د. مريم بنت سعيد بن حمد العزرية
باحثة شؤون إسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية
سلطنة عمان – مسقط
mariamazri111@gmail.com
0096895068122
الملخص
اختصت الشريعة الإسلامية الربانية باعتمادها منهج يجمع بين البعدين الفردي والجماعي ويحقق تكاملهما، وتناقش الدراسة هذا المبدأ عبر ثلاثة محاور هي: مدخل في مفاهيم وركائز، وخصائص الفردية والجماعية.. معالم التكامل بينهما وضوابطه، وتنزيل ذلك على قضايا المرأة والأحكام الخاصة بها من خلال تطبيقات فقهية.
الكلمات المفتاحية: البعد الفردي والجماعي في الأحكام الشرعية، التوازن والتكامل في الأحكام الشرعية، خصائص التصور الإسلامي، قضايا المرأة، حقوق المرأة.
Integration of the individual and the collective dimension in the legal rulings. Provisions for women as a model
-
Mariam Said Hammed Al-Azari
Researcher at the Ministry of Awqaf and Religious Affairs-
Sultanate of Oman – Muscat
Abstract:
The divine Islamic Sharia has specialized in adopting an approach that combines the individual and collective dimensions and achieves their integration. The study discusses this principle through three axes: an introduction to the concepts and pillars، and the characteristics are the individual and the collective.. The features of integration between them and its controls، and the application of this to women’s issues and their provisions through jurisprudential applications.
Keywords: the individual is a collective dimension in the legal rulings، balance and integration in the legal rulings، the characteristics of the Islamic perception، women’s issues، women’s rights.
المقدمة:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما زاكيين على المصطفى، محمد بن عبدالله وآله وصحبه أجمعين.
يتجاذب النفس البشرية نزعتان فطريتان متقابلتان، هما الفردية والجماعية، تحكُمان ماهية شخصيته وطبيعة حياته ونمطَ عيشه؛ ولهذا بنيت الشريعة الإسلامية على هذين البعدين (الفردي والجماعي) والتوازن بينهما بلا تناقض أو تضاد ولا تصادم أو صراع كما تراه بعض المذاهب الفكرية المعاصرة على اختلاف مشاربها وتنوع رؤاها. وقد قامت صياغة التكاليف الشرعية في الإسلام على نحو يتكامل فيه البعد الفردي والجماعي ويتحرر من انحباسه في القضايا الفردية وابتعاده عن القضايا الكلية. وهذا الأمر يدفع المسلم إلى استشعار مسؤوليته الفردية في رعاية الجماعة وحفظ المجتمع من خلال الحرص على تطبيق الأحكام الشرعية وإن كانت في صورتها المباشرة تمسه كمفرد ولكن في حقيقتها تتعلق بحفظ كليات مجتمعية. فالإسلام كما قال سيد قطب: “يمد ببصره إلى جميع الآفاق ويحسب حسابا لجميع المصالح، ويهدف إلى تحقيق غاية تشمل الإنسانية كلها منذ البدء إلى النهاية، فما يبدو تعارضا في الواقع المحدود، قد لا يبدو كذلك حين نتجاوزه إلى واقع الإنسانية كلها، لا واقع فرد ولا أمة ولا جيل” (قطب، 1993م، ص12).
إن هذه النظرة الكلية البعيدة الأهداف إلى المرأة المسلمة هي التي تفسر لنا فيما يعد نظما عدة في الإسلام لا تفهم حق الفهم إذا هي أخذت جزئيات وتفاريق؛ فإن الإسلام بناء منطقي واقعي متكامل، ينطلق من أسس ُيبني عليها ومقاصد يبتغيها من تفريع جزئياتها، بحيث يمكن الرجوع إلى هذه الأسس وملاحظة الانسجام الداخلي للأحكام الشرعية فيها ومطابقتها للواقع وللفطرة الإنسانية وما تقتضيه أمور سعادتها في الدنيا والآخرة، وهذا الأمر يقتضي تفسير الأحكام الشرعية وخاصة التي تتعلق بالمرأة وقضاياها في نطاق تشريع أسري مجتمعي متكامل ومنسجم يعبر عن فلسفة النظام العائلي بل النظام الاجتماعي في الإسلام؛ مما يستلزم أن تفسر أحكام المرأة في ضوء شموليتها وعدم اجتزائها من سياقها كونها أحكاما تشكل وحدة متكاملة.
مشكلة الدراسة والتساؤلات: تبحث الدراسة في إشكالية وجود بعدين متضادين يؤثران في فهم الدين الإسلامي وأحكامه وهما الفردية والجماعية، وقد نحت فيهما الفلسفات الحديثة اتجاهات كثيرة أثرت على حياة الأفراد والمجتمعات لعصور طويلة، وعليه تحاول الدراسة الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما موقف الإسلام من النزعتين الفردية والجماعية وما مدى توافقه مع المناهج والفلسفات الفكرية الحديثة في تناولهما واعتبارهما؟ وهل استطاع الإسلام الجمع بتوازن وتكامل بين البعد الفردي والجماعي؟ وما أثر ذلك في فهم قضايا المرأة وأحكامها الخاصة؟
أهمية الدراسة وأهدافها: تكمن أهمية الدراسة في إدراك مدى رعاية الإسلام للبعد الفردي والجماعي ومعالم التكامل بينهما وضوابطها، بصورة تساهم في تمكين المسلم من فهم الأحكام الشرعية في ضوء تكامليتها في نسيج واحد متناسق يمثل منظومة التشريع الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق بالمرأة على النحو الصحيح في زمن كثرت فيها مزالق سوء الفهم وضعف التصور الصحيح لمفاهيم الدين الإسلامي الأصيلة.
الدراسات السابقة: بعد البحث والتقصي السريع لم تعثر الباحثة على دراسة مركزة تجمع بين التأصيل للتكامل بين لبعد الفردي والجماعي في التشريع الإسلامي وتنزيل ذلك على قضايا المرأة وأحكامها الخاصة التي كثرت فيها التأويلات ورمي الشبهات المنبثق من سوء فهم هذه الركيزة في تشريع الأحكام، عدا بعض المقالات المنشورة في أحد جوانب هذه الدراسة أو بعض الأوراق البحثية الصغيرة المنشورة في المؤتمرات والمجلات العلمية، وتركز بصورة أكبر في أثر التكامل بين الفردية والجماعية في التربية الإسلامية أو تأصيل أحد البعدين.
منهجية الدراسة: يعتمد البحث على المنهج الاستقرائي مع توظيف المنهج الاستنباطي التحليلي في دراسة محتوى المادة العلمية في إطار التأصيل للموضوع والتنظير له.
خطة الدراسة: اقتضى طرح الموضوع في منهجية علمية بناءً على الخطة الآتية:
المبحث الأول: مفاهيم وركائز الفردية والجماعية
المطلب الأول: مفهوم الفردية والجماعية والموازنة بينهما في الإسلام
المطلب الثاني: ركائز اعتبار الفردية والجماعية في الإسلام
المبحث الثاني: معالم التكامل بين الفردية والجماعية في الإسلام وضوابطه
المطلب الأول: معالم التكامل بين الفردانية والجماعية في الإسلام
المطلب الثاني: ضوابط التكامل والموازنة بين الفردية والجماعية في الإسلام
المبحث الثالث: نماذج فقهية تطبيقية في الأحكام الخاصة بالمرأة
المطلب الأول: الأحكام العامة للمرأة
المطلب الثاني: أحكام في باب الزواج والطلاق
المبحث الأول: مفاهيم وركائز الفردية والجماعية
المطلب الأول: مفهوم الفردية والجماعية والموازنة بينهما في الإسلام
الفرع الأول: مفهوم الفردية والجماعية ومدلولاتهما
أولاً: مفهوم الفردية ودلالاته
الفرد في اللغة تعني الواحد، والذي لا نظير له ولا مثيل له (دريد،1987م، ج2، ص634، وابن منظور، ج3، ص332)، وفي الاصطلاح: هي ما يتناول شيئا واحدا دون غيره (الجرجاني، 1984م، ص312). وفي علم الاجتماع هو وحدة من الوحدات التي يتألف منها المجتمع، كالمواطن في الدولة، أو النحلة في الخلية، فهي آحاد حقيقية يتألف منها الجسم الاجتماعي (صليبا، 1982م، ج2، ص139).
ومنه أخذ مصطلح الفردية أو الفردانية، الذي يرى أن الفرد أساس كل حقيقة وجودية وتمثل القيمة العليا فيه، فتختص بما يتصف به الكائن العاقل من الأصالة أو البعد عن التقليد أو النزوع إلى التحرر (صليبا، 1982م، ج2، ص141)، فهو مصطلح نفسي اجتماعي يتعلق بمدرسة فكرية تفضل مصالح الفرد وحقوقه على الجماعة، وتمجد الاستقلال الفردي عن باقي المؤسسات الاجتماعية والسياسية، كالعائلة والعشيرة (موسوعة جامعة بيرزنت في المعاجم العربية والانطولوجيا)، ويعتبر هذا المذهب امتداداً لآراء فرويد وآراء مدرسة التحليل النفسي الذين يزعمون بأن الفرد هو الضحية الدائمة للمجتمع، وأن المجتمع شيء مفروض عليه من خارج كيانه وكابت لرغباته ومعوق لنموه الأصيل، وقد قام عليه نظام الرأسمالية، ونادى به الوجوديون وغيرهم من المنحلين الذين يقولون بأن الأساس هو وفريدة والإنسان وحريته (قطب، 1989م، ص11، وقطب، 1993م، ص139).
ويرى المفكرون أن الفردانية نزعة فطرية قديمة لها ارتباط كبير بالماهية الإنسانية وذاتيتها، من خلال نزعتها الفردية المتمثلة في حق الحياة وحق الامتلاك وحق الحرية، إلى أن تحولت إلى مناهج وفلسفات تطورت عبر تاريخ الحضارة الإنسانية وقد قام عليها الفكر الحديث وكانت إحدى الركائز التي قام عليها، بالرغم من أنها ليست مذهبا واضح المعالم، فهي مركب من عدة مفاهيم مرتبطة فيما بينها، مثل الاستقلالية والحرية والحقوق والمساواة والعدالة والهوية التي تؤلف مجتمعة مفهوم الفردية كما عرفتها المجتمعات الحديثة، وعليه لها خصائص أخلاقية نفسية وأخلاقية سياسية، حيث تتبنى بموجبه مبدأ سيادة الذات والعقل الفردي المطلق، ومبدأ سيادة الحقوق الفردية والاستقلالية في تحديد مستقبله وحتى قيمه الأخلاقية بشكل حر وبمعزل عن الضغوطات الخارجية (شطارة، 2014م، ص520). فالفرد عند الفلاسفة هو وحده مرجعية أساسية بالنسبة إلى ذاته وإلى مجتمعه في وقت واحد، فهو مرجع القيم وأساسها، وإرادته وحدها هي الحكم في تفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية، والمذهب الفردي في السياسة هو الذي ينادي بالحدّ من سلطان الدولة ودعم الحرية الفردية من أجل ضمان رفاهية الفرد في المقام الأول (خليل، 1984، ص 174).
وهكذا ترسخت أسس الفردية الحديثة مع ارتكازها على مبدأ الانفصال بين داخل المرء وخارجه، فصار الأفراد يؤمنون بأن لهم حقيقة أصيلة مخبأة في ذواتهم، وأنها على نحو ما متناقضة مع الدور الذي يحدده المجتمع المحيط، ويعطي مفهوم الفردانية الحديث قيمة فائقة للأصالة الداخلية اعتمادا على مصداقية الفرد في التعبير عن ذاته، وبذلك ينحاز المفهوم في كليته إلى جانب النفس الداخلية وليس الخارجية (القحطاني، 2022م، ص2)، وذلك خلافا للوضع القائم والفكر السياسي والاجتماعي المسيطر لعقود طويلة في العصور القديمة، حيث كان يعتمد الإنسان على قوة خارجة عن إرادته يستمد منها معنى وجوده وقيمته، حيث شكل مبدأ الإجماع في المجتمعات البشرية على أسس دينية أو تراثية تقليدية أو حتى أسطورية أحد أهم أركانها، فكان الانسان يستمد منها معنى وجوده التي دونها يفقد هذا المعنى.
وقد نتج الفكر الفردي أي الفردانية أو (فلسفة النظام الفردي الحر)، كردة فعل للطغيان الكنسي وفرضه سلطانا مذلاً على كاهل الناس، وكان ردة فعل لاستبداد الإقطاعيين بالأفراد وسلبهم حقوقهم وحرياتهم، فشجعه النظام الرأسمالي القائم على أساسه، ودعوته للفرد للانطلاق بلا قيود، ودفاعه عنه دفاعا عنيفا (قطب، 1992م، ص130)، فكانت الفردانية عبارة عن فكرة احتجاجية على وضع كان قائما، فهي ردة فعل متطرفة ومغالية ضدّ القمع والتقييد وضد الفلسفة الجماعية الاشتراكية وضد أنواع اللامساواة الاجتماعية بوصفها ثابتة ومورثة، وترتدّ الفردانية إلى فكرة دينية مسيحية ثورية في سبيل تحقيق التحرير السياسي والشخصي للأفراد من سلطة الدولة وقيودها، وتقضي بأن جميع البشر متساوون في قيمتهم، وترتكز على فكرة أن قيمة الحرية والحقوق الفردية لا تضاهى أبدا ولا تخضع لسلطان، وقد ازدهرت ونمت في ظل ظروف وعوامل دينية ومادية وفكرية ممتدة عبر العصور، حتى غدت في الفكر الغربي الحديث فكرا سائدا تعامل على أنها حقيقةً كونية ومطلقة وأبدية لا تخضع لأي اعتبارات زمنية ونحوها.
ثانياً: مفهوم الجماعية ودلالته
الجماعية في اللغة من الجمع، وهو مصدر جمع بمعنى الضم، وهو اسم لجماعة الناس، والجماعة من كل شيء يطلق على القليل والكثير (ابن منظور، لسان العرب، ج8، ص53)، وفي الاصطلاح هي ما دون الفردية أي ما يتناول أكثر من واحد، ويدل على آحاد كثيرة مجتمعة، ويطلق في علم النفس الاجتماعي على الصفات أو الأحوال النفسية المشتركة بين آحاد كثيرة مجتمعة، بحيث يؤثر بعضهم في بعض، فينشأ ألوان من التفكير والإحساس والإرادة مختلفة عما يفكر فيه الفرد أو يحس به أو يريده لنفسه، وكثيرا ما تتخذ الجماعات قرارات لم يردها أعضاؤها لو خلوا بأنفسهم؛ لاختلاف شروط الإرادة المشتركة عن شروط الإرادة الفردية، كأن هناك وجدانا جماعيا أو شخصية جماعية تفرض نفسها على الأفراد من الخارج وتملأ نفوسهم من الداخل (صليبا، 1982م، ج1، ص412-413).
وفي الفكر الغربي الحديث يرى أصحاب المذهب الجماعي أن الانسان جماعي النزعة، وأن الواجب على الفرد أن يغمس نفسه في المجتمع ويفني فيه من أجل صالح المجموع، ويرون أن الوجود المستقل للأفراد عن الجماعة وهم من الأوهام (الفاروق ونصيف، 1984م، ص68-69)، وهكذا تقوم فكرة المذهبية الجماعية على إلغاء الفرد وتماهيه الكلي في الجماعة، حتى تجريده من حاجاته مقوماته الحياتية وحاجاته الفطرية وحقوقِه الشخصية، كالتملك والتدين والحرية. ويبالغ أصحاب المذهب الجماعي في إبراز كيان المجتمع حتى يجعلون منه كياناً مقدساً، والفرد لا قداسة له ولا كيان، ولا يحق له أن يملك، ولا يحق له أن يصوغ أفكاره وعقائده وأخلاقه وتقاليده، ولا يحق له أن يعترض على عمل المجتمع أو يصفه بأنه خطأ أو صواب، وهكذا هم في الحقيقة يؤلهون المجتمع ويجعلون الفرد عبداً خاضعاً له (قطب، 1992م، ص131).
وقد ظهرت النزعةُ الجماعية في مقابل النزعة الفردية ورد فعل للمذهب الفردي الرأسمالي، من خلال أطر فكرية ومناهج فلسفية تتمثل في نظرية العقد الاجتماعي لـ(جان جاك روسو)، ونظرية أن الدولة هي الروح الكلية والفكرة المطلقة التي تحقِّق معنى الحياة لـ(جورج هيجل)، ونظرية عالِم الاجتماع (دوركايم) الذي يرى أن المجتمع قوة قائمة بذاته، غير نابعة من كيان الأفراد، ومؤثرة في الأفراد بإرادة مستقلة عن إرادتهم، ( قطب، 1993م، ص139)، والتي بنى على أساسها (كارل ماركس) نظرية الشيوعية ومبادئها، ودعا المجتمع أن يكبت بوحشية الذاتية الفردية بمساعدة الذاتية الجماعية، حتى يثور الإنسان ضد ضميره الأخلاقي وضد الحقيقة والعدل وضد رب الوجود. (الفاروق ونصيف، 1984م، ص69).
الفرع الثاني: الفردية والجماعية في ميزان الإسلام
من خلال ما تقدم مناقشته في مفهوم مصطلحي الفردية والجماعية ومدلولاتهما نلاحظ انقسام الناس حولهما إلى عدة اتجاهات، منهم من غلب الجانب الفردي، ومنهم من غلب الميل الجماعي، ومما لا شك فيه أن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف يعود إلى عدم فهم حقيقة النفس البشرية، وأنها لن تستقيم إلا بالجمع المتزن بالجانبين المتضادين معاً والتوفيق بينهما توفيقاً يؤدي لصلاح الفرد والمجتمع؛ ومن هنا نجد الإسلام يبين حقيقة النفس الإنسانية وطبيعتها التي تجمع بين المتضادات، فإنه “في كلِّ نفسٍ سويَّة ميلٌ للشعور بالفردية المتميزة، بالكيان الذاتي، وميلٌ مقابل للاندماج في الجماعة والحياة معها وفي داخلها. ومن هذين الميلينِ معًا تتكون الحياة؛ ومن ثمَّ لا يكون الإنسان فردًا خالصًا، ولا يكون أيضًا جزءًا مبهمًا في كيان المجموع… ولا تمر على الإنسان لحظة واحدة يكون فيها فرداً خالص الفردية قائماً بذاته، ولا تمر عليه لحظة واحدة يكون جزءاً من القطيع غير متميز الكيان.. عملية مستحيلة غير قابلة للتحقيق. في أشد اللحظات فردية يحمل الإنسان في قلبه مشاعر تربطه بالآخرين، وفي أشد اللحظات جماعية يحس بأنه على الأقل هو الذي ينفذ رغبة الجماعة بذاته، بكيانه الفردي” (قطب، 1993م، ص130-131).
وهكذا يتبين أن الفردية والجماعة من أخطر الخطوط في النفس البشرية، وعليهما -في صورتهما الصحيحة أو المنحرفة- تقوم نظم الحياة كلها صالحها وفاسدها، وعلاقات الحياة كلها سويها أو منحرفها، وسلوك الأفراد والجماعات. ومن هنا قامت نظرية الإسلام على أساس الاهتمام بالنزعتين معا، دون إغفال لأحداهما، أو المبالغة في تقدير واحدة منهما على حساب الأخرى (قطب، 1993م، ص130-131، قطب، 1989م، ص128)؛ فإن تغليب أحدهما على الآخر يولد ردّات فعل مضادة، وعليه كانت المذاهب الفردانية أو الجماعية في حقيقتهما جموح جديدا ينشأ من رد فعل لجموح قديم، وداء جديد تعالج به البشرية من داء قديم، وتحطيم لخصائص الإنسانية في جانب لإنقاذه تحطم خصائصه الأساسية في جانب آخر (قطب، 2005م، ص104).
ومن هنا كانت النظرة الإسلامية المتزنة للفردية والجماعية وقيام المجتمع المسلم على أساس يلائم إنسانيته ويحترم خصائصها، هي في حقيقتها ضرورة إنسانية وحتمية فطرية؛ حتى يعصم البشرية من تدمير الإنسان عن طريق تدمير خصائصه الإنسانية، ومن تدمير الحياة الإنسانية التي لا تقوم بغير إنسان محتفظ بخصائصه الإنسانية في حالة نماء وارتقاء، حتى تتكافأ مع الدور المقسوم لها في هذه الخلافة في الأرض (قطب، 2005م، ص8-9).
وإن مركزية الإنسان في التصور الإسلامي ليست مركزية المشرع والمتحكم في هذا الكون وليست مبنية على أن الإنسان هو محور التغيير في الكون كما جاءت في الفكر الفلسفي الحديث التي تعني أن الإنسان هو المحور الأساسي لكل متغيرات الكون وهو المتفرد بالتحكم والتشريع في وفق مصالحه ورغباته الخاصة ونظراته المحدودة دون اعتبار لوجود التشريعات الربانية التي تؤطره وتضبطه؛ وإنما هي مركزية المستخلف والمُتعبَّد والمعمِّر؛ حيث يربط الإسلام مركزية الإنسان بقضية الاستخلاف والعبادة لله وعمارة الأرض؛ فالإنسان هو نقطة ارتكاز إصلاحية يبني إصلاحه على تعمير الدنيا والآخرة معا، وتحقيق معنى العبودية لله وحده والقائمة على الحرية وعدم الإكراه، ومنوطة بمهمة عمارة الكون القائمة على الإيثار لمصلحة الكل ونفع الكون كله بمكوناته جميعها وليس الأثرة في تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
وتأسيسا على ذلك فإن مدلول الفردانية في ميزان التصور الإسلامي في صورتها التي تحمل معنى التقديس المطلق لحقوق الفرد بما يدفعه إلى التمرد وتجرده عن كل القيود والثوابت والمسلمات الدينية والأخلاقية والمبادئ الاجتماعية التي تحفظ مصلحة الفرد والمجتمع في الوقت نفسه، هو أمر لا يستقيم مع الفكرة والفلسفة الإسلامية في إقرار الحقوق وحفظ الحريات، القائمة على أنها حقوق وحرية خلاقة حافظة لحقوق الجميع بلا تمييز، فهي حقّ طبيعي مقيد بعدم الإضرار بمصالح الآخرين، الذين يشاطرون الفرد الحياة ويقاسمها العيش الاجتماعي المشترك بالضرورة، ومنظم بصورة تحقق التوازن بين الفردية والجماعية وتلبي احتياجاتهما ومتطلباتهما على نحو دقيق بصورة تنتظم معها الحياة وتتحقق الحياة الطيبة للفرد والمجتمع ككل.
والأدهى من ذلك معارضته لما تتضمنه فكرة الفردانية من تغييب لحقيقة الإنسان الرفيعة المكرمة وانتقاصها من خلال تحويلها إلى صورة إنسان عابث يتمحور على إشباع شهواته المادية فقط، مع تعطيل قانون الدين وفصل اتصال الحياة البشرية عن الدين الإلهي الرباني الذي ارتضاه لها سبحانه سبيلا قويما لإصلاح معاشها، يقول تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة: 3)، مقررا حقيقة أن الدين يتصل بمختلف مجالات الحياة، واتصاله بها يتخذ أشكالا وأقدارا متفاوتة، ولكن المشروع الحداثي كما يرى طه عبد الرحمن يقوم على (آلية تفريق المجموع) أو (آلية فصل المتصل)، فانبرى لهذه الأشكال المختلفة من الاتصال بين الدول ومجالات الحياة، ليعطل قانون الدين من هذه المجالات الحيوية، حتى تستقل تلك المجالات بنفسها، تدبيرا وتقديرا… وهكذا فصلت الحداثة العلم عن الدين، وفصلت عنه الفن والقانون، كما فصلت السياسة والأخلاق.. ويعتبر فصل الدين عن الأخلاق أشدها خطرًا وأبلغها أثرًا؛ لما له من انعكاس شديد على صلة الأخلاق والدين بالإيمان، وفتحه الطريق لبعض المعاصرين لأن يدعوا أحوالًا شعورية وأنماطًا سلوكية غير مسبوقة تصادم الوجدان قدر مصادمتها للعقل. (طه، 2014م، ص11-12)، وإن حاول البعض أن يضفي على الفردية مستوى من الجاذبية، وأغرى الفرد بأن تكون له رؤيته المستقلة للحياة، واستقلاله في اتخاذ قراراته ومواقفه القائمة على المتعة والمنفعة المادية الصرفة، فإن ذلك له مساوئ شهدت لها وقائع الحياة، حيث جعلت الفرد كما أشار طه عبد الرحمن في كتابه (بؤس الدهرانية) يعيش تصورات جزئية، تظلله رغبة عدم المشاركة مع الآخرين، ويتسم طابع حياته بالأنانية، والرغبة في التحلل من قيود المسئولية الاجتماعية، لذا كان العزوف الكبير عن الزواج، والتخلي عن مسؤوليات الأسرة (طه، 2014م)، مما جعل البروفيسور اليهودي (يوفال نوح هراري) يؤكد في كتابه (الإنسان الإله) بأن موجز تاريخ الغد في أن المستقبل سيكون مرتبطا بعلاقة الإنسان بالآلة، أما علاقاته الاجتماعية فتضمر وتتآكل، وذلك لأن الفردانية استبدلت الخالق-سبحانه وتعالى- بالإنسان، فأصبحت ذات الإنسان محل التقديس والعبادة (هراري، 2021م، ص253 وص432).
وفي نفس الصدد لا تستقيم الفكرة الإسلامية مع النزعة الجماعية المطلقة أو الشيوعية؛ فإن المجتمع في منظور التصور الإسلامي هو مجموع بشري يترابط أفراده بعلاقات اجتماعية وعاطفية ومالية، وفق منظومة تضبط تلك العلاقات بهدف رعاية المصالح العليا للمجتمع والأسرة، بالإضافة إل تحقيق المصالح الفردية الخاصة لكل فرد، وتقوم على التعاون والتكامل بينهم في سبيل تحقيق مقاصد الخلق والاستخلاف وعمارة الكون. ولذلك شرع الإسلام الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأفراد، وبين الفرد ومجتمعه في توازن دقيق تراعي أصل الخلقة والفطرة وأدوارها الحقيقية، وضبطها بحزمة من التشريعات والآداب والأخلاق، تؤدي إلى تعميق الروابط الرحمية بين أفراده وتقبح من الفردانية المطلقة من خلال رعاية الاعتبارات الدينية والقيمية والأخلاقية بصورة رئيسية.
وهكذا يتجلى أن الشريعة الإسلامية بنيت على بعد فردي وجماعي يتكاملان في منظومة واحدة ويمتزجان في سبيل تحقيق غايات التشريع المرجوة، فكانت صياغة فكر الفرد المسلم وشعوره على أساس أن دور الفرد يتداخل مع دور الجماعة ومرتبط بها، وأن المسؤولية الفردية لا تتعارض مع المسؤولية الجماعية ولا تلغيها وإنما تتكامل معها وتتحرك معها، فتجده يحترم الخصائص الإنسانية ويقدر متطلباتها في سياق حفظ حق الجماعة، وفي المقابل يعلي حق المجموع ولا يعبأ بمصالحِ الفرد بذاته إذا كان ذلك يمسُّ حقوقَ الآخرين أو يسيء إليهم، أو يتنافى مع صالح المجموع، ولذا نص القرآن الكريم على مبدأ العمل الجماعي وتعاونهم المستمر على التغيير الإيجابي للمجتمع، فإن التغيير هو قضية جماعية وإن كانت تأخذ بعدا فرديا؛ ولذا كانت مجمل الآيات التي تحدثت عن التغيير ربطته بالقوم والأمة والأنفس، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ ﴾ (الرعد:11)، ونحوها من النصوص الشرعية الدالة على ذلك.
المطلب الثاني: ركائز اعتبار الفردية والجماعية في الإسلام
الفرع الأول: ركائز الفردية
لقد أقرّ الإسلام النزعة الفردانية في ذات المسلم، فجاءت نصوصه المقدسة تركّز على مساحة واسعة لاستقلال الفرد وتقدير ذاتيته وحريته داخل المجتمع، لكنها ليست فردانية منفلتة بل مسيجة بضوابط وسياج المسؤولية الفردية، وليست حرية تنفي انفصام الفرد عن الجماعة التي ينتمي إليها ويحيا ضمنها باستقلاليته، أو تنفي كونه عضواً مهما في الجماعة التي ينتمي إليها. ويتجلى ذلك من خلال مظاهر كثيرة منها:
أولاً: نصوص وقواعد التكريم الإلهي للإنسان
لقد سبقت الشريعة الإسلامية النظم الاجتماعية في تقرير حرمة النفس الإنسانية وكرامتها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا٧٠﴾ (الإسراء: 70)، فكرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته ذاتها لا من أي عرض آخر، كالجنس أو اللون أو المعتقد ونحوها من المحددات والاعتبارات التي تتصارع البشرية لأجلها وتحكمها كمعايير في حق الأفضلية، وحقوقه الأصيلة مستمدة من تلك الإنسانية التي ترجع إلى أصل واحد (قطب، 2013هـ، ص82)؛ وقد عصم الإسلام النفس الإنسانية وصانها وحفظ لها حقوقها وأمنها وحرم الاعتداء عليها بأي شكل كان، قال تعالى:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ (الأنعام: 151)؛ بل وحفظ حريتها وأوجب العدل والمساواة ومنع التمييز العنصري اتجاهها أو التعالي عليها، فالحرية صنو المساواة، وهما مستمدتان من مبدأ الكرامة الإنسانية التي هي منهل حقوق الإنسان كلها (الزحيلي، 2007م، ص18)، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)، وذلك لأن استشعار الإنسان بكرامته له أهمية بالغة تتمثل في أنه يوجد في نفسه وعيا بذاته يتضمن الإيمان بقيمته والإحساس بعزته واستشعارا للاستعلاء على ما يحيط به من مكونات الطبيعة والنظر إليها على أنها مسخرة من أجله (الدسوقي، 1986م، ص179- 180).
وقد أكد الإسلام على ذلك من خلال دعوته الفرد المسلم إلى الاعتزاز بنفسه وربطها بالله تعالى، في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (المنافقون: 8)، وقال رسول الله r: “لا يحقر أحدكم نفسه” (سنن ابن ماجه، برقم 4008، ج2، ص1328)، بالإضافة إلى تحذيره من أن يكون إمعة أو متابعة غيره أو جماعة دون إدراك ووعي، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)، وقوله r: “لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا” (سنن الترمذي، برقم 2007، ج4، ص364).
ثانياً: رعاية سياق الفطرة الإنسانية
لقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية ملبية لنواميس السنن الكونية ونداء الفطرة الإنسانية الأصيلة ومنسجمة لطبيعة الخلق والتكوين، قال تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ﴾ (الروم:30)، فالفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، ظاهرا وباطنا أي جسدا وعقلا، (ابن عاشور، ص56)، والفطرة البشرية الذاتية مطبوعة على السعي لتحصيل مصالحها، وعليه قرر التشريع الحكيم أحكامه على نحو يلتقي ويتوافق معها في ضوء منهج دقيق وقويم، محاط بسياج من الضبط والتنظيم، حتى تتجه به نحو الطريق الصحيح ولا تنحرف به أو تظله عنه؛ إيمانا منه بأنه حين تستقسم النفس مع فطرتها وحين تلبي حاجاتها وأشواقها، وحين تطلق طاقاتها للعمل والبناء، فإنها تجري مع الحياة في يسر وطواعية، وتمضي مع خط الفطرة الصاعد إلى القمة السامقة، وهي تجد الأنس والاسترواح والطمأنينة والثقة في خط سيرها الطويل (قطب، 2013م، ص31). ويرفض التشريع الإسلامي التحول بما يخالف هذه السنن الكونية أو يخل بها؛ إذ إن المقصد العام من التشريع الإسلامي لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها (ابن عاشور، 2009م، ص59).
ثالثًا: رعاية حقيقة الاختلاف والتفرد الفطري وبناء التكاليف عليها
إن التنوع والاختلاف التكويني بين الناس فطرة إنسانية وسنة من سنن الله الكونية، فقد خلق كل واحد منهم مختلفا عن الآخر لا يشابهه ولا يطابقه، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ (هود: 118-119)، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 22)، وقد أكد الله سبحانه هذا الاختلاف وأقر بالفروق الفردية بين الأشخاص والأفراد في الخصائص والمميزات، أو بمعنى آخر أقر مبدأ المواهب والقدرات المختلفة، قال جل علاه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام: 165)، وهذا التفضيل قد يكون بالجسم أو بالعلم أو بطريقة التفكير أو بالأمور المادية. قال الله حكاية عن طالوت:﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 247).
فالله سبحانه فطر الناس على الاختلاف وحب التفرد، وأراد بينهم التكامل مع الاختلاف، لحكمة أرادها في خلقه وسنن معاشهم؛ إذ لو كان الجميع على وتيرة واحدة ومستوى واحد لما احتاج بعضهم إلى بعض ولما تحقق بينهم هذا الترابط والتواصل والتكامل، وهذا الاختلاف والتمايز بين الأفراد أعطى للحياة معنى، وجعل للفروق الفردية أهمية في تحديد وظائف الأفراد وتميزهم وتنافسهم في الخير، حتى تتحقق مقاصد وجود البشرية في هذه الحياة وتتمكن منم أداء مهام الاستخلاف والتعمير للكون.
ومن سلامة الفطرة الإيمان بسنة الاختلاف والاقرار بها؛ فسلامة الفطرة تقتضي الإيمان بالاختلاف الفطري بين الناس مع احترام هذا الاختلاف والتنوع وما يترتب عليه من مسؤوليات لتحقيق التكامل، وحتى تستقيم الحياة شرع الإسلام نظاما من العدالة والمساواة يقوم على ضوابط وقيم تتعلق بذلك الاختلاف والتنوع الفطري فيحفظ لكل منهما حقوقه وموقعه. وفي هذا الإطار بنيت التكاليف الشرعية والقيم والتشريعات والأخلاقيات على هذه الحقيقة، مثل حق الاعتقاد في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ (البقرة: 256)، وحق الفرد في التملك والاكتساب في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا٣٢﴾ (النساء: 32)، إلى تحمل الإنسان الفرد مسؤولية اختياراته وما اكتسبه في حياته من خير أو شر، قال سبحانه: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا٥﴾ (مريم: 95)، و قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (فاطر: 18)، وكل ذلك يدفع الإنسان للعمل من أجل مصلحة نفسه ونفعها في الدنيا والآخرة، محاسبتها ومراقبتها حتى تؤدي مهامها التي خلقت لأجلها وتنضبط بمنهج الشرع الرباني.
رابعاً: إلزام الفرد بالتكاليف الشرعية وإشعاره بالمسؤولية الفردية التامة
مبدأ التكليف يتحمله كل فرد بعينه، والتكليف يعني أنه الفرد محل ثقة واهتمام وأن وجوده ليس عبثا بل لغايات وأهداف، فالإنسان لم يُخلق سُدًى ولا عبثا بلا مسؤولية، يقول سبحانه وتعالى: ﴿َيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة:36)، وقوله جل علاه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون:115)، وقد أمره بأداء كثير من العبادات العينية، كالصلاة والصيام والزكاة وإتيان الحلال والتحلي بالأخلاق وترك المنكرات، وحثه على النوافل كالصدقات وقيام الليل وصيام النوافل، وهذا يجعله يستشعر المسؤولية الفردية دائما على أعماله وتصرفاته، وعلى غيره ممن كلف برعايته ومسؤوليته، مما يولد في نفسه كيانا مستقلا، بل يجعل نفسه منتبهة لكل ما يمسه ويتعلق به ولو من بعيد، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم:6).
خامساً: الحرص على تحقيق الفرد الخير لنفسه
يشجع الإسلام المسلم على الاهتمام بذاته وتأديبها، فقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى٤٠فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى٤١﴾ (النازعات: 40-41) وحثه بأن يكون قويا وحريصا على استكمال فضائل نفسه واستيفاء مصالحها ومنافعها بمنتهى معاني الإيجابية والتفاؤل، مع الحزم وعدم التسويف أو فتح أبواب الشيطان لتدمير الذات واليأس من بلوغ ذاك المرام، قال رسول الله r: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” (مسلم، برقم 2664، ج4، ص2052).
سادساً: ربط القلب البشري ووجدانه بالله تعالى
بما يجعل الإنسان يشعر بقوته النفسية من خلال اتصاله بقوة عليا مطلقة، فيستشعر استقلاليته وتحرره من عبادة العباد والخضوع لسلطانهم، وقد ربط الله تعالى قلب العباد بالله تعالى من خلال تعريفهم بنعم الله تعالى عليهم، وتعريفهم بصفاته العظيمة كسعة علمه وقدرته وعظيم إبداعه فيهم وفي الكون إطلاقاً، وأنه مالك الملك بيده مقاليد الأمور وتصريفاتها وبيده الخلق والحياة دون العباد الذين لا يملكون ضرا ولا نفعا لأنفسهم ولا أحد منهم، ونحو ذلك مما يتبعه من العبودية والخضوع لله واحده، فيمتلأ قلبه بشحنة إيمانية تصيره فردا إيجابيا له كيانه الخاص وذاتيته المستقلة (نوح، 1990م، ص52-55).
الفرع الثاني: ركائز الجماعية
قدر الإسلام في نفس الإنسان النزعة الجماعية والميل إلى الانتماء إلى الجماعة، فجاء خطابه يركز على تعزيزها وتنظيمها من خلال مظاهر كثيرة منها:
أولاً: إقرار حقيقة أن الجماعية سنة كونية وفطرة إنسانية
فالإنسان ليس بدعا من المخلوقات، وإنما هو واحد منها تقوم حياته بضرورياتها وكمالياتها على معنى التعاون والإيثار، فالدواب على اختلاف أنواعها، والطيور على اختلاف أشكالها، كل مجموعة منها تتعاون فيما بينها لتحقيق المهمة التي خلقت لها، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38)، وقد أكد الواقع ذلك، كجماعة النحل التي تعيش في تعاون وتكامل بينها (نوح، 1990م، ص65-66). وهكذا الإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعة وخلقة، قائمتين في جوهره (الماوردي، 1986م، ص 129)، فلا يمكن أن يحيا وحده على أي حال، فهو لم يزل محتاجًا إلى غيره، بل ومضطرًا إلى التفاعل مع الآخرين، سلبًا وإيجابًا، أخذًا وعطاء، إشارة واستشارة، نفعًا وانتفاعًا، إعانة واستعانة، إغاثة واستغاثة، ذلك لأن المكون الاجتماعي للظاهرة الإنسية إنما يفرز نوعا من الحراك والدينامية البشرية بين الذات والعالم، وهو ما يفيد بأن تكريم الله للإنسان باستخلافه في الأرض لم يكن مبعثه إلا لتحمله مسؤولية نفسه وغيره” (السلاوي، 1996م، ص10)، فالتفاعل مع الجماعة حاجة فطرية تتوافق مع طبيعة الإنسان الخلقية، والفردية المطلقة تنافي الفطرة السليمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ١٣﴾ (الحجرات: 13).
ثانياً: خطاب الشرع جماعة المؤمنين في مواضع كثيرة
جاء خطاب الله تعالى إلى عباده في كثير من المواضع بصيغة الجماعة، كقوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا)، و (يا أيها الناس) ونحوها من الصيغ؛ حتى يتأكّد عندهم الإحساس بالجماعة ومسؤوليتهم عنها، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 103). مما يدل على لزوم بالجماعة في حفظ وحدتهم ومقاومة أعدائهم، والتصدي لأشدهم وهو الشيطان، فقد قال رسول الله r: “فمَن أراد منكم بُحْبُوحةَ الجنَّة، فليلزم الجماعة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد” (الترمذي، برقم 2165، ج4، ص465).
ثالثاً: التأكيد على الجماعية في التكاليف الشرعية والشعائر التعبدية
فرض الإسلام طائفة من التكاليف والشعائر التعبدية أكد فيها على معنى الجماعية لما تنطوي عليه من مضامين فردية اجتماعية من شأنها تعزيز سبل ارتباط الفرد بروح التعاون الاجتماعي والمشاركة الإيجابية الفاعلة مع المجموع، والمسؤولية الاجتماعية المشتركة، فالصلاة مثلاً يقول فيها r: “صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة”، (مالك، برقم 288، ج1، ص129)؛ لأنها تجعل الناس يتواصلون خمس مرات في اليوم الواحد، ويتفقدون أحوال بعضهم بعضًا، ويتعاهدون مصالحهم، وهكذا الحال في الصيام فهو مشاركة جماعية ومساواة في الجوع في فترة معينة من الوقت، والحج كذلك هو ملتقى عام للمسلمين جميعا في بقعة واحدة ومدة زمنية محددة يقومون بأداء مناسك موحدة تجمعهم، وهكذا سائر العبادات، والفروض الكفائية كصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف ونحوها، التي يعتمد فيها الشرع عمل الجماعة بإسقاط وجوبه عن باقي أفراد المجتمع، كل ذلك ينطوي على معاني المشاركة المجتمعية وتحقق الغايات العظمى من التضامن الوجداني الجماعي.
رابعاً: التوجيهات الإلهية لتوطيد العلاقة في المجتمع الواحد
إن الانتماء إلى الجماعة والانصهار في بوتقها مبدأ إسلامي مكين لا تؤثر فيه المصالح الشخصية ولا الرغبات والأهواء الخاصة، فهو يعلو عليها ويخضعها لقانونه، لكي يضحي الفرد من أجل الجماعة ويؤثرها على نفسه، وقد وثق الإسلام علاقة الأمة بعضها ببعض إلى درجة تصل إلى حد الانصهار في جسد واحد يتألم كل عضو فيه لألم العضو الآخر، يقولr: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (مسلم، برقم 2586، ج4، ص1999). وقد حث التشريع الرباني على التكاتف وتحقيق المواساة الاجتماعية، فيقول r: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره، ما يحب لنفسه” (أحمد، برقم 12824، ج3، ص241)؛ بل جعله من علامات كمال الإيمان وصحة العقيدة وسلامتها يقولr: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع” (البيهقي، برقم 19452، ج10، ص3).
ويذكر الله تعالى الإنسانية دائما في كثير من المواضع بوشائج العبودية لله ووحدة الأصل والرحم والأخوة في الله التي تجمعهم وتربطهم وتدفعهم لحسن معاملة بعضهم لبعض وعدم الانتقاص منه أو الاعتداء عليه بما يقض مضجعه ويقلق أمنه واستقراره، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)، وهنا إشارة لطيفة في كون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة وهي أنه لا بد أن يكون بين الناس نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، مما يستوجب زيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض، ولما عرف الناس كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق والمعاملة، وجميع تلك المعاني والمكارم الخلقية تعزز أمن الأفراد وسلامهم في المجتمع. (الرازي، 2000م، ج9، ص130).
خامساً: الحث على استشعار المسؤولية الفردية تجاه المجتمع
يؤكد الإسلام على الالتزام الأخلاقي والأدبي تجاه الأفراد الآخرين، ويعزز مستوى التفاعل البشري المسؤولية الإيمانية الجماعية والمسؤولية الأخلاقية وثقافة المشاركة الوجدانية الاجتماعية على مختلف المستويات، فيفرض في سياق ذلك على الإنسان بأن ينظر لغيره، كما ينظر لنفسه واعتبر ذلك من صميم الإيمان في قول رسول الله r: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب الإنسان لنفسه ما يحبه لغيره” (أحمد، برقم 12824، ج3، ص241)، وقوله: “وذمَّة المسلمين واحدة، يَسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه مثل ذلك” أي لَعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صَرفٌ ولا عَدل (البخاري، برقم 3001، ج3، ص1157). ولا يخفى أن مسؤولية الفرد تجاه غيره لها مراتب عدة أهمها: المسؤولية تجاه الوالدين والزوجين والأولاد والجيران وولاة الأمور، والمسؤولية تجاه غير المسلم وتجاه البيئة والحيوان، وكل حالة منها لها تفاصيل وأحكام تنظمها، قال رسول الله r: ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ومسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته. فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” (البخاري، برقم 853، ج1، ص304).
إن استشعار المسؤولية الفردية يعزز بواعث المشاركة الإيجابية في النفس البشرية، ويقوي وازع المبادرة إلى الحركة والتفاعل المثمر البناء ولهذا يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ٢٥﴾ (الأنفال: 25)؛ لأن مبدأ الهوية الفردية لا تكتمل إلا بالاندماج في وعي جماعي، حينئذ يشعر الإنسان بقيمته كفرد مجرد، وقيمته كفرد في جماعة أو مجتمع، لأن فلسفة الحياة تكمن في أن ينظر الإنسان لغيره كما ينظر لنفسه، واعتبار ذلك من صميم الإيمان (الجراري، 1997م، ص37). فالإيمان بالله تعالى والأخلاق الإسلامية يعزز في النفس الإنسانية خلق حب الأخرين والإيثار والتواضع ولين الجانب والكرم وسخاء النفس، ويبتعد عن كل ما يضر بالآخرين من أقوال أو أعمال كالكبر والخيلاء والسخرية والاستهزاء؛ مما يجعله في حالة من التعاطف والانسجام الوجداني في المجتمع فيكون ميالا إلى الناس مقبلاً عليهم، راغبا في مشاركتهم ومخالطتهم، وهذا يلبي مطالب روحية نفسية من الأنس بالآخرين ويحقق التوازن في نفسية الإنسان وشخصيته بين اشباع نزعاته الفردية ومقتضياتها من حفظ حقوقه وحظوظه وبين رعاية موقعه الاجتماعي باعتباره لبنة مهمة في بناء المجتمع؛ ولذ جاء الوحي معززًا وازع تلك المسؤولية، أقوالاً وأفعالاً وأخلاقًا ومؤكدًا على الالتزام الفردي تجاه الجماعة؛ ولذا قال النبي r: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”. (مالك، برقم 1660، ج2، ص929).
سادساً: الترغيب في المشاركة المجتمعية وتفعيل مبدأ الشورى
لقد رسخ الإسلام روح الجماعية في المجتمع المسلم من خلال الأمر بتفعيل مبدأ الشورى في أمور الحكم وتدبير مصالحه وحتى اتخاذ القرارات الشخصية أو التي تهم الجماعة بصورة عامة، مما يعزز الشعور بالانتماء للجماعة والولاية للجماعة، وقد قرر الشرع الحكيم مبدأ الشورى في قوله تعالى: ﴿ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ ﴾ (الشورى:38)، وقال جل وعلاه أيضا: ﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ ﴾ (آل عمران:159). وإن لم يحدد وسيلة معينة للشورى؛ بل تركها للمسلمين يجتهدون في اختيارها وتحديدها وتحسينها وتطويرها حسب الزمان والمكان، بما يوصلهم إلى أرشد الاجتهادات وأنسب القرارات وأكثرها حرية ونزاهة ومصداقية وتحقيقا لمصالحهم وأمنهم.
المبحث الثاني: معالم التكامل بين الفردية والجماعية في الإسلام وضوابطه
المطلب الأول: معالم التكامل بين الفردانية والجماعية في الإسلام
لقد سارت الشريعة الإسلامية في ظل تنزلها وتأسيس بنائها للمجتمع المسلم والأمة المسلمة الخيّرة بالمسارين الفردي والجماعي معا، حققت فيه التكامل بينهما، بما يحقق مقاصد التشريع من وجود تلك النزعتين الممتزجتان في النفس الإنسانية والمضي بهما في الارتقاء بالنفس الإنسانية والمجتمع المسلم، ومن معالم التكامل:
الفرع الأول: المقاصد والغايات التي تهدف إليها الشريعة الإسلامية
لقد وضعت الشريعة الإسلامية -بل الشرائع كلها- لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وترمي جملة أحكامها إلى تحقيق مقاصد عامة من جلب المصالح ودفع المفاسد عنهم (ابن عبد السلام، 2010م، ج1، ص14؛ الشاطبي، 2001، ج1، ص5)، ومقاصد الشريعة الإسلامية هي الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها (الفاسي، 2011م، ص111)، وقد حصر العلماء القدامى الكليات المقاصدية في خمسة أمور هي: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال) (الشاطبي، 2001، ج1، ص20)، وكلها تقصد إلى حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة على المستوى الفردي أو الجماعي، قال ابن عاشور: “إن حفظ هذه الكليات معناه حفظها بالنسبة لآحاد الأمة، وبالنسبة لعموم الأمة أَولى” (ابن عاشور، 2009م، ص89)، ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي (ابن عاشور، 2009م، ص89-91، وعطية، 1999م، ص 175 وما بعدها) على النحو الآتي:
- حفظ الدين: يراد به حفظ دين المكلف من أن يدخله ما يفسد اعتقاده وعمله المترتب عليه، وحفظ دين الجماعة والأمة بدفع كل ما يؤثر على أصول الدين القطعية، ويدخل في ذلك حماية البيضة والذب عن الحوزة الإسلامية، بإبقاء وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها. ولا قيمة لمجتمع بدون رعاية دينه الذي يحفظ أصل بقائه صالحا مباركا يسير على هدى ونور إلهي.
- وحفظ النفس: معناه حفظ الأرواح من التلف أفرادا وعموما، وذلك بتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبهها، وحفظها عن التلف قبل وقوعه بمقاومة الأمراض السارية كالطاعون ونحوه، وبعد وقوعه بتشريع الحدود كالقصاص وحد الزنى والأروش والديات ونحوها. وكذلك يدخل فيه حفظ الكرامة الإنسانية التي اختص بها الإنسان وحفظتها له التشريعات الإسلامية. وهكذا يكون من أهم أهداف ومقومات التنمية الحفاظ على النفس الإنسانية بكل معانيها المادية والمعنوية الخاصة والعامة للمجتمع، والإبقاء على الحياة التي وهبها الله تعالى لها وحفظ مقومات بقائها، بما يمكنه من تعمير الكون بصفته خليفة مكرم عند الله تعالى استخلفه على أرضه لعمارتها.
- وحفظ العقل: هو حفظ عقول الناس فرادى والأمة من أن يدخل عليها خلل؛ لأنها مناط التكليف وبه امتياز الإنسان عن سائر المخلوقات. فدخول الخلل على العقل مؤد إلى فسادٍ عظيم من عدم انضباط التصرف، ودخول الخلل على عقل الجماعة والأمة أعظم من دخوله على عقل الفرد؛ لما يؤدي إليه من فساد أعظم. ولذا منع الأفراد عن السكر ونحوه من المفسدات، كالحشيشة والأفيون والكوكايين والهيروين، ومنع تفشيها في الأمة. وقد أمر التشريع الإسلامي بتنمية العقل الفكر الإنساني للأفراد والجماعة بالعلم والمعرفة والمهارات اللازمة، وحفظه من الانحراف والزيغ بتحريم كل ما يضره ويعوق قيامه بدوره.
- وحفظ النسل أو النسب أو العرض: يراد به حفظ النسل للأفراد والجماعات من التعطيل؛ لما يؤدي دخول الفساد إليه إلى اضمحلال النوع وانتقاصه في الجماعة الأمة، وذلك بالحث على النكاح ومنع قطع الأرحام أو إفساد الحمل وقت العلوق. ويدخل في هذا المقصد كل ما من شأنه حفظ النسل ورعايته وتخطيطه من خدمات طبية وعلمية وتشريعية وقضائية. وأما النسب: فيراد به حفظ انتساب النسل إلى أصله؛ وذلك لما يحقق في الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه وكمال جسده وعقله، وتعهده بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية. وهذا مما يترتب عليه انتظام دعامة العائلة في الجماعة والأمة، ولأجل حفظه شرعت قواعد الأنكحة وتحريم الزنى وفرض الحد له. وأما العرض: فهو ما يتعلق بحفظ أعراض الناس أفرادا وجماعات من الاعتداء عليها، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم وما فدي بالضروري أولى أن يكون ضروريا (الزركشي 2000م، ج4، ص189)، ومنه شرع حد القذف واللعان.
- وحفظ المال: الذي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليه، ويقصد به كذلك حفظ أموال الجماعة والأمة من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيديهم بدون عوض، وحفظ أجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوض، أو حفظه عن الخروج من يد مالكه بغير رضاه. والمال كما تبين هو تعبير عام عن الثروة والموارد، وحفظه هو توجيه هذه الثروات والموارد لصالح الغايات الاساسية من الاستخلاف وعمارة الأرض، يقول الله تعال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77)، اذ تربط الآية الكريمة بين استخدام الموارد والثروات والاهداف العليا التي يجب أن توظف لصالحها، وأن مخالفة هذا المنهج يحرف المال عن مقتضيات تسخيره لخدمة الأفراد والجماعة (الشيرازي، 1989م، ص263).
الفرع الثاني: المبادئ والقواعد التي قامت عليها الشريعة الإسلامية
أولاً: تنظيم العلاقات والمسؤوليات في إطار إيماني قيمي
لقد نظم الشرع الحنيف العلاقات على مستوى الفرد والجماعة في إطار من الإيمان والقيم الربانية؛ حتى يحفظها من الجور والزيع عن شرع الله تعالى وحدوده المتوافق مع فطرة الإنسان السوية، وتكون في خط الوسطية والاعتدال، بلا رهبانية ولا تفلت خالص عن حياض الجماعة؛ وعليه جعل الإسلام قيماً منظمة لعلاقة الفرد بربه، وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بنفسه، وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بالآخرين وفصّل فيها أحكامها وضوابطها.
ومن مرتكزات الإطار الإيماني في تنظيم العلاقات الفردية والمجتمعية أنه يقوم على قاعدة الإيمان بالله وينطلق من مبدأ الحاكمية لله تعالى، ولما كان الإيمان بالله هو عقد استسلام والتزام بين العبد الفرد وربه، فإن حقيقة جوهر الإيمان تجعل سلوكه منضبطا ومتجردا من مغريات النفس الهوى ومخلصا لله في كل حركاته وسكناته، متمثلا قوله تعالى: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ﴾ (هود:112)؛ مما ينعكس على مستوى علاقاته بالغير والمجتمع عموما فتكون حسب ما يريده الله تعالى. ومن صميم الإيمان ومقتضيات العقدية السليمة أن يتجلى أثر العلاقة الفردية التي بين العبد وربه في الخارج في قيام نظام اجتماعي صالح عادل متحرر من كل أشكال الظلم والتسلط والأذى بالآخرين بجميع أشكاله ومستوياته.
ثانياً: تأطير حقوق الفرد في إطار الجماعة، والعكس
إن نصوص التشريع وأحكامه تركّز على مساحة واسعة لحقوق وحريّتة واستقلاله داخل المجتمع، لكنها كما ثبت بيانه أنها حرية لا تنفي انفصام الفرد عن الجماعة التي يحيا ضمنها باستقلاليته، ولا ينفي كونه عضواً في الجماعة التي ينتمي إليها. وقد كفل التشريع احترام حقوق الفرد كونها تنطلق أساساً من أنّها حقّ طبيعي من مقتضيات تكريم الإنسان وما تقتضيه من الحرية والاستقلال، مع ملاحظة أن ذلك لا يعني أن تكون هذه الحريّة متجرّدة من القيود كما هو حال الحرية الغربية المنفلتة ولكنها الحرية الخلاقة الحافظة لحقوق الفرد دون الإضرار بمنافع الآخر، الذي يشاطر الفرد الحياة ويقاسمها العيش الاجتماعي المشترك بالضرورة.
وكما كفل الإسلام حقوق الفرد وضبطها في إطار مصلحة الجماعة، فكذلك حفظ حقوق المجتمع والآخرين ورسخ قيم التكافلية بحيث لا تتعارض مع حقوق الأفراد، حيث بدأ في بناء المجتمع من خلال ضمائر الأفراد ووجدانهم فغرس فيها الحب والرحمة للمؤمنين، وجعل محبتهم من صميم الإيمان بالله، وربطها بالسعادة في الدنيا والآخرة ، وجعل الإسلام العلاقة بين أفراد المجتمع علاقة تكافلية تعاونية، وأقامت أمنها وسلامها على أساس تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع سواء، على خلاف المناهج والفلسفات الأخرى، حيث جعلت العلاقة بين أفرادها علاقة صراع وتنافس، وأقامت سلامها إما على مصلحة الفرد دون المجتمع أو العكس .
وقد تجلى ذلك بوضوح في مشروع التآخي بين المسلمين عند هجرته إلى المدينة وكان من أهم دعائم الدولة الجديدة في المدينة، كما وضعها الرسول r، فتم إنهاء العصبيات الجاهلية التي كانت قائمة قبل دخولهم في الإسلام، وانتهت الفوارق بينهم التي كانت تقوم على الأسس القبلية، فتم إرساء دعائم أخرى في الأمة الجديدة، ثم قيام الدولة، وتأسيس المجتمع الجديد الذي يقوم على العدل والمؤاخاة وغيرها من الدعائم التي، عززت روح التآخي سكان من المسلمين، وأسس (صحيفة المدينة) التي تمت مع غير المسلمين في المدينة التي تم فيها التحالف على المناصرة بالعدل بينهم، مع اختلاف الدين. لقد أنهى الإسلام الصراع الطبقي بين الناس من خلال هذه المؤاخاة بين المسلمين فيما بينهم، بحيث أصبح الأخ يتقاسم مع أخيه في حياته الاجتماعية دون تمايز، دون أن يكون هناك اضطرابًا في الحياة الجديدة، بين طبقة غنية وطبقة أخرى لا تملك شيئًا، فكانت تلك الروح النبيلة جسدت روح التلاحم والمحبة، وليس الحقد والصراع الذي تبنته النظرية الماركسية، وسببها ما قامت به الرأسمالية المتوحشة، وهي التي أوجدت هذا الحقد بما أرسته من نظام ظالم للطبقات الفقيرة، دون أن يجدوا الحقوق العادلة في عملهم في المصانع، ولذلك وضعت الفلسفة الاشتراكية (صراع الطبقات) كنتيجة من نتائج الاحتكار والاستئثار بالمال بعيدًا عن التوازن بين الطبقات والعدل بينها (العليان، 2021م).
إن الإسلام يعلي مصلحة المجتمع والمصلحة العامة له والمنظومة المجتمعية على الفردانية والمصلحة الشخصية، والقاعدة الفقهية (المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة) (الشاطبي، 2003م، ج2، 271)، بخلاف المذاهب الفكرية الأخرى التي تعظم قيم الفردية والحريات المطلقة، وتحاول العولمة المعاصرة فرض قيمة الفردية والحريات غير المنضبطة ونحوها مما يتصادم مع المفاهيم والقيم الدينية التي تتفق مع الفطرة السوية والعقل السوي والشرع السماوي كما تقدم آنفاً.
إن الناظر في ماهية الفكر الغربي يجده مغرقا في المادية والنفعية الصرفة والاستمتاع الحسي إلى أقصى حد دون ضوابط وقيم دينية وخلقية؛ فغاية الحياة في اعتقاده هو تحصيل المنفعة الدنيوية في العاجل، وذلك في حقيقته يرجع بالأساس إلى التوجس من كل فكرة دينية جراء ما لحق الغرب من تقهقر على كل المستويات حين كان يرزح تحت سلطة الكنيسة. فتجده يعظم قيمة المادية الصرفة، وعبادة المادة من دون الله، والسعي لتعظيم الأرباح المشروعة دون نظر لما تسببه من آلام وجراح ومآس اجتماعية وإنسانية لدول ومجتمعات وفئات اجتماعية واسعة (الرفاعي، 1997م، ص123-146).
ثالثاً: بناء منظومة التشريع وحدة مترابطة متكاملة تقوم على مبدأ التكامل بين الفردية والجماعية
إن حكمته سبحانه اقتضت أن تكون رسالة نبينا محمد e خاتمة الرسالات، وجاء بمنهج رباني يضبط دفة الحياة بما فيه من عقائد وعبادات وأخلاق وآداب وبما فيه من تشريعات وتنظيمات للمجتمع، يقول تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰه ُإِلَيۡك َلِتُخۡرِج َٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ﴾ (إبراهيم:1)، وغرضه إصلاح الفرد والمجتمع وضمان الحياة الطيبة لهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97)؛ ولذا لا بد من ربط الأحكام ببعضها، وربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية؛ لأن للشريعة الإسلامية مقاصد كلية وقواعد عامة تندرج تحتها جميع فروع الشريعة وتفصيلاتها، فتؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، (الشاطبي، 2003م، ج1، ص245)، أي أن يفهم شرع الله كاملا بكل تفاصيله وعمومياته وحدة واحدة في نسق واحد، فكل جزء فيها ينطلق من مقاصد يبتغيها من تحقيق مصالح كانت فردية أو جماعية؛ وقد عبر الشاطبي عن هذا المنهج بقوله: “اعتبار الجزئيات بالكليات” (الشاطبي، 2003م، ج3، ص6).
رابعاً: التوجيهات بالإصلاح والمسؤولية موجهة لمجموع الأفراد ولكل فرد على حدة
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ١٠٥﴾ (المائدة: 105)، فالخطاب هنا للإصلاح واختيار الطريق الصحيح موجه لمجموع الأفراد ولكل فرد على حدة، حتى في حال الفتن والكوارث فالخطاب موجه بطريق يستشعر كل من الأفراد والجماعة واجبه ودوره المهم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ٢٥﴾ (الأنفال: 25). وتراعي التوجيهات الربانية التدرج في تحمل المسؤولية كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم:6)، لقد بدأ الخطاب بتعاهد النفس بالإصلاح والوقاية من النار، ثم انتقل إلى الأهل وهكذا الأعم فالأعم.
خامساً: الحث على إشاعة الإيجابية من الفرد إلى الجماعة
لقد عزز التشريع المبادرات الفردية والجماعية في ما فيه خير الفرد والمجتمع وصلاحه، وقد جاء التطبيق العملي في تشجيع المبادرات الفردية حتى تنتشر وتسري في المجتمع ويعم خيرها، كما جاء في حديث جرير بن عبدالله y في شأن تقديم الصدقات العلنية والذين تتابع الناس من بعده بالتقديم، أنه قال: كنا عند رسول الله r في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة …، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ١٨﴾ (الحشر: 18)، فتصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قالr: “ولو بشق تمرة”. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله r يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله r: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، بعده من غير أن ينقص من أجورهم من شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء” (مسلم، برقم 1017، ج4، ص2059)، فيدل الحديث على التحفيز الكبير لإشاعة الإيجابية والقدوات الطيبة في المجتمع، فمن أظهر سنة أو أمرا حسنا وأبرزها مما قد يخفى على الناس، فيدعو إليها الناس ويظهرها ويبينها لهم، فيكون له من الأجر مثل أجور أتباعه فيها وليس معناها الابتداع في الدين؛ وقد قال رسول الله r كذلك: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا” (مسلم، برقم 2674، ج4، ص2060)، وقوله ﷺ كذلك مؤكدا ومشددا على أهمية هذا الأمر: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله” (مسلم، برقم 22405، ج3، ص1506).
سادساً: تأسيس الجماعية مع قاعدة التقييم والنقد الفردي
لقد بنى المجتمع المسلم على أسس راسخة تقوم على مبدأ التعاون وتوزيع الأدوار فيه، فلم يغفل النبي r من تفعيل دور الفرد في إطار الجماعة، ووجهه إلى المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع والارتقاء به ببذل الجهد والرأي والفكر والمشورة، وحث على دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفعيل دور الحسبة، ونحوها من وسائل الحفاظ على المجتمع وصلاحه وترسيخ الأدوار الفردية في النقد والتقييم المستمر حتى على مستوى الحكم والقيادة، وتقديم الرأي في ذلك، فهذا عمر بن الخطاب t عارضته امرأة في تحديد المهور بسبب مفسدة تغالي الناس فيها، بقول الله تعالى: ﴿ءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ ﴾ (النساء:20)، حتى تراجع عمر عن ذلك بكل تواضع ورحابة صدر وقال عبارته المشهورة: “أخطأ عمر وأصابت امرأة” أو “كل أحد أفقه من عُمر-مرتين أو ثلاثًا” (سعيد بن منصور، برقم 598، ج1، ص195).
ومن زاوية أخرى يلاحظ أن التشريع الرباني راعى حاجة الإنسان وميولاته الفطرية إلى الاجتماع بالآخر، ووجهه إلى المخالطة الإيجابية الفاعلة في بناء المجتمع، ولكن حذره من عدم التماهي الخاطئ والتقليد الأعمى، وأن لا يكون إمعة أينما وجد الناس سار بغير هدىً ولا بصيرة، وقد أمره أن يضع أمام عينه الطريق الأقوم بلا محاباة ولا مداهنة، مع ما يستلزمه ذلك من اليقظة التامة ودوام تقييم مدى صلاح الوسط الذي يختلط به ويتفاعل معه، وحثه على اتخاذ السبل التي تكفل له ذلك وتعينه، كبناء طريقة تفكيره على أسس راسخة ومبادئ ثابته ينطلق منها، مع الحرص على تفعيل النقد والتقويم لكل ما يعترضه ويستجد أمامه، ولا يغفل عن دور الصحبة الصالحة الكبير في ذلك، قال رسول الله r: “إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة.” (البخاري، برقم 5214، ج5، ص2104، ومسلم، برقم 2628، ج4، ص2026).
سابعاً: تشريع العقوبات لحفظ مصلحة الفرد والجماعة معاً
لقد شرع الإسلام الحدود والتعزيرات كحدِّ القتل والسرقة والجناية والقذف؛ وجّرم التستر على الجرائم والمجرمين والتساهل معهم، لأنه يجلب على المجتمع النقمة يوقعه تحت طائلة الهلاك، قال r: “فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. (البخاري، برقم 3526، ج3، ص1366، ومسلم، برقم 1688، ج3، ص1315). فقد راعي الإسلام البعد الفردي في تلك العقوبات وضمان استقامتهم على حكم الشرع فجعلها في أصلها قائمة على الجزاءات الأخروية، ولكن مراعاة للبعد الجماعي وضرورة حفظ أمن المجتمع واستقراره، وتحقيق الردعِ والزجر عن الظلم والتعدِّي على الآخرين، وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح بيّن مؤثر وضمان حقوقهم جعل مع الجزاءات الأخروي جزاءات دنيوية. ورتب على الإخلال بتلك الحقوق الإنسانية حدودا وتعزيرات كثيرة مبسوطة في كتب الفقه والسياسة الشرعية، تدلل على أهمية على حرمة النفس الإنسانية للفرد ووجوب ضمان الأمن والاستقرار لها حتى تعيش آمنه مطمئنة تقود بواجباتها المنوطة بها تحقيقا لمبدأ استخلاف الله تعالى الإنسان في الأرض لعمارتها ، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة: 30)، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 129)، وتأسيسا على أن الإنسان الذي يكون قادرا على العمل والسعي لعمارة هذا الكون هو الذي يكون في أمن وطمأنينة على نفسه وماله وعياله، فينطلق في أنحاء المعمورة بلا خوف ولا وجل، وقد روي عن رسول الله e: “من أصبح آمناً في سربه معافي في جسده عنده طعام يومه فكأنما حيزت له الدنيا” (الترمذي، برقم 2346، ج4، ص574).
ثامناً: فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريقا لحفظ مصلحة الفرد والجماعة
إن من أعظم وسائل حفظ مصلحة الفرد والجماعة على حد سواء هو القيام بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جاء في قوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ﴾ (آل عمران:110)، فالدعوة إلى الله بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمه من شعائر الإسلام نالت الأمة الإسلامية بسببها درجة الخيرية وتميزت بها عن سائر الأمم؛ لأنها أساس حفظها وتماسكها و جمع كلمتها وتحقيق أمنها، وبه ينتشر دينه وتبلغ أحكامه وتظهر شعائره، وبدونه يضعف دين المسلمين وتتشتت قلوبهم وتتفرق كلمتهم، ولذا قال رسول الله r: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (أحمد، برقم 11166، ج3، ص20).
الفرع الثالث: طبيعة الخطابات التشريعية والتكاليف فيها
أولاً: تنوع الخطاب الشرعي بين الفردية والجماعية، والنزعةُ الجماعية هي السائدة فيه
يهدفُ الإسلام إلى إصلاحِ الفرد والمجتمع، والنزعةُ السائدة فيه هي النزعة الجماعية، ولذا جاءت العبادات في الشرع الكريم منوعة بين الفردية والجماعية، فجمعت بين الفروض العينية والكفائية، وعملت على تحقيق مقاصدهما وأبعادهما التي تنصب في خدمة الجماعة والأمة المسلمة وإن كان في ظاهرها تكاليف فردية، حيث أنه إذا انتظم عليها المسلم حقق نزعته الفردية وأشبع شعوره بالانتماء للجماعة وخدمها دون إيثار وتجاوز لأحدهما على الآخر، حتى أن العبادة الواحدة تحمل مقاصد البعدين معا في ذات الوقت والبعد الجماعي فيها أظهر وأعمق، فالصلاة كما أن على المسلم أن يؤديها فرض عين منفردا طلب الشرع أن تكون في غالب الحالات في وسط جماعي يحقق التواصل الفاعل الذي ينبى عليه المجتمع، وقد قال رسول الله r مرغبا في صلاة الجماعة: “صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة”، نهايك عن الفروض الكفائية التي تأخذ طابع الجماعية في أصل تشريعها ولا تتحقق إلا بالاتصال بالآخرين، مثل صلاة الجمعة والعيدين والجنازة ونحوها. ولا يخفى أن الإسلام جاء في كافة شرائعه التفصيلية الأخرى من الأوامر والنواهي والحلال والحرام والحث على الفضائل ونحوها بما يحقق التوازن بين الفردية والجماعية ومتطلباتهما ويعزز صبغة التكافل والتعاون المجتمعي،
ثانياً: صياغة التكاليف الشرعية على نحو يتكامل فيه البعد الفردي والجماعي
إن المتأمل في صياغة التكاليف الشرعية يجد أنه جمع في ثناياه بين التكاليف الموجهة للأفراد وبين التكاليف الموجهة للجماعة، ويحملهما المسؤولية بشكل تضامني وتعاوني بحيث يتحمل مسؤولية التفريط والتقصير فيه جميع الأفراد، وأن هذين البعدين الفردي والجماعي للتكاليف الشرعية يتمازجان على نحو متوازي متكامل، فلذا تجاوز التشريع الإسلامي الصيغة الفردية للتكاليف الشرعية والرؤية التي تفصم بين البعد الفردي والبعد الجماعي للتكليف الشرعي؛ فتحرر من انحباسه في القضايا الفردية بل وانبني في أصل قيامه على المقاصد العامة والقضايا الكلية. ومنهج التشريع الإسلامي لأحكامه طافح بمراعاة التكاليف على نحو متوازي لمختلف المستويات، فمثلا في تحريم الله تعالى للخمر؛ لكونها تذهب بالعقل، و”تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم؛ ليكون موصولا بالله في كل لحظة، مراقبا لله في كل خطرة. . . ، والفرد ليس متروكا لذاته وللذاته، فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة، تكاليف لربه، وتكاليف لنفسه، وتكاليف لأهله، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها، وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف” (قطب، ج2، ص977)، وهكذا تتجاوز الأحكام الشرعية صبغتها الفردية إلى حكم أسمى وأعظم تهم المجتمع أجمع وتتعلق به، وهذا الأمر يدفع المسلم إلى استشعار مسؤوليته الفردية في حفظ المجتمع وأمنه من خلال تطبيق الأحكام الشرعية وإن كانت في صورتها المباشرة تمسه كمفرد ولكن في حقيقتها تتعلق بحفظ كليات مجتمعية، فضلا على أن الإحساس بالمسؤولية يولد في وجدان مجموع المسلمين شعورا بأهمية تآلفهم ووحدتهم لحياة مستقرة آمنة على كافة المستويات الأسرية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية ونحوها، ويحفزهم لبناء نظام اجتماعي قوي قادر على توفير احتياجاتهم المعيشية والحياتية بصورة عامة، وقد عمل الإسلام على إيجاد هذا الشعور وتعزيزه في المسلم حيث قال e: “كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته”.
المطلب الثاني: ضوابط التكامل والموازنة بين الفردية والجماعية في الإسلام
رغم أن الفردية والجماعية خطان متقابلان أو متوازيان إلا أن التشريع الإسلامي استطاع الجمع بينهما بصورة مميزة في التمازج والتكامل الفذ الذي لا يمكن أن يتحقق في إطار محددات وضوابط تحكم تلك العملية، ومن تلك الضوابط:
الفرع الأول: إطار الوسطية وخط الاعتدال
لقد تقدم بيان المناهج والفلسفات الفكرية في تغليب تقدير الفردية أو الجماعية، وما نتج عنها من تعسفات واضحة بعيدة عن روح الدين وفكرته أدت إلى العبث والانحراف في سبيل مسايرة الناس لتطور الزمان في الحصول على رغباتهم ومصالحهم حسب منظورهم المحدود باختلاف العصور، وقد ثبت الحجة والبرهان العقلي والواقعي أن المنهج الأصوب هو الوسط المعتدل الذي يمثل عدسة رؤية النهج الإسلامي لكل شيء أصولا كانت أو فروعا أو معالم، ويحمل الخيرية للإنسانية بأسرها، والوسطية في الإسلام تعني الانضباط والعدل والتوازن والحكمة في وضع الشيء في موضعه بما يحقق الهدف المراد منه، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ (البقرة: 143).
وقد زاوج الإسلام بفكره الرباني بين المنهجين الذي يعلي قيمة الفردي دون اعتبار للجماعة والآخر الذي يعلي قيمة الجماعة دون الفرد، وانتهج طريق الوسطية منهجا، فجاء مقدرا النزعتين الفردية والجماعية معا، دون إغفال لأحداهما أو المبالغة في تقدير واحدة منهما على حساب الأخرى، وقد أثبت الواقع على مر العصور أن تغليب أحدهما على الآخر يولد ردّات فعل مضادة، وعليه كانت المذاهب الفردانية أو الجماعية في حقيقتهما جموحا جديدا ينشأ من رد فعل لجموح قديم، وداء جديد تعالج به البشرية من داء قديم، وتحطيم لخصائص الإنسانية في جانب لإنقاذه تحطم خصائصه الأساسية في جانب آخر (قطب، 2005م، ص104).
ومن هنا فإن الفردانية في الإسلام لا تحمل معنى التقديس المطلق لحقوق الفرد؛ بما يدفعه إلى التمرد ويجرده عن كل القيود والثوابت والمسلمات الدينية والأخلاقية والمبادئ الاجتماعية التي تحفظ مصلحة الفرد والمجتمع في الوقت نفسه، فهي حقّ طبيعي مرتبط بمقاصد الاستخلاف والعبادة لله وعمارة الأرض؛ ومقيد ومنظم بصورة دقيقة تحقق التوازن والتكامل بين كلا النزعتين وتلبي متطلباتهما، وكذلك الجماعية في الإسلام لا تحمل معنى الاستبداد وإلغاء اعتبار خصائص الإنسان الفردانية وميولاته للحرية والاستقلال، وإنما تتكامل معها وتتحرك معها في سياق حفظ حق الآخرين وعدم الإضرار بهم، ولذلك نظم الإسلام العلاقات وشرع الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأفراد ومجتمعهم في توازن وتكامل تراعي أصل الخلقة والفطرة في تقدير النزعتين المتضادتين وتوجيه أدوارها الحقيقية وتوظفهما في إطار تنتظم معه الحياة وتتحقق الحياة الطيبة للفرد والمجتمع ككل.
الفرع الثاني: تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية
من مقتضيات التكامل بين الفردية وضوابطه وضع قضية العدل والعدالة في مستويات كبيرة من الاهتمام ومن التوازن الخلاق، فقد أقر الإسلام مبدأ العدل بين الناس وحتى وإن كانوا غير مسلمين؛ حتى يطمئن كل أحد إلى حقه وأنه لا يظلم في استيفاء حقوقه كاملة غير منقوصة في أي حال أو بأي سبب واعتبار. فالعدل جعله الله تعالى حقا مشتركا لجميع الإنسانية فرادى وجماعات حتى ينعموا بحياة آمنة مستقرة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ (النساء: 58)، وورد كذلك لعموم المسلمين مع غيرهم رغم وجود الكراهية بينهم، واعتبر ذلك أقرب إلى تقوى الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ (المائدة: 8).
وينبثق من مفهوم العدل تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس في استيفاء الحقوق والواجبات المتبادلة على حد سواء، وتفعيل قاعدة تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع وجماعاته، وقد رسخ التشريع الإسلامي ذلك ودعمه بإقرار حقوق الإنسان للجميع وعلى مختلف المستويات بدون تمييز. فالعَدالَة في نظر الإسلام هي مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل جميع القيم، وهي على وجه الدقة تكافؤ في الفرص وترك المواهب بعد ذلك تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة؛ وعليه فإن انفساح المجال في نظر الإسلام إلى الحياة، وتجاوزه القيم الاقتصادية البحتة إلى سائر القيم التي تقوم الحياة عليها يجعله أقدر على إيجاد توازن وتعادل في المجتمع وعلى تحقيق العَدالَة في الدائرة الإنسانية كلها، ويعفيه من التفسير الضيق للعدالة كما تفهمها الشيوعية، فالعَدالَة في نظر الشيوعية مساواة في الأجور تمنع التفاوت الاقتصادي (قطب، 1993م، ص34-35).
إن من مضامين العدالة الاجتماعية في الإسلام مراعاة مصلحة الجماعة على حسابِ حقِّ الفرد، فقد يحدّ من حرية الأفراد في أموالهم رعاية لمصلحة الجماعة، إلا أنه دون تضييق على أصحاب الأموال، ولكن بالقدر الذي يكفل به التكافل الاجتماعي ومراعاة شؤون الدولة، فالكفالة الاجتماعية هي التدابير المتخذة العيش الكريم للأفراد لا سيما في حال الضعف والفقر والمرض ونحوها، وقد حمّل الإسلام مسؤولية الإنفاق والإعالة لمن لا يقوى على العمل ومن لا يعمل إلى أوليائهم القادرين وإلا فتتحول مسؤوليتهم إلى المجتمع والدولة عن طريق دفع الزكوات والصدقات إليهم واتخاذ أساليب سد النقص والعوز عنهم، وقبل ذلك تفرض الشريعة الإسلامية على أتباعها أن تسود بينهم معاني المحبة والأخوة والتعاون والتكافل الذي يستشعر معه المسلمون بالأمن والاطمئنان بإخوانهم وعونهم إذا احتاجوا، وقد جسد النبي المجتمع المسلم كالجسد في قوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ” (مسلم، برقم 2058، ج4، ص1999)، ونص القرآن الكريم صراحة أن في أموال الأغنياء حقا محددا يعطى المحتاجين من الزكوات والصدقات، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ٢٤لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ٢٥﴾ (المعارج: 24-25).
وفي ذات السياق يقر الإسلام حق التملك الفردي للمال الذي يتفق مع طبيعة النفس البشرية وميولها في حب المال والسعي للتملك والاستحواذ، وفي ذات الوقت يؤكد على استخلاف الجماعة والأمة في المال، حيث كما قال محمد عمارة: إن الله سبحانه أضاف كلمة المال إلى ضمير الفرد في سبع آيات، بينما أضافها إلى ضمير الجمع في سبع وأربعين آية، حتى علق الإمام محمد عبده فقال: “إن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبه بذلك على تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، فكأنه يقول: إن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم”. فنظرية الاستخلاف الإلهي للإنسان هي مفتاح فلسفة الإسلام في الثروات والأموال (عمارة، 1998م، ص65-66).
الفرع الثالث: إيثار مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض
يعترف الإسلام بقيمة الإنسان كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازنًا متكاملاً بينهما، فيمنح الفرد قدرًا من الحرية والاستقلالية بحيث لا يطغى على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية استقلالاً في اتخاذ التدابير التي تحقق مصلحة الجماعة ولو على حساب مصالح الأفراد الخاصة، ولكنه يقيم ذلك على أساس الحب والتضامن المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الصراع والحقد والعداوات، مما يولد رغبة ودوافع ذاتية عند الفرد في رعاية مصلحة الجماعة والحرص عليها ولو كان على حساب مصلحته الشخصية. ولذلك نهى رسول الله r عن بيع المسلم على بيع أخيه وخطبته على خطبة أخيه لما تؤدي إليه من التأثير السلبي على مصلحة الجماعة حيث تشيع تلك الأفعال التشاحن والتباغض بين الناس، وقد قال رسول الله e: “المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر” (مسلم، برقم 1414، ج2، ص1034).
وقد قسم العلماء الوقائع والأحكام ومصالحها إلى عامة وخاصة، وسنوا قواعد تضبط الأخذ بها عند تعارض مصالحها لكيلا تنخرم وتبقى على تكاملها في أداء أدوارها، فالوقائع العامة هي التي تعم أغلب المكلفين ويقع تأثيرها عليهم، سواء بالضرر العام أو النفع العام. وضابطها: أنها ترجع لحفظ المصالح العامة لعموم المكلفين، مثل الأمر بحفظ وحدة الأمة، وحماية الحرمين من الأعداء، وحفظ القرآن والسنة من الضياع، وإيجاد التشريعات القضائية والعهود والمواثيق التجارية مع الجوار عموما وغيرها. وبناءً عليه تعامل الفقهاء مع الوقائع العامة التي تلمّ بالأمة المسلمة في مباحث خاصة تحت مسميات مختلفة منها (عموم البلوى)، كالمجاعة العامة والحرب الشاملة والكوارث وسائر الجوائح العامة والمشكلات العامة التي تلامس الجميع ومصالحهم، فوضعوا قواعد وضوابط في كيفية التعامل معها، كـ(الحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة أو عامة)، و(المصلحة العامة كالضرورة الخاصة)، و(المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة)، و(تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة العامة)، وسلطة ولي الأمر أو الحاكم في تقييد المباح والإلزام به وغيرها (السيوطي، 1982م، ص82-121، وابن عبد السلام، 2010م، ج2، ص313). وأما الوقائع الخاصة فهي التي تتعلق بآحاد المكلفين أو مجموعة محدودة منهم، ويقع تأثيرها عليهم. وضابطها: أنها راجعة إلى حفظ المصالح الخاصة، ولا تأثير لها على المصالح العامة إلا إذا عمت وانتشرت، فتتحول من الخصوص إلى العموم، وهي أنواع ومراتب. وأمثلة هذه الوقائع كثيرة جدا، قد تكون بعضها في أصلها واقعة جزئية من بعض المكلفين لكن لها أثر مآلي على عموم المكلفين، ويتسع تأثيرها شيئا فشيئا حتى يمس الكلي بعد ما كان خاصا بالجزئي، وهذا واضح في عمل أبي بكر y في حرب مانعي الزكاة، وعمل عمر y في قتل الجماعة بالواحد. ومن المقرر فقها أن (المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية)، وأن حفظ كليات الشريعة بالنسبة لعموم الأمة أولى بالنسبة لآحاد الأفراد، وقد بني الفقهاء عليها فروعا وأحكاما كثيرة.
وهكذا يتقرر أن الإسلام يعلي المصلحة العامة والمنظومة الأسرية والمجتمعية على الفردانية والمصلحة الشخصية، والقاعدة الفقهية تن على أن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة (الشاطبي، 2003م، ج2، 271)، وإن تفاوت المصلحة فيما بينها في مقدار شمولها للناس وآثارها بينهم، فيقدم حينئذٍ أعم المصلحتين شمولا؛ ؛ فإنه لا يعقل إهدار مصلحة جمهور الناس من أجل حفظ مصلحة شخص واحد أو فئة قليلة، على أن الفرد لا يتضرر بترجيح مصلحة الجماعة عليه؛ لدخوله غالبا فيهم (الشاطبي، 2003م، ج2، 271، والبوطي2005م، ص264-265.)، وقد قال ابن عبد السلام: اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر من اعتنائه بالمصالح الخاصة (ابن عبد السلام، 2010م، ج2، ص158)؛ وهذا ما فعله الفاروق عمر بن الخطاب r عندما فتح الله على المسلمين العراقَ والشام، ورأى فريقٌ كبير من الصَّحابةِ قسمة الأرض وما عليها بين المحاربين الفاتحين من المسلمين واعتبارها غنيمة، لكن عمر y رأى أن تترك الأرض بيد ملاَّكها، على أن يدفعوا الجزيةَ للمصلحة العامَّة، وقال: “إذا قسمت أرض العراق، وأرض الشام، فما يسدُّ به الثغور؟ وما يكون للذريةِ والأرامل بهذا البلد وغيره؟”، فواضح من هذا أنه عمل لمصلحةِ الجماعة، وقدَّمها على مصلحةِ الأفراد المحاربي. (باحثين بوزارة الأوقاف الكويتية، 1983م، ج19، ص54).
الفرع الرابع: الحدّ من سلطان الفرد إذا تعارض مع الصَّالحِ العام
لقد قيدت المصلحة الخاصة في الإسلام في استعمالها بمراعاةِ مصلحة الآخرين، وعدم الإضرارِ بالجماعة، فقد يُمنع الفرد من عمل هو في الأصل مباح له، وله فيه مصلحة في حال ترتَّبَ عليه ضرر لغيره أو ترتب عليه ضررٌ عام. فالقواعد الفقهية تنص على أنه (يزال الضرر الأكبر بالضَّرر الأدنى)، وأنه (يتحمل الضرر الخاص بدفع الضرر العام) وذلك بناءً على مبدأ ارتكاب أخف الضررين عند التعارض، فيقدم درء الضرر والمفسدة المتعلقة بعموم على الضرر والمفسدة المتعلقة بأفراد منهم، ومثل له الفقهاء بوجوب نقض حائط مملوك مال إلى طريق العامة على مالكها، وبجواز التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش مما يلحق الضرر بالناس (ابن نجيم، ص87، الزرقا، 1989م، ص197).
وفي مقصد إيثار مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد والحد من سلطة الفرد إذا تعارضت مع مصلحة المجموع تحقيق لمعاني الموجة والألفة ونزع فتيل الحقد والضغينة والخصومة في نفوس الأفراد. ولهذا يصور النبي r المجتمع بقومٍ نزلوا في سفينةٍ فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وجعل نجاتَهم جميعًا من الغرقِ رهنا برعاية بعضهم لبعض واستصلاح كل منهم لشؤون الآخرين، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا” (البخاري، برقم 2361، ج2، ص882).
المبحث الثالث: نماذج فقهية تطبيقية في الأحكام الخاصة بالمرأة
لقد تأكد فيما تقدم في البحث حول بعدي الفردية والجماعية في الإسلام أن الإسلام مزج بينهما في سياق تكاملي، فإن الإسلام في حقيقته بناء منطقي واقعي متكامل في جميع جوانبه ومضموناته، فأحكامه الشرعية منوطة بعضها ببعض في نسيج تشريعي مبني على مسق مقاصدي وبنائي متكامل مطابق للواقع ولمقتضيات الفطرة الإنسانية؛ ومن هنا يجب أن تفسر الأحكام الخاصة بالمرأة في نطاق تشريع أسري مجتمعي متكامل؛ كونها أحكام تشكل وحدة منسجمة تعبر عن فلسفة النظام العائلي بل النظام الاجتماعي في الإسلام، ويتحقق ذلك بربط الأحكام ببعضها، وربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية؛ لأن للشريعة الإسلامية مقاصد كلية وقواعد عامة تندرج تحتها جميع فروع الشريعة وتفصيلاتها.
وفي هذا المقام سيتم محاولة تنزيل تلك المبادئ والقواعد المقررة على قضايا المرأة والأحكام الخاصة بها من خلال تطبيقات فقهية، سيتم تناولها وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: الأحكام العامة للمرأة
الفرع الأول: تكامل الرجل والمرأة في المسؤوليات والحقوق
إن التنوع والاختلاف سنة من سنن الله الكونية، وعلى ذلك تقوم العلاقات الإنسانية في الإسلام، وهذا الاختلاف والتمايز بين الذكر والأنثى أراده الله سبحانه ليحقق التعاون والتكامل في هذه الحياة، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ (آل عمران: 36)، وحتى تستقيم الحياة شرع نظاما من العدالة والمساواة يحفظ لكل منهما حقوقه وموقعه، قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾ (البقرة:228)، وقسم تلك الحقوق والواجبات حسب طبيعة كل منهما واحتياجاته الفطرية وأدواره الأصلية، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل وتعاون؛ وليست علاقة تماثل، فخص كل منهما بصفات ليقوم بدوره من أجل استمرار الحياة البشرية؛ بغية أن تسير الحياة بينهما وأسرتهما بسلام وأمان، بلا تداخل ولا صدام.
وإن كانت بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة المسلمة في ظاهرها تميز بين الرجل والمرأة إلا أنه في باطنها صميم العدالة والمساواة والتكامل الفطري؛ لأنها تراعي الاختلاف الخلقي والبيولوجي بين الرجل والمرأة الذي تقره الحقائق الطبية النفسية، وإنما ذلك التمييز إيجابي لفائدة المرأة، من حفظ وصيانة وعدم تكليف بلا فيه حرج ولا يتلاءم مع طبيعتها الفطرية وبما يخدم في سبيل حفظ كيان الأسرة والمجتمع.
إن المرأة في الإسلام جزء أصيل لا ينفصل من كيان المُجتمع، بل هي مكون رئيس فيه تتقلد أدواراً مهمّةً وتضطلع بمسؤوليات كبيرة في رأسها مسؤولية الأمومة وتنشئة الأجيال، وقد كرمت الشريعة الإسلامية المرأة وكفلت لها حقوقها كاملة وفي مقدمتها مسؤولية الولي والزوج في الإنفاق عليها، وتعظيم دورها في القيام بحقوق الأمومة والتربية التي تتلاءم مع فطرتها ومكونات خلقتها في إطار اجتماعي يحقق ذاتها ولا يمنعها من القيام بأدوارها الأخرى بجانب دورها الفطري الأساسي في الحياة، فلم يحكم الإسلام كغيره من الفلسفات المادية النزعة المادية مقابل إغفال الاعتبارات المعنوية للمرأة المتمثلة في أنوثتها وعاطفتها وأمومتها، التي لم تعد في تشريع القوانين والنظم الوضعية المادية البحتة تقيم لتلك الاعتبارات المعنوية وزن ولا اعتبار، فهي عندهم كالرجل مطالبة بالكسب لتنفق على نفسها وتضمن بقاءها، وأما أدوار الأمومة والتربية فهي اعتبارات معنوية تزاحمها المطالب المادية للبقاء.
وفي سبيل تكريس تلك النظرة الممقوتة للمرأة والفكرة الهدامة لأوضاعها المستقرة في منظومة التشريع الحنيف أخذت تلك المناهج والفلسفات المادية تصور العلاقة بين الجنسين علاقة تماثل وندية وعداء، وتطلب التحرر من سلطة الرجل مطلقا والمساواة معه مطلقا بلا تمييز، وتتجه نحو إضعاف دور المرأة في الأمومة والتربية في الأسرة وتغييبه لهدف التفرغ لإثبات ذاتها ومطامعها المادية، فوضعت المرأة في ميزان مادي في مقابل الرجل زعما منهم أن سبب تخلف المرأة هو تمسكها الدائم بالدين وقيمه، وتمسكها بالإيثار والتضحية اللذان يدفعها الدين إليهما، وخضوعها للسلطة الذكورية، واعتبرت أن دور الأمومة يقتصر على الرعاية المادية، يمكن أن تقوم به فنون الرعاية البديلة الحديثة التي تتبعها الحضانات والروضات ونحوها.
الفرع الثاني: أحكام المرأة في الزينة واللباس
لقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب ونهاهن عن التبرج والخضوع بالقول وأمر كلا الجنسين بغض البصر؛ كونها تؤدي إلى إشاعة الفاحشة والعلاقات المحرمة في المجتمع عموما؛ سدا لأبواب الفواحش وحفظ الفروج وصيانة الأخلاق للمجتمع. فعند التأمل في عللها وأسبابها التي تتضمن سد دواعي الفتنة ووسائلها يتجلى بوضوح مقصد حفظ العرض للمجتمع بأكمله، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾ (النور:31)، وغيرها من الأدلة الشرعية في هذا السياق والتي تهدف إلى صيانة مقصد حفظ الأعراض للناس وعدم هدمه من خلال تحريم الأفعال المفضية إلى الفتنة والزنا وانتشار الرذيلة وشيوعها في المجتمع؛ دفعاً للمفاسد المترتبة عنها وسدا لذرائعها في تعريض الأعراض للانتهاك وما تؤدي إليه من جرائم ومصائب فادحة تهوي بالمجتمع إلى الحضيض، فلا يقوى على إقامة دين ولا دنيا.
الفرع الثالث: حق المرأة في الميراث
أعطى الإسلام المرأة حق الإرث ومنع منازعتها فيه والتعدي عليه حتى لو كانت حملاً في بطن أمها. قال تعالى:﴿ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ (النساء: 7)، وهذه من القضايا التي يشكك فيها المغرضون ويدعون أن الإسلام ظلم المرأة بإعطائها نصف ما للرجل في الميراث فيطالبون بمساواتها بالرجل، وهي دعوى غير غريبة ظهرت بوادرها منذ نزول الوحي عندما تمنت النساء بقولهن: “ليتنا رجالا فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال”(الطبري، 1984م، ج5، ص47)، فجاءت الإجابة الشافية الكافية في قوله تعالى العليم: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ﴾ (النساء:32)؛ مصداقا لواقعية الإسلام وملاءمته للفطرة الأصلية السليمة، وإن كان في ظاهره مصادم لحق المرأة الخاص في مساواتها مع الرجل في الميراث وفي كل شيء، لكن الإسلام ينظر إليه من منطلق أكبر أكمل وهو مستوى المجتمع ككل وليس مصلحة المرأة فقط التي هي جزء من هذا المجتمع.
فالإسلام كلف الرجل بما لم يكلف به المرأة من نفقات ومسؤوليات متجددة كالإنفاق على الزوجة والأبناء والوالدين والأخوة إن لم يكن لهم معيل، فالمال الذي ترثه المرأة من والديها يبقى لها وحدها لا يشاركها فيه أحد، بل هو معرض للزيادة بما تقبض من مهور وهدايا ونحوها من آثار عقد الزواج. ولا يقدح فيه ما يحتجون به اليوم أن المرأة تعمل وتشارك الزوج في المسؤوليات والأعباء، فبهذا ينتفي هذا الحكم التاريخي كما يدعون؛ لأنه هذا الحكم هو أمر رباني خالد معجز، مع ملاحظة أن قاعدة التنصيف في الإرث ليست قاعدة مطردة في نظام الميراث، فهناك حالات يتساوى فيها الذكر والأنثى، وأحيانا الأنثى ترث أكثر مما يرثه الذكر.
الفرع الرابع: إعفاء المرأة من جزء كبير من الشهادة
الشهادة في الإسلام واجب وليست حقا يتنافس في تحصيله، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ (البقرة: 282) فهي تكليف لا تشريف، وعبء ثقيل تتهرب منه الأنفس لا حقا يتزاحم عليه، وقد يتهم الشرع الحنيف بأنه استنقص من قيمة المرأة عندما جعل شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل، ويكمن الجواب على هذه الشبهة في أن الإسلام كعادته يشرع الأحكام والتكليفات على نحو تكاملي لمصالح المجتمع مقابل مصالح الأفراد الخاصة؛ فهنا راعي لطبيعة المرأة العضوية والبيولوجية التي فطرت عليها وتؤثر في طريقة تفكيرها ونفسيتها لتتلاءم مع مهماتها الخاصة في الحياة كالأمومة ورعاية البيت ونحوه، بالإضافة إلى طبيعة أدوارها وممارساتها في الحياة التي تقتضي انشغالها غالبا بأمور بيتها ومجتمع النساء دون أمور أخرى كقضايا الحدود والمعاملات ونحوها، وعليه فالله سبحانه راعى المرأة في ذلك وخفف عنها عبء الشهادة، حيث جعلها تحمل نصف العبء من الشهادة ونصفه على أختها التي تكمل شهادتها، ثم خفف عنهما كذلك ورفق بهما فأذن لكل منهما أن تذكر صاحبتها وتصحح لها فيما نست أو أخطأت فيه. قال تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ (البقرة: 282).
وليس في هذا التخفيف انتقاص من انسانيتها وكرامتها بل هو استيثاق لأصحاب الحقوق ومراعاة إقامة الشهادة على الوجه الذي تستقيم به وتحقق غرضها منه، ويتبين ذلك بجلاء عند ملاحظة أن البحث الفقهي والخلاف في موضوع شهادة المرأة لم ينطلق ابتداءً من مبدأ مناقشة هل المرأة على قدر من الكرامة يؤهلها لتحمل الشهادة؛ بل كان الخلاف حول مدى عموم الآية أو خصوصها بقضايا محددة والجمع بينها وبين أدلة شرعية أخرى. وقد ثبت أن هناك حالات تقبل فيها شهادة المرأة دون الرجال وهي ما من شأن النساء الذي ينفردن بالاطلاع عليه كالولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب وانقضاء العدة (العوتبي: الضياء، 1990م، (العوتبي، الضياء، ج13، ص174-175، بكوش، 2014م، ص476-481)، وهناك حالات عزز الإسلام فيها شهادة الرجل بشهادة رجل آخر، وحالات عزز شهادة الرجل المنفرد بشهادة امرأتين، فليس في ذلك دليل على انتقاص كرامة الرجل وإنسانيته.
المطلب الثاني: أحكام في باب الزواج والطلاق
الفرع الأول: اشتراط الولي في عقد الزواج
لقد اشترط المشرع الحكيم الولي في عقد الزواج في قول رسول الله : “لا نكاح إلا بولي” على خلاف بين الفقهاء في تفسير الحديث النبوي الشريف وما ترتب عليه من خلاف في مأخذ الحكم منه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن النكاح لا يصح إلا بولي مع وجوده وعدم امتناعه، فالولي شرط في صحة عقد النكاح (ابن بركة، ج2، ص120، العوتبي، 1990م، ج13، ص313)، وقصر البعض اشتراط الولي للبكر بخلاف الثيب، وذهب بعضهم إلى أن المرأة إذا وضعت نفسها في كفء فلا يفسخ النكاح ولكن يأمرون بتجديده إذا لم يقع الدخول (العوتبي، 1990م، ج13، ص325-331)، وذهب البعض إلى أنه يجوز للمرأة البالغة العاقلة أن تزوج نفسها بدون إذن وليها (ابن عابدين، 2000م، ج2، ص295؛ الكاساني، 1982م، ج2، ص247)، والمرأة التي ليس لها ولي فيزوجها أكابر البلد أو القاضي أو السلطان (العوتبي، 1990م، ج13 ص191، ص322).
وعلى الرغم من أن اشتراط وجود الولي فيعقد زواج المرأة قد يكون مخالفا لمصلحة خاصة تعتقدها المرأة في حقها في الانفراد بالاختيار وإمضاء عقد الزواج، ولكن الإسلام نظر إلى هذا الأمر نظرة بعيدة تتكامل فيها مصلحة المرأة الباطنة وإن لم تكن ظاهرة مع مصلحة المجتمع في إنشاء أسر نشأة سوية تكفل لها الاستمرارية والاستقرار؛ فإنه كما هو معلوم خطورة عقد الزواج الذي سماه الله تعالى الميثاق الغليظ، فتكون مشاركة الولي موليته في اختيار الكفؤ الجدير بارتباطه بها فيه صيانة لها وحفظا لحقها واطمئنانا للأولياء على مصير بناتهم مع زوج كفء يحفظها ويرعى حقوقها. ومن هنا فإن عدم ترك المرأة بالانفراد بزواجها دون أوليائها ليس لنقص فيها أو في تفكيرها، ولكن لأن المرأة مهما بلغت من العلم والمعرفة فقد تظل قليلة الخبرة بأحوال الرجال وطبائعهم، كما أن عاطفة المرأة قد تسيطر عليها وتمنعها من المعرفة الحقيقية للخاطب بخلاف أوليائها الذين بمقدورهم مخالطة الرجال والبحث عن أحوال الخاطب والسؤال عنه، خلافاً للمرأة التي يمنعها خجلها وحيائها من مخالطة الرجال والسؤال عنهم (سعيد، 2016م، ص47، الخليلي، 2001م، ج2، ص430-431).
الفرع الثاني: حق القوامة للزوج وما يترتب عليها من حق الطاعة والتأديب
لقد أعطى الإسلام الزوج حق القوامة، في قوله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡض وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ ﴾ (النساء:34)، وإن رأى المشككون في ظاهر تلك الأحكام منافاة بينها وبين إنسانية المرأة وكرامتها أو حق المرأة الخالص في استقلاليتها، لكن يجب أن نفهم التوجيه الرباني في سياقه ومقاصده ومجموع التشريعات المنظمة للحياة الزوجية والأسرية، فالعلاقة الزوجية تقوم في أساسها على السكن والمودة والرحمة لتحقيق غايات نبيلة، ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةًۚ﴾ (الروم:21)، والقوامة في حقيقتها هي رئاسة تكليف لا تشريف وتقتضيها الفطرة الإنسانية والعدالة وسنن الكون، فلا سفينة بدون ربان ولا مجتمع بدون قائد وإلا لاختلطت المصالح واختل النظام، وهي رئاسة رحمة ومودة ومسؤولية وحماية من الجوع والخوف؛ كون خلقة الرجل الفطرية والبيولوجية أقدر على ذلك وتقوم على أنه المكلف بالسعي والإنفاق على زوجته وأسرته فليس من العدالة أن يقوم بذلك الواجب ولا يكون له حق الإشراف على مختلف شؤونها، وهذا صميم المبدأ الذي قامت عليه الديمقراطيات المعاصرة: “من ينفق يشرف ويراقب”. فالقوامة إذن ليست رئاسة تقوم على الاستبداد والظلم كما يتصور البعض؛ ولو كان الأمر كذلك لما حفظ الإسلام للمرأة حقها في تملك المال وقد منع الرجل من أن يمد يده إليه بدون وجه حق ونحو ذلك من حقوق المرأة المقررة المعروفة.
وأما حق التأديب للزوج وجواز ضربه زوجته فإنه يفهم في سياق ما تقدم من إثبات القوامة للرجل وفق قواعد العقل والمنطق والقاعدة الربانية (أن قاعدة السكن والمودة هي الأساس في الحياة الأسرية)، فيرد على التشكيك في حكم جواز ضرب الرجل زوجته الناشزة بأنه مناف لمبدأ إنسانية المرأة وكرامتها، وحتى نفهم مضمون الحكم ومقصده لا بد أن نقف على سياق النص ولا نقتطعه منه فنناقشه بعيدا عنه، فقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق حل الخلافات والمشكلات الزوجية قبل الوصول إلى مرحلة الطلاق المبغوض في حكم الله تعالى، وهي خاصة بعلاج نشوز المرأة كما قابلتها آيات أخرى في علاج نشوز الرجل، فحكم الضرب قد جاء كإجراء في علاج نشوز المرأة بعد سلسلة من الإجراءات تختلف باختلاف طبائع النساء وأحوالهن، وقد عيَّن الفقهاء صنف النساء اللاتي يجوز أن يؤدبهن، وبيَّن درجات التأديب ومراحله من الوعظ والهجر والضرب ونحوه (الكاساني، 1982م، ج2، ص334)، كل ذلك بحدود ولهدف العلاج والإصلاح والتقويم للحفاظ على استقرار الحياة الزوجية وتلافي الطلاق وعواقبه من ضياع الأسر والأبناء، فالحكم هو خاص لفئة من النساء، وخاصة أن استمرار نشوزهن بعد الموعظة الحسنة والهجر يكون بدون وعي وإدراك لتلك العواقب الوخيمة للطلاق.
والواقع يدل على أن التأديب لأصحاب الانحراف والشذوذ والنشوز هو أمر تدعو إليه الفطرة السليمة ويحتمه نظام المجتمع واستقراره، وهو موكول إلى القائمين على أمر الرعية على أي مستوى كان، فالأب له الحق في تأديب أبنائه، والمعلم له الحق في تأديب طلابه لحملهم على جادة الصواب والصلاح في الدنيا والآخرة، والحاكم له حمل الأمة على الانضباط بقانون المجتمع ونظامه ولو اقتضى إيقاع العقوبات على الفئات المنحرفة غير المنضبطة. وهذا الأمر بذاك، إذ إن جواز الضرب الرجل لامرأته الناشزة من مقتضيات القوامة التي وكلت إلى الرجل لقيادة أسرته وحفظ نظامها ووجودها. يضاف إلى ذلك أن التشريع الإسلامي اشترط أن يكون الضرب المقصود هو ضربا غير مبرح، وهو الضرب الخفيف غير الشديد ولا الشاق، ويقصد به الإيلام المعنوي لا المادي، وليس بقصد التشفي وإطفاء الغيظ؛ بل كما تقدم بقصد التقويم والإصلاح. وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة: ﴿ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ ﴾ (النساء:34)، فإن الضرب ليس حقا مطلقا للرجل بل مقيد بضوابطه ومقداره، فإن انتهت الحاجة إليه فيمتنع الاستمرار فيه.
الفرع الثالث: وضع الطلاق بيد الرجل
لقد شرع الله الطلاق رحمة بالزوجين ورفقا بهما؛ للخروج من عقد التزماه بإرادتهما ليسعدا في ظله، فعاد عليهما بالتعاسة والشقاء أو الحرج والتقصير في حقوق الله (الغرياني، 1992م، ص108)، وعند التأمل في نظام تشريع الطلاق يتجلى بوضوح أن الإسلام راعى جانب المرأة فيه ولم يهمل حقها فيه، ولم يجعل الرجل متحكما في أمرها بحيث لا تستطيع التخلص من حياتها الزوجية معه إلا بمحض إرادته، بل إن الشرع الحكيم لما نظم أمر الطلاق تنظيما دقيقا محكما عادلا، قد صان حقها فيه، وكفل لها أن تفارق رجلا تكرهه، وتتخلص من حياة زوجية تؤذيها ويتعذر فيها حسن العشرة بينهما.
في سياق أحكام الحياة الزوجية كذلك يعترض بعض المغرضين على كون الطلاق بيد الرجل، ويرون أن هذا حكم جائر بحق المرأة ومناف لحقوقها وتقليل من شأنها، فيدعون أن الأكثر ملائمة وإنصافا هو أن يوضع أمر الطلاق بيد المحكمة، هي التي تقرر الطلاق بناء على طلب أحد الزوجين والضرر الحاصل له، ويستدلون بأن في ذلك فائدة للمجتمع وهي التقليل من نسب الطلاق بإتاحة الفرصة للقاضي للصلح بينهما.
ويرد على هذه الدعوى بأن الشرع الحكيم ملّك حق الطلاق للزوج في سياق منظور تكاملي لابتناء الشريعة الإسلامية ومنظور أبعد وأعمق من مصلحة خاصة للمرأة؛ فإن الرجل لأنه بفطرته وتكوينه البيولوجي هو غالبا أملك لعاطفته وأكثر عقلانية وضبطا لنفسه من المرأة التي تخضع لعاطفتها وتتأثر بما يعتريها من ظروف وأحوال جسمية ونفسية معهودة، فضلا عن الالتزامات المالية والاجتماعية المترتبة على الطلاق -من متعة ونفقات وحضانة ونحوها- التي تدعوه للتريث فيه، ولكن لم يجعل هذا الحق له على إطلاقه بل حدّه بشروط وقيده بقيود كثيرة تجرده من التعسف وتحميه من العبث (الشقصي، ج16، ص115- 116، العوتبي، 1990م، ج15، ص77-94)؛ لكي تتحقق الغاية التي شرع لأجلها، فلا يكون في يد الرجل سلاح استبداد يمارسه ضد المرأة، وقد يستعمله في غير موضعه؛ واستثنى حالات معينة من أصل استقلاله بإيقاعه، فخول ذلك الحق لأصناف من الناس، سواء كان ذلك بتمليك من الشرع أم من الزوج نفسه، كالقاضي والولي والوكيل والمفوض والزوجة إن ملكها الزوج أمر نفسها أو اشترطت الطلاق لنفسها في عقد الزواج.
وفي المقابل لكي يحفظ خط التوازن والوسطية في أمر الأحقية في إنهاء عقد الزوجية لم يهمل الشرع الحكيم حق المرأة في الفراق عن الزوج، فأعطاها عند خوفها على نفسها من الزوج أن تشترط في العقد شروطا خاصة تحقق مصالحها، وإن وجدت ظلما من الرجل بعد ذلك وضررا في الحياة معه أن ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينهما. ومن جانب آخر فإن حصر الطلاق بيد الزوج وعدم وجوب إعلانه للقضاء إلا في حالات خاصة هو أمر يتوافق مع مقتضى الستر الذي يدعو إليه الإسلام، وهو أكرم وأليق بالكرامة الإنسانية وسمعة أفراد الأسرة ومستقبلهم، وخاصة أن الحياة الزوجية لا تخلو في كل تفاصيلها مما يتحرج الزوجان من إعلانه، وقد تدور معظم أسباب الطلاق حولها.
الفرع الرابع: جواز تعدد الزوجات
لقد قرر الشرع الكريم جواز تعدد الرجل للزوجات في قوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ (النساء: 3)، ويروى المشككون أن في ذلك مناقضة لحق المرأة وامتهانا وظلما للمرأة وتمييزا ضدها، وأنه قد شرع لصالح الرجل ورغباته وانتقاصه للمرأة. وجميع ذلك يتساقط عندما ندرك ويشهد الأعداء أنفسهم من علماء الاجتماع وإحصائيات واقع بلادهم بما ينضوي تحت هذا التشريع من مصالح عظيمة للرجال والنساء سواء وللمجتمع عموما، ولما له من المبررات المتنوعة على مستويات مختلفة، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو خاص. فأما المبررات الطبيعية فتتمثل في القوانين التي تخضع لها فصيلة الإنسان فيما يتعلق بالنسبة بين الذكور والإناث كما تثبته وتقره حقائق العلم الحديث، وأثبتته واقع المجتمعات والإحصائيات التي تضج بالعنوسة بين الفتيات، وأما المبررات الاجتماعية فتعود إلى طبيعة أعباء الحياة الاجتماعية وتوزيع الأعمال والأدوار بين الجنسين، مما يجعل الرجال أكثر تعرضا للوفاة كالحروب ونحوها من أوضاع قد مرت على المجتمعات الإنسانية وتعاني منها، بالإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية التي تؤهل المرأة للزواج بمجرد البلوغ بخلاف الرجل الذي لا يستطيع الزواج حتى يكون قادرا على توفير نفقات المعيشة لزوجته وأسرته. بينما ترجع المبررات الخاصة فيما يطرأ على الحياة الزوجية من أمور تحتم التعدد، كعقم الزوجة أو مرضها عضويا أو نفسيا لا تصلح معها للقيام بواجبات الحياة الزوجية، فيكون التعدد هنا هو الخيار الأفضل للزوجين في مقابل اللجوء إلى الفاحشة الممقوتة أو الطلاق الذي يبغضه الإسلام.
ومن جهة أخرى يلاحظ أن المشرع الحنيف لم يترك تطبيق هذا الأمر عبثا للعقول والأهواء، بل وضع له شروطا صارمة وضوابط مشددة من توفر القدرة والعدل، وشدد على وجوب العدل سواء أكان في النفقة بجميع ضروبها أم غيرها (العوتبي، 1990م، ج13، ص232، السالمي 2001م، ج2، ص482)، مع التحذير والوعيد من التقصير والظلم في ذلك، فقد روي عن رسول الله r: “من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط” (ابن ماجه، برقم 1969، ج1، ص633).
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن تشريع نظام تعدد الزوجات هو ليس الأصل، ولكنه أثبت أنه حل عملي واقعي يظهر عظمة الإسلام في إيجاد الحلول المناسبة لجميع المشكلات بخلاف باقي الأنظمة والديانات التي تمنعه مطلقا، وقد شرع تعدد الزوجات للضرورة أو الحاجة، ولصالح المرأة نفسها بسبب الضعف والعجز، أو كثرة النساء عقب الكوارث والحروب (الزحيلي، 2007م، ص261)؛ ليكون حلا بديلا عن الطلاق إذا ما تعرضت الحياة الزوجية لمنغصات، كمرض الزوجة المزمن والعقم… ونحوها مما قد يكون سببا للطلاق وانهيار الأسرة، فأبيح للرجل إحداث زواج ثان أو ثالث أو رابع دون أن يفرط في الأولى. وفي ذلك وجه عظيم لمدى رعاية المرأة وحمايتها من الجور والظلم في الإسلام، وفي حفظ منظومة الأسرة والمجتمع بصور عامة.
الخاتمة:
- الفردية والجماعة من أخطر الخطوط في النفس البشرية، وعليهما -في صورتهما الصحيحة أو المنحرفة -تقوم نظم الحياة كلها صالحها وفاسدها، وعلاقات الحياة كلها سويها أو منحرفها، وسلوك الأفراد والجماعات.
- يدل الخلاف في مفهوم مصطلحي الفردية والجماعية ومدلولاتهما إلى أن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف يعود إلى عدم فهم حقيقة النفس البشرية، وأنها لن تستقيم إلا بالجمع المتزن بالجانبين المتضادين معاً والتوفيق بينهما توفيقاً يؤدي لصلاح الفرد والمجتمع.
- قامت نظرية الإسلام على أساس الاهتمام بالنزعتين معا، دون إغفال لأحداهما، أو المبالغة في تقدير واحدة منهما على حساب الأخرى، فقد بنيت على بعد فردي وجماعي يتكاملان في منظومة واحدة ويمتزجان في سبيل تحقيق غايات التشريع المرجوة، فكانت صياغة فكر الفرد المسلم وشعوره على أساس أن دور الفرد يتداخل مع دور الجماعة ومرتبط بها، وأن المسؤولية الفردية لا تتعارض مع المسؤولية الجماعية ولا تلغيها وإنما تتكامل معها وتتحرك معها.
- إن تغليب أحد النزعتين على الآخرى يولد ردّات فعل مضادة، وعليه كانت المذاهب الفردانية أو الجماعية في حقيقتهما جموح جديدا ينشأ من رد فعل لجموح قديم، وتحطيم لخصائص الإنسانية في جانب لإنقاذه تحطم خصائصه الأساسية في جانب آخر.
- مدلول الفردانية في التصور الإسلامي مرفوض في صورتها التي تحمل معنى التقديس المطلق لحقوق الفرد بما يدفعه إلى التمرد وتجرده عن كل القيود والثوابت والمسلمات الدينية والأخلاقية والمبادئ الاجتماعية التي تحفظ مصلحة الفرد والمجتمع في الوقت نفسه.
- لا تستقيم الفكرة الإسلامية مع النزعة الجماعية المطلقة أو الشيوعية؛ لأن المجتمع في منظوره هو مجموع بشري يترابط أفراده بعلاقات اجتماعية وعاطفية ومالية، وفق منظومة تضبط تلك العلاقات بهدف رعاية المصالح العليا للمجتمع والأسرة، بالإضافة إل تحقيق المصالح الفردية الخاصة لكل فرد، وتقوم على التعاون والتكامل بينهم في سبيل تحقيق مقاصد الخلق والاستخلاف وعمارة الكون.
- توجد مظاهر كثيرة تدل على أن الإسلام أقر النزعة الفردانية في ذات المسلم، حيث جاءت نصوصه المقدسة تركّز على مساحة واسعة لاستقلال الفرد وتقدير ذاتيته وحريته داخل المجتمع، لكنها ليست فردانية منفلتة بل مسيجة بضوابط وسياج المسؤولية الفردية، وليست حرية تنفي انفصام الفرد عن الجماعة التي ينتمي إليها ويحيا ضمنها باستقلاليته، أو تنفي كونه عضواً مهما في الجماعة التي ينتمي إليها.
- قدر الإسلام في نفس الإنسان النزعة الجماعية والميل إلى الانتماء إلى الجماعة، فجاء خطابه يركز على تعزيزها وتنظيمها من خلال مظاهر كثيرة تقرّ وتؤكد أن الصبغة الجماعية في التشريع هي الغالب.
- سارت الشريعة الإسلامية في ظل تنزلها وتأسيس بنائها للمجتمع المسلم بالمسارين الفردي والجماعي معا، حققت فيه التكامل بينهما، بما يحقق مقاصد التشريع من وجود تلك النزعتين الممتزجتان في النفس الإنسانية والمضي بهما في الارتقاء بالنفس الإنسانية والمجتمع المسلم، وتتجلى معالم ذلك التكامل في مظاهر كثيرة تتوزع بين المبادئ والقواعد التي قامت عليها والمقاصد التي تقصدها والخطابات التشريعية التي تنص عليها وترغب فيها.
- رغم أن الفردية والجماعية خطان متقابلان أو متوازيان إلا أن التشريع الإسلامي استطاع الجمع بينهما بصورة مميزة في التمازج والتكامل الفذ الذي لا يمكن أن يتحقق في إطار محددات وضوابط تحكم تلك العملية، ومن تلك الضوابط: أن تكون وفق منهج الاعتدال والوسطية، وتراعي تحقيق العدل والعدالة، وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض، مع الحدّ من سلطان الفرد إذا تعارض مع الصَّالحِ العام.
- يجب أن تفسر الأحكام الخاصة بالمرأة في نطاق تشريع أسري مجتمعي متكامل؛ كونها أحكام تشكل وحدة منسجمة تعبر عن فلسفة النظام العائلي بل النظام الاجتماعي في الإسلام، ويتحقق ذلك بربط الأحكام ببعضها، وربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية؛ لأن للشريعة الإسلامية مقاصد كلية وقواعد عامة تندرج تحتها جميع فروع الشريعة وتفصيلاتها.
التوصيات:
- تكثيف الدراسات التي تقوم باستجلاء الروح الإسلامية المشرقة في تشريع الأحكام الشرعية ومبادئها، ومنها تكامل البعد الفردي والجماعي فيها وما يترتب عليه من العدالة الإنسانية الرائعة.
- العمل على تبني مشروعات لموسوعات فكرية تضمن مجهودات متكاملة لبيان وتجلية الحقيقة الثابتة الناصعة لمكانة المرأة في الإسلام وتجلية الفهم الصحيح لقضايا وأحكامها الخاصة في ضوء قاعدة تكامل البعد الفردي والجماعي في الإسلام، مما يخدم في الرد على المغرضين الذين يشوهون صورة المرأة المسلمة ومكانتها في المجتمع المسلم، ويسهم في مواجهة حملات التغريب والاتفاقات الدولية الهدامة للأسرة والمجتمع المسلم.
المراجع والمصادر:
- ابن عابدين، محمد أمين أفندي،2000م، حاشية رد المحتار على الدر المختار الشهير بـ(حاشية ابن عابدين)، 1421هـ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت.
- ابن عاشور، محمد الطاهر،2009م، مقاصد الشريعة الإسلامية، ط4، 1430هـ، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس؛ دار السلام، مصر.
- ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني، سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
- ابن منظور، محمد بن أكرم، لسان العرب، ط1، دار صادر، بيروت، د. ت.
- ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت.
- ابن عبد السلام، عز الدين عبد العزيز السلمي، 2010م، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (القواعد الكبرى)، تحقيق: نزيه كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية، ط4، 1431هــ، دار الإسلام، دمشق.
- أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، 1987م، جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، م).
- أحمد بن حنبل، أبو عبدالله الشيباني: مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.
- أحمد بن حنبل، أبو عبدالله الشيباني، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.
- البخاري، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي،1987م، الجامع الصحيح، تحقيق: مصطفى ديب البغا، ط3، 1407هـ، دار ابن كثير، بيروت.
- البخاري، أبوعبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي، التاريخ الكبير، تحقيق: السيد هاشم الندوي، دار الفكر، بيروت.
- بكوش، يحي محمد، 2014م، فقه الإمام جابر بن زيد، ط1، 1435هـ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع.
- البوطي، محمد سعيد رمضان، 2005م، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط4، دار الفكر، دمشق.
- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي، الجامع الصحيح سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- جامعة بيرزنت، موسوعة جامعة بيرزنت في المعاجم العربية والانطولوجيا (معنى فردانية)، (أضخم قاعدة بيانات معجمية عربية متعددة اللغات ومحرك بحث للمعاجم العربية)، رابط https://ontology.birzeit.edu
- الجراري، عباس، 1997م، الإنسان في الإسلام، ماهيته وحقيقة وجوده، 1408هـ، مطبعة الأمنية، منشورات النادي الجراري، الرباط.
- الجرجاني، علي بن محمد بن علي، 1984م، التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت.
- الخراساني، سعيد بن منصور، 1982م، سنن سعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، 1403هـ الدار السلفية، الهند.
- خليل، خليل أحمد، 1984م، المفاهيم الأساسيّة في علم الاجتماع، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
- الخليلي، أحمد بن حمد، 2001م، الفتاوى، إعداد ومراجعة: قسم البحث العلمي بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ط1، 1421هـ، مكتبة الأجيال، مسقط.
- الدسوقي، محمد، 1986م، من قضايا الأسرة في التشريع الإسلامي، ط1، 1406هـ، دار الثقافة، الدوحة.
- الرازي، فخر الدين محمد بن عمر التميمي، 2000م، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، ط1، 1421هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الرفاعي، حامد بن أحمد،1997م، الإسلام والنظام العالمي الجديد – سلسلة ( دعوة الحق ) كتاب شهري يصدر عن رابطة العالم: الإسلام بمكة المكرمة، العدد 146، سنة 1419 هـ، الفصل الرابع، وراجعه أحمد القديري الإسلام وصراع الحضارات – كتاب الأمة – وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في قطر – مايو 1995.
- الزحيلي، وهبة، 2007م، الحرية في العالم، ط4، 1428هـ، دار الفكر، دمشق.
- الزحيلي، وهبة، 2007م، حق الحرية في العالم، ط4، 1418هـ، دار الفكر المعاصر، بيروت.
- الزرقا، أحمد بن محمد، 1989م، شرح القواعد الفقهية، صححه وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا، 1409هـ، دار القلم، دمشق.
- الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله، 2000م، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق: محمد تامر، ط1،1421هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
- السالمي، أبو محمد عبدالله بن حميد، 2001م، جوابات الإمام السالمي، تنسيق ومراجعة: عبد الستار أبو غدة، ط3، 1422هـ، ج2، ص482.
- سعيد، مراح، 2016- 2017م، ولاية التزويج في الفقه الإسلامي والقانون المقارن، رسالة ماجستير، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الحميد بن باديس، الجزائر.
- السلاوي، عزالدين، 1996م، أسئلة الذات والعالم والوسطية في الإنسان المسلم، مقال منشور بمجلة دعوة الحق المغربية، الرباط، العدد 334، ذو الحجة، 1418ه.
- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، 1982، الأشباه والنظائر، ط1، 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد، 2001م، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: محمد عبد القادر الفاضلي،1423ه، المكتبة العصرية، بيروت.
- الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد، 2010م، الاعتصام، تحقيق: سليم بن عبيد الهلالي، ط1، 1413هـ، دار ابن القيم للنشر والتوزيع، الرياض، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، القاهرة.
- شطارة، عامر ناصر، 2014م، الفردانية في الفلسفة الحديثة كيركيجارد أنموذجا، بحث منشور في مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 41، ملحق1.
- الشقصي، خميس بن سعيد بن علي، منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط.
- صليبا،1982م، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد، 1984م، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1405هـ، دار الفكر، بيروت.
- عاشور، مصطفى، الفردانية وأزمة الإنسان المعاصر، مقال منشور في موقع الإسلام اليوم رابط https://islamonline.net
- عبد الرحمن، طه، 2014م، بؤس الدهرانية -النقد الائتماني لفصل الأخلاق على الدين-، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.
- عطية، جمال الدين، 1999م، مقاصد علم الاقتصاد الاسلامي، بحث منشور في مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد الثامن، 1420هـ.
- العليان، عبدالله، 2021م، الإسلام بين الفردية والجماعية، مقال منشور بجريدة عمان، بتاريخ 28/ 7/ 2021م، رابط https://www.omandaily.om
- عمارة، محمد، 1998م، الإسلام والأمن الاجتماعي، ط1، 1418هـ، دار الشروق، القاهرة، بيروت.
- العوتبي، سلمة بن مسلم الصحاري، 1990م، الضياء، 1411هـ، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط.
- الغرياني، الصادق عبد الرحمن، 1992م، الأسرة أحكام وأدلة، منشورات جامعة الفاتح، ليبيا.
- الفاروق، إسماعيل راجي، ونصيف، عبدالله عمر، 1984م، العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية، ترجمها إلى العربية: د. عبدالحميد محمد الخريبي، ط1، عكاظ للنشر والتوزيع وجامعة الملك عبدالعزيز، الرياض، 1404هـ.
- الفاسي، علاّل، 2001م، مقاصد الشريعة ومكارمها، دراسة وتحقيق: إسماعيل الحسني، ط1، 1432هـ، دار السلام، القاهرة.
- القحطاني، مسفر، في عصر التحولات: المجتمع بين هيمنة الفردانية والعودة للأنسنة، مقال منشور في منتدى العلاقات العربية والدولية، بتاريخ 11/ 3/ 2022م، رابط https://fairforum.org/article/8
- قطب، سيد، 1993م، العدالة الاجتماعية في الإسلام، ط13، دار الشروق، بيروت؛ القاهرة.
- قطب، سيد، 2004م، في ظلال القرآن، ط34، 1425هـ، دار الشروق، مصر.
- قطب، سيد، 2005م، الإسلام ومشكلات الحضارة، ط13، 1426هـ، دار الشروق، القاهرة.
- قطب، سيد، 2013هـ، هذا الدين، ط18، 1435هـ، دار الشروق، القاهرة.
- قطب، محمد، 1989م، الإنسان بين المادية والإسلام، ط10، 1409هـ، دار الشروق، القاهرة، بيروت.
- قطب، محمد، 1992م، جاهلية القرن العشرين، ط12، 1412هـ، دار الشروق، القاهرة، بيروت.
- قطب، محمد، 1993م، دراسات في النفس الإنسانية، ط10، 1414هـ، دار الشروق، القاهرة، بيروت.
- الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، 1982م، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت.
- مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي، موطأ الإمام مالك، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر.
- الماوردي، علي بن محمد بن محمد بن حبيب، 1986م، أدب الدنيا والدين، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- مسلم، أبو الحسين بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- ناصر مكارم الشيرازي، 1989م، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، 1413هـ، مؤسسة البعثة.
- نوح، السيد محمد، 1990م، شخصية المسلم بين الفردانية والجماعية، ط3، 1411هـ، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة.
- هراري، لوفال نوح، 2021م، الإنسان الإله، من الهومو سابينس إلى الهومو ديوس، تاريخ مختصر عن المستقبل، ترجمه عن الفرنسية وقدم له: علي بدر.
- وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الكويتية، 1983م، الموسوعة الفقهية الكويتية، ط1، 1404هـ، دار السلاسل، الكويت.