sciences from the mid-1950s to the 1980s, centred on the brain and compared it to a computer. In this view, cognition is information processing through representations using rules, without considering any element or device capable of symbol representation. Connectionism, which challenged cognitive traditions in the early 1980s, takes into account the brain and seeks to understand cognition using neural networks, viewing cognition as the emergence of global states in a network composed of simple elements. It is a paradigm closer to training rather than coding.

Furthermore,  we will work on clarifying and discussing what the enactive approach has to offer, surpassing previous paradigms by taking into consideration not only the brain but also the body of a living organism on one hand, and the environment in which it evolves in real-time on the other hand, while studying cognitive processes in the field of psychology during the study of human phenomena.

Keywords: Enactive Approach, Behaviorism, Cognitivism, Connectionism, Psychology.

 

مقدمة:

تساءل الإنسان مند وعيه بذاته عن وجوده وعن الظواهر التي كانت تصادفه،  فحاول تفسير وفهم الأحداث والسلوكات والأفعال التي كانت ملازمة لهعلى الدوام، فاعتمد التفكير الأسطوري والخرافي والسحري بداية، لينتقل بعد ذلك الى التفكير الفلسفي العقلاني، وصولا الى التفكير العلمي التجريبي المؤسس على ضوابط منطقية وبراهين وحجج تتوخى الدقة والموضوعية العلميتين.

وللإجابة على سؤال : “ما هو العامل المتحكم في سيكولوجيا وسلوك الفرد وكيفية تشكل المعرفة لديه؟”  تنقلت السيكولوجيا بين براديغمات مختلفة تبعا لطبيعة التفسير الذي تبنته كل مدرسة، انطلاقا من البراديغم الاستنباطي، فالوجداني، مرورا بالبراديغم السلوكي ، فالبراديغم المعرفي، وكذا البراديغم الاقتراني .

لتبرز المقاربة الانبثاقية كمقاربة معرفية حديثة ومعاصرة في حقل السيكولوجيا، كانت بداياتها سنة 1990 لواضعها عالم الأعصاب التشيلي Francisco Javier Varela ، وهي مقاربة تتجاوز النماذج والمقاربات السابقة على المستوى الابستمولوجي ،ضمنالأنظمة الديناميكية المجسدة والمموضعة ثم الإنبثاقية« Les systèmes dynamique incarnés, situé et d’énaction »، إذ لم تهتم بالدماغ فقط، ولكن صبّت اهتمامها أيضا على الجسم (le corps)، والبيئة(l’environnement)التي يعيش فيها الكائن وينمو بشكل حقيقي وواقعي ، على اعتبار أن تشكل المعرفية وانبثاقها لا يتم بمعزل عن تفاعل هذه العناصر فيما بينها، وما يربطها من تأثير وتأثر بعضها ببعض.

وسنعرض في ورقتنا البحثية للمقاربات الكلاسيكية في مجال العلوم المعرفية عامة وفي السيكولوجيا خاصة كالسلوكية ، فالمعرفية ثم الاقترانية والتي تجاوزتها المقاربة الانبثاقية بالتطرق لمفهومها وأهم المفاهيم المميزة لها ثم أهم خصائصها، مبرزين لأهم الاعتلالات التي تعتري المقاربات الأولى وكيف استطاعت المقاربة الانبثاقية سد تلك الثغرات كمقاربة شاملة تعيد خلخلة تفكيرنا في الظواهر السيكولوجية وتغيير رؤيتنا لما ترسخ في أذهاننا لعقود عديدة حول تشكل المعرفية والإدراك والسلوك،لننتهي بعد ذلك بتقديم جملة من التوصيات والمقترحات الموجهة للباحثين والممارسين في حقل السيكولوجيا.

 

إشكالية الورقة البحثية

وفي هذا السياق، تتمثل إشكالية ورقتنا البحثية في السؤال التالي:

“ما هي المقاربة الانبثاقية؟ وماهي خصائصها ومفاهيمها المميزة لها والتي تجاوزت بها سابقاتها من المقاربات السيكولوجيةالكلاسيكية؟

 

أهمية الورقة البحثية

تكمن أهمية الورقة الحالية في الموضوع الذي تتناوله على مستويين، نظري وتطبيقي عملي:

نظريا:فالدراسة ستكشف عن حاجة البحث العلمي في مجال السيكولوجيا إلى الاهتمام بتطوير أساليب الاشتغال وتغيير زاوية الرؤية بتجاوز ما أستهلك من نظريات سابقة وتبني مقاربة علمية حديثة تتجاوز بخصائصها وكيفية تحليلها للظاهرة الإنسانية وفق متغيرات ظلت مغيبة لعقود عديدة ونقصد هنا متغير الجسم والبيئة أو السياق الذي يتفاعل معه الفرد.

تطبيقيا:ستكون الورقة بمثابة أرضية تتضمن مجموعة من المعطيات والمعلومات التي ستساعد الباحثين في السيكولوجيا للتعرف عن قرب على المقاربة الانبثاقية وكذا دعوة الممارسين والمهنيين إلى الأخذ بعين الاعتبار لمكوناتها وخصائصها أثناء تقديم العلاجات أو التدخلات السيكولوجية.

 

أهداف الورقة البحثية

لا يمكن اعتبار الدراسة دراسة أو البحث بحثا، إن لم يتغيّى الباحث من ورائه هدفا أو مجموعة أهداف لعمله، ومنه فإن ما نأمل إضافته للحقل العلمي ما يلي :

–  التعرف على مفهوم المقاربة الانبثاقية؛

– التعرف على خصائصها ومميزاتها؛

– التعرف على حدود المقاربات الكلاسيكية في حقل علم النفس؛

– الإحاطة بما تقدمه المقاربة الانبثاقية التي تجاوزت البراديغمات السابقة بأخذها بعين الاعتبار ليس فقط الدماغ، ولكن جسم الكائن الحي من جهة والبيئة التي يتطور فيها في الوقت الحقيقي المعيش من جهة أخرى أثناء تشكل المعرفية في حقل السيكولوجيا.

 

حدود الورقة البحثية :

تقتصر ورقتنا البحثية على مفهوم المقاربة الانبثاقية وأهم خصائصها ومميزاتها، ومقارنتها ببراديغمات العلوم المعرفية التي تجاوزتها، وتحديا السلوكية ،المعرفية، فالاقترانية كبراديغمات تنتمي إلى حقل السيكولوجيا، دون التطرق للمقاربات الأخرى كالمقاربة الاستنباطية أو التحليل النفسي…

 

المنهج المستخدم

تبعا لطبيعة موضوع ورقتنا البحثية، فقد اعتمدنا المنهج الوصفي التحليلي، باعتباره لا يكتفي فقط بوصف المفاهيم والمقاربات العلمية أو الظواهر النفسية، وإنما يتعدى ذلك إلى القيام بالتحليل والتفسير والمقارنة، ومن ثم التوصل إلى تقييمات ذات معنى وأهداف محددة. فقد عملنا على قراءة وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعطيات التي من شأنها مساعدتنا على تقديم الاختلافات القائمة بين المقاربات المدروسة ومن تم استنتاج ما تجاوزت به المقاربة الانبثاقية نظيراتها.

 

متن الورقة البحثية :

وفيما يلي سنعرض للمقاربات السيكولوجية المتضمنة في ورقتنا البحثية بدءا بالسلوكية، المعرفية، فالاقترانية ثم الانبثاقية، مع تحديد أهم مفاهيم هذه الأخيرة، خصائها المميزة لها ونقدها للمقاربات الكلاسيكية السابقة عنها:

  1. المقاربة السلوكية« l’approche béhavioriste »: ظهرت هذه المقاربة في عشرينيات القرن الماضي (1920)، كحركة علمية معادية تماما للمنهج الاستبطاني(introspection)الذي كان يهتمبدراسة الأفكار والعواطف والأحاسيس الداخلية من خلال وصف الفرد لحالته الشعورية أو تأمله لما يجول في ذهنه،تقول أنيك ويل باري (Annick Weil-Barais): “تفترض المقاربة السلوكية أننا لا يمكننا الوصول إلى الحالات الذهنية للأفراد. إن معتقداتهم وتطلعاتهم ونواياهم ودوافعهم غير متاحة. ما يقوله الفرد عندما يفكر فيما بداخله أي الاستبطان، ليس إلا إعادة بناء لأفكاره بشكل قسري، وخاضع بشكل خاص للنظام اللغوي والبيئة الاجتماعية”(Weil-Barais et al., 2011).فالسلوكية تركز على تأثير البيئة على عملياتنا الذهنية من خلال المدخلات والمخرجات دون الاهتمام بما يحدث بالدماغ، باعتباره صندوقا أسودا بطبيعته، غير مراقب ويستعصي الوصول لمعرفة ما يحدث بداخله بطريقة منهجية؛ لذلك فقد اهتمت فقط بالمحفزات والمثيرات التي تؤثر على الكائن الحي والاستجابات التي يقدمها،بمعنى الاهتمام بالسلوك المرصود، الملاحظ والموضوعي والقابل للقياس فقط.

بحسب المقاربة السلوكية، يتم اكتساب السلوك وتعديله من خلال التعلم من التجارب ضمن البيئة بدلا من الاعتماد على العمليات الذهنية غير الملاحَظة.

ومن ضمن أهم المفاهيم التي استندت عليها السلوكية في فهم السلوك الإنساني وأيضا الحيواني نجد:

  • السلوك : وهو كل استجابة أو رد فعل إزاء المثيرات البيئية، ظاهر وملاحظ وقابل للقياس.
  • الإشراط الكلاسيكي الذي وضعه إيفان بافلوف(Ivan Pavlov)، والذي شرح من خلال تجاربه على الكلابكيفية جعلمثير شرطي (الجرس)، مرتبط باستجابةغيرشرطية (سيلان اللعاب)، بعد أن تم ربطه بمحفّز غير شرطي (اللحم).
  • الإشراط الإجرائيالذي وضعه سكينر(Burrhus Frederic Skinner)، تركّز هذه النظرية على العلاقة بين السلوك والاستجابة المترتبة عنه،فالسلوك الذي يتبعه التعزيز الذي يعد واحداً من أهم العوامل النفسية المؤثرة على الاستجاباتيتم ترسيخه وتثبيته، بينما يميل السلوك الذي يتبعه العقاب إلى التراجع.
  • المحاولة والخطأ : تفيد أن حل المشكلات يتم بالمحاولة والخطأ ومحاولة وتكرار محاولة اختبار البدائل إلى حين التوصل إلى البديل الناجح وبلوغ الهدف المرغوب
  • قانون الأثر : قانون وضعه إدوارد لي ثورندايك(Edward Lee Thorndike) ،ويفيد أن هناك احتمال لتكرار الاستجابة بناء على النتيجة التي تتولّد عنها، فالاستجابات التي تتبعها نتائج إيجابية، تزداد احتمالية حدوثها، بعكس الاستجابات التي تكون نتائجها سلبية.
  • التعزيز والعقاب: يُستخدم التعزيز لزيادة احتمالية تكرار سلوك ما، في حين يُستخدم العقاب لتقليل احتمالية ظهور سلوك معين.
  • التعلم بالملاحظة: على الرغم من أن السلوكية تركز بشكل أساسي على التعلم المباشر من خلال الاشراط والتعزيز، فقد أدخل ألبرت باندورا Albert Bandura))أيضًا فكرة أن الأفراد يمكن أن يتعلموا من خلال مراقبة سلوك الآخرين وكذا النتائج المرتبطة بهذه السلوكات.

ومن أهم رواد المقاربة الكلاسيكية نجد، إيفان بافلوف (Ivan Pavlov)صاحب الاشراط الكلاسيكي والذي أسهمت تجاربه في تطوير فهم التحفيز والاستجابة السلوكية؛ سكينر (B.F. Skinner)رائد الاشراط الإجرائي وصاحب مفهوم التعزيز والعقاب، نجد جون ب. واطسون (John B. Watson) عالم النفس الأمريكي ومؤسس المدرسة السلوكية في علم النفس، كواحد من أوائل العلماء الذين رفضوا استخدام الدراسات التجريبية لفهم العمليات الذهنية الداخلية ودعوا إلى التركيز على السلوك المرصود وقابليته للتجربة والقياس؛إدوارد ثورندايك (Edward Thorndike) الذي عمل على دراسة الاستجابات الحيوانية والبشرية، وقدم مفاهيم مهمة مثل قانون الأثر والتعلم بالمحاولة والخطأ؛ وألبرت باندورا (Albert Bandura)المعروف بمساهماته في نظرية التعلم الاجتماعي بوضعه فكرة التعلم بالملاحظة وأشار إلى أن الأفراد يمكنهم تعلم السلوك من خلال مراقبة الآخرين وتكرار ما يلاحظونه، وقد ساهمت هذه النظرية في توسيع فهم آليات اكتساب السلوك ونقل المعرفة بين الأفراد…

هؤلاء من أهم رواد ومؤسسي المقاربة السلوكية الذين قدموا أفكاراً وأبحاثاً هامة ساهمت في تشكيل هذه النهج النفسي الهام ووضع لبنة ضمن بناء صرح السيكولوجيا.

  1. المقاربة المعرفية«l’approche cognitiviste»:المعرفية(le cognitivisme)كمقاربة هيمنت على العلوم المعرفية (sciences cognitives)من منتصف الخمسينات حتى الثمانينات من القرن الماضي وتحديدا سنة (1960)، حيث ركزت على دراسة العمليات والسيروراتالذهنية الداخلية، مثل الانتباه، الإدراك، الذاكرة، الاستدلال، وحل المشكلات… على عكس المقاربة السلوكية التي ركزت على السلوك الملموس والمُلاحظ.وفي مجال علم النفستضم هذه المقاربة مقاربتين فرعيتين وهما: المعرفية البنائية (le cognitivisme structural) والتي تضم النظرية الجشطالتية لفريتز بيرلز(Fritz Perls) والنظرية البنائية لجون بياجي(Jean Piaget)، والمعرفية الحاسوبية (le cognitivisme computationnel)لصاحبها جيري فودور(Jerry Fodor)؛ وهي بذلكتهتم بالسيرورات الذهنية التي تكمن وراء السلوك البشري، باهتمامها بالدماغ من جهة ومقارنته بجهاز الحاسوب من جهة أخرى.

فالمعرفية(la cognition)بالنسبة لهذه المقاربة هي معالجة للمعلومات من خلال التمثلات باستخدام قواعد محددة ووفق سلسلة من العمليات المنطقية، دون الاهتمام بأي عنصر أو جهاز قادر على تمثيل الرموز؛ وبالتالي فهي تقدم المعرفية (cognition) كشكل من أشكال الحساب (le calcule)، وتجادل بأن المحتوى الدلالي للحالات الذهنية يكون مشفراً(codé) بنفس تمثيلات الحاسوب واستنادا على الذكاء الاصطناعي الكلاسيكي. ومنه فرؤية المعرفية للمعرفة، تتمثل فيالاهتمام المميَّز الممنوح لنوع من بناء التمثل، بحيث يتم تصور الفكر كعملية رمزية متسلسلة؛ الاستغناء عن أبعاد أخرى للكائن الحي، الذي هو موضوع المعرفة وأساس الدراسة (الإنسان)، لدرجة الاستخدام الحرفي لجهاز (الكمبيوتر) كنموذج للدماغ البشري. وبالتالي يمكننا القول إنكل نظام معرفي يشكل “نظاما فيزيائيا للرموز”، مبنيًا على “مجموعة من العناصر، يطلق عليها اسم “الرموز” والتي يمكن تشكيلها كهياكل رمزية بواسطة مجموعة من العلاقات” (Vera & Simon, 1993).

السؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذه المقاربة هو : كيف يتفاعل الإنسان مع البيئة؟فهي ترى أنالإنسان يتفاعل مع بيئته الدائمة التغيُّر من خلال مدخلاته الحسية، ويتفاعل مع البيئة التي تَعَرَّف عليها مسبقًا من خلال المعلومات المحفوظة في الذاكرة.

على الرغم من أن المقاربة تؤكد على عدم معرفتها بكيفية تشفير الرموز في الدماغ، إلا أنها تقترح تخمينات وفرضيات حول عمله: “فالسيرورات الإدراكية تعمل على “تشفير” المحفزات أو المثيرات الحسية في شكل رموز داخلية، والسيرورات الحركية تفكك الرموز الحركية وتحولها إلى استجابات عضلية. وفي نظر المعرفيينفهاتان السيرورتان (الإدراكية والحركية) هما اللتان تربطان النظام (الإنسان) ببيئته، مما يوفر له معناها والتعاريف الإجرائية لرموزه.هذا النهج النظري الأساسي لا يدَّعي توفير وصف مثالي للواقع الملاحظ، فمن الواضح أن التمثيل الداخلي لمشهد حقيقي سيكون غير مكتمل للغاية، وقد يكون غير مناسب، مما يؤدي إلى أن الإجراءات قد تحقق أو لا تحقق النتائج المرجوة.”(Vera & Simon, 1993)

 

ومن أهم مفاهيمها نجد:

  • معالجة المعلومات: يعتبر المعرفيون الدماغ البشري نظامًا لمعالجة المعلومات شبيهابالحاسوب، فهم يدرسون كيفية إدراك المعلومات ومعالجتها وتخزينها واسترجاعها بالدماغ.
  • البنياتالدماغية: إذ يفترض المعرفيون أن الدماغ البشري يحتوي على بنيات ذهنية معقدة، مثل الخطاطات والنماذج الذهنية والتمثلات الداخلية، التي تؤثر في كيفية معالجتنا للمعلومات واتخاذ القرارات.
  • الوظائف والسيرورات الذهنية: يدرس المعرفيون السيروراتالذهنية مثل الانتباه والإدراك والتفكير وحل المشكلات واتخاذ القرارات… لفهم كيفيةتأثير هذه العمليات في السلوك البشري.
  • طرق الدراسة: حيث يستخدم المعرفيون طرقًا علمية صارمة لدراسة العمليات والسيرورات الذهنية بما في ذلك التجارب المضبوطة والاختبارات المعرفية والنماذج الرياضية وأدوات التصوير الدماغي.

ومن أهم رواد هذه المقاربة يمكن الإشارة إلى عالم النفس السويسري جان بياجيه (Jean Piaget)، مؤسس النظرية البنائية التي تركز على تطور الذكاء والتفكير لدى الأطفال خلال مراحل نموهم؛هيرمان إبنجهاوس (Hermann Ebbinghaus) الذي أسهم بأبحاث مهمة تتعلق بدراسة الذاكرة والنسيان وكيفية التعلم؛جورج ميلر (George Miller) الذي قدم نظرية العدد السحري الذي يُظهر كيف يتم تجميع وتنظيم المعلومات في مجموعات تحتوي على حوالي سبعة عناصر بالذاكرة القصيرة المدى؛ نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) عالم النفس اللساني وصاحب النظرية التوليدية والتحويلية، والذي أسهم بشكل كبير في فهم عمليات تكوين وفهم اللغة؛ ألبرت إليس (Albert Ellis) وآرون بيك (Aaron Beck) اللذان ساهما بشكل كبير في تطوير العلاجات المعرفية السلوكية للاضطرابات النفسية؛ ماكس فريتمر(Max Wertheimer)، كيرت كوفكا(Kurt Koffka)و وُلفغانغ كوهلر(Wolfgang Köhler) اللذين نظروا في سيكولوجية الإدراك والتعلم والتفكير وحددا مجموعة من القوانين والمبادئ المرتبطة بالمقاربة الجشطالتية على أساس أن تعلم الأفراد لا ينتم إلا بإدراكهم لذواتهم وتحديد الهدف من تعلمهم؛ جيري فودور (Jerry Fodor)الذي جمع بين النظرية التمثيلية للذهن والنظرية الحاسوبية الكلاسيكية معتبرا النشاط الذهني متضمنا لحوسبةللغة الفكر، إذ تخزن الحاسوبية الدماغية الرموز الذهنية في مواقع الذاكرة وتعالج هذه الرموز وفقاً لقواعد ميكانيكية…وغيرهم كثير. وقد أسهم هؤلاء الرواد المعرفيون في علم النفس في تطوير هذا المجال ووضع الأسس لدراسة العمليات الذهنية الباطنية وتأثيرها على السلوك الإنساني.

  1. المقاربة الاقترانية« l’approche connexionniste»:ظهرت المقاربة الاقترانية بداية الثمانينات كمقاربة تربط بين الذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية، بحيث تحدّت تقاليد المعرفية (le cognitivisme) بأخذ الدماغ بالحسبان ومكوناته من حيث البنية والوظيفة، ومحاولة فهم المعرفية (cognition) باستخدام شبكة الخلايا العصبية (les neurones)، كوحدات صغيرة يقترن بعضها ببعض أثناء الاشتغال بواسط النهايات أو المشابك العصبية (les synapses) على اعتبار أن تشكل المعرفية(cognition)وعملية التعلم والإدراك هي نتيجة تنشيط وتفاعل وحدات المعالجة المتصلة المتمثلة في الخلايا العصبية الحية في الدماغ كما هو الأمر بالنسبة للحاسوب، كل وحدة تتميز بمتغير أو قيمة معينة تمثل مستوى تنشيطها وبقيمة معينة أخرى ثابتة تمثل عتبتها، فعندما تتجاوز الوحدة عتبة تنشيطها، ينتشر هذا التنشيط تجاه وحدات أخرى باتباع الارتباطات والاقترانات الموجودة، وهذا يعني وجود دينامية داخلية بالنظام.”إنه نموذج شبكي يفترض محاكاة عمل الدماغ (اقتراناتالخلايا عصبية واتصالها) أو كنموذج مملكة النمل”(Dortier, 2011).

أصبحت شبكة الاقترانات بذلك مجازًا للاجتماعي والتفاعل مع البيئة، وهو أمر ضروري لتشكل المعرفة والمعنى، هذا المعنى “يعتمد على الحالة الشاملة للنظام ويبقى مرتبطًا بالنشاط العام ضمن مجال محدد، مثل المعرفة أو التعلم” كما يشير إلى ذلكJ.F. Varela(F. J. Varela et al., 1993). وفي علاقة الاقترانية بالبيئة والعالم المحيط الذي هو مصدر تفعيل الخلايا والمشابك العصبية أو العُقد أو الوحدات يري D.Andler  أنه “لا يوجد بالمعنى الدقيق تبادل أو معالجة للمعلومات، فالعالم الذي “يَعرِفُه” النظام يتشكل تدريجيًا، ويظهر معناه خلال تاريخ التفاعل بين النظام وبيئته(Andler, 1987).

ومن أهم المفاهيم المتداولة بهذه المقاربة نجد:

  • شبكات الخلايا العصبية(réseaux des neurones): : تستخدم الاقترانية شبكات عصبونات اصطناعية لمحاكاة السيرورات المعرفية. تتألف هذه الشبكات الاصطناعية من عُقد (nœuds) تسمى وحدات،متصلة ومقترنة فيما بينها بواسطة أوزان ناقلة،تمثل قوة الاقتران بين الوحدات.
  • التعلم الموزع(apprentissage distribué) : على عكس النماذج المعرفية التقليدية التي تعتمد على التعلم الرمزي المبني على القواعد والتمثيلات الصريحة، تقترح الاقترانية التعلم الموزع،الذي يتأسس على تخزين المعلومات بطريقة موزّعة عبر اقترانات واتصالات الشبكة.
  • التعلم عن طريق ضبط الأوزان(apprentissage par ajustement des poids): تتعلم شبكات العصبونات الاصطناعية عن طريق ضبطقوة الأوزان الناقلة وفقًا للمدخلات والمخرجات المفَعَّلة بالنظام. يتم غالبًا التعلم عن طريق الرجوع إلى مدى انتشارالغلط الواقع بالنظام، حيث يتم ضبط قوة الأوزان الناقلة لتقليل الفروق بين المخرجات الفعلية والمخرجات المرغوبة.
  • المطواعية العصبية للدماغ (plasticité synaptique): تستلهم الاقترانية قوانينها من المطواعية العصبية للدماغ البشري، أي قدرة الدماغ على إعادة تشكيل بنياته وارتباطاته العصبيةبتعزيزها وتطويرها أو ضعفها استنادًا إلى النشاط العصبي وتأثره بالعوامل البيئية والتعلم.

وقد شهدت هذه المقاربة مساهمات هامة من قبل العديد من علماء النفسومن بين أهم روادها:

دونالد هيب (Donald Hebb) الذي يُعتبر واحدا من أهم مؤسسي المقاربة الاقترانية، حيث اقترح قاعدة التعلم المعروفة ب”القاعدة هيب” (larègle de Hebb) ، فوفقًا لهذه القاعدة، تزداد قوة الاتصالات بين العُقد عندما تُنشّط هذه الأخيرة معًا بشكل متكرر؛ وارين ماكولوش ووالتر بيتس (Warren McCulloch & Walter Pitts)  اللذان اخترعا نموذجًا مبدئيًا للعصبون الاصطناعي عام (1943)، وقدموا نظرية رياضية للعصبون الاصطناعي أثناء عمليتي التنشيط والكبح؛ فرانك روزنبلات (Frank Rosenblatt) المعروف بتطوير “القرص المرن” (Perceptron) في عام (1957)، وهو نوع من شبكات العصبونات الاصطناعية؛ دافيد روميلهارت وجيمس ماكليلاند(David Rumelhart  et James McClelland)اللذان عملا معًا على النموذج الاقتراني المؤثِّر المعروف باسم “المعالجة الموزعة الموازية”(Parallel Distributed Processing)، تم تقديم هذا النموذج في كتابهما المرجعي “المعالجة الموزعة الموازية: استكشافات في البنية الدقيقة للمعرفية”(Parallel Distributed Processing: Explorations in the Microstructure of Cognition) والذي نُشِرَ في عام (1986)…

  1. المقاربة الانبثاقية« l’approche d’énaction»:كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، الانبثاقية مقاربة معرفية حديثة ومعاصرة في حقل السيكولوجيا، كانت بداياتها سنة 1990 لواضعها FranciscoVarela ، وهي مقاربة تعارض النماذج والمقاربات السابقة وتتجاوزها ابستمولوجيا. ونقصد بالانبثاقية « énaction »ما يلي: هي من فعل «énacter» باللغة الفرنسية وهيمشتقةأيضا منالفعل «acter »الذييعنياتخاذالقرارللقيامبالفعل،إذنهيأفعال «actes» صادرةعنالفردداخلياً.

مقاربة واعدةفيالعلومالمعرفية عامة والسيكولوجيا تحديدا،مستمدةمنالفينومينولوجيا، يقول Francisco Varela: “إن الباحث في العلوم المعرفية المنجذب نحو الفينومينولوجيا، إذا ما فكر في أصل المعرفية(la cognition)، يمكنه التفكير على النحو التالي: كل ذهن يستيقظ في عالم، لم نصمم عالمنا، نحن ببساطة نجد أنفسنا فيه؛ نستيقظ في ذواتنا وفي نفس الآن في العالم الذي نسكنه. نبدأ في التفكير حول هذا العالم بينما نكبر ونعيش. نفكر في عالم لم يُصنع، ولكن تم العثور عليه؛ في حين أنه من خلال بنيتنا، نستطيع التفكير في هذا العالم. لذلك، نجد أنفسنا أثناء التفكير وسط دائرة: نحن في عالم يبدو أنه كان هنا قبل أن يبدأ التفكير، ولكن هذا العالم ليس منفصلًا عنّا”(F. J. Varela et al., 1993). وهنا تظهر بجلاء علاقة الجسم بالبيئة والعالم ، وربط ذلك بالدماغ من خلال الاستناد إلى “نظريةالفوضى” (la théorie de chaos) أوالمعروفةب (Effet papillon) ،حيث أن الاقترانات المشبكية العصبية تعمل وفق نشاط فوضوي لكنه منظم في نفس الآن

(une activité chaotique)،تكشف عن انتظام وقدرةعلى التغيرالسريع والشامل،تتوافق وتلك الت يتُميزالفكرالإنساني، حيث أنها تربط تشكل المعرفية وأنماط السلوك بالجسم والبيئة.

فوفقًا لهذه المقاربة، يتم تفسير المعرفية البشرية باعتبار الإنسان كائن حي منغمس في بيئةٍ تمكِّنه من بناء معرفته بها من أجل التأثير فيها. فكل معرفة هي منبثقة (énactée)، بمعنى أن المعرفة تنشأ من حقيقة أن بيئتنا لا تنفصل عن جسمنا، هذا الجسم التي يحتوي دماغنا كجهاز أو كنظام ديناميكي دائم التغير. وبالتالي ، فإن قدراتنا المختلفة لا تنفصل عن أجسادنا وتجربتنا المعيشية، مما يسمح لنا بفهم وإعطاء معنى لعالمنا. في المقاربة الانبثاقية، تعد التجربة المعيشية (l’expérience vécue)   محركًا حقيقيًا لتشكل المعرفة بالاستناد إلى الأساس الفسيولوجي العام الذي يتضمن تاريخ حياة الفرد، فالفرد يحدد نفسه في نفس الآن الذي يحدد فيه بيئته، وبالنتيجة فأفكارنا في تأثر دائم بجسمنا وبالبيئة التي نتواجد بها.

– أهم مفاهيم المقاربة الانبثاقية تتمثل في:

  • الفينومينولوجيا (la phénoménologie) : كمدرسة فلسفية، يُعرِّفهاإدموند هوسرل(Edmund Husserl)، بأنها العلم الذي يدرس خبرة الوعي، خبرته بالأشياء، وخبرته بذاته؛ وفي علاقتها بالمقاربة الانبثاقية فهي تؤكد على أهمية مراعاة السياق والبيئة في دراسة المعرفية (la cognition)، وكذلك ضرورة الأخذ بعين الاعتبار للأبعاد الجسدية والإدراكية للتجربة الإنسانية الذاتية. وهي بذلك تقترح فهمًا أكثر شمولًا وتكاملاً للمعرفية (la cognition)من خلال مراعاة تعقيد التفاعلات بين الفرد وبيئته.
  • الدماغ، الجسم، والبيئة(cerveau, corp et environnement): تُولِي المقاربة الانبثاقية أهمية بالغة للتفاعل الديناميكي بين الدماغ والجسم والبيئة. فالدماغ ليس كيانا أو عضوا معزولا، بل بدلاً من ذلك فهو جزء أساسي ضمن نظام معقد يؤثر ويتأثر بالجسم والبيئة. ويلعب الجسم بما له من قدرات حس-حركية، دورًا نشطًا في كيفية فهمنا لبيئتنا وتفاعلنا معها، فجسمنا وحواسنا ليسا مجرد أدوات بسيطة لإدراك العالم، بل هي جزء لا يتجزأ من طريقة تفكيرنا وفهمنا. وبالمثل، توفّر البيئة والسياق مختلف الموارد الأساسية لتشكيل إدراكنا وسلوكنا. وبذلك، تنبثق المعرفية (la cognition) بشكل نابع من التفاعلات المستمرة والديناميكية بين الدماغ والجسم والبيئة، وهذا الترابط يخلق واقعًا إدراكيًا فريدًا خاصا بكل فرد.
  • التخلق الذاتي (autopoïèse)والتنظيم الذاتي الآلي (auto-organisation):التخلق الذاتي (autopoïèse)مفهوم تم تطويره من طرف Francisco VarelaوHumberto Maturana بداية السبعينات من القرن الماضي كامتداد لما توصل إليه كل من Gregory Bateson،Ludwig Wittgenstein

و Paul Weissمن خلال مصطلح الإنتاج الذاتي(notion d’autoproduction)، وهو مفهوم مستمد من المكانة المركزية الممنوحة للأصل البيولوجي للكائن المعرفي والمستقل؛ حيث يُنظَر لأنظمة الكائنات بما فيها الجهاز العصبي والجهاز المناعي مثلا (ومفهوم “جهاز” في جسم الإنسان يعني الجاهزية للعمل الذاتي واللاإرادي) على أنها قادرة على خلق وإنشاء وإعادة إنتاج مكوناتهاوعملياتها الداخلية نفسها بنفسها بشكل مستمر للحفاظ على اتساقها واستقلاليتها، من خلال التفاعل الديناميكي بين الدماغ والجسم والبيئة، حيث تساهم العملية الإدراكية نفسها في الحفاظ المستمر على هذا التخلّق الذاتي كنظام مستقل، وبهذا ترتبط كل من الحياة والمعرفية (la cognition)بصورة وثيقة.وبالتالي ، فهذا المفهوم يفتح آفاقًا جديدة لاستكشاف طبيعة انبثاق الذكاء والوعي كخصائص ديناميكية وذاتية التوليدللحياة(autogénératives).كما أن التنظيم الذاتي الآلي(auto-organisation)يُمَكِّنُ الأنظمة من التكيّف والاستجابة لتغييرات بيئتها، في الوقت نفسه يُحافِظُ على تماسك مكوناتها وثباتها الداخلي.

  • التجربة الذاتية المعيشة (l’expérience subjective) : مفهوم مهم أيضًا في المقاربة الانبثاقية لصاحبهاFrancisco Varela؛ويشير هذا المفهوم إلى الطريقة التي يعيش بها كل فرد ويدرك العالم بطريقة فريدة وشخصية تختلف عمن سواه، استنادًا إلى تجاربه وعواطفه ومعتقداته وتفاعلاته مع بيئته. فالتجربة الذاتية مُجَسَّدة بشكل عميق في التفاعلات الحس-حركية للكائن الحي مع بيئته، وبالتالي فالسيرورات المعرفية والإدراكية لا تنتج بطريقة منفصلة وموضوعية، بل تتأثر بالتجارب الذاتية للفرد. بمعنى أن التجربة الذاتية لا يمكن فهمها بشكل مستقل عن السياق البيئي الذي تحدُث فيه،فالطريقة التي يدرك بها كل فرد ويعطي معنى لبيئته ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتفاعلاته معها، وأيضًا بذكرياته ودوافعه وعواطفه. وهذا المُعطي يشكل تحديًا لفكرة وجود واقع موضوعي ومطلق، وبدلاً من ذلك يؤكد على الطبيعة الخاصة الفردية وكيفية بناءهذه التجربة الإنسانية الذاتية، لأن كل فردهو فاعل نشِط في بناء واقعه الخاص وفهمه للعالم والمحيط.
  • الانبثاق ((émergence :يشير الانبثاق إلى السيرورة التي تنشأ وفقها خصائص أو بنيات جديدة أو سلوكات في نظام معقد نتيجة لتفاعلاته الديناميكية مع البيئة. هذا المفهوم هو أحد أركان المقاربة الانبثاقية في العلوم المعرفية وفلسفة الذهن.تنبثق السيرورات الذهنية بشكل مُجسد في العالم المادي، بفضلالحلقاتالمستمرة(les boucles)للفعل من جهة والإدراك من جهة أخرى بين الكائن وبيئته، بحيث تؤثر أفعال الكائن وتفاعلاته مع العالم الخارجي على إدراكه، بينما يؤثر هذا الأخير في أفعاله المستقبلية، ومن خلال هذه العمليات التفاعلية يمكن أن تنبثق خصائص جديدة وغير متوقعة، تتجاوز خصائص العناصر الفردية لكل مكون من مكونات النظام.يعترف نشاط الانبثاق بفكرة أن الكل أكثر من مجرد مجموع أجزاءه،فالخصائص المنبثقة لا يمكن اختصارهافي أجزاءالعناصر المكونة لها، لأنها نتيجة للتفاعلات الديناميكية بين هذه العناصر ويمكن أن تكون هذه الخصائص المنبثقة عبارة عن سلوك جماعي (كما في مملكة النحل أو مستعمرات النمل بتفاعل الكائنات التي تتبع قواعد بسيطة دون وجود قيادة مركزية)، أو أنماط تنسيق، أو سيرورات معرفية… أكثر تعقيدًا. الانبثاق يساعد على فهم أفضل لكيفية ظهور خصائص جديدة ومكيَّفة في أنظمة معقدة متفاعلة بشكل دائم مع بيئتها، ويقدم نظرة شاملة لكيفية تشكل المعرفية والوعي، واللذان ينبثقان بشكل موزَّع من خلال التفاعلات بين الكائن ومحيطه، بدلاً من أن تكون متمركزة فقط في دماغ أو ذهن فرد بمعزل عن بيئته.
  • الاقتران (le couplage) : هو مفهوم آخر أساسي في المقاربة الانبثاقية؛ويشير هذا المفهوم إلى فكرة أن الكائنات الحية لا تتفاعل مع بيئتها بكل بساطة فقط، بل إنها مشتركة ومتربطة ارتباطًا وثيقًا معها. يعني ذلك أن الحدود بين الكائن وبيئته ليست واضحة، بل يشكلان نظامًا متداخلا وديناميكيًا.في هذا السياق، يؤكد مفهوم الاقتران على أن الكائن وبيئته يتفاعلان كنظام معقد ويتأثران بعضهما ببعض، إذ تنبثق السيرورات المعرفية والسلوكية من هذه العلاقة الديناميكية بين الكائن ومحيطه.يمكن الإشارة إلى وجود مستويات مختلفة للاقتران، بدءًا من التفاعلات الحسية-الحركية للكائن مع بيئته المباشرة، وصولاً إلى التفاعلات الاجتماعية والثقافية المعقدة. على سبيل المثال، في حالة فرد يتفاعل مع أداة (شخص فاقد للبصر يستند إلى عصى لتلمس الطريق)، يتجسد الاقتران هنا في الطريقة التي يتكيف بها هذا الفرد ويقترن مع الأداة لأداء مهمة محددة بحيث تصبح الأداة امتدادا لجسمه ومنه دماغه وما تبع ذلك من تعديلات في بنيته أو تعويض. كما أن هذا المفهوم يضع موضع تساؤل المفهوم التقليدي للذهن المعزول والمنفصل عن بيئته، فعوض اعتبارالذهن مقيدًا بشكل صارمبالدماغ، تبرز أهمية التفاعل المستمر بين الكائن ودماغه وجسده وبيئته في تشكيل المعرفية والسلوك.

– أهم خصائص المقاربة الانبثاقية:

تتمثل أهم خصائص المقاربة الانبثاقية والتي تُعتبر تعريفا وشرحا لها في خمس نقاط أساسية كما قدمها Francisco Varela، وسنعرض لها بشكل مقتضب ما دمنا قد فصّلنا القول في أهم مفاهيمها من خلال الفقرة أعلاه وهي كالآتي:

1.تعتبرالمقاربة الانبثاقية المعرفية (la cognition) هي ممارسة “معرفة الفعل” بواسطة كائن مُتجسد(incarné)  ومُموضع (situé)داخل البيئة.

  1. المعرفية مُجسَّدة في جسم يحتوي على جهاز عصبي، والذي هو جهاز ديناميكي قادر على توليد أنماط النشاط المتناسقة والحفاظ عليها.
  2. العالم، ليس شيئا خارجيا أو مُعطىً مسبق نتمثله داخليا. يتموضع عالم الكائن الإنساني وينبثق من خلال ما أسماه J.F. Varela “اقتران” (couplage) بين ما هو حسي-حركي لهذا الكائن مع البيئة التي يتموضع بها، بين الفعل والإدراك.
  3. الأصل البيولوجي للأفراد المعرفيين المستقلين: حيث ننظر للكائنات الإنسانية على أنهم فاعلون يتوالدون ويتكاثرون ذاتياً. أي “التخلُّق الذاتي” (l’autopoïèse) وهو قدرة نظام أجهزة الإنسان على تخليق ذاتها ذاتياً بشكل دائم وبالتفاعل مع البيئة.
  4. التجربة الشخصية المُعاشة (l’expérience vécu subjectivement) بوعي من طرف الكائن الإنساني ليست ظاهرة عرضية أو ذات “تأثير ثانوي” على السيرورات المعرفية الغير واعية وإنما هي شيء مركزي ضمن ملكاتنا المعرفية.

-المقاربة الانبثاقية ونقدها للمقاربات الكلاسيكية:  

إذا كانت السلوكية هي تلك المقاربة التي تركز على دراسة السلوك القابل للملاحظة والقياس وتتجاهل السيرورات الذهنية الداخليةالتي لا يمكن ملاحظتها لصعوبة اقتحام الدماغ؛ والمعرفية تركز على دراسة السيرورات الذهنية مثل الإدراك والذاكرة والتفكير وحل المشكلات بالاستناد إلى الرموز والتمثلات من خلالها تحويل المدخلات الحسية ، معالجتها، تخزينها واسترجاعها وقت الحاجة؛ الاقترانية التي تعتمد نمذجة الذهن على أساس وظيفة الشبكات العصبية والاقترانات العصبية استنادا إلى فكرة أن المعرفة يتم تمثيلها بواسطة روابط ذات أوزان بين الوحدات، بدلاً من الرموز المجردة؛ فإن المقاربة الانبثاقية تركز على التفاعل بين الكائن وبيئته في بناء المعرفية (la cognition)، ولا تعتبر هذه الأخيرة نشاطًا ذهنيا منعزلًا، بل هو تفاعل نشط وديناميكي بين الكائن، دماغه، جسمه وعالمه المحيط.

وقد تجاوزت المقاربة الانبثاقية المقاربة السلوكية، من خلال اعتماد هذه الأخيرة على اختزالوتقليص تعقيد التجربة البشرية في السلوك الملاحظ والقابل للقياس، وإغفال الجوانب الداخلية والذاتية للذهن، كالأفكار والعواطف والسيرورات المعرفية، التي تلعب دورًا حاسمًا في كيفية تصورنا وتفاعلنا مع العالم؛ كما أن السلوكية عملت على تجاهل السياق والبيئة، وضرب عرض الحائط لأهميتهما البالغة في تشكيل المعرفيةوالسلوك. بدلاً من ذلك، تركيز المقاربة الانبثاقية على التفاعل المستمر بين الفرد وبيئته، حيث ينظر إلى السلوك على أنه انبثاق لهذا التفاعل الديناميكي؛

فيما يتعلق بانخراط الجسم، فالسلوكية تعتبر السلوك في كثير من الأحيان على أنه استجابات لمحفزات ومثيرات خارجية، دون أن تأخذ بالحسبان للدور الأساسي للجسم وانخراطه في تشكيل المعرفية  (la cognition)والفعل، لذا تشدد المقاربة الانبثاقية على أن الدماغ جهاز داخل الجسم يتفاعلان بينهما بشكل دائم، وأن كل الأفعال والسلوكات يتشكلان من تفاعلات بين الجسم الذي يحتوي الدماغ والبيئة؛ من جهة أخرى فالمقاربة السلوكية تركز ا بشكل أساسي على التعزيز والعقاب كمحركات وموجهات للسلوك، ولكن هذا قد لا يكفي لشرح تعقيد الدوافع البشرية، بينما  تُقرُّ المقاربة الانبثاقية بدلاً من ذلك على أن السلوك تتحكم فيه سيرورات الاستقلالية والانبثاق، وأن الدوافع تنبع من التفاعلات بين الفرد وبيئته؛ زد على ذلك أن السلوكية في كثير من الأحيان، تفضل مقاربة الفرد منهجيًا بشكل فردي وأحادي، بعزل الأفراد عن التفاعلات الاجتماعية والثقافية التي تشكل سلوكهم، في حين أن المقاربة الانبثاقية تأخذ بعين الاعتبار دور السياق الاجتماعي والثقافي في تشكيل المعرفية والسلوك.

تنتقد المقاربة الانبثاقية المقاربة السلوكية من خلال التأكيد على أهمية المعرفية المتجسد، والتفاعل مع السياق البيئة، وتعقد الدوافع والمحفزات البيئية والبشرية،وهي بذلك تركز علىالفهم الشمولي والسياقي للسلوك، متجاوزةً بذلك حدود السلوكية التي تركز بشكل أساسي على السلوك الملاحظ وسيرورات التعلم.

بخصوص المقاربة المعرفية، التي قارنت الدماغ وتشكل المعرفية (la cognition) بجهاز الحاسوب واعتماد التمثلات والرموز تثير إشكالية في المقارنة نفسها: حيث يعمل الحاسوب على أساس معالجة الرموز التي ليس لها أي ارتباط بما تمثله أو ما يتم معالجته، في حين أن ما يتم معالجته يؤدي إلى التفرقة بين الجهاز (hardware) والبرنامج (software)؛ وبعبارة أخرى، فإنهاتعتبر أن بيولوجيا الدماغ (الجهاز) والمعرفية (البرمجيات) مستقلان. في الواقع، هذه التفرقة بين الجهاز والبرمجيات هي التي تؤدي إلى المشاكل التي نواجهها في التمثلات. فإذا كان الجسم والذهن منفصلين بشكل أساسي، فكيف يمكن للذهن أن يستوعبالمفاهيم التي هي خارجية عنه؟ إذ أن العلاقة بالجسم تشبه العلاقة بالعالم الخارجي، فمن الضروري اللجوء إلى عملية التحويل التي تسمح بترجمة الخارج إلى الداخل وكذلك ترجمة الداخل إلى الخارج، وبالتالي فإن اللجوء إلى مفهوم التمثلات يظلقاصراً عن شرح هذه العلاقة.

 

إن المقاربة المعرفيةتفترض أن العالم موضوعي، وأن المعرفيةتعيد تركيب خصائصهاالموضوعية بدرجات متفاوتة من الأمانة للواقع بفضل استخدام التمثلات الداخلية، وأخيرًا أن مفهوم “الذات” منفصل عن العالم الخارجي وأن هذه الذات تقوم بعمليات المعالجة المعرفية بشكل مستقل. فعلى النقيض من ذلك ، فإن مفهوم السياقية (la contextualisation) الذي اقترحه Francisco Varela(1993، 1995، 1996، 1988و1997)،جاء لدحض مفهوم التمثل، وعندما نقول السياقية، فإننا نعني التجربة الذاتية المعيشة، أي أننا نرى المعرفيةفي ارتباط وثيق مع البيئة: إنها متجسدة ومموضعة. حيث أدى تأصيل هذا الارتباط إلى لفت الانتباه إلىانبثاق البنيات المعرفية من خلال السيرورات المجسدة انطلاقا من التاريخ والأحداثالمتواترة للتفاعلات بين الفرد وبيئته، وهذا ما أ سماه Varelaب “التخلق الذاتي”(l’autopoïèse)، وهي كما أشرنا إليه أنفا، قدرة الجهاز على خلق وتنظيم وإعادة تنظيم نفسه بنفسه .

إذا كان الإدراك قادرًا على توجيه الفعل، فإن الإدراك أيضًا قادر على إدراك الوضعية الحس-حركية التي ترتبط بالفعل، هذا الفعل بدوره يؤثر على الإدراك (الحس- الحركية هي تغذية راجعة حركية دائمة الدينامية). وبذلك، لم يعد بإمكاننا اعتبار ما هو مُدرك في شكل حدث أو شيء مستقل عن السيرورات الإدراكية، بل بناءً على طبيعة الوضعية الحس-حركية بنظام الإدراك : نحن ندركالطريقة التي نعالج بها المعلومات. وفقًا لـ بروكس(Brooks, 1991)، فإن العقبة الرئيسية التي تواجهه البحث في الذكاء الاصطناعي هي أن التمثل ليسوِحدة التجريد الصحيحة في بناء أجزاء النظام الذكي المتطورة، لنمذجة النظام المعرفي يتوجب تعليمه كيفية معالجة المعلومات.

إنالإنسان كائن غير قابل لاختزاله إلى مجرد دماغ معزول بجوار عالم خاص به، نحن كيانات ديناميكية مرتبطة باستمرار ببيئتنا(Cosmelli & Thompson, 2010)،فالبيئة عنصر أساسي من عناصر النظام المعرفي، وبالتالي فإن المعرفية لا تعمل على معالجة تمثلات العالم الخارجي، ولكن تعالج الصلة المباشرة بين الفرد والبيئة والتيهي في حد ذاتها معلومات مادية ملموسة (F. Varela, 1995)، وبالتالي، يجب أن تكون هناك قطيعة تامة بين المقاربة المعرفية والمقاربة الانبثاقية، حيث يجب رفض العلاقة العشوائية التي تنص عليها الأولى بين الموضوع والذات والرموز ، ورفض مفهوم التمثل برمته، ويضيف Varela بالقول : “…لا يلعب التمثل دورًا رئيسيًا بعد الآن، و”الذكاء” لم يعد يُعرَّف بأنه القدرة على حل المشكلات، بل هو القدرة على اختراق وولوجالعالم المشترك” (F. Varela, 1996).

ظهرت انتقادات متعددة التخصصات للمقاربة الاقترانية، تسلط الضوء على مستوى التجريد (الرمزي) للفكر والمعرفة، وطلبت بدمج الجسم بشكل أكثر وضوحًا في هذا النهج، وبالأساس عمل الدماغ، من خلال استبدال الحاسوبية الرمزية للمقاربة المعرفية بالعمليات الرقمية، أي استبعاد الرموز، كما هو مفهوم من قِبَل المقاربةالمعرفية. نعم، قدمت الاقترانية لمفهوم دينامية الدماغ، لكنها لم ترقى إلى إدراج العوامل الخارجية المؤثرة في عمله من قبيل البيئة والسياقات الاجتماعية والثقافية. لكن المقاربة الانبثاقية، من خلال مسارها الخاص، تعيد بشكل واضح إدماج العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية والعاطفية التي تم تجاهلها في الغالب بالعلوم المعرفية كمكونات مُشكِّلة للمعرفة، وبذلك فهي تُخصص دورًا أساسيًا للروابط مع البيئة،”الكائنات الحية وبيئاتها تتمركز في علاقة بعضها ببعض من خلال تحديد بعضها ببعض أو ترميزهما بعضهما ببعض”(F. J. Varela et al., 1993).

ومن أهم الانتقادات التي وُجهت للاقترانية، نجد عدم وضعف قابلية وصف وتفسير عمل شبكات العصبونات الاصطناعية ، لأن قراراتها في تشكل المعرفية وتفسير السلوك غالبًا ما تستند إلى عمليات موزعة،يصعب شرحها بشكل بديهي؛زيادة التعلم، حيث قد تكون شبكات العصبونات عُرضة لمشكلات التعلم المفرط، بحفظ الأمثلة التدريبية بشكل جيد، كما لا يمكن تعميم هذا التعلم علىالمعطيات والسياقات الجديدة؛ وأخيرا نقص الفهم المعرفي، لأنه وبالرغم من أن شبكات العصبونات الاصطناعية يمكن أن تحقق أداءً مميزًا في بعض المهمات، فإنها في كثير من الأحيان لا توفر فهمًا واضحًا للآليات المعرفية الأساسية الكامنة وراء تحقيق هذه المهمات.

وفي هذا السياق، تكون البيئة عمومًا مجالًا لعمليات الإدخال/ الإخراج أو المحفز/ الاستجابة، والظاهرة أو الفعلينبثق عن، أو يتشكل من نمط وزنالمشابك العصبية الذي يتطور بناءً على القيود المفروضة من هندسة هذه الشبكة العصبية؛هذه الشبكة التي يمكن تشبيهها بالعلاقة الجدلية الكلاسيكية (الجسم والدماغ/ الفطري) في تفاعله مع البيئة (السياق/ المكتسب) (Jorand, 2006)؛وهنا نقول بناء على الأسس التي تستند عليها المقاربة الانبثاقية، أن مسألة الفطري والمكتسب أصبحت تشكل كلاً واحداً، لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الأخر، فجزء كبير من الدماغ فطري ووراثي يتمثل في الخلايا العصبية والمحاور التي تمتد هنا وهناك لتتواصل الخلايا فيما بينها، المشابك العصبية، الخلايا الداعمة، المهاد، تحت المهاد، اللوزية، قرن آمون…إلخ ، وكذا البيئة والتجربة الذاتية التي تتدخل لتشكيل هذا الدماغ وتعديله كمعطيات يتم تعلّمها واكتسابها. فكلنا نولد بقدرات معينة مبرمجة في جيناتنا وبنية أدمغتنا وهذا هو حظ سحب “اليانصيب”، لكن كيفية ترتيب أفكارنا وخبراتنا وتمثيل المستقبل هي أشياء تقع ضمن تحكمنا الكامل وفق ما يتيحه لنا الجسم والبيئة التي نعيش فيها ومدى تأثيرنا فيها وتأثُّرنا بها؛ كتب تشارلز داروين (Charles Darwin)مرة يقول: “لقد قلت دوما إنه عدا الأغبياء، فإن الناس لا يختلفون كثيرا في الذكاء، إنهم يختلفون فقط في الحماس والعمل الجاد”(Gould et al., 1997).فالدماغ بذلك يستطيع إعادة تنظيم بنياته وخلق اقترانات جديدة على مستوى مشابكه تحت تأثير التجربة الذاتية والبيئة المحيطة. والحقيقة المثيرة والمخيفة للحياة هي أننا لا نحتاج إلى المشاركة بنشاط في مهمة تدريبية محددة من أجل أن نغير عقولنا، فذلك سيحدث على كل حال نتيجةً للتجارب التي نمتلكها وللبيئة التي نتواجد بها، تكتبGreenfieldعنSharon Begley في كتابها “العقل اللدن” « The Plastic Mind »: “المشابك العصبية الجديدة، وهي الوصلات التي تربط بين العصبون والآخر، هي التعبير المادي عن الذكريات. وبهذا المعنى، فإن الدماغ يخضع لتغيُّر مادي مستمر… يعيد الدماغ صنع نفسه طوال الحياة، وذلك استجابة للمثيرات الخارجية لبيئته ولتجاربه” (Greenfield, 2015)

الإشكالية الأساسية للانبثاقيةتتمثل فيالاهتمام والتركيز علىالتجربة الذاتية المعيشة كون المعرفية والاقترانية لم تتمكنا من تفسيرها. بعبارة أخرى، تتموقع الانبثاقيةهنا كدراسة فينومينولوجية للتجربة المعرفية. بالإضافة إلى ذلك، يُتيح لنا مفهوم “التخلق الذاتي” الذي استخدمه Varela تجاوز افتراضات الاقترانية، بحيث تُعرَّف الأنظمة ذات التخلق الذاتي بما فيها الدماغ بقدرتها على الاستمرار في الزمن وإعادة تشكيل بنياتها على الرغم من كل التعديلات التي تسببها المؤثرات التي تعتريها، سواء كانت تلك النظم تعاني من مؤثراتمن ذاتها أو من بيئتها. وبالتالي فالنظام (الدماغ) متعرض للتعديلات الدائمة التي يجب عليه أن يتكيف معها منالبيئة والنظام أيضا يؤثر في البيئة ويعدِّلها، مما يُظهر وجود علاقة جدلية للتأثير والتأثر بين الدماغ والجسم والبيئة كحلقة دائرية دائمة التفاعل،”لهذا السبب، يُشيرVarelaإلى وجود حلقات مغلقة، إذتوجد حلقة مغلقة داخلية حيث يتفاعل النظام مع بيئته، يتكيف مع تأثيرات بيئته، لكنه أيضًا يتفاعل معها بشكل نشط (Le Blanc, 2014).

خاتمة

يمكن إجمال القول من خلال كل ما قدمناه ، أنه على عكس المقاربة السلوكية التي تجاهلت العمليات الذهنية الداخلية، تركز المقاربة الانبثاقية على المعرفية المجسَّدة(la cognition incarnée) والتفاعل النشط والدائم بين الكائن وبيئته في تشكيل المعرفية؛في مقابل المقاربة المعرفية والاقترانيةاللتان تركزان على السيرورات الذهنية والتمثيلات المجردة بالنسبة للأولى، ونمذجة الذهن وفق الذكاء الاصطناعي وتشبيه الدماغ بالحاسوب بالنسبة للثانية، تُبرز المقاربة الانبثاقية  فكرة أن المعرفية (la cognition)تنبثق من التفاعلات الديناميكية بين الكائن وبيئته في الزمن الواقعي المعيش، كما ترفض مفهومالمتمثلات الذهنية على حسابالمعرفية المموضعة (la cognition située)، حيث تُعتبر التجارب الذاتية و حضور متغير الجسم أمرين أساسيين في فهم كيفية تشكل المعرفية.

من خلال التركيز على التفاعل الدائموما ينبثق عنه في الاتجاهين معا سواء نحو الكائن أو نحو بيئته(la co-émergence)،تقدم المقاربة الانبثاقية منظورًا مبتكرًا يتجاوز المقاربات التقليدية في السيكولوجيا، كونها تعتبر الدماغ وعمله متجسدا ومموضعا في السياق، كما أنها تُصر على أهمية التجربة الذاتية ودور الجسم في تشكيل المعرفية. وبالتالي تعزز هذه المقاربة قوة الترابط والتفاعل المتبادل بين الكائن وبيئته، وبذلك توفر رؤية أكثر شمولية للمعرفية الإنسانية.

الاقتراحات والتوصيات :

تعتبر المقاربة الانبثاقية (l’approche d’énaction) مقاربة معاصرة، مُجدِّدة وواعدة يمكنها أن تثري الأبحاث العلمية والممارسات المهنية في مجال علم النفس،لذا نقدم اقتراحات وتوصيات موجهة للباحثين في مجال السيكولوجيا لأجل اعتماد المقاربة الانبثاقية أثناء إنجاز أبحاثهم، وكذا للممارسين ومهني المجال السيكولوجي بشتى فروعه لأجل الأخذ بعين الاعتبار للمتغيرات التي جاءت بها المقاربة الانبثاقية وتحديدا معطى الجسم، البيئة والسياق وأيضا التجربة الذاتية، لذا ونوصي بما يلي :

  1. اعتماد المقاربة الانبثاقية في الأبحاث السيكولوجية سيسمح بتوفير رؤية أكثر ثراء واكتمالاً للظواهر النفسية، لأنها مقاربة تلامس مصادر وتخصصات متعددة تندرج ضمن ما يسمى بالعلوم المعرفية كعلم النفس، البيولوجيا، النورولوجيا، اللسانيات، الذكاء الاصطناعي…وباعتماد هذا التنوع، سيتمكن الباحثون من إغناء بحوثهم من خلال تناول الإشكالية من زوايا تحليل متعددة.
  2. تبني المقاربة الانبثاقية سيمكن الممارسين في مجال علم النفس بشتى فروعه من فهم معنى الفعلبالنسبة للأفرادأثناء تفاعلهم المستمر مع بيئتهم، سواء “الأسوياء” أو ذوي الاضطرابات الذهنية.هذه المقاربة ستمكنهم من فهم كيف تتأثر سلوكات هؤلاء الأفراد واختياراتهم بالمعنى الذاتي المنسوبلتجاربهم الحياتية اليومية، وبالتالي فهم الظواهر النفسية في سياقها الحقيقي المعيش، وليس على نحو منفصل، ومنه تناول كل حالة على أنها حالة فريدة من نوعها ومختلفة عن شبيهاتها.
  3. دعوة واضعي الاختبارات النفسية بالأخذ بعين الاعتبار لمتغيرات المقاربة الانبثاقية ومفاهيمها الأساسية من خلال عمل الدماغ، دور الجسموالبيئة، لأجل إعداد اختبارات أكثر دقة وتحديدا للاضطرابات النفسية الموجودة بالدلائل التشخيصية كالدليل الإحصائي والتشخيصي الخامس الذي وضعته الجمعية الأمريكية للطب النفسي(DSM 5) و التصنيف الدولي للأمراض(CIM 11) ، الصادر عن منظمة الصحة العالمية (OMS).
  4. الدعوة لتبني الباحثين والممارسين في مجال علم النفس للمقاربة الانبثاقية التي تربط بين الدماغ والجسم والبيئة، كونها تساهم بشكل فعال في فهم كيفية تكيُّف الأفراد وتعلمهم من بيئتهم، وكيف تؤثر السياقات في سيروراتهم الذهنية.
  5. أهمية “المعرفية المُجسَّدة” المتمثلة في التجربة الذاتية وحضور متغير الجسم كعاملان متدخلان في بناء المعرفية والسلوك، من شأنها إعطاءالباحثين والممارسينفي الميدان فهما أكثر للجوانب الانفعالية والجوانب الحياتية المعيشية للأفراد بشكل أفضل، وبالتالي تطوير ممارسات أكثر تعاطفًا وملاءمة.
  6. أهمية “المعرفية المموضعة” التي قالت بها المقاربة الانبثاقية، تمكن الباحثين والممارسين من تغيير زاوية رؤية دراسة الظواهر النفسية وطرق العلاج بالتخلي عن فكرة أن الدماغ وحده المسؤول عنها وإنما هي مرتبطة بالتفاعل الديناميكي والمستمر مع البيئة.
  7. توفر المقاربة الانبثاقية آثارًا عملية في العديد من مجالات علم النفس، مثل التعليم والتربية، العلاج والتأهيل النفسي، وعلم النفس الاجتماعي… وباعتمادهايتمكن الباحثون والممارسون من تطوير تدخلات سياقية (contextualisées)أكثر فاعلية وفق ما هو اجتماعي وثقافي لمساعدة الأفراد على التكيف بشكل أفضل مع بيئتهم.

لائحة المراجع المعتمدة:

  1. الباديدي, مولاي التهامي. (2017). الذاكرة قضايا وإشكالات من منظور العلوم المعرفية (Noor Publishing).

 

  1. Andler, D. (1987). Progrès en situation d’incertitude. Le Débat, 47(5), 5‑25. Cairn.info. https://doi.org/10.3917/deba.047.0005
  2. Briglia, J. (2017). De l’énactivisme appliqué à la mémoire humaine : Athena, un modèle fractal de covariances sensorimotrices. Université Paul Valéry-Montpellier III.
  3. Brooks, R. A. (1991). Intelligence without representation. Artificial Intelligence, 47(1), 139‑159. https://doi.org/10.1016/0004-3702(91)90053-M
  4. Cosmelli, D., & Thompson, E. (2010). Embodiment or envatment ? Reflections on the bodily basis of consciousness. Enaction: Towards a new paradigm for cognitive science, 361‑385.
  5. Dortier, J.-F. (2011). Le cerveau et la pensée : Le nouvel âge des sciences cognitives. Sciences humaines.
  6. E49b8b60f72e5a0ec7defeb28d288092.pdf. (s. d.). Consulté 24 juillet 2023, à l’adresse https://lecerveau.mcgill.ca/flash/pop/pop_pres/II_COURS_5%20(6%20d%E9c%202011)%20-%20v3pdf.pdf
  7. Gould, S. J., Lemoine, D., & Blanc, M. (1997). Darwin et les grandes énigmes de la vie : Réflexions sur l’histoire naturelle. (No Title).
  8. Greenfield, S. (2015). Mind change : How digital technologies are leaving their mark on our brains. Random House.
  9. II_COURS_4 (22 nov 2011)—V2.pdf. (s. d.). Consulté 24 juillet 2023, à l’adresse https://lecerveau.mcgill.ca/flash/pop/pop_pres/II_COURS_4%20(22%20nov%202011)%20-%20v2.pdf
  10. Jorand, O. (2006). Pour une évaluation des approches connexionnistes de la construction des concepts. Thèse d’habilitation, Université de Fribourg, Faculté des Lettres.
  11. Le Blanc, B. (2014). Francisco Varela : Des systèmes et des boucles. Hermès, 1, 106‑107.
  12. Masciotra, D., Roth, W.-M., & Morel, D. (2008). Énaction. Apprendre et enseigner en situation. De Boeck Supérieur; Cairn.info. https://www.cairn.info/enaction-apprendre-et-enseigner-en-situation–9782804159139.htm
  13. Miljkovitch, R., Sander, E., & Morange-Majoux, F. (2017). Traité de psychologie du développement. https://univ-paris8.hal.science/hal-02113554
  14. Varela, F. (1995). The emergent self. The Third Culture; Beyond the Scientific Revolution. New York Simon & Schuster.
  15. Varela, F. (1996). Invitation aux sciences cognitives: Vol. Sciences (P. LAVOIE, Trad.; Seuil).
  16. Varela, F. (2017).Le Cercle créateur , Ecrits (1976-2001): Vol. Sciences humaines (C. V. Amy, Trad.; Seuil).
  17. Varela, F., Thompson, E., & Rosch, E. (1993). L’Inscription corporelle de l’esprit Sciences cognitives et expérience humaine: Vol. 1 vol. (V. Havelange, Trad.; Points).
  18. Vera, A. H., & Simon, H. A. (1993). Situated action : A symbolic interpretation. Cognitive Science, 17(1), 7‑48.
  19. Weil-Barais, A., Dubois, D., Nicolas, S., Pedinielli, J.-L., & Streri, A. (2011). L’homme cognitif (2e édition). Presses Universitaires de France – PUF.

 

 

2 thoughts on ““المقاربة الانبثاقية: مقاربة معاصرة في الدراسات السيكولوجية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *