نوفمبر 23, 2024 12:31 ص
1

أ.د.حسين عبدعلي عيسى

كلية القانون/ جامعة السليمانية

Email:husseinissa@hotmail.com

009647702100958

 

الملخص

كان العراق وما زال إحدى دول العالم التي تعاني من ظاهرة الاختفاء القسري، وعلى الرغم من كونه من أولى الدول التي انضمت إلى اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 بموجب القانون رقم (17) لعام 2009، إلا أن تشريعاته العقابية لا تجرم حتى الآن الاختفاء القسري، الأمر الذي دعا منظمة الأمم المتحدة غير مرة إلى مطالبته بتنفيذ التزاماته الدولية النابعة منها، ولا سيما فيما يتعلق بتجريم الاختفاء القسري في تشريعاته الداخلية.

وقد تكللت جهود المشرع العراقي خلال السنوات الماضية بوضع مشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري لعام 2018، كما وتضمن مشروع قانون العقوبات لعام 2021 نصاً بذلك. وعلى الرغم من أن تجربة العراق على هذا الصعيد ليست بجديدة إذ سبق أن جرم الاختفاء القسري في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005، إلا أن السياسة الجنائية المتبعة في المشروعين، مع ما يحسب للمشرع العراقي فيهما من إيجابيات كثيرة، ربما تنطوي على عدد من السلبيات التي تتطلب معالجة قبيل إقرارهما في مجلس النواب العراقي، وقبل أن تتكشف في الممارسة التطبيقية.

وتنحصر مشكلة البحث في أن انتشار حالات الاختفاء القسري في العراق يشكل مشكلة وطنية ودولية على حد سواء، ما يتطلب التصدي لها، وبخاصة من خلال تجريم الاختفاء القسري في التشريعات الداخلية. إلا أن تنفيذ ذلك قد تعترضه جملة معوقات، وعلى رأسها: كيفية القيام بذلك؟ وما هي المواثيق الدولية المعتمدة في ذلك؟ وما هي إيجابيات وسلبيات القوانين العراقية المتعلقة بتجريم الاختفاء القسري، والحال نفسه بالنسبة لمشروعي القانونين المطروحين بهذا الخصوص في الوقت الحالي؟ وهل تشكل الجهود التي بذلها المشرع العراقي فيما يتعلق بهما ما يكفي للإيفاء بالتزاماته الدولية النابعة من انضمامه إلى اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006؟

وتتمثل أهمية البحث في أن دراسة السياسة الجنائية للمشرع العراقي في تجريم الاختفاء القسري تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لتحديد التوجهات التي اتبعها في تجريم الاختفاء القسري في التشريع العراقي، وكذلك بالنسبة لبيان مدى التزامه بتنفيذ التزاماته الدولية التي حددتها المواثيق الدولية ذات الصلة، وبخاصة اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006.

وتنحصر أبرز أهداف البحث في دراسة حالة الاختفاء القسري في العراق، وبيان الالتزامات الدولية للعراق النابعة من انضمامه إلى اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006، وكذلك دراسة الجهود المبذولة على صعيد تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العراقية، مع إيلاء عناية خاصة لدراسة مشروعات القوانين العراقية بهذا الخصوص وتحديد الجوانب الإيجابية والسلبية في سياسته الجنائية فيما يتعلق بتجريم الاختفاء القسري.

وتعتمد الدراسة على عدد من المناهج، وعلى رأسها: المنهج الوصفي والتحليلي والمقارن، وذلك بتقديم وصف موجز لحالات الاختفاء القسري في العراق ودراسة الالتزامات النابعة من انضمام العراق إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من جريمة الاختفاء القسري لعام 2006، مع تحليل التشريعات العراقية وكذلك مشروعات القوانين المتعلقة بتجريم الاختفاء القسري ومقارنتها فيما بينها وبالمواثيق الدولية ذات الصلة.

ويقسم البحث على أربعة مباحث. ويتناول المبحث الأول حالة الاختفاء القسري في العراق ويستعرض المبحث الثاني التزامات العراق بموجب الاتفاقية الدولية لعام 2006 ويخصص المبحث الثالث للبحث في تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العراقية ويكرس المبحث الرابع لدراسة تجريم الاختفاء القسري في مشروعات القوانين العراقية. وتتضمن الخاتمة أبرز الاستنتاجات والتوصيات المتوصل إليها.

الكلمات المفتاحية: السياسة الجنائية، الاختفاء القسري، اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، التزامات الدول الأطراف، مشروع قانون الاختفاء القسري.

 

Criminal policy

in confronting enforced disappearance in Iraq

Prof. Dr. Hussein Abd Ali Issa

College of Law/University of Sulaymaniyah

 

Abstract

Iraq was and still is one of the countries in the world that suffers from the phenomenon of enforced disappearance, and despite being one of the first countries to accede to the Convention for the Protection of All Persons from Enforced Disappearance of 2006 under Act No. (17) of 2009, its punitive legislation does not yet criminalize Enforced disappearance, which prompted the United Nations more than once to demand that it implement its international obligations stemming from it, especially about criminalizing enforced disappearance in its domestic legislation.

The efforts of the Iraqi legislator during the past years culminated in the drafting of the Anti-Enforced Disappearance Act of 2018, and the draft Penal Code of 2021 also included a provision to that effect. Although Iraq’s experience in this regard is not new, as enforced disappearance was previously criminalized in the Iraqi Supreme Criminal Court Law No. (10) of 2005, the criminal policy followed in the two projects, with the many advantages that the Iraqi legislator calculates in them, may involve several negative aspects that require treatment before their approval in the Iraqi Council of Representatives, and before they appear in practice.

The research problem is limited to the fact that the spread of enforced disappearances in Iraq constitutes a national and international, which requires addressing it, especially by criminalizing enforced disappearances in domestic legislation. However, implementing this may be hindered by several obstacles, foremost of which is: How to do this? What are the international conventions adopted in this? What are the pros and cons of Iraqi laws criminalizing enforced disappearance, and the same case about the two draft laws proposed in this regard at present? Are the efforts made by the Iraqi legislator about them sufficient to fulfil his international obligations stemming from his accession to the 2006 Convention for the Protection of All Persons from Enforced Disappearance?

The important research is the study of the criminal policy of the Iraqi legislator in criminalizing enforced disappearance is of great importance in determining the trends he followed in criminalizing enforced disappearance in Iraqi legislation, as well as indicating the extent of his commitment to implementing his international obligations set out by relevant international conventions, especially the Convention for the Protection of All Persons of enforced disappearance in 2006.

The main objectives of the research are limited to the study of cases of enforced disappearance in Iraq, the statement of Iraq’s international obligations stemming from its accession to the Convention for the Protection of All Persons from Enforced Disappearance of 2006, and then studying the efforts made in terms of criminalizing enforced disappearance in Iraqi legislation, with special attention given to the study of projects Iraqi laws in this regard and identify the positive and negative aspects of his criminal policy about the criminalization of enforced disappearance.

The study relies on several methods, chief among them: the descriptive, analytical and comparative methods, by providing a brief description of cases of enforced disappearance in Iraq and examines the obligations stemming from Iraq’s accession to the International Convention for the Protection of All Persons from the Crime of Enforced Disappearance of 2006, With an analysis of Iraqi legislation as well as draft laws related to the criminalization of enforced disappearance and comparing them with each other and with the relevant international conventions.

The research is divided into four sections. The first section deals with enforced disappearance in Iraq, the second section reviews Iraq’s obligations under the International Convention of 2006, the third section is devoted to the criminalization of enforced disappearance in Iraqi legislation, and the fourth section is devoted to studying the criminalization of enforced disappearance in Iraqi draft laws. The conclusion includes the most important conclusions and recommendations reached.

Keywords: Criminal policy, enforced disappearance, Convention for the Protection of All Persons from Enforced Disappearance, obligations of state parties, the draft Act on enforced disappearance.

 

المقدمة

يعدّ العراق إحدى دول العالم التي عانت من عدة موجات من حالات الاختفاء القسري، فقد عاني قبيل عام 2003 من نظام دكتاتوري مارس انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك جريمة الاختفاء القسري، ولم ينته الحال بسقوطه عام 2003 إذ تفاقمت ظاهرة الاختفاء القسري ارتباطاً بما تعرض له العراق من احتلال، ولاحقاً بسيطرة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) على إجزاء منه، وكذلك إبان تحريره منه. ومما زاد في انتشار حالات الاختفاء القسري الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي دفعت فئات واسعة من أفراد المجتمع العراقي إلى احتجاجات كبيرة عارمة ذهبتت ضحيتها أعداد كثيرة منهم بين قتيل ومعوق ومختفٍ، وليس الحال اليوم بأفضل مما كان بالأمس، ولاسيما في ظل نسجيل حالات عديدة للاختفاء القسري، الأمر الذي دعا منظمة الأمم المتحدة غير مرة الى مطالبة العراق بالتصدي لجريمة الاختفاء القسري من خلال تجريم الاختفاء القسري في تشريعاته الداخلية ومساءلة مرتكبيها جزائياً. الا أن الجهود المبذولة بقيت دون المستوى المطلوب، هذا على الرغم من أن العراق كان من الدول السباقة إلى المصادقة على إتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006، كما سبق له أن أقر تجريم الاختفاء القسري في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005، الخاص بمحاكمة أركان النظام العراقي البائد. الا أن اسشتراء ظاهرة الاختفاء القسري، وعدم تجريمها في التشريعات العقابية وإفلات مرتكبيها من العقاب إضافة إلى تكرر مطالبات منظمة الأمم المتحدة بتجريمها كانت من ضمن الأسباب لوضع المشرع العراقي مشروع قانون الاختفاء القسري لعام 2018، ومشروع قانون العقوبات لعام 2021 الذي تضمن تجريماً للاختفاء القسري. ولكن هل يحقق هذان المشروعان الأهداف المتوخاة منه؟ وهل أخذ المشرع العراقي فيهما بمضمون أحكام المواثيق الدولية ذات الصلة وبما يفي بالتزاماته الدولية بالتصدي لجريمة الاختفاء القسري في العراق؟

أولاً: مشكلة البحث: يشكل انتشار حالات الاختفاء القسري في العراق مشكلة وطنية ودولية على حد سواء، مما يتطلب التصدي لها، وبخاصة من خلال تجريم الاختفاء القسري في التشريعات الداخلية. الا أن تنفيذ ذلك في الواقع القانوني قد تعترضه جملة معوقات، وعلى رأسها كيفية القيام بذلك؟ وما هي المواثيق الدولية المعتمدة في ذلك؟ وما هي إيجابيات وسلبيات القوانين العراقية المتعلقة بتجريم الاختفاء القسري، والحال نفسه بالنسبة لمشروعات القوانين المطروحة بهذا الخصوص في الوقت الحالي؟ وهل تشكل الجهود التي بذلها المشرع العراقي فيما يتعلق بهذه المشروعات ما يكفي للايفاء بالتزماته الدولية النابعة من انضمامه إلى اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006؟

ثانياً: أهمية البحث: تكتسب دراسة السياسة الجنائية للمشرع العراقي المتبعة في تجريم الاختفاء القسري أهمية كبيرة بالنسبة لتحديد التوجهات التي اتّبعها في تجريم هذه الجريمة في التشريع العراقي، وكذلك بالنسبة لبيان مدى التزامه بتنفيذ التزاماته الدولية التي حددتها المواثيق الدولية ذات الصلة، وبخاصة اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006.

ثالثاً: أهداف البحث: تنحصر الأهداف الرئيسة للبحث في دراسة حالة الاختفاء القسري في العراق، وبيان الالتزامات الدولية للعراق النابعة من انضمامه إلى إتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006، وكذلك دراسة الجهود المبذولة على صعيد تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العراقية، وبخاصة في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005، مع إيلاء عناية خاصة لدراسة مشروعات القوانين العراقية بهذا الخصوص من أجل بيان مدى التزام العراق بتنفيذ التزاماته الدولية وتحديد الجوانب الإيجابية والسلبية في سياسته الجنائية فيما يتعلق بتجريم الاختفاء القسري.

رابعاً: مناهج البحث: تعتمد الدراسة على عدد من المناهج، وعلى رأسها: المنهج الوصفي والتحليلي والمقارن، وذلك بتقديم وصف موجز لحالات الاختفاء القسري في العراق ودراسة الالتزامات النابعة من انضمام العراق إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من جريمة الاختفاء القسري لعام 2006، مع تحليل التشريعات العراقية وكذلك مشروعات القوانين المتعلقة بتجريم الاختفاء القسري ومقارنتها فيما بينها وبالمواثيق الدولية ذات الصلة.

خامساً: خطة البحث: من أجل تسليط الضوء على السياسة الجنائية للمشرع العراقي في مواجهة جريمة الاختفاء القسري سنقسم هذا البحث على أربعة مباحث، نستعرض في المبحث الأول حالة الاختفاء القسري في العراق، ونبيّن في المبحث الثاني التزامات العراق بموجب الاتفاقية الدولية لعام 2006، ونبحث في المبحث الثالث في تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العراقية، ونتناول بالدراسة في المبحث الرابع تجريم الاختفاء القسري في مشروعات القوانين العراقية، وعلى الوجه الآتي:

المبحث الأول

حالة الاختفاء القسري في العراق

أشارت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين في تقريرها الخاص بالعراق إلى أعداد كبيرة جداً من الأشخاص المفقودين، واصفة ذلك باعتباره مشكلة ذات أبعاد عميقة، وبحسب تقديراتها بأن هناك ما بين(250,000) إلى مليون شخص مفقود بعد عقود من الصراع وانتهاكات حقوق الإنسان(اللجنة الدولية لشؤون المفقودين). ويوصف العراق بأنه أحد البلدان التي تضم أكبر عدد من المفقودين في العالم. كما وهناك مئات الآلاف من المفقودين تركوا خلفهم عائلات تعيش في حالة من عدم اليقين وهي في صراع بين الأمل واليأس بانتظار سماع أخبار عن مصير أحبائها وقد يطول الأمر في بعض الأحيان لعقود(الصليب الأحمر، 2022).

وتشير اللجنة الدولية المعنية بحالات الاختفاء القسري في تقريرها المقدم إلى منظمة الأمم المتحدة في ضوء زيارتها العراق خلال (12-25) نوفمبر 2022 واستناداً إلى تقاريرها المقدمة إلى السلطات العراقية في الأعوام (2015)، (2016)، (2020)، (2023)، إلى مرور العراق بخمس حقب تأريخية تضمنت موجات كبيرة من الاختفاء القسري، ونستعرضها بإيجاز على الوجه الآتي:

أولاً: حقبة (1968-2003)، وهي الحقبة التي تمتد منذ استلام النظام العراقي البائد السلطة في العراق في 17 يوليو 1968 حتى سقوطه عام 2003، وهي حقبة سابقة على نفاذ الاتفاقية الدولية لعام 2006، ولكنها تؤخذ بنظر الاعتبار في ضوء الطبيعة المستمرة لجريمة الاختفاء القسري، وفيها تعرّض ما يقارب (290,000) شخصاً للاختفاء القسري، بضمنهم حوالى مائة ألف كُردي إبان عمليات الإبادة الجماعية (حملات الأنفال) التي شنها النظام العراقي عام 1988 في كُردستان العراق. كما تعرض أنصار الحزب الشيوعي العراقي وحزب الدعوة لحملات دموية تضمنت حالات عديدة من الاختفاء القسري(اللجنة المعنية بالاختفاء القسري،2014، ف 17، 18). وقد أعربت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة غير مرة عن قلقها البالغ من شيوع ظاهرة الاختفاء القسري في العراق، ومن ذلك في تقريرها في نوفمبر 1997(لجنة حقوق الإنسان، 1997)، كما وأكد كل من المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في العراق للمدة (1991- 1999)السيد (فان دير شتويل)، ومثله المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في العراقللمدة (1999-2004) السيد (اندرياس مافرومايتس) في تقاريرهما إلى منظمة الأمم المتحدة على شيوع ظاهرة االاختفاء القسري، وأشارا إلى ممارسات واسعة لهذه الجريمة(E/CN.4/94/58،E/CN.4/2001/42). وعلى وفق تقرير الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي فأن ما يربو على (16,400) حالة اختفاء قسري حصلت قبل عام 2003(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2014، فقرة 10). كما شهدت الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) اختفاء (50,000-70,000) شخصاً بافتراض موالاتهم لإيران. وليست بغائبة عن الأذهان حملات التهجير القسري التي تعرض لها الأكراد الفيليون في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي بحجة التبعية الإيرانية والولاء للعدو الفارسي، التي تضمنت كذلك اختفاء (5,000 إلى 25,000) كُردي فيلي لا يعرف مصيرهم حتى الآن(عيسى، 2023، ص2). كما غيبّت السلطات العراقية بعد غزو الكويت عام 1990 الآلاف من المواطنين العراقيين(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2022، الفقرتان 14، 15). وعموماً مثلت هذه الجريمة أبرز أساليب النظام الدكتاتوري الذي حكم العراق للمدة (1968-2003) وراح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب العراقي الذين اختفوا نتيجة لانتماءاتهم السياسية أو العرقية أو الطائفية وانقطعت أخبارهم ولم يعثر على جثثهم حتى اليوم.

ثانياً: حقبة احتلال العراق عام 2003 ولغاية ما قبل سيطرة (داعش): شهدت حقبة ما بعد احتلال العراق حملات اعتقالات واسعة لأكثر من مائتي ألف عراقي، بضمنهم (96,000) عراقي تعرضوا للاختفاء القسري لمدد متفاوتة، ومنها ما وصلت إلى أشهر، بل وسنوات. وفي ظل سياسة (اجتثاث البعث) وارتباطاً بحل الجيش العراقي وتنامي الفصائل المسلحة اختفى عشرات الآلاف من الأشخاص، وخلال عامي (2006-2007) تسلم معهد الطب العدلي في بغداد أكثر من عشرين ألف جثة دون التمكن من التعرف على هويات معظمها. كما شهدت محافظة تكريت وغيرها بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 حملة قمع واسعة اختفى إثرها كثير من الأشخاص المحتجزين. كما وتعرض خلال عملية (ثأر الشهداء) عام 2013 ما بين (1,000) إلى (1,500) شخصاً للاختفاء القسري(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 16-19).

ثالثاً: حقبة داعش (2014-2017): في العاشر من يونيو 2014 سيطر تنظيم (داعش) الارهابي على مدينة الموصل، وبدأت حقبة جديدة من حالات الاختفاء القسري في العراق، وكان ضحاياها من منتسبي الحكومة العراقية والسياسيين ومنتسبي القوات العسكرية والأمنية والأطباء والصحفيين والسجناء وممثلي المكونات الدينية المسيحية والأيزيدية وغيرهم. وشهدت منطقة (سنجار) اختطاف حوالى (6,800) أيزيدي، مازال حوالى (3,000) مجهول المصير. كما ما زال مصير الكثير من النسوة الآشوريات والشبك والتركمان مجهولاً أيضاً. وقد أدى احتدام الصراع مع هذا التنظيم الإرهابي إلى تنامي الفصائل المسلحة، وبخاصة بعد فتوى آية الله العظمى السيستاني، ومن ثم تشكيل قوات الحشد الشعبي، التي قاتلت ضد داعش على جانب القوات المسلحة العراقية. الا أنها على صعيد آخر لعبت دوراً كبيراً في احتجاز الآلاف من الفارين، وبخاصة (السنة)، من المناطق التي كانت تحت سيطرة (داعش)، كما وجه الاتهام إلى قوات (البيشمركة) أيضاً بممارسة الاختفاء القسري إزاء أشخاص يعتقد بانتمائهم إلى تنظيم داعش في محافظة كركوك. وشهدت مدينة الموصل عام 2017 وفي نطاق حملات البحث عن مناصري تنظيم (داعش) احتجاز كثير من الأشخاص الذين كانوا من المتعاونين معه إبان احتلال الموصل. وهناك كثير من البلاغات بخصوص حالات الاختفاء القسري في تلك المناطق التي أعاد الحشد الشعبي السيطرة عليها من تنظيم (داعش)، ومنها محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى ونينوى، وكذلك مناطق من بغداد و(جرف الصخر) في بابل (اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 20-25).

رابعاً: حقبة الاحتجاجات الشعبية (2018-2020): استهلت الاحتجاجات في يوليو 2018 في مدينة البصرة احتجاجاً على سوء الخدمات الأساسية ونقصها، ومن ثم تصاعدترافعة شعارات سياسية في نوفمبر 2019 في مدينة بغداد ومدن آخرى. وفي نطاقها سقط عديد من المشاركين فيها جرحى وقتلى كما وتعرّض كثير منهم للاختفاء القسري، سواء من جانب القوات الأمنية أم الفصائل المسلحة (المليشيات). وسجلت بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق (يونامي) ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مقتل (478) متظاهراً وإصابة (7715) آخرين، في حين بلغ عدد الأشخاص المختفين أكثر من (700) شخصاً وذلك خلال عامي 2019-2020(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفرقتان 27، 28) .

خامساً: حقبة ما بعد الاحتجاجات وحتى الوقت الراهن:  شهد العراق ما بعد الاحتجاجات في الأعوام (2018-2021) حالات كثيرة للاختفاء القسري ارتكبتها الأجهزة الحكومية بصورة مباشرة، وكان أفرادها يرتدون عادة (زياً رسمياً أو شارات للشرطة المحلية أو قوات الأمن)، أو ارتكبتها الفصائل المسلحة بزيها الرسمي. كما جرى الإبلاغ عن حالات اختفاء قسري ارتكبتها الفصائل المسلحة (المليشيات) مع التواطؤ مع الأجهزة الحكومية.كما وتعرض الآلاف من الأطفال للاختفاء القسري وبخاصة أطفال النساء الأيزيديات اللاتي تعرضن للاستعباد الجنسي من طرف تنظيم (داعش)، الذين غالباً ما يكون آباؤهم من الأجانب والذين ولدوا في ظل سيطرة التنظيم الإرهابي والذين لا يمتلكون ما يدل على هويتهم(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 28-31).

إضافة إلى ذلك، أحالت اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري خلال المدة ما بعد زيارتها العراق في نوفمبر 2022 وحتى 29 مارس 2023 (578) حالة اختفاء قسري جديدة إلى السلطات العراقية وهي في نطاق الطلبات التي يتوجب بخصوصها أن تتبع إجراءات عاجلة استناداً إلى المادة (30) من الاتفاقية الدولية لعام 2006، هذا علماً أن اللجنة سبق أن أحالت إليها (16,775) حالة خلال المدة (1980-2013) الا أنها بقيت دون رد، كما أن السلطات العراقية المعنية لم تحدد الإجراءات المتخذة بخصوص توصيات اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، مما دعا اللجنة إلى التأكيد في تقاريرها الخمسة المتعلقة بحالات الاختفاء القسري في العراق على عدم إيفائه بالتزاماته النابعة من المادة (30) من الاتفاقية الدولية لعام 2006،  التي تقضي بأن تتعاون الدولة الطرف مع اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، بالنظر في طلباتها والرد عليها وعلى استفساراتها(الاتفاقية الدولية، 2006، م 30).

والملاحظ كذلك أن الحكومة العراقية سبق أن شكلت في عامي (2016، 2018) لجنتين لتقصي الحقائق في حالات الاختفاء القسري، وكان من المنتظر صدور تقارير عنهما الا أن ذلك لم يحدث حتى الآن.

وتسجل اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري في تقريرها عدداً من الملاحظات والتوصيات التي ترى أهمية الأخذ بها بغية التصدي لحالات الاختفاء القسري في العراق، والتي نوجزها على الوجه الآتي:

أولاً: إن الأطر الحكومية وغير الحكومية في العراق تستخدم في الغالب مصطلح (المفقود) بدلاً من مصطلح (المختفي)، مما يستبعد كثيراً من ضحايا الاختفاء القسري بجعلهم مفقودين، كما ويجعل المفقودين ضحايا للاختفاء القسري، ومن ثم فأن اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، بينّت في تقريرها الأخير أن مصطلح (المفقود) ينطبق على ضحايا الكوارث الطبيعية أو ما يماثلها، وأن المصطلح الواجب استخدامه هو (الاختفاء القسري) تحديداً الذي هو من صنع البشر، والذي يشمل ثلاثةأصناف، هي: أ) الاختفاء القسري الذي يرتكبه موظفو الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأشخاص يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ب) الاختفاء القسري الذي ترتكبه جهات غير حكومية دون إذن أو دعم من الدولة أو موافقتها، ج) الاختفاء القسري بوصفه جريمة ضد الإنسانية، بما في ذلك عندما ترتكبه جهات غير حكومية. وهذا التفسير له أهميته بالنسبة لتجريم الاختفاء القسري في القانون الوطني، كونه يبيّن الطبيعة القانونية لجريمة الاختفاء القسري، كما يميّز الاختفاء القسري عمّا يماثله (اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 49-51) .

ثانياً: أشارت اللجنة إلى أن الدول الأطراف، وهذا ما ينطبق على العراق أيضاً، تتحمل المسؤولية عن أفعال الاختفاء القسري التي يرتكبها الموظفون العامون بصرف النظر عن ظروف ارتكابها، كما تتحمل المسؤولية في حال ارتكابها من طرف الجهات غير الحكومية، مثل المنظمات الإجرامية، التي تتصرف بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها. ويتحقق رضاء الدولة عن قيام الجناة بارتكاب أفعال الاختفاء القسري في حالة علمها بذلك أو عندما توجد أسباب تجعلها تعلم أو كان ينبغي أن تعلم بارتكاب الاختفاء القسري أو وجود تهديد حقيقي ووشيك بارتكابه. وهذا ما يعني أيضاً أن المسؤولية لا تستبعد عن الدولة في حالة ارتكاب مجموعات أو أشخاص الاختفاء القسري من دون إذنها أو دعمها أو موافقتها، فهي تكون مسؤولة عنه كذلك في حالة عدم إجراء التحقيق في حالات الاختفاء القسري وعدم تقديم الجناة إلى العدالة، وهي تتحمل المسؤولية أيضاًإن تخلفت عن البحث عن الضحايا وتحديد أماكنهم، أو عن إعادة جثثهم إلى أهاليهم بصورة كريمة، وبصفة عامة إن تخلفت عن الإيفاء بالتزاماتها إزاء الضحايا، وبخاصة الأطفال منهم. كما أن الالتزام ببذل العناية يكون مضاعفاً عندما يتعلق الاختفاء القسري بالنساء والفتيات، وذلك في ظل الصلة الوثيقة بين الاختفاء القسري والعنف الجنسي وقتل الإناث والاتّجار بهن(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرتان 52، 53).

ثالثاً: على الرغم من وجود تشريعات عراقية كثيرة لها صلة بالاختفاء القسري، وبخاصة: قانون العقوبات لعام 1969، وقانون أصول المحاكمات الجزائية لعام 1971، وقانون شؤون المقابر الجماعية لعام 2015، وقانون الطب العدلي لعام 2013، وقانون تسجيل الولادات والوفيات لعام 1971، وقانون مؤسسة الشهداء لعام 2006، وقانون وزارة شؤون الشهداء والمؤنفلين لإقليم كُردستان العراق لعام 2006، وقانون المفقودين في حملات الإبادة الجماعية لشعب كُردستان العراق لعام 1999، وقانون حقوق وامتيازات وحيد الإبادة الجماعية لعام 2015، وقانون الناجيات الأيزيديات لعام 2021، الا أن أياً منها لا يتضمن تعريفاً لجريمة الاختفاء القسري، الأمر الذي يؤدي إلى الخلط في المفاهيم، مما يحول دون التحديد الواضح لنطاق هذه الجريمة ومسؤولية الدولة. كما ويحد انعدام الوضوح بدوره من وضع الخطط اللازمة لمعالجة الاختفاء القسري، “فالعمل على جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني لن يجدي في حقيقة الأمر نفعاً”. وفي ظل تعدد التشريعات العراقية وتعدد مشروعات القوانين المقدمة فأن اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري توصي بإنشاء إطار قانوني موحد يعالج مختلف حالات الاختفاء القسري. كما توصي بأنه يجب على الدولة الطرف (العراق)، ودون مزيد من التأخير، أن تحدد الطريقة التي تعتمدها في تجريم الاختفاء القسري في تشريعها الوطني، سواءً أكان ذلك بإصدار قانون خاص بالاختفاء القسري أم بإدارجه في قانون العقوبات بوصفه جريمة قائمة بذاتها، وذلك في ضوءالاستناد إلى أحكام الاتفاقية الدولية لعام 2006(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرتان 60، 61) .

رابعاً: توجد في الوقت الراهن على صعيد العراق أكثر من (17) مؤسسة أو هيئة حكومية يمكن أن تضطلع بمتابعة حالات الاختفاء القسري، هذا إضافة إلى مختلف الهيئات القضائية المتمثلة في محاكم الأحوال الشخصية ومحاكم التحقيق والمحاكم الابتدائية والمحكمة الجنائية المركزية للعراق وجهاز الأمن الوطني، كما وتتدخل في ذلك منظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وفريق التحقيق الدولي المنشأ لدعم الجهود الرامية إلى مساءلة تنظيم داعش وبعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة للعراق ومكتب حقوق الإنسان التابع لها والمنظمة الدولية للهجرة واليونسيف وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة واللجنة الدولية لشؤون المفقودين، وغيرها، وهذا ما يؤدي من جهة إلى تداخل الصلاحيات وكذلك عدم التنسيق أو ضعفه من جهة ثانية مما يعوق تجسيد أهداف عملية معالجة حالات الاختفاء القسري وأن توافرت النوايا الحسنة(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 64-71). وهذا ما يستدعي، في رأي اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، إيجاد آليات للتنسيق بين هذه الأطر المختلفة للتعاون فيما بينها وتوحيد أهدافها في البحث عن الأشخاص المتعرضين للاختفاء القسري مع أهمية تزامن ذلك مع العمل المشترك على تحقيق المساءلة القانونية الفعلية للمتهمين في ارتكابها.

خامساً: على الرغم من وجود مختلف الأطر الوطنية لمتابعة حالات الاختفاء القسري في العراق الا أنه لا توجد حتى الوقت الحاضر قاعدة بيانات رقمية يمكن أن تشكل سجلاً وطنياُ موحداً لحالات الاختفاء القسري المقترفة منذ عام 1968 ولحد الآن، تجري بصورة دائمة مراجعته وتحديثه، وأن يتضمن تحديداً للعدد الإجمالي لحالات الاختفاء القسري وهويات الضحايا وبياناتهم الشخصية وحالة إجراءات البحث والتحقيق، مع معلومات تفصيلية عن استخراج جثث الضحايا ونتائج التشريح وتحديد الهوية، ومكان الاختفاء وتأريخه وظروفه وجميع العناصر المعتمدة في تحديده بوصفه اختفاءً قسرياً. وهذا السجل الوطني يتوجب أن يكون متاحاً لجميع الأشخاص الذين لهم مصلحة مشروعة، وبما يضمن حماية المعلومات الشخصية والحساسة، وأن يكون في متناول أجهزة البحث والتحقيق للاستفادة  منه في أداء مهامها(اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، 2023، الفقرات 82-89) .

وفي ضوء ما تقدم، نرى إن العمل على تجريم الاختفاء القسري في التشريع العراقي واعتماد الآليات الكفيلة بالكشف عن حالات الاختفاء القسري وملاحقة الاشخاص المتهمين في ارتكابها يمكن أن يكون له الأثر الكبير في التصدي لهذه الظاهرة وردع مرتكبيها بما يسهم في تعزيز مرتكزات السلم والأمن في المجتمع العراقي.

 

المبحث الثاني

التزامات العراق بموجب الاتّفاقية الدولية لعام 2006

إنضم العراق إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 بموجب القانون رقم (17) لعام 2009(قانون الإنضمام، 2010)، ومن ثم بات إحدى الدول الأطراف فيها مما فرض عليه بموجبها ومنذ تأريخ نشره في الجريدة الرسمية (الوقائع العراقية) في 12 يونيو 2010 عدداً من الالتزامات الدولية التي تتمثل فيما يأتي:

أولاً: تضمنت ديباجة الاتفاقية الدولية لعام 2006 التأكيد على التزام الدول الأطراف فيها بميثاق منظمة الأمم المتحدة واستنادها إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 في عقدها العزم على التصدي لحالات الاختفاء القسري ومكافحة الجناة فيها من العقاب، مما يشير في الوقت نفسه إلى التزامها بهذه المواثيق الدولية ذات الصلة المباشرة بحماية حقوق الإنسان بصفة عامة، وإلى أن الاختفاء القسري يشكل انتهاكاً لما تضمنته من أحكام، مما يستوجب توفير الحماية الدولية منه بصفة خاصة.

ثانياً: أكدت ديباجة الاتفاقية الدولية لعام 2006 على أن الدول الأطراف تعبّر في تصديها لحالات الاختفاء القسري ومعاقبة الجناة فيها عن استنادها كذلك وبصورة خاصة إلى إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 1992، وهذا ما يعني في رأينا أن الأحكام الواردة في هذا الإعلان الدولي باتت تشكل بدورها التزامات دولية على عاتق الدول الأطراف في الاتفاقية الدولية لعام 2006، وبخاصة: عدم ممارسة أعمال الاختفاء القسري أو السماح به أو التغاضي عنه وأن تتعاون مع منظمة الأمم المتحدة في القضاء على هذه الظاهرة على الصعيدين الوطني والإقليمي(الإعلان الدولي، 1992، م2)،وأن تتخذ التدابير التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها لمنع حالات الاختفاء القسري في أراضيها(الإعلان الدولي، 1992، م3)، وأن تجرم في تشريعاتها العقابية أعمال الاختفاء القسري وتعاقب عليها بالعقوبات المناسبة على وفق شدة جسامتها(الإعلان الدولي، 1992، م4 ف1)، وكذلك عدم التذرع بالظروف الاستثنائية أو حالة الطوارئ لتسويغ حالات الاختفاء القسري على أراضيها(الإعلان الدولي، 1992، م7)،أو التحجج بصدور أوامر بممارسة الاختفاء القسري، سواءً أكانت الجهة التي أصدرت هذه الأوامر عسكرية أم مدنية أياً كانت، ومن ثم يتوجب على من يتلقاها الامتناع عن تنفيذها(الإعلان الدولي، 1992، م6)،وأنتلتزم بالامتناع عن طرد أي شخص أو إعادته أو تسليمه إلى دولة أخرى إذا ما كانت تعتقد أن هناك اعتقاداًجدياًباحتمال تعرضه للاختفاء القسري على وجه الخصوص(الإعلان الدولي، 1992، م8)، وأن تعمل على الكشف السريع والفعال عن حالات الاختفاء القسري على أراضيها، بما في ذلك معرفة مصير الضحايا والجهة التي كانت وراء اختفائهم القسري وأماكن وجودهم وضمان دخول الجهات التحقيقية الوطنية إلى أي مكان يحتمل وجودهم فيه، مما يشكل ضمانة مهمة لمنع وقوع الاختفاء القسري(الإعلان الدولي، 1992، م9)  .

ثالثاً: يتوجب على الدول الأطراف بموجب الفقرتين الأولى والثانية من المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لعام 2006 أن تحظر الاختفاء القسري في قانونها الوطني حظراً مطلقاً، بحيثلا يكون هناك مسوغ لارتكابه في الأحوال كافة سواءً أكان ذلك في حالة الحرب أم التهديد بالحرب، أم في حالة انعدام الاستقرار الداخلي أم أية حالة طوارئ عامة أخرى(الاتفاقية الدولية، 2006، م 1 ف1، ف2).

رابعاً: تلتزم الدول الأطراف بتحديد الاختفاء القسري باعتباره جريمة مستقلة انطلاقاً من تعريفه الوارد في المادة الثانية في الاتفاقية الدولية لعام 2006 بأنه: “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”، كما ويتوجب عليها على وفق المادة الخامسة من الاتفاقية الدولية لعام 2006 عدّ ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما يعرفها القانون الدولي(الاتفاقية الدولية، 2006، م2، م5)،وهذا ما يشير إلى أهمية الأخذ بتعريف الاختفاء القسري بوصفه إحدى الجرائم ضد الإنسانية كما ينص عليها النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية(النظام الأساس، م 7).

خامساً: يتوجب على الدول الأطراف ضمان استبعاد أية استثناءات أمام المساءلة الجزائية للجناة في جريمة الاختفاء القسري، فعلى وفق الفقرة الأولى (أ) من المادة السادسة من الاتفاقية الدولية لعام 2006تتخذ كل دولة طرف التدابير اللازمة لتحميل المسؤولية الجزائية بالنسبة: “لكل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئاً أو يشترك في ارتكابها”، كما تطال المسؤولية الجزائية بموجب الفقرة الأولى (ب) من المادة نفسها الرئيس إذا كان على علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته الفعليتين قد ارتكب أو كان على وشك ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح، أو كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التي ترتبط بهذه الجريمة، أو لم يتخذ التدابير اللازمة والمعقولة كافة التي كان بوسعه اتّخاذها للحيلولة دون ارتكابها أو قمع ارتكابها أو عرض الأمر على السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة(الاتفاقية الدولية، 2006، م6).

وعلى وفق منظمة العفو الدولية يتوجب على الدول الأطراف ضمان عدم استثناء جريمة الاختفاء القسري من أنظمتها المقيدة، ومن ذلك عدم تطبيق قرارات العفو فيما يتصل بهذه الجريمة، وأن تضمن إمكانية تحميل الأشخاص المسؤولية الجزائية فيما يتعلق بارتكاب جريمة الاختفاء القسري على إنفراد أو بالاشتراك مع شخص آخر أو من خلاله وبغض النظر عما إذا كان ذلك الشخص نفسه مسؤولاً مسؤولية جزائية(لا للإفلات، 2011، ص 13) .

سادساً: يتعين على الدول الأطراف البت بحالات الاختفاء القسري، سواءً أكان ذلك بناءً على بلاغ أم من دونه، وأن تجسد في مجال ممارسة صلاحياتها القضائية مبدأ الاختصاص العالمي، وذلك من خلال البت في دعاوى الاختفاء القسري في حالة وجود مرتكب الجريمة في نطاق إقليمها ما لم يجري تسليمه إلى دولة أخرى. وكذلك النص في معاهدات تسليم المجرمين المبرمة على جريمة الاختفاء القسري إلى جانب الجرائم المسوغة للتسليم، مع الامتناع عن تسليم أي شخص إلى دولة أخرى في حالة وجود اعتقاد باحتمال تعرضه فيها للاختفاء القسري، وذلك انطلاقاً من أن جريمة الاختفاء القسري لا تعدّ من الجرائم السياسية أو المرتبطة بها أو المرتكبة بناءً على دوافع سياسية(الاتفاقية الدولية، 2006، م 13) .

سابعاً: تضمنت الاتفاقية الدولية لعام 2006 عدداً من الأحكام المتعلقة بكفالة حقوقالضحية في جريمة الاختفاء القسري، الذي عرفته الفقرة الأولى من المادة (24) منها بأنه:”الشخص المختفي وكل شخص طبيعي لحق به ضرر مباشر من جراء هذا الاختفاء القسري”، في معرفة الحقيقة عن ظروف الاختفاء القسري، وسير التحقيق ونتائجه ومصير الشخص المختفي وكذلك الحق في جبر الضرر والحصول على تعويض بشكل سريع ومنصف وملائم(الاتفاقية الدولية، 2006، م 24). وعلى وفق منظمة العفو الدولية يتوجب أن تتخذ كل دولة طرف التدابير الملائمة في هذا الصددفي الحصول على جبر الضرر الوافي على نحو يتسق مع أحكام القانون الدولي، مع إيلاء عناية خاصة لحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي التي يكون ضحاياها من النساء والرجال الذين يمكن أن يكونوا قد استهدفوا بالعنف الجنسي وبغيره من أشكال العنف، وكذلك بحالات الأشخاص الذين ينتمون للفئات المستضعفة كالأطفال( لا للإفلات، ص 52).

ثامناً: تشكل اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، التي أُنشأت بموجب المادة (26) من الاتفاقية الدولية لعام 2006 آلية رقابية دولية على تطبيق الاتفاقية الدولية ذاتها أو الرقابة على الدول الأطراف فيها سواءً على تطبيقها لالتزاماتها الدولية النابعة منها أم على حالات الاختفاء القسري فيها، وتضمهذه اللجنة عشرة من الخبراء في نطاق حقوق الإنسان، ويمارسون عملهم فيها بصفتهم الشخصية وبحيادية كاملة(نصيف، 2014، 159)، وتنتخبهم الدول الأطراف في (الاتفاقية) وفقاً للتوزيع الجغرافي العادل، مع مراعاة التوزيع المتوازن بين الرجال والنساء لمدة أربع سنوات، ويمكن إعادة انتخابهم مرة واحدة(جنادي، 2018، ص 351).

وبالنظر للدور الكبير الذي تضطلع به هذه اللجنة “تتعهد كل دولة طرف بالتعاون مع اللجنة وبمساعدة أعضائها أثناء اضطلاعهم بولايتهم، في حدود مهام اللجنة التي قبلتها كل دولة طرف”(الاتفاقية الدولية، 2006، م 26، ف 9)، كما وفرضت الاتفاقية الدولية لعام 2006 على الدول الأطراف فيها عدداً من الالتزامات المتمثلة فيما يأتي:

– يتوجب على الدول الأطراف على وفق المادة (29) من الاتفاقية أن تقدم إلى اللجنة عن طريق الأمين العام لمنظمة لأمم المتحدة في غضون سنتين من بدء نفاذها لديها تقريراً أولياً عن التدابير التي اتّخذتها تنفيذاً لالتزاماتها الدولية بموجب اتفاقية 2006. ويجوز للجنة أن تبدي ملاحظاتها وتعليقاتها وتوصياتها على هذا التقرير إلى الدول الأطراف المعنية التي لها أن ترد عليها من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب اللجنة. كما ويجوز للجنة مطالبة الدول الأطراف بمعلومات تكميلية عن تطبيق الاتفاقية(الاتفاقية الدولية، 2006، م 29).

وتكمن أهمية التقارير الدورية التي تقدمها الدول الأطراف، التي يتيحها الأمين العام للأم المتحدة للدول الأطراف كافة(الاتفاقية الدولية، 2006، م 29 ف2)، في لفت أنظار المجتمع الدولي إلى التدابير التي تعتمدها امتثالاً للاتفاقية، كما يسهم تبادل التقارير بين الدول في تمكينها من الاطلاع على تجارب مكافحة ظاهرة الاختفاء القسري فيها، مما يتيح الإمكانية للدول المتقدمة بتقاريرها من مراجعة قوانينها فيما يتعلق بإنفاذ الاتفاقية الدولية لعام 2006 وكذلك تطبيقاتها. فاللجنة لا تملك صلاحية اتّخاذ قرارات ملزمة التنفيذ بالنسبة للدول الأطراف، وإنما تبدي ملاحظاتها وتوصياتها على تقاريرها المقدمة(المدور، 2009، ص 42).

– استناداً إلى المادة (30) من الاتفاقية الدولية لعام 2006 يجوز للجنة تلقي طلبات من أقارب الشخص المختفي أو ممثليهم القانونيين أو محاميهم أو أي شخص مفوض من قبلهم وكذلك أي شخص له مصلحة مشروعة من أجل البحث عن ذلك الشخص والعثور عليه. ويجوز للجنة في مثل هذه الحالة أن تطلب إلى الدولة الطرف المعنية تزويدها، وفي غضون المهلة التي تحددها لها، بمعلومات عن حالة الشخص الذي يجري البحث عنه، كما يجوز لها في ضوء المعلومات التي تردها من الدولة الطرف أن تقدم إليها توصيات باتّخاذ الإجراءات اللازمة كافة، بما في ذلك تحديد مكان الشخص الذي يجري البحث عنه وحمايته وفقاً لأحكام الاتفاقية، مع مطالبتها بإحاطة اللجنة علماًبالتدابير المتخذة خلال مهلة محددة، واضعة في الاعتبار الطابع العاجل للحالة. مع إعلاماللجنة في الوقت عينه الشخص المتقدم بالطلب بتوصياتها وبالمعلومات الواردة إليها من الدولة الطرف حال توافرها. وتواصل اللجنة جهودها ما دام مصير الشخص الذي يجري البحث عنه لم يتضح بعد.

– يجوز للجنة بموجب المادتين (32) و (33) من الاتفاقية الدولية لعام 2006 أن تتلقى أية بلاغات من الدول الأطراف بانتهاك دول أطراف أخرى لالتزاماتها الدولية النابعة من الاتفاقية، ويجوز للجنة كذلك إخطار الدولة الطرف المعنية بذلك وعن عزمها تكليف أحد أعضائها أو أكثر لزيارتها وحال الاتفاق على ذلك تقوم اللجنة بزيارتها ومن ثم تقدم إليها ملاحظاتها وتوصياتها.

وفي ضوء عرض أهم ما نصت عليه الاتفاقية الدولية لعام 2006 من التزامات دولية تتعلق بمواجهة حالات الاختفاء القسري فأن الدول الأطراف فيها ملزمة بالإيفاء بها سواءً فيما يتعلق بالتعاون فيما بينها أم على الصعيد الوطني، والعراق بوصفه إحدى هذه الدول فأن ملزم بذلك، لاسيما وأنه إحدى الدول العشرين التي كان لها الدور الأساس في إنفاذ الاتفاقية الدولية لعام 2006، كما وأنه إحدى أبرز الدول التي تعاني في الوقت الراهن من حالات الاختفاء القسري.

 

المبحث الثالث

تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العراقية

إنقانون العقوبات العراقي لعام 1969يخلو من تجريم الاختفاء القسري(عيسى، 2021، ص 2)،وبخلاف ذلك ينص قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005على تجريمه في المادة (12/ ثانياً/ ز) منه بوصفه إحدى الجرائم ضد الإنسانية، وتنص المادة (24) منه على تحديد عقوبتها على أساس العقوبات التي ينص عليها قانون العقوبات العراقي لعام 1969، والتي يمكن أن تصل إلى عقوبة الإعدام(الأعظمي، 2020، ص 68).

وتحت عنوان (الإخفاء القسري) عرف المشرع العراقي الاختفاء القسري في نص المادة (12/ ثانياً/ ز) من قانون المحكمة بأنه “إلقاء القبض على أشخاص، أو احتجازهم، أو اختطافهم من قبل الدولة، أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عنه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو عدم إعطاء معلومات عن مصيرهم، أو عن أماكن وجودهم، بهدف حرمانهم من حماية القانون مدة زمنية طويلة”(قانون المحكمة، 2005، م 12/ثانياً/ ز).

كما وتضمن قرار المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (5) الصادر في 26/10/2010 تعريفاًلجريمة الاختفاء القسري بأنها إلقاء القبض على سكان مدنيين أبرياء أو اعتقالهم ووضعهم في معتقلات من قبل أجهزة الدولة الأمنية ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص الذين تم اعتقالهم من حريتهم أو إخفاء معلومات عن مصيرهم أو مكان وجودهم وذلك بهدف حرمانهم من الحماية القانونية مدة زمنية طويلة وذلك في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي منظم(قرار المحكمة، 2010، ص 89).

وفي ضوء هذين التعريفين عدّ الاختفاء القسري جريمة من الجرائم الواقعة على الإنسانية، مع التأكيد فيهما على أهمية تحقق شروط هذا النوع من الجرائم الدولية التي تتمثل في أنها من الانتهاكات الواقعة على المدنيين وفي سياق هجوم واسع النطاق ومنهجي منظم. هذا إضافة إلى إبراز شرط الحرمان من حماية القانون لمدة زمنية في كلا التعريفين، وهو ما يعدّ من الشروط الرئيسة التي تتحقق على أساسها جريمة الاختفاء القسري.

ومن خلال مقارنة تعريف الاختفاء القسري الوارد في المادة (12/ ثانياً/ ز) من قانون المحكمة مع أحكام المواثيق الدولية يتبيّن أن المشرع العراقي استعان في صياغته له بنص المادة (7) فقرة (2/ ط) من النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، التي عرفته بأنه: “إلقاء القبض على أي أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية ، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة”.ويمكن أن يلاحظ التطابق الكامل بين نصي المادة (12/ ثانياً/ ز) في قانون المحكمة والمادة (7) فقرة (2/ ط) من النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، مما يعني أن المشرع العراقي أخذ بالتعريف المذكور دون أية تعديلات.

إن تجريم الاختفاء القسري بوصفه من الجرائم ضد الإنسانية في قانون المحكمة لعام 2005 هو ما يحسب للمشرع العراقي، الا أن القانون المذكور يعدّ أحد القوانين الخاصة، ومن ثم فأنه يمكن أن يطبق في ظل عدد من الشروط، والتي تتمثل فيما يأتي:

أولاً: حددت المادة الأولى (ثانياً) من قانون المحكمة أن ولاية المحكمة تسري على كل شخص طبيعي متهم بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد (11، 12، 13) من القانون المرتكبة من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003 في جمهورية العراق أو أي مكان آخر، وتشمل جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانيه وجرائم الحرب وانتهاكات القوانين العراقية. ومن ثم فأن المشرع العراقي استثنى الجرائم التي تدخل في ولاية المحكمة من مبدأ (عدم رجعية قانون العقوبات على الماضي)، كون قانون المحكمة يسري بأثر رجعي على الجرائم التي حددها، التي ارتُكبت في المرحلة السابقة على نفاذة من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003.

إن مبدأ عدم رجعية قانون العقوبات على الماضي،الذي يراد به أن النصوص الجنائية لا تسري إلا على الوقائع اللاحقة على نفاذها، فهي لا تمتد للماضي وتحكم فعلاً وقع في ظل قانون سابق، بمعنى أن تأريخ نفاذ القانون يكون الفيصل في تحديد ما يخضع و ما لا يخضع له من أفعال(محمود، 1982، ص 28، إبراهيم، 1998، ص 92)، يستند إلى الفقرة (عاشراً) من المادة (19) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 التي تنص: “عاشراً: لا يسري القانون الجنائي بأثر رجعي إلا إذا كان أصلح للمتهم”(دستور العراق، 2005، م 19 عاشراً)،كما ويستند كذلك إلى الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون العقوبات العراقي لعام 1969 التي تنص على أن: “يسري على الجرائم القانون النافذ وقت ارتكابها ويرجع في تحديد وقت ارتكاب الجريمة إلى الوقت الذي تمت فيه أفعال تنفيذها دون النظر إلى وقت تحقق نتيجتها”(قانون العقوبات، 1969، م 2 ف1). ومن ثم فأن المشرع العراقي يشترط سريان التشريع العقابي النافذ زمان ارتكاب الجريمة، ويستخلص من ذلك أن قانون المحكمة لعام 2005 جاء بخلاف المادة الثانية من قانون العقوبات العراقي لعام 1969 كونه يعدّ سارياً على جرائم وقعت قبل صدوره.

إن تجريم حالات الاختفاء القسري المقترفة خلال المرحلة (من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003) بأثر رجعي في قانون المحكمة لعام 2005 يمكن أن يثير دون شك تساؤلاًعما إذا كان هذا يشكل انتهاكاًلمبدأ عدم رجعية قانون العقوبات على الماضيأو انتهاكاًللتشريعات العراقية النافذة، وبخاصة دستور جمهورية العراق لعام 2005 وقانون العقوبات العراقي لعام 1969؟

إن من خصائص جريمة الاختفاء القسري أنها من الجرائم المستمرة، ومن ثم فهي تعدّ قائمة ما لم يكشف النقاب عن الجريمة أو عن مصير الضحية، وعلى ذلك نصت الفقرة الأولى من المادة (17) من الإعلان الدولي لعام 1992 على أنه: “يعتبر كل عمـل مـن أعمـال الاختفاء القسري جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير ضحية الاختفـاء ومكان إخفائه، وما دامت هذه الوقائع قد ظلت بغير توضيح”(الإعلان الدولي، 1992، م 17). كما بيّن الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي بهذا الخصوص أن “حالات الاختفاء القسري نموذج للأفعال المستمرة. ويبدأ الفعل عند الخطف ويستمر طوال الفترة التي لم تنته فيها الجريمـة، وبعبـارة أخرى، إلى أن تعترف الدولة بالاحتجاز أو تنشر المعلومات المتعلقة بمصير الفـرد أو مكـان وجوده”(أفضل الممارسات، فقرة 33).

ومن ثم فأن هذه الطبيعة للاختفاء القسري تعدّ أساساً لتطبيق أحكام قانون المحكمة لعام 2005 على حالات الاختفاء القسري المرتكبة خلال المرحلة الزمنية المحددة، وأن كان ارتكابها قبل نفاذه. وهذا ما قضت به أيضاً المادة الرابعة من قانون العقوبات العراقي لعام 1969 بنصها على أن: “يسري القانون الجديد على ما وقع قبل نفاذه من الجرائم المستمرة …”(قانون العقوبات، 1969، م 4).

إضافة إلى ذلك،إن اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لعام 1968(الاتفاقية، 1968)تستبعد سقوط الجرائم ضد الإنسانية بصفة عامة وجريمة الاختفاء القسري بصفة خاصة بالتقادم، ومن ثم فأن الجريمة تبقى قائمة ومرتكبها يبقى عرضة للمساءلة الجزائية وأن بقي هارباً من العدالة لمدة زمنية طويلة أو إلى أجل غير محدد.وهذا ما يكرس المساءلة الجزائية للجناة ويطرح امكانية تطبيق أحكام قانون المحكمة لعام 2005 على حالات الاختفاء القسري بصرف النظر عن المدة الزمنية المنقضية، وهذا ما أكدّه قانون المحكمة أيضاً في الفقرة الرابعة من المادة (17) بنصها على أن: “لا تخضع الجرائم المنصوص عليها في المواد (11، 12، 13، 14) من هذا القانون للتقادم المسقط للدعوى الجزائية و للعقوبة”(قانونالمحكمة، 2005، م 17 ف 4).

ثانياً: إن ولاية المحاكم طبقاً لمبدأ إقليمية القانون الجنائي تسري على جميع الأشخاص الموجودين على إقليم الدولة بصرف النظر عن جنسياتهم ومراكزهم، أي إن الأشخاص الموجودين ضمن حدود الدولة كافة تسري عليهم الإجراءات القانونية عند ارتكابهم للجرائم، ومن ثم يخضعون لاختصاص المحاكم الجزائية(ناصر، 2017، ص 105)، وحدد قانون المحكمة لعام 2005 اختصاصه الشخصي في الفقرة (ثانياً) من المادة الأولى التي تنص على أن “تسرى ولاية المحكمة على كل شخص طبيعي سواءً كان عراقياً أم غير عراقي مقيم في العراق …”(قانون المحكمة، 2005، م 1 فقرة 2)، مما يعني أن ولاية المحكمة فيما يتعلق بجريمة الاختفاء القسري تسري على الجناة، سواءً أكانوا عراقيين أم غير عراقيين، على أن يكونوا من المقيمين في العراق وقت ارتكاب الجريمة.

إضافة إلى ذلك، تضمنت أحكام المحكمة عدداً من الضمانات لتحميل الجناة المسؤولية الجزائية وكفالة عدم إفلاتهم من العقاب، وهذا ما يحسب للمشرع العراقي، فعلى وفق الفقرة (ثالثاً) من المادة (15) من قانون المحكمة: “لا تعدّ الصفة الرسمية التى يحملها المتهم سبباً معفياً من العقاب أو مخففاً للعقوبة سواء كان المتهم رئيساً للدولة أو رئيساً أو عضواً لمجلس الوزراء، ولا يجوز الاحتجاج بالحصانة للتخلص من المسؤولية المذكورة في المواد (11)، (12)، (13)، (14) من هذا القانون”. كما نصتالفقرة (رابعاً) من المادة نفسها على أن: “لا يعفى الرئيس الأعلى من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها الأشخاص الذين يعملون بإمرته إذا كان الرئيس قد علم أو كان لديه من الأسباب ما يفيد العلم بأن مرؤوسه قد ارتكب هذه الافعال أو كان على وشك ارتكابها ولم يتخذ الرئيس الإجراءات الضرورية والمناسبة لمنع وقوع هذه الأفعال أو أن يرفع الحالة إلى السلطات المختصة بغية إجراء التحقيق والمحاكمة”،كما نصتالفقرة (خامساً) من المادة ذاتها على أنه: “في حالة قيام أى شخص متهم بارتكاب فعل تنفيذاً لأمر صادر من الحكومة أو من رئيسه فأن ذلك لن يعفيه من المسؤولية الجنائية ويجوز أن يراعى ذلك في تخفيف العقوبة إذا رأت المحكمة أن تحقيق العدالة يتطلب ذلك”(قانون المحكمة، 2005، م 15 ف ثالثاً- خامساً).

وفي ضوء ما تقدم فأن قانون المحكمة لعام 2005 يمكن أن يطبق على حالات الاختفاء القسري التي تعدّ من الجرائم ضد الإنسانية، على أن تكون من الجرائم المقترفة خلال المرحلة من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/ 5/ 2003، سواءً أكان الجناة من العراقيين أم غيرهم من المقيمين في العراق وقت ارتكاب الجريمة، وهذا كما تقدم ذكره مما يحسب للمشرع العراقي، الا أن ذلك لا يعني بكل أسف إيفاء العراق بالتزاماته الدولية النابعة من الاتفاقية الدولية لعام 2006، وبضمن ذلك تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العقابية الوطنية، ويعود ذلك لعدد من الأسباب، التي نلخصها على الوجه الآتي:

أولاً: إن قانون المحكمة يعدّ قانوناً خاصاً صدر من حيث الأساس لغرض محاكمة أركان النظام السابق، وحتى في حالة طرح مسألة تطبيقه على حالات الاختفاء القسري، فأنه لا يمكن أن يطبق الا على حالات الاختفاء القسري المرتكبة للمرحلة بين 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003، في حين يستبعد تطبيقه على غيرها.

ثانياً: أن المشرع العراقي يجرم الاختفاء القسري في قانون المحكمة بوصفه من الجرائم ضد الإنسانية لا غير، وهذا ما يستبعد إمكانية تطبيقه على حالات الاختفاء القسري التي لا تعدّ كذلك، وإلى ذلك أشار الفريق العامل المعني بالاختفاء القسري أو غير الطوعي إلى أن التجربة تُبيّن “أن حالات الاختفاء القسري لا تحدث غالباً في إطار هجـوم واسـع النطاق أو منهجي ضد المدنيين. ومن هذا المنظور، فإن قصْر تجريم القانون المحلي للاختفـاء القسري على ارتكابه حصراً في هذا السياق المحدد يعني أن الكثير من أعمال الاختفاء القسري ستظل خارج نطاق القانون الجنائي المحلي وخارج اختصاص المحاكم الوطنية”(أفضل الممارسات، فقرة 16).

وتأسيساً على ما تقدم يتوجبعلى المشرع العراقي المسارعة إلى تجريم الاختفاء القسري والعقاب عليه في التشريع العقابي النافذ، وعلى وجه التحديد في قانون العقوبات العراقي لعام 1969 ذلك لأن كثيراً من حالات الاختفاء القسري في ظل خلو هذا القانون من تجريم الاختفاء القسري وقصور التجريم في قانون المحكمة لعام 2005 تبقى خارج نطاق التجريم والعقاب، مما يستدعي تدخل المشرع العراقي من أجل معالجة هذا القصور التشريعي.

 

المبحث الرابع

تجريم الاختفاء القسري في مشروعات القوانين العراقية

سبق لوزارة العدل العراقية الاتحادية أن تقدمت إلى مجلس النواب العراقي عام 2018 بمشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري، كما تقدمت رئاسة جمهورية العراق بمشروع آخر بشأن قانون العقوبات عام 2021، تضمن في المادة (422) منه تجريم الاختفاء القسري، وسنسلط بإيجاز الضوء على مضمون كل منهما، وعلى الوجه الآتي:

أولاً: مشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري لعام 2018:يتضمن مشروع القانون سبعاً وعشرين مادة، وجاءت موزعة على ثمانية فصول، وبيّن المشرع العراقي (الأسباب الموجبة)لإصداره بأنه: “لغرض منع حالات الاختفاء القسري ومكافحة إفلات مرتكبي جريمة الاختفاء القسري من العقاب والالتزام بتعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية احتراماً عالمياً أو فعلياً وتطبيقاً لما جاء في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري شرع هذا القانون”، كما حصرت المادة الأولى منه الأهداف منه فيحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، ومنح الضحايا الحق في الحصول على تعويض عادل، وتعزيز أمن واستقرار المواطنين”(مشروع القانون، الأسباب الموجبة، م1).

وتضمنت الفقرة الأولى من المادة الثانية من مشروع القانون تعريفاً لجريمة الاختفاء القسري بأنها: “…الاعتقال والاحتجاز أو الاختطاف أو أى شكل من أشكال الحرمان من الحرية الذي يتم على أيدى موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من الحرية أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”، وهذا التعريف يتوافق حرفياًمع تعريف هذه الجريمة في المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لعام 2010، وأن كان هذا ما يحسب للمشرع العراقي، فأن ما لا يحسب له ما ورد في الفقرة الثانية من المادة نفسها، كونها نصت على تحقق الاختفاء القسري أيضاً في حالة انتزاع الأطفال الخاضعين للاختفاء قسرياً والذين يخضع أحد أبويهم أو من يمثلهم قانوناً للاختفاء القسري أو الأطفال الذين يولدون أثناء وجود أمهاتهم في الحجز نتيجة لاختفاء قسري. وهذه الحالة وردتفي المادة (25/ أولاً) من الاتفاقية الدولية لعام 2010 وهي خاصة بالأطفال الذين يتعرضون للتغييبأو لتزوير وثائقهم الثبوتية أثناء وجودهم مع أحد أبويهم المختفين قسرياً أو الذين يولدون في الحجز(الاتفاقية الدولية، 2006، م 25 ف 1-5). وهذا في رأينا لا يتوافق من جهة مع التعريف الدولي لجريمة الاختفاء القسري، ومن جهة ثانية أن الأطفال في هذه الحالة لا يعدّوا من ضحايا هذه الجريمة، وما يتعرضون له لا يوصف بكونه اختفاءً قسرياً على وفق تعريفه في الاتفاقية الدولية لعام 2006.

وجاء مضمون الفقرة (ثالثاً) من المادة الأولى من مشروع القانون مكملاً لتعريف جريمة الاختفاء القسري في الفقرة (أولاً) من المادة نفسها كونه جرّم الأفعال ذاتها الواردة فيها وذلك في حالة ارتكابهامن أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن أو دعم أو موافقة من الدولة باعتبارها من حالات الاختفاء القسري، ومن ثم فأن المشرع العراقي عاقب على أفعال الاختفاء القسري التي يرتكبها موظفو الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، وكذلك من يرتكبها من دون إذنها أو دعمها أو موافقتها، وهذا النهج الذي اتبعه المشرع العراقي يجسد مضمون المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية لعام 2010التي تنص على أن: “تتخذ كل دولة طرف التدابير الملائمة للتحقيق في التصرفات المحددة في المادة 2 التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن أو دعم أو موافقة من الدولة، ولتقديم المسؤولين إلى المحاكمة”(الاتفاقية الدولية، 2006، م 3) .

واستكمل المشرع العراقي تجريم صور الاختفاء القسري كافة من خلال المادة الثالثة من مشروع القانون التي تنص علىأن: “تشكل ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المطبق”، وهو ما أخذ به بصورة جزئية من المادة الخامسة من الاتفاقية الدولية لعام 2010. ومن ثم فأن مشروع القانون يعاقب على جريمة الاختفاء القسري بوصفها جريمة مستقلة، على وفق تعريفها في المادة الأولى منه، كما ويعاقب عليها بوصفها من الجرائم ضد الإنسانية في المادة الثالثة منه، وهذا ما يحسب للمشرع العراقي، الا أن العقاب عليها في الحالة الثانية ربما يثير اشكاليات بالنسبة لاتّخاذ العقوبة الجزائية، ولاسيما وأنها تتعلق بإحدى الجرائم الدولية التي لا يعاقب عليها التشريع العراقي.

والملاحظ أن المشرع العراقي يهمل، وربما من دون قصد، النص على الحظر المطلق لجريمة الاختفاء القسري الوارد في الفقرة (أولاً) من المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لعام 2010، التي تنص على أنه: “لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري”، في حين أنه ينص، وهذا ما يحسب له، في الفقرة (أولاً) من المادة الرابعة من مشروع القانون على عدم تسويغ ممارسة الاختفاء القسري من خلال التذرع بظرف استثنائي سواءً أتعلق الأمر بحالة حرب أم التهديد باندلاع حرب أم بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي أم أي حالة استثنائية أخرى، كما نصت الفقرة (ثانياً) من المادة نفسها على أنه: “لا يجوز التذرع بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو أية تعليمات صادرة عن سلطة عامة سواءً كانت مدنية أو عسكرية أو غيرها كمبرر للجريمة”، وهو ما يتوافق مع مضمون الفقرة (ثانياً) من المادة الأولى والفقرة الثانية من المادة السادسة من الاتفاقية الدولية لعام 2010.

وعاقبت الفقرة الأولى من المادة الخامسة من مشروع القانون بالسجن على جريمة الاختفاء القسريالوارد تعريفها في المادة الثانية (أولاً) منه، في حين عاقبت بالسجن المؤبد في حالة توافر أحد الظروف المنحصرة في: وفاة المجنى عليه، أو لدى ارتكاب الجريمة إزاء إمرأة حامل أو قاصر أو معاق، أو إذا اشتمل الاختفاء القسري على تعذيب بدني أو نفسي أو أي شكل من أشكال الإكراه ضد المجنى عليه، أو اغتصابه أو حدوث إجهاض أو عاهة مستديمة(مشروع القانون، م 6 ف 2 أ-د). ونرى أنه كان من اللازم أن يعاقب المشرع العراقي على جريمة الاختفاء القسري مع توافر الظروف المشددة بالسجن المؤبد أو الإعدام، وذلك ارتباطاً بدرجة خطورتها ولانتشارها على صعيد العراق، كما يرتكبها في الغالب أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم أو موافقة من الدولة. كما ويلاحظ أن المشرع العراقي اعتمد في تحديد الظروف المشددة أحكام الفقرة (2/ب) من المادة السابعة من الاتفاقية الدولية لعام 2010،  الا أنه أغفل فيها الأشخاص (القابلين للتأثر بشكل خاص)، مما لا يحسب للمشرع العراقي(الاتفاقية الدولية، 2006، م 7 فقرة 2 ب).

وعاقبت المادة التاسعة من مشروع القانون الرئيس الأعلى بوصفه شريكاً على جرائم الاختفاء القسري، التي يقترفها مرؤوسوه، وذلك في الحالات الآتية:

أ- اذا علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته أو رقابته الفعليتين قد ارتكب أو شرع بارتكاب جريمة أو تعمد إغفال أو إخفاء معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح.

ب- كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التى ترتبط بها الجريمة.

ج- لم يتخذ التدابير اللازمة أو المناسبة التى كان بوسعه اتّخاذها للحيلولة دون ارتكاب الجريمة أو منع ارتكابها أو عرض الأمر على السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة(مشروع القانون، م9).

وقد أخذ المشرع العراقي في صياغته هذه بأحكام الفقرة (1/ب) من المادة السادسة من الاتفاقية الدولية لعام 2010، الا أنه كان يتوجب ألّا يغفل نص الفقرة (1/أ) من المادة نفسها التي تنص على تحميل المسؤولية الجزائية: “لكل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئاً أو يشترك في ارتكابها”، مما لا يحسب له.

ومن خلال ما تقدم ذكره يلاحظ أن واضعي المشروع حرصوا على الأخذ بأغلب أحكام الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2010، الا أن ذلك لم يكن موفقاً أو دقيقاً كما يتوجب.

ثانياً: مشروع قانون العقوبات العراقي لعام 2021: تحت عنوان (الإخفاء القسري) تعاقب المادة (422) من مشروع القانون على جريمة الاختفاء القسري. وتتكون هذه المادة من ثلاث فقرات، أدرج المشرع العراقي في الأولى منها تعريفاً للجريمة، وحدد في الفقرتين الثانية والثالثة العقوبات المترتبة على ارتكابها. وعلى وفق الفقرة الأولى منها: “الاخفاء القسري يعني القبض على أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية الذي يتم من موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بأذن أو بدعم من سلطة مختصة أو بموافقتها ويعقبها رفض الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو مكان وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون مدة زمنية طويلة”(مشروع القانون، 2021، م422 ف1).

ومن ثم فقد أخذ المشرع العراقي في تعريفه في مشروع القانون بصورة حرفية بنص المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لعام 2010، وهذا التعريف مشابه وإلى حد كبير للتعريف الوارد في المادة (12/ثانياً/ز) من قانون المحكمة لعام 2005، بأن الاختفاء (الإخفاء) القسري هو “إلقاء القبض على أشخاص، أو احتجازهم، أو اختطافهم من قبل الدولة، أو منظمة سياسية، بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عنه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو عدم إعطاء معلومات عن مصيرهم، أو عن أماكن وجودهم، بهدف حرمانهم من حماية القانون مدة زمنية طويلة”، وهو كما تقدم ذكره مقتبس حرفياً من نص المادة السابعة (فقرة 2/ط) من النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998.

إضافة إلى ذلك يمكن تسجيل الملاحظات الرئيسة الآتية:

(1)     إن مشروع قانون العقوبات ينص على مسؤولية الدولة وحدها عن جريمة الاختفاء القسري، كونه لا يشير إلى (المنظمة السياسية)، الوارد ذكرها في تعريف جريمة الاختفاء القسري في النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، إذ أنه ينص على أن الجناة، هم من الموظفين وخلافهم، الذين يتصرفون بأذن أو بدعم من سلطة (مختصة) أو بموافقتها.

(2)     إتبع المشرع العراقي في المادة (422) من مشروع قانون العقوبات النهج نفسه الذي أخذ به في المادة (12/ ثانياً/ ز) من قانون المحكمة لعام 2005 بالنص على أن رفض الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو مكان وجودهم هو بهدف حرمانهم من حماية القانون مدة زمنية طويلة، وهو ما جاء غير متوافق مع ما ورد في نص المادة الثانية من مشروع قانون الاختفاء القسري بأن الحرمان من حماية القانون هو النتيجة الإجرامية التي يستهدفها رفض الإقرار بحرمان الجناة من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو مكان وجودهم.

واستناداً إلى الفقرة (ثانياً) من المادة (422) من مشروع قانون العقوبات: “يعاقب بالسجن على الجريمة الموصوفة في البند (أولاً) من هذه المادة، وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا كانت مدة الإخفاء تزيد على ثلاثين يوماً”، وبموجب الفقرة (ثالثاً) منها: “تكون العقوبة الإعدام إذا نشأ عنها الموت”(مشروع القانون، م 422، ف 2، ف 3). ومن ثم فأن تشديد العقوبة، بتطبيق عقوبة السجن المؤبد بدلاً من السجن، جاء مرتبطاً بطول مدة الاختفاء القسري، على أن تزيد على ثلاثين يوماً، أو أن تترتب على الاختفاء القسري وفاة المجنى عليه، مما يستدعي اتّخاذ عقوبة الإعدام.

ونرى إن المشرع العراقي لم يكن موفقاً في النهج الذي اعتمده في تجريم الاختفاء القسري في مشروع قانون العقوبات لعام 2021، فمن الملاحظ أنه لا يعاقب على جريمة الاختفاء القسري بوصفها من الجرائم ضد الإنسانية، مما يستوجب معالجة ذلك، هذا إضافة إلى أن مشروع قانون الاختفاء القسري لعام 2018 جاء إلى حد كبير، كما تقدم ذكره، متضمناً كثيراً من الإيجابيات مقارنة به. وفي الأحوال كافة نرى أهمية تجريم الاختفاء القسري في قانون العقوبات على وجه التحديد، مع مراعاة الملاحظات المطروحة على مشروعي القانونين، وبما يجسد إيفاء العراق بالتزاماته الدولية وبما يتوافق مع المواثيق الدولية ذات الصلة.

 

الخاتمة

تتلخص أبرز الاستنتاجات والتوصيات النابعة من هذا البحث فيما يأتي:

أولاً: الاستنتاجات:

1)      شهد العراق إبان النظام العراقي البائد حالات كثيرة للاختفاء القسري، بل أنها إزادت خلال المرحلة ما بعد سقوطه في عام 2003 ولحد اليوم، الأمر الذي وثقته المنظمات الدولية والوطنية لحقوق الإنسان، كما أولته منظمة الأمم المتحدة اهتمامها ودعت السلطات المعنية في العراق إلى التصدي له باتّخاذ التدابير التشريعية والإدارية الملائمة.

2)      صادق العراق في 20 مارس 2009 على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 ، ولكن على الرغم من أنه شهد ومازال يشهد حالات واسعة لجريمة الإختفاء القسري للأشخاص الا أن قانون العقوبات العراقي رقم (111) لعام 1969 لا يتضمن حتى الآن نصاً خاصاً بتجريم الاختفاء القسري، مما يشكل انتهاكاً لالتزاماته الدولية النابعة منها.

3)      تشكل اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 أساساً قانونياً دولياً مهماً بالنسبة للحظر المطلق لجريمة الاختفاء القسري وتعريفها، وتتضمن تحديداً لعناصرها الرئيسة وصورها كجريمة ضد الإنسانية وكجريمة مستقلة بحد ذاتها، كما أنها تنص على إنشاء اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، التي تعنى في المقام الأول بمراقبة تنفيذ الدول الأطراف لالتزاماتها النابعة منها.

4)      تكتسب اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 أهمية كبيرة على صعيد مواجهة جريمة الاختفاء القسري وذلك من خلال فرض عدد من الالتزامات الدولية على الدول الأطراف فيها وبخاصة فيما يتعلق بالتعاون الدولي بهذا الخصوص، والأخذ بعدد من الآليات التي يتوجب عليها اعتمادها للتصدي لها ومعاقبة مرتكبيها.

5)      على الرغم من أن قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005 يجرم الاختفاء القسري في المادة (12/ أولاً/ ط) منه، الا أن نصها لا يمكن أن يطبق على حالات الاختفاء القسري كافة، كونه يتعلق بالعقاب على الجرائم ضد الإنسانية، كما أنه لا يسري على حالات الاختفاء القسري المعاصرة، فوفقاً للمادة الأولى (أولاً) منه يطبق هذا القانون على الجرائم المرتكبة خلال المرحلة من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/ 5/ 2003.

6)      تكللت جهود المشرع في العراق على صعيد مواجهة حالات الاختفاء القسري بطرح مشروعي قانونين بهذا الخصوص، أولهما مشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري لعام 2018، وثانيهما مشروع قانون العقوبات لعام 2021، الذي تضمن تجريماً لها في نص المادة (422) منه، وهذا مما يحسب له. الا أنهما مازالا يتطلبان جهداً إضافياً لاستكمالهما، وبما يجسد الغاية المبتغاة في التصدي لحالات الاختفاء القسري في العراق.

ثانياً: التوصيات:

1)      نوصي المشرع العراقي بأهمية الالتزام بتطبيق أحكام الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006، وبخاصة الإيفاء بالتزاماته الدولية النابعة منها، ولاسيما فيما يتعلق بتجريم الاختفاء القسري في تشريعاته العقابية، واتّخاذ مختلف التدابير الأخرى اللازمة للتصدي للافلات من العقاب.

2)      نوصي المشرع العراقي بالاستجابة لدعوات منظمة الأمم المتحدة المتكررة بأهمية وسرعة تجريم الاختفاء القسري والعقاب عليه في التشريعات الداخلية، سواءً أكان ذلك عن طريق التشريعات العقابية النافذة أو من خلال إصدار قانون عقابي خاص بالجرائم الدولية، يتضمن العقاب على جريمة الاختفاء القسري.

3)      نوصي المشرع العراقي بتسريع عملية دراسة مشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري ومشروع قانون العقوبات في مجلس النواب العراقي من أجل إقرار أحدهما بغية تجريم الاختفاء القسري في التشريع العراقي ومواجهة إفلات الجناة من العقاب.

4)      نوصي المشرع العراقي بأهمية تجريم الاختفاء القسري في قانون العقوبات على وجه التحديد، إذ لا ضرورة للعقاب عليه من خلال إصدار قانون خاص به، فاعتماد مثل هذا النهج ينطوي على سلبيات عديدة، وعلى رأسها: سلب قانون العقوبات اختصاصه في التجريم والعقاب، وزيادة التضخم التشريعي، واعطاء تصور عن الطبيعة المؤقتة لحالات الاختفاء القسري، وغيرها.

5)      نوصي المشرع العراقي بمراعاة أحكام المواثيق الدولية المتعلقة بمواجهة جريمة الاختفاء القسري، وبخاصة الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 والنظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وكذلك السياسة الجنائية للدول الأخرى في مواجهة هذه الجريمة، عند تجريم الاختفاء القسري في التشريعات العقابية الداخلية.

 

قائمة المصادر

أولاً: الكتب:

1)      إبراهيم، أكرم نشأت، (1998)، القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن، المكتبة القانونية، بغداد.

2)      محمود، ضاري خليل، (1982)، الوجيز في شرح قانون العقوبات، القسم العام، مطبعة بغداد، بغداد.

3)      المدور، هبة عبدالعزيز، (2009) ، الحماية من التعذيب في إطار الاتفاقيات الدولية والإقليمية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت.

ثانياً: الرسائل الجامعية:

1)      الأعظمي، أسامة يوسف نجم، (2020) الحماية الدولية للأشخاص من الاختفاء القسري، دراسة في إطار القانون الدولي، أطروحة الدكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس.

2)      نصيف، صلاح مهدي، (2014)، الحماية الجنائية للأشخاص من الاختفاء القسري في المواثيق الدولية و التشريع العراقي، رسالة ماجستير، كلية القانون والسياسة، جامعة البصرة.

3)      ناصر، مازن خلف، (2015)، الحماية الجنائية للأشخاص من الاختفاء القسري، دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بابل.

4)      جنادي، نسرين، (2018)، الحماية الدولية للأشخاص من الاختفاء القسري، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الجزائر.

ثالثاً: البحوث:

1)      عيسى، حسين عبدعلي، (2021) ، حالات الاختفاء القسري في العراق، وإشكاليات المواجهة من المنظورين السياسي والقانوني، المجلة الأمريكية الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد ( 5 ).

2)      عيسى، حسين عبدعلي، (2023)، مواجهة الافلات من العقاب في ضوء اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والعقاب عليها، (الكُرد الفيليون كحالة للدراسة)، مؤتمر الإبادة الجماعية للكرُد الفيلية، أربيل 2-4 مايو 2023.

رابعاً: المواثيق الدولية:

1)      اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لعام 1968.

2)      إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 1992.

3)      اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006.

خامساً: نظم المحاكم الجنائية الدولية:

1)      النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998.

سادساً: الوثائق الدولية:

1)      التقرير السنوي للمقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في العراق (فان دير شتويل)، الوثيقة (E/CN.4/94/58)، 25 فبراير 1994.

2)      لجنة حقوق الإنسان، الوثيقة (CCPR/C/79/Add.84)، 17 نوفمبر 1997.

3)      التقرير السنوي للمقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في العراق (اندرياس مافرومايتس)، الوثيقة (E/CN.4/2001/42)، 16 يناير 2001.

4)      الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، (أفضل الممارسات المتعلقة بحالات الاختفاء القسري في التشريعات الجنائية المحلية)، 28 ديسمبر 2010.

5)      اللجنة المعنية بالاختفاء القسري، تقرير العراق، الوثيقة ((CED/c/irq/1 ، 25 يوليو 2014.

6)      اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، (CED/C/IRQ/VR/1 )، تقرير عن زيارة العراق في(12-25) نوفمبر 2022، 19 أبريل 2023.

سابعاً: التشريعات العراقية:

1)      دستور جمهورية العراق لعام 2005.

2)      قانون العقوبات العراقي رقم (111) لعام 1969.

3)      قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لعام 2005.

4)      قانون انضمام جمهورية العراق إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري رقم (17) لعام 2009، (الوقائع العراقية)، رقم (4158)، 12 يوليو 2010.

ثامناً: مشروعات القوانين العراقية:

1)      مشروع قانون مكافحة الاختفاء القسري العراقي لعام 2018.

2)      مشروع قانون العقوبات العراقي لعام 2021.

تاسعاً: القرارات القضائية:

1)      قرار رقم (5) الصادر عن الهيئة التمييزية للمحكمة الجنائية العراقية العليا المتعلق بالقضية الخاصة بالأحزاب الدينية العراقية المؤرخ في 26/10/2010.

عاشراً: تقارير المنظمات الدولية:

1)      اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، صفحة العراق، متاح على الرابط الألكتروني:

https://www.icmp.int/ar/where-we-work/middle-east-and-north-africa/iraq/

2)      لا للإفلات من العقاب على الاختفاء القسري، قائمة مراجعة للتطبيق الفعال للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، منظمة العفو الدولية، 2011.

3)      اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 31 أغسطس 2022، (العراق: عائلات المفقودين تتأريخ بين الأمل واليأس، بينما تتواصل عمليات البحث عن المفقودين)، متاح على الرابط الألكتروني:

https://www.icrc.org/en/document/iraq-families-missing-between-hope-and-despair-search-continues

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *