نوفمبر 23, 2024 3:30 ص
lshrlmgrbymhmdbnys

الأستاذة مريم نغم

وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي بالمغرب

              المدرسة الفرنسية بالرياض بالمملكة العربية السعودية.

 mariama.alainazi@gmail.com

00966503253782

الملخص:

عرف الشعر المغربي المعاصر، كما هو الشأن في معظم أقطار العالم العربي ثورة على التقاليد الشعرية المألوفة. التي توارثتها القصيدة العربية عبر قرون وعهود، قد تصل إلى العصر الجاهلي. والتي تتعلّق بالسعي نحو تجاوز البنية الإيقاعية للشعر الجاهلي، وتحديثها من حيث المضمون والشكل.

و يُحيلنا التداخل بين التشكيل والشعر مباشرة إلى إحدى شروط الإبداع التي تفرض انتفاء الحدود بين الأجناس، أحد مظاهر هذه الثورة والتي تدعو إلى خرق القاعدة، وترك العمل الفني يجوب في رحاب التحرر من القاعدة، التي قد تأسر التدفق الإبداعي، وكمثال تجربة توظيف الخط المغربي، والتي برزت مع الشعراء المعاصرين. فما هي ـ إذن ـ الحيثيات التي ساهمت في خلق هذه التجربة؟ ثم ما أهميتها في مسار الشعر العربي عموما، والمغربي خصوصا؟ وكيف وظف الشاعر المغربي محمد بنيس ظاهرة التشكيل في الشعر المغربي المعاصر باعتباره أحد رواد تطوره؟

الكلمات المفاتيح: التشكيل، الشعر، التداخل، التحديث، القصيدة.

 

Formation phenomenon

In contemporary Moroccan poetry

The experience of the poet Mohamed Bennis

Model

Mrs. Maryam Nagham

Ministry of National Education and Higher Education in Morocco

The French School in Riyadh, Saudi Arabia

Summary:

Contemporary Moroccan poetry, as is the case in most countries of the Arab world, witnessed a revolution against the familiar poetic traditions. The Arabic poem inherited over centuries and eras may reach the pre-Islamic era. Which is related to the quest to transcend the rhythmic structure of pre-Islamic poetry, and to update it in terms of content and form.

The overlap between composition and poetry refers us directly to one of the conditions of creativity that imposes the absence of borders between races, one of the manifestations of this revolution, which calls for violating the rule and letting the artwork roam in the realm of liberation from the rule, which may capture the creative flow, and for example the experience of employing Moroccan calligraphy, which emerged with contemporary poets.

. What, then, are the reasons that contributed to creating this experience? Then what is its importance in the course of Arabic poetry in general, and Moroccan poetry in particular? And how did the Moroccan poet Mohamed Bennis employ the phenomenon of formation in contemporary Moroccan poetry, as one of the pioneers of its development?

Keywords: formation, poetry, overlap, modernization, poem.

مقدمة:

عرف الشعر المغربي المعاصر مجموعة من التغييرات التي ساهمت في تطور القصيدة المغربية وتحديثها سواء من حيث المضمون أو الشكل. وهذا يعكس ـ بشكل تلقائي ـ تنوع الرؤى وتعدد التجارب، وخلق تواصل شعري جديد بين الفنون. قد تبلغ فيه الحميمية إلى حدودها القُصوى حيث القصيدة / اللوحة، والكلمة الشعرية تترنّح راقصة على أوتار الموسيقى. هكذا يطلُّ الشعر على ضفاف أخرى مع التشكيل والموسيقى وغيرهما، لتتلاشى الحدود الأجناسية ليس فحسب بين الأجناس الأدبية، كما هو الشأن في قصيدة النثر، ولكن أيضا بين الفنون فيما بينها . هذا التعالق الدافئ بينها، والذي أسْهم في تحديث الشعر المغربي، وانفتاحه على تجارب شعرية هائلة، حذَت بهذا المقال أن يقف عليها ليُجسِّد بعض جوانبها ، وهي التي تتعلّق خصوصا بتجربة التشكيل التي لم يعُد معها التخمين في إمكانية إحداث ارتباط وطيد بين الشعر والتشكيل، نظرا لمُعاينة تجارب ناجحة في هذا الإطار.

وستتكلف هذه الدراسة كمقترح نظري الوقوف على ظاهرة التشكيل في الشعر المغربي المعاصر، لتبقى تجربة الشاعر المغربي محمد بنيس نموذجا للتأمل. بيد أننا سنحاول ـ بدءا ـ في هذا الصدد تحديد المفهوم الإجرائي لهذا المقال كمفتاحمن شأنه أن يسهم في سبر أغوار هذه الدراسة.

  • مفهوم التشكيل :

يعتبر التشكيل فنا من الفنون الجميلة الذي قد يتجسّد في شكل أو صورة ما، ويعتمد البصر للتعبير والتواصل مع المتلقي وتبليغه رسائل متعددة. كما أنه يعكس المستوى الثقافي والترف الفكري والجمالي لصاحبه، وللبيئة المتواجد فيها. ناهيك عن كونه صنعة تحذو الإتقان والجودة. وإذا تصفحنا بعض المعاجم العربية، باب “شكل” نجدها تكاد تجمع على أن :

“…شَكَلَ : ـ شكْلاً المريض : تماثل.

ـ شَكَّل الشيء : صوَّره.

ـ وشاكل مُشاكلةً : ماثَلَهُ / وافقَهُ…

ـ تَشَكَّلَ : تصوّر.

ـ الشَّكْل : ج. أَشْكال وشُكُول: الشَّبَه / صورة الشيء المحسوسة أو المتوهَّمة . ويُرادُ به غالبا ما كان من الهيئات  يُلاحظ أوضاع الجسم كالاستدارة والاستقامة والاعوجاج…

ـ الشّكْل: المثْل والنظير…”تقول هذا ليس من شكلي” أي لا يوافقني ولا يصلُح لي. يُقال “فلان شكله جميل” أي منظره؛ وفلان يُحبُّ الشكل” أي المنظر الجميل.

ـ الأشْكال : الحُلي من لؤلؤ يُشبه بعضها بعضا.

ـ الشِّكْل :المِثْل…” (المنجد في اللغة والأعلام ،طبعة 1984، منشورات دار المشرق ـ بيروت ص(398 و 399) باب “شكل”.)

وقد ورد في كتاب الله عز وجل، سورة الانفطار، الآية (8) : “في أي صورة ما شاء ركبك” أي شكّلك ، حسب تفسير ابن كثير وغيره.

يمكننا أن ندرك من كل ما تقدَّم أن ” التشكيل ” لغة  هو التصوير والتمثيل والشَّبه، سواء أشياء مجسَّدة أو أفكارا مجرَّدة. وهذا يُنِمُّ بشكل ضمني على وجود نوع من التناسُب ونقط الالتقاء بين الفكرة في الذهن أو الشيء المجسَّد أمامنا وبين اللوحة. هذا الأمر يدفعُنا أن نشير مسبقا إلى مرونة هذا الفن، وطواعيته لينسجم في جمالية رائعة مع الشعر.

أما اصطلاحا فالتشكيل فن مثل المسرح والتمثيل والموسيقى والشعر وغيرها. وهو فن عريق وخالد صَاحَبَ تاريخ وأمجاد الحضارات منذ العهود السحيقة. يخترق الحدود الجغرافية واللغوية. ويبقى حضوره ناجم عن أهميته، التي تساهم في استمراريته، النابعة من عشقنا المتواصل له.

والجدير بالذكر ـ هنا ـ أن التحديد الإجرائي لمفهوم “التشكيل” في علاقته بمجال الأدب، وتحديدا بفن الشعر، أمر يبدو إشكاليا، سيما في حضور ذلك المزج الفني بين اللوحة واللغة. هذا التشابك لا يغدو معه التفكير فحسب بالشكل المجسّد والألوان وتقنيات الرسم الفنية الخالصة؛ إنما يتعدّى ذلك إلى التأمل في الانسجام والالتحام بين الرسم واللغة، ومدى التجاوب الممكن واللامحدود بينهما، حيث تتمظهر الرؤيا الفنية في أبهى تجلياتها على النص / اللوحة في حضرة الذات المبدعة.

فيم يلتقي ـ إذن ـ التشكيل كفن يعتمد البصر، والشعر كفن يقوم على الكلمة؟ ما سرّ هذا التلاقح الكامن بين هذين الفنين العريقين الرائعين لخلق اللوحة الفاتنة بألوان الكلمة العذبة التي تسكب رونق ماء الحياة على صفحة اللوحة، التي بدورها تُلبس الكلمة من أسرار الخفيّ بين ثنايا أشكالها اللامتناهية؟

قد يتعانق الرسم والكلمة في حضرة الخيال الجامح وظل الأحاسيس الجياشة، ويتواءمان في كونهما موهبة وصناعة تتطلب الحذق والمهارة والإتقان.

  • التشكيل وعلاقته بالفنون الجميلة

يعتبر التشكيل فنا من الفنون الجميلة إلى جانب المسرح و الأدب والسينما والموسيقى والرقص والمعمار والنحت… إذ نجده ” يمثل شكلا من أشكال الفكر الجمالي، وسيبقى نشاطا من أنبل النشاطات التي جرت فيها المحاولة لرفع الفن إلى مستوى المناخات الروحية من غير أن تنزع عنه النكهة الحسية الحية للتأمل والتخيل” ( “الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو ، ترجمة ميشال عاصي، منشورات عويدات بيروت ـ باريس،الطبعة الثانية 1982. ص(185)).

نتغيا من خلال هذا المبحث مقاربة فن التشكيل في علاقته بالفنون الأخرى، ومحاولة رصد جمالياته. الشيء الذي يُحيلنا ـ تلقائيا ـ للإفادة من علم الجمال. حيث يؤكد اتيان سوريو أن :”الحاجة الجمالية هي من أرسخ الحاجات التي تميّز الكائن البشري، ومن أكثرها ثباتا وقوة. كما يؤكد لنا على أن هذه الحاجة لا يصار إلى ممارستها في الميدان الخاص والمحدود للفنون الجميلة فقط حيث تجد، في الحقيقة، كفاياتها الأكثر سموا وصفاءا وكثافة، وإنما  تلقاها كقوة محرّكة، وموجهة، ومتممة، ومشرفة، ومستشرفة معا ، في مختلف ميادين النشاط الإنساني” (المرجع السابق، ص(315و316)).

ولقد حظي التشكيل بأهمية كبيرة منذ القدم، وفي كل الأمم لدى الإغريق والرومان واليونان والعرب وغيرهم. نذكر في هذا الصدد عبارة أوردها اتيان سوريو للمفكر”ميكالانج” تبرز مكانة الرسم، يقول فيها:” إن فن الرسم، الجيد، لهو شيء نبيل ومقدس بحد ذاته…وهو نسخة لكمالات الله” (ـ المرجع السابق، ص(143)).

انطلاقا مما سبق تتضح أهمية التشكيل في كونه يحمل رسائل سامية، ويتضمن أهدافا نبيلة. يقول الباحث محمد مختار الجنوبي في نفس السياق :” الصورة/ اللوحة نص بصري من دال ومدلول، أو مجموعة من العلامات يمكن دراستها والكشف عن خواصها وملامحها ودلالاتها.

اللوحة / نص، رسالة تبث بلغتها، إشكاليتها وتنقل رسالة من مرسل ومستقبل من خلال استعمال شفرة خاصة تشير إلى شيء ما” (كتابة الصورة، محمد مختار الجنوبي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ  طبعة 2002 . ص(7)).

ويتسم التشكيل ـ إلى جانب ما تقدَّم ـ بعموميته، حيث لا تحدّه عوائق لغوية أو جغرافية أو غيرهما؛ لأنه رسائل من الروح إلى النفس البشرية. ذلك ما يوضحه أيضا اتيان سوريو في قوله : “المعروف أن الفنون التشكيلية هي فنون عامية مشتركة. وهي، على نقيض الأدب، ليست تحُدُّها حدود لغوية. وانتقال المعطيات الفنية من بلد إلى آخر يمكن أن يتمَّ بطرق عديدة لا تُحصى. فالآثار الفنية تنتقل وتسافر. ولعلَّ معطيات الفنون الثانوية أكثرها انتقالا، وأيسرها سفرا، وهي أيضا غرض تجارة فريدة رائجة… كما أن فرنسا في القرن الثامن عشر قد عرفت الفن الصيني، أكثر ما عرفته بواسطة الرسوم على الآنية…” ( “الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو ، ترجمة ميشال عاصي، منشورات عويدات بيروت ـ باريس،الطبعة الثانية 1982. ص(164 و 165)).

يمكن أن يُنمَّ هذا الكلام عن إحدى السمات التي تكاد تميّز التشكيل عن بعض الفنون المتضمنة لمدلولات ثقافية تجعلها أكثر ارتباطا ببيئتها. إذ قد يتعذّر معها أحيانا فكّ رموزها، وفهمها بشكل جيد. يوضح الجنوبي ذلك في قوله :” لو اعتبرنا اللوحة / النص “علامة” يمكن من خلال البحث فيه التعرف على الوسط البصري الذي تنتمي إليه اللوحة، وفي هذا الوسط تختلف شفرات اللوحة عنها في الوسط اللغوي، فالصورة / اللوحة لا يتوفر فيها دال صوتي، لذا المدلول فيها متعدد ومختلف، ومن هنا يمكن قراءة اللوحة على أنها كتابة بعيدة عن الشفوي، مع العلم أن الكتابة نص بصري له فضاؤه الخاص كما حاول بارت أن يوضحه في النص الكتابي على أنه نص غير كامل مفتوح الدلالة” (كتابة الصورة، محمد مختار الجنوبي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ  طبعة 2002 . ص(7)).

يتضح من هذا القول أن اللوحة مفتوحة على ما لا نهائية القراءة، إلى جانب كونها متعددة المدلولات، فهي قابلة للتأويل وفق البيئة الثقافية للمتلقي، ذلك أنَّ”الأثر الفني في إطاره البيئوي الخاص يرتبط على العموم بعالم كامل بالمدلولات الثقافية، وبأبعاد من المعاني المأثورة، وبشبكة من المعطيات الثقافية التي لاتنتقل بانتقال الأثر، ولاترحل معه من مكان إلى مكان. فثمة أشكال وأغراض استمدها الغرب من صور الخط العربي مجرَّدا تماما عن المعاني التي يتضمنها. وكثير من أشكال الفن الصيني وأغراضه مرتبط بدلالات رمزية محدَّدة، لم يكن الغربيون الذين استلهموها يفقهون شيئا منها على الإطلاق… وعندما استند “بيكاسو” إلى قناع زنجي، ليستوحي منه لوحته “راقصة أفينيون” فالثابت أن الخطوط وطريقة استعمال الوجه البشري هي التي كانت تؤثر في الفنان، وليست قط المعطيات الايديولوجية والثقافية التي يرتبط بها ذلك القناع في بلاده الأصلية” ( “الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو. المرجع السابق. ص(166 و 167)).

  • علاقة التشكيل بالمسرح:

هذا العنوان الذي يكاد يُجسِّد إمكانية وجود لقاء وترابط بين التشكيل والمسرح، يطرح أكثر من إشكال: هل ـ حقا ـ يمكن أن توجد علاقة بين التشكيل والمسرح؟ وكيف يمكن رصد هذه العلاقة ومقاربتها؟

قد يتعذر ـ منذ الوهلة الأولى ـ معرفة طبيعة العلاقة ونقط الالتقاء بين التشكيل والمسرح، بيد أننا سنحاول التسلّح بالتأمّل العميق، واستقصاء مجهودات الباحثين والدارسين في هذا السياق.

فإذا شئنا ملامسة أقدم اللحظات التي يمكن أن تؤكد العلاقة بين التشكيل والمسرح، فإننا نعثر على أنها تعود إلى نشأة المسرح الإغريقي والروماني في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، حيث تجدر الإشارة  ـ في هذا الصدد ـ إلى أن الإغريق والرومان قد اهتموا بإنشاء مسارح ضخمة، كانت ـ بداية ـ في الهواء الطلق. أما في العصر الحديث فمع ظهور فن الأوبرا، والاهتمام بالديكور والأزياء والألوان والظل والضوء…أي كل ما يتعلّق بفضاء المسرح كلوحة متحركة تحتفي بتشكيلات الجسد التي تؤثث  فضاء هذا المسرح.

هكذا نتأمّل في التشكيل اللوحة كرسالة تعبيرية، وفي المسرح الذي بدوره لا يخلو من رسائل، نجد الفضاء المسرحي لوحة متحركة تُراعي الانسجام والتناغم اللوني إلى جانب الحركية. ويمكن أن نلاحظ أن كِلا الفنين يجسِّدان لوحة، أي أنهما يعتمدان البصر بالدرجة الأولى للتعبير والتواصل، إضافة إلى اهتمامهما بخلق لوحات فنيّة تتفتّقُ جمالية وإبداعا لتُشكِّل فضاء كلٍّ منهما.

  • علاقة التشكيل بالموسيقى:

وجود علاقة بين التشكيل والموسيقى موضوع يحتاج أكثر من وقفة يستعصي على هذا المبحث كإحدى محطات هذه الدراسة الإيفاء بكل جنباته. غير أننا سنحاول أن نُقاربه بشكل خافت،لا تعدو أن تكون إشارات وملاحظات مراعاة لمحدودية زمن هذا المقترح.

ونستهل الحديث عن علاقة التشكيل بالموسيقى بالتساؤل الآتي: ما هي طبيعة العلاقة الكامنة بين الصوت والصورة؟ بين اللوحة والنغمة؟

شهدت الثقافة القديمة وضع تحديدات معرفية لكل مناحي الحياة، حيث وضعت الحدود بين الفنون وأشكال التعبير وأنواع المعرفة بشكل عام. فكان لا يُسمح بتجاوزها، إذ كل فن أو نوع يتميّز بخصائصه وسماته عن غيره وإن كانا من نفس الحقل المعرفي. يقول الكاتب أيضا :”ولا ريب في أن الهوة القائمة في تقاليدنا الأوروبية بين الموسيقى والفنون التشكيلية سيزول منها الشيء الكثير إذا ما أردنا وجود فن تجريدي يستهدف خاصة إثارة حالات من التأمل والحلم. وإن ذلك سيؤدي أيضا إلأى إذكاء شعلة الفن التشكيلي الذي ينزع إلى خلق مناخ من الانخطاف يُشارف به حدود المطلق” (المرجع السابق، ص(185)).

ويمكن أن نُمسك بلحظات التآلف بين التشكيل والموسيقى من خلال التداخل الأجناسي سواء بين الفنون أو الأنواع المتواجدة في كل فن على حدى، مثلما هو الشأن في الأنواع الأدبية، كانتفاء الحدود بين الشعر والنثر، بين المسرحية والرواية، وهكذا…

اللقاء بين التشكيل والموسيقى لقاء خاص يفتح الإبداع على لا نهائيته، حيث تتبدّل مواقع رؤيتها، والآليات التي تضبط العلاقة فيما بينهما. فارتباط كتابة الحروف الموسيقية بترجمتها على الآلات العازفة لتغدو نغمات رائعة في مسامعنا يجسِّد ـ برأينا ـ ومن ناحية ما علاقة التشكيل بالموسيقى،والعين بالأذن. فجمالية الإبداع في التشكيل تجعل من اللوحة موسيقى عذبة، وسمو الفن في الموسيقى أن تتشكَّل الألحان لوحات فنيَّة راقصة.

فقد توحي أحيانا بعض الصور مثلا، منظر الصحراء والفيافي بموسيقى تختلف حتما عن الإيقاع الموسيقي في البساتين الغنَّاء والطبيعة الخلابة؛ ومنظر الغروب بحنين موسيقي يتميَّز عن ألق الشروق.

كما قد توحي الألحان بصور تخييلية للرسام، فيعمل على خلقها على لوحاته.إذ ـ غالبا ـ ما يكون للموسيقى وقع خاص على الفنان التشكيلي، لتُلهم ريشته بتصوير تلك النغمات والإيقاعات والألحان على فضاء اللوحة.

هكذا قد توحي أحيانا المناظر والرسومات والصور بمعزوفات خاصة، تجسِّد ذلك الترابط الحميم بين الرسم والموسيقى، طالما تبقى الذات الإنسانية المبدعة في أسمى لحظاتها هي نفسها.

  • علاقة التشكيل بالرقص:

يعتبر الرقص فن من الفنون الجميلة. الذي بدوره يتضمن رسائل للمتلقي، ويصبو تحقيق غايات معينة. وهو أيضا يمتلك آليات خاصة للتواصل والتعبير، تعتمد في الأساس على التعبير الجسدي، لتشكيل لوحات رقص فنية، تهفو جمالية وإبداعا من خلال تحركات الجسد. فالحديث عن الموسيقى استدعاء غالبا للرقص. وهذا الأخير نفسه لوحة برسم فنان تُحرِّكها ترنيمات الجسد. والشعر إيقاع يتناغم مع إيقاع الروح والجسد، ويشكّل مع الموسيقى الراقصة لوحة باهرة. قد يتمازج فيها اللون والنغم والكلمة في لوحة بديعة على خشبة رائعة. حيث يلتقي الرسم والموسيقى والرقص والشعر والمسرح.

نستشفُّ ـ إذن ـ أن الرقص تشكيل جسدي، أو لوحات متحركة للجسد. تتأكَّد معها طبيعة العلاقة بين الرقص والتشكيل، والتي يطبعها التكامل والتوافق والجمال.

  • علاقة الشعر بالتشكيل:

هذا المبحث تطرّق له شعراء ونقاد وفلاسفة ومفكرون قديما وحديثا، منذ أرسطو إلى الآن.

وقد ينتاب المرء نوع من الريب حول إمكانية وجود علاقة ـ فعلية ـ بين الشعر والتشكيل. إلا أنه وبناءاً على كل ما سلف، تبقى ـ برأينا ـ العلاقة بين هذين الفنين أمرا واقعا.

فالنص / اللوحة، أو اللوحة / النص لقاء بديع بين فنين يتكاملان في تشكيلة يتدفَّق معها الإبداع، وتنفتح القراءة على لا نهائيتها. لقاء تنساب معه جمالية تلقِّيهما. نُدرج ـ في السياق ذاته ـ رأي الجنوبي الذي يؤكِّد فيه ذلك قائلا :”التواصل في الصورة غير لساني، تمثِّله الأيقونة والإشارة / الرمز، ويدخلان في نسيج قياس اللوحة، الأيقونة بكونها علامة تدلّ على شيء يجمعه إلى شيء آخر علاقة المماثلة والمشابهة وهي أيضا إشارة متغيرة بتغير موضوع العمل، والإشارة بكونها علامة تشير إلى شيء ما، والرمز علامة العلامة، أي العلامة التي تنوب عن علامة أخرى مرادفة لها.

ولإعادة قراءة أعمال رواد التصوير… نعيد فك اللوحة / النص البصري، والتعامل معه كنص منتج، كجزء من وجود فاعل “(كتابة الصورة، محمد مختار الجنوبي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ  طبعة 2002، ص(7)).

وتتأكَّد العلاقة بين هذين الفنين أيضا، لأنهما ينهلان من نفس المنبع. وتخُطُّهما إرتعاشة الذات الإنسانية نفسها. يقول اتيان سوريو :” إن تطور رسم المشاهد الطبيعية في الصين متصل اتصالا حقيقيا بوجود وقائع مماثلة له في قطاع الأدب.” (“الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو ، ترجمة ميشال عاصي، منشورات عويدات بيروت ـ باريس،الطبعة الثانية 1982. ص(198)).

ولا يفوتنا في هذا المبحث أن نقف عند سمات كلّ من الشعر والرسم، سيما وأن هذه الدراسة تقوم على هذين الفنين، ودور التشكيل في تحديث الشعر العربي عامة، والمغربي المعاصر خاصة. هذه السمات قد تسْنَح لنا بإدراك طبيعة العلاقة بينهما. ونوتر إدراج المميِّزات التي قدّمها جابر عصفور في مقارنته بين كلٍّ من الشعر والرسم. والتي يُجملها ـ تحديداً ـ في ثلاثة جوانب. إذ يؤكّد بخصوص ذلك قائلا :”…بذلك تصبح المقارنة بين الشعر والرسم ذات جوانب ثلاثة، يمكن التمييز ـ مبدئيا ـ بينها:

أولا : إن كلاًّ من الشاعر والرسام ينقل العالم في أشكال فنية…

وتعتمد طريقة الشاعر والرسام في نقل العالم وتقديمه للمتلقي، على مادة ذات صلة بالحواس، فهي مرتبطة بإحساسات كليهما، وهي تُخاطب إحساسات المتلقي…وما يصنعه الشاعر ـ في هذه الحالة ـ لا يختلف كثيرا عما يصنعه الرسام، وإن توسَّل أحدهما باللون والظل، وتوسَّل الآخر بالكلمة…

ثانيا: إن طريقة الشاعر ـ في تشكيل مادته ـ تشبه طريقة الرسام على أساس أن كليهما يهدف إلى إحداث أقصى قدر ممكن من التناسب والتآلف بين عناصر مادته، هذا عن طريق ما يحدثه من تناسب وتآلف بين ألوانه على اللوحة، وذاك عن طريق ما يحدثه بين أحرفه وكلماته في القصيدة…

ثالثا: إن كلا من الشاعر والرسام ـ بطريقته الحسية في التقديم، ونجاحه في صباغة مادته ـ يمكن أن يحدث تأثيرا خاصا في نفوس المتلقين…”(الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،جابر عصفور،الطبعة الثالثة 1992، المركز الثقافي العربي.  ص( من284 إلى 287)).

يتبيّن لنا من كلام جابر عصفور أن كلاًّ من الشاعر والرسام يسعى إلى نقل العالم بكيفية فنيّة، تُراعى فيها شروط الجمالية. يقول هيغل:”ويمكن للعمل الفني على كل حال أن يكتفي بأن يكون محض محاكاة؛ ولكن ليس في ذلك تكمن مهمته أو رسالته. فالإنسان، في مسعاه إلى خلق عمل فني، ينشد فائدة خاصة، تدفعه إلى ذلك الحاجة إلى تظهير مضمون خاص”(المدخل إلى علم الجمال فكرة الجمال، هيغل . ترجمة : جورج طرابيشي. الطبعة الثالثة 1988. دار الطليعة للطبعة والنشر، بيروت ـ لبنان ص(44)).

كما يمكن أن نسجِّل ـ أيضا ـ وأنّ منطلق كلّ منهما هو الحواس التي يشترك فيها كل بني البشر. ويكمن الاختلاف بينهما فحسب على مستوى الأدوات المعتمدة لدى كلٍّ منهما. فالأول يشتغل بالكلمة، والآخر باللون والظل.

ويشتركان ـ أيضا ـ في كونهما يسعيان إلى خلق التآلف والانسجام في الإنتاج الإبداعي لكل منهما.

ثم يتفقان كلاهما في مراعاة المتلقي، وكيفية التأثير فيه، وتبليغ رسائلهما.

تبقى هذه هي المميِّزات التي حدّدها جابر عصفور لكل من الشعر والرسم. غير أنه يمكننا ـ في السياق ذاته أن نُدرج قول الجنوبي في حديثه عن التمازج البديع بينهما، والذي لا يُخفي بين ثناياه بعض السمات المتواجدة بينهما. ف ” اللوحة هي المشهد في زمن النص، هي لحظة التوقف عندما تكون بنية السرد تعمل، المشهد هو اللحظة التي يتطابق فيها زمن السرد وزمن القصة من حيث مدّة الاستغراق، فزمن الصورة متوقف مع زمن سردها، الصورة حاضر تصنع زمنها الخاص، ومكانها الخاص، الصورة هي الوصف في داخل النص، هي درجة الصفر التي يتوقف فيها السرد وتصير الصورة نقاء وصفيا أي صفر…” (كتابة الصورة، محمد مختار الجنوبي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ  طبعة 2002 . ص(17 و18).).

وتجدر الإشارة إلى أن الفيصل بين هذه الفنون يكمن في نوعيتها. يقول هيغل :”نوعية الفن ومدى مطابقته الواقع الذي يمثله لمفهومه منوطان بدرجة الاتحاد والانصهار بين الفكرة والشكل”(المدخل إلى علم الجمال فكرة الجمال، هيغل . ترجمة : جورج طرابيشي. الطبعة الثالثة 1988. دار الطليعة للطبعة والنشر، بيروت ـ لبنان ص(128)).

نكتفي بهذا القدر من التأكيد على وجود علاقات بين الفنون، أو بالأحرى بين التشكيل وغيره من الفنون. والتي تعكس بين ثناياها الانسجام والتوافق، الذين تأكَّد معهما خلق تداخل تلقائي بينها. ويبقى الحديث عن علاقة التشكيل بالشعر متواصلا في المحطات الموالية، التي تتكلّف بتوضيح طبيعة العلاقة بينهما. سيما وأن هذه الدراسة تتمحور ـ أساسا ـ حول ظاهرة التشكيل في الشعر.

ويمكن أن نخلص من حضور التشكيل بجانب الموسيقى، أو إزاء الشعر، أو الرقص، أو المسرح على سبيل المثال إلى صعوبة الفصل أحيانا بين الفنون،لأنها تبقى متقاطعة مع بعضها البعض، حيث تتجاذبها علاقات التأثر والتأثير سيما إذا استحضرنا التلاقي الممكن بين الشعر والمسرح، وبين الشعر والتشكيل، والشعر والرقص، والشعر والموسيقى، وهكذا بالنسبة لباقي الفنون. هذه المسألة تُحيلنا ـ مباشرة ـ إلى نظرية الأجناس، وخصوصا التداخل الأجناسي بين الفنون. هذا الأمر يجعلنا نتساءل: ما الرابط بين هذه الفنون؟ أو ماهي السمات المشتركة بينها، والتي تُسهم في خلق تواشج وطيد بينها؟

ويمكن التأكيد في ضوء كلِّ ما تقدَّم أن الفنون الجميلة تكاد تكون متداخلة ومترابطة فيما بينها، مادامت كلها تتضمّن رسائل، وتتغيَّا تحقيق أهداف معينة، وتصقلُها موهبة إبداعية. وما دام ” العمل الفني إبداع من العبقرية، من الموهبة…فإبداع العمل الفني يقتضي موهبة هي في أساسها قابلية خاصة ، أي هبة محدودة. أما العبقرية فشيء أعم وأشمل…

هكذا غدا الإنتاج الفني حالة أطلق عليها اسم الإلهام. ومن الممكن أن توضع العبقرية في حالة الإلهام إما بمحض إرادتها، وإما بفعل مؤثر خارجي ما…” (المرجع السابق، ص(65)).

  • التشكيل أحد المكونات الرئيسة في الشعر العربي:

يُجسِّد التشكيل حضورا قويا في الأدب عموما، والشعر خصوصا. حيث رافق الرسم في مراحل مهمة تطور الأدب، نثرا وشعرا. إذ نجده سواء في المسرحية أو القصة أو المقالة أو الرواية، وكذلك في القصيدة. فأهمية التشكيل تكمن في مصاحبته للشعر. وهذا ما قد حذا باتيان سوريو إلى القول :” وثمة في الشعر ـ إذ أنه يستحيل في الصين فصل الفنون التشكيلية عن فن الأدب ـ ميزة ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى مجموع النشاط الجمالي، وهي وجود تلك القصائد التي تتركز في جوهرها على وصف مشهد من مشاهد الطبيعة التي تهدف إلى تقصي أحد الأحاسيس التي تتيح تلك المشاركة”( “الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو ، ترجمة ميشال عاصي، منشورات عويدات بيروت ـ باريس،الطبعة الثانية 1982، ص (197 و198)).

ويقتضي ـ إذن ـ الاشتغال على هذا المبحث ـ وفي ضوء ما سلف ـ خصوصا بعدما تأكّدت أهمية التشكيل في الشعر، استقصاء حضور التشكيل في الشعر العربي قديما وحديثا، ثم تأمّل طبيعة العلاقة الموجودة بينهما. وهل ـ فعلا ـ يمثل التشكيل مكون مهمّ في الشعر العربي. يقول الكاتب:” وثمة في الشعر ـ إذ أنه يستحيل في الصين فصل الفنون التشكيلية عن فن الأدب ـ ميزة ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى مجموع النشاط الجمالي، وهي وجود تلك القصائد التي تتركز في جوهرها على وصف مشهد من مشاهد الطبيعة التي تهدف إلى تقصي أحد الأحاسيس التي تتيح تلك المشاركة (المرجع السابق)

وفق المعرفة الأولية، تُطالعنا حقيقة تكاد تكون مهيمنة على الفكر العربي بخصوص حضور التشكيل في الثقافة العربية القديمة، والمتمثلة في تحريم ديننا الإسلامي للتصوير والصور. يقول الناقد اتيان سوريو:” ولا يفوتنا التأكيد على نقطة ذات أهمية بالغة ألا وهي غياب الفن التصويري وانعدام الرسوم التجسيمية من جهة، وطغيان الفن التزييني المرتكز أساسا على أشكال تجريدية عربية.

ولقد درجت العادة في تفسير هذا الواقع على الزعم بأنه نتيجة تحريم القرآن للرسوم التي يتمثل في الوجه البشري، وللفن التجسيمي بصورة عامة، بحيث أن الإسلام كتب عليه بالنتيجة أن يقتصر الأمر فيه على الرسوم الهندسية التجريدية.

والحقيقة أن وضع المسألة بهذا الشكل بعيد جدا عن الصواب إذ ليس ثمة في القرآن تحريم قاطع من هذا النوع. وهناك الآية القائلة :” يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (سورة 5 آية89).

فلسنا نرى في هذه الآية ما يمكن الاستناد إليه لتحريم الفن التجسيمي تحريما قاطعا بوجه الإجمال. إنما الذي يستهدفه التحريم بشكل دقيق واضح هو ممارسة طقوس الوثنية العربية التي اتخذت لعبادتها أنصابا من حجر منحوت على صورة البشر وشاكلتهم” (المرجع السابق ص(175 و 176)).

يتَّضح من كلام اتيان سوريو أن تمّة خطأ في فهم الآية الكريمة،التي في ضوئها تمَّ تحريم الرسم في الثقافة العربية الإسلامية القديمة. ونحن بدورنا نرى أنَّ هناك مغالاة ساهمت بشكل ما في حرمان الحضارة العربية الإسلامية من إحدى الجوانب التي كانت قد تعكس نبوغها وفُرادتها إزاء غيرها من الحضارات.

بيد أننا إذا تأملنا النقد العربي القديم نجد أن اهتمام النقاد والشعراء العرب انصب من ناحية على مستوى تمثيل المعنى وتقريبه للمتلقي، حتى يكون مفهوما ومستساغا أكثر. إذ كان الحرص جليا على توضيح الأفكار وكشفها، حيث “الانتقال من مشبه يدرك بالفكر إلى مشبه يدرك بالعيان والبصر” (لصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،جابر عصفور،الطبعة الثالثة 1992، المركز الثقافي العربي.  ص272)

وما نبغي تأكيده في ضوء هذا القول، هو أنه رغم الاعتقاد الشائع في تحريم التصوير، إلا أنه يبقى من ناحية أخرى حاضرا في الأدب العربي، وفي أساليب التواصل بصفة عامة؛حيث محاولة الربط بين الكلمة ومدلولها.

هذا الأمر، طرحه جابر عصفور، وحاول توضيحه من خلال قوله :” وارتباط المحسوسات بالتوضيح مبحث ازدهر أساسا في الأوساط الفلسفية منذ أواخر القرن الثالث، وهو مبحث كان يستند إلى نوع من المعارف السيكولوجية التي أفادها العرب نتيجة إطلاعهم على التراث الفلسفي اليوناني بوجه خاص. ومن المعروف أن العرب اطلعوا على كتاب النفس لأرسطو في النصف الثاني من القرن الثالث على أقل تقدير” (المرجع السابق ، ص(273))

يمكننا أن نستشف من كلام جابر عصفور أن العرب ـ نتيجة التلاقح مع التراث اليوناني ـ قد أفادوا من كتابات أرسطو بخصوص توضيح المحسوسات. سيما إذا استحضرنا قول بييرـ جان جف :”الشعر روح تفتتح شكلا” (جماليات والمكان،تأليف: غاستون باشلار،ترجمة: غالب هلسا، الطبعة الثانية 1984. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.ص(21)).

نفهم من هذا القول أن الشعر روح ومعنى تتجلى وتُجَسَّد من خلال الشكل. هذا التداخل بين المعنى والشكل، أو بين المجرد والمحسوس، هو ما عبَّر عنه مسكويه في قوله :” فإذا أخبر الإنسان بما لم يدركه، أو حُدِّث بما لم يشاهده، وكان غريبا عنده، طلب له مثالا من الحس، فإذا أُعطي ذلك أَنِسَ به. وقد يعرض في المحسوسات أيضا هذا العارض، أعني أن إنسانا لو حُدِّث عن النعامة والزرافة، والفيل، والتمساح، لطلب أن يصور له ليقع بصره عليه ويحصل تحت حسه البصري، ولا يقنع فيما طريقة حس البصر بحس السمع حتى يردّه إليه لعينه”(كتاب الهوامل والشوامل، أبو حيان التوحيدي، ص(240 و241) بدون تاريخ الطبعة).

ندرك من هذا القول مدى التقارب بين المعنى والشكل، ثم بين الكلام والصورة، إذ أنها أمور فطرية في الإنسان، الذي بطبيعته يتوق ليُقرِّب المعنى من خلال تجسيده وتمثيله. الشيء الذي يتولَّد عنه إمكانية وجود توافق طبيعي، وانسجام تلقائي بين الشعر والرسم. ونُدرج في هذا الصدد تعريف الجاحظ للشعر في قوله:” إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير”( دلائل الإعجاز،عبد القاهر الجرجاني. ص(330))

وهذا ما نلمسه في كتاب “أسرار البلاغة” للجرجاني، حيث وظف مصطلح”التصوير”، حيث قارن بين “التصويرات” و”التخييلات” الشعرية وبين “تصاوير” الرسامين. (الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،جابر عصفور،الطبعة الثالثة 1992، المركز الثقافي العربي.  ص283)

يتبيّن ـ إذن ـ وجود ترابط بين التصوير التجريدي والتصوير التجسيمي ـ إذا شئنا القول ـ ذلك أن الشعر يشترك مع التشكيل في كون منطلق كل منهما يكون من التصوير التجريدي. فيتأكّد مع الشعر من خلال الكلمة ومع الرسم من خلال اللوحة.

ويُضيف ـ كما سبقت الإشارة ـ جابر عصفور في هذا الصدد قائلا :” أن العلاقة بين التصوير والتقديم الحسي للمعنى في الشعر، قد أخذت تزداد عمقا واتساعا نتيجة إفادة البلاغيين والنقاد(يقصد جابر أمثال ابن سينا والفارابي والجرجاني وغيرهم ممن عاصروا تلك الفترات من تاريخ النقد العربي القديم).من أنواع الثقافة الشائعة في عصرهم، خاصة ما يتصل منها بالموروث اليوناني

نُدرك من هذا القول أن العلاقة بين التشكيل والشعر قديمة، تفرضها ضرورة تجسيد المعنى ، الذي يبقى تجريديا على بياض صفحة النص. نفس الأمر يؤكِّده باشلار في قوله  : “كتب بييرـ جان جف :”الشعر روح تفتتح شكلا”…وحتى لو كان “الشكل” معروفا ومكتشفا من قبل، صيغ  من مكونات مبتذلة قبل أن يضيئه نور الشعر الداخلي، فإنه يظل موضوعا من موضوعات العقل. ولكن الروح تأتي وتفتتح الشكل، وتقطنه وتستمتع به. ولهذا فإن عبارة جوف يمكن اعتبارها  حقيقة أساسية وواضحة عن ظاهراتية الروح” (جماليات والمكان،تأليف: غاستون باشلار،ترجمة: غالب هلسا، الطبعة الثانية 1984. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.. ص(21 و22))

  • عوامل التحديث الشعري عند محمد بنيس

تتكلّف هذه الدراسة بتسليط الضوء في الاشتغال على “ظاهرة التشكيل في الشعر المغربي المعاصر” على الشاعر محمد بنيس( محمد بنيس من مواليد 1950 بمدينة فاس، نشر أولى قصائده في جريدة “العلم” سنة1967، وفي مجلة “مواقف” ببيروت سنة1969 ، وهي السنة ذاتها التي نشر فيها ديوانه الأول “ما قبل الكلام”.ثم حصل على الإجازة من كلية الآداب بفاس سنة 1972 ، بعدها عمل أستاذا بثانوية ابن ياسين بالمحمدية. انتخب عضوا في المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب طيلة السنوات ما بين 1973 و 1981. كما أسس سنة 1974 مجلة “الثقافة الجديدة” التي توقفت عن الصدور عام 1984. وقد نال دبلوم الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط في موضوع “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” سنة 1978، بعدها أصبح أستاذا بنفس الكلية سنة 1980. ثم سنة 1988 نال دكتوراه الدولة في إطار اشتغاله على موضوع ” الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها”. بعد ذلك أسس “بيت الشعر بالمغرب” إلى جانب صلاح بوسريف ومحمد بنطلحة سنة 1996، وكان رئيسا له طيلة السنوات بين 1996 و 2003).

باعتباره أحد الشعراء المرموقين والرواد في تطور الشعر المغربي المعاصر. فهو شاعر جهبذ من حيث مزجه بين الممارسة الإبداعية والممارسة النقدية، ناهيك عن كونه أيضا ساهم في العناية بالشعر لكونه تجشَّم أعباء السهر على إصدار مجلة “الثقافة الجديدة” التي عالجت قضايا فكرية وأدبية، دفعت بعجلة الشعر المغربي إلى الأمام. كما أنه يسيّر دار النشر “توبقال”، طبعا، لا يخلو هذا من أهمية بانتقاء إصدار الدراسات النقدية المهمة والإبداعات الأدبية الوازنة. إضافة إلى ذلك يعتبر أحد مؤسسي ” بيت الشعر في المغرب” إلى جانب الشاعر محمد بن طلحة وصلاح بوسريف. والذي سهر أيضا على إدارته ورئاسته، والمشاركة في إصدار مجلة تابعة لبيت الشعر ، تحت عنوان ” مجلة البيت” التي بدورها لا تزال تُتحف الساحة الإبداعية والنقدية المغربية والعربية عموما بدراسات وإبداعات عظيمة. هذه المجلة تعدّ كذلك سجِلاّ لكلّ الأحداث والمهرجانات والأمسيات والملتقيات الدولية التي يُقيمها بيت الشعر.

وقد ساهم في إغناء الخزانة المغربية بمجموعة من الكتابات النقدية الوازنة ـ إلى جانب ما تقدّم ـ ك”حداثة السؤال” و كتابة المحو” ، وأيضا بالدواوين الشعرية مثل: “في اتجاه صوتك العمودي” / “مواسم الشرق” / “ورقة البهاء” / “هبة الفراغ” / “كتاب الحب” / “نهر بين جنازتين” … ، إضافة إلى ترجمة كتب مهمة. كما شارك في تنظيم مهرجانات شعرية بالمغرب، وحضور ندوات وملتقيات عربية ودولية.

ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى أن الكثير من كتبه ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية كالفرنسية والإيطالية والانجليزية والروسية والاسبانية وغيرها.

تبقى ـ إذن ـ هذه الأمور كلها عوامل أكيدة ساهمت بشكل كبير في تحديث القصيدة عند الشاعر المغربي محمد بنيس. ينضاف إليها القلق الشعري عن إيجاد وخلق نماذج إبداعية جديدة، تُساهم في تحديث القصيدة المغربية المعاصرة. ذلك ما يؤكده في قوله :”كان فعل الكتابة صراعا لأنه كان بحثا عن مسكن حر، كما كان إقامة على حدود الخطر. في الصراخ والصمت، في العنف والأنين، في التشظي والمؤالفة، صاحب الجسد مسار الكتابة”(كتابة المحو، ص(13))

فالحداثة الشعرية تتنافى والتكرار والاستقرار في نفس المكان، بل هي تغيُّر وتجدد مستمر. الشيء ذاته يُصرّح به بنيس في قوله :” لم أشعر، يوما، أن الشعر امتياز، بل سفر في سفر”( المرجع السابق، ص(18)

الشاعر نفسه لا يعرف المهادنة والسكون، لأنه مسكون بالقلق والسؤال والبحث الدؤوب عن الإبداع المتميِّز. أما إذا كان الشاعر هو عينُه الناقد، فهذا الشعر حتما سيشهد تطوّرا جريئا عن وعي ودراية، لأن “النقد أساس الإبداع…وللنقد أكثر من وشيجة بالتحوّل”(حداثة السؤال، محمد بنيس، الطبعة الثانية 1988، المركز الثقافي العربي. ص(19))

فالمزاوجة بين الممارسة الإبداعية والممارسة النقدية في الشعر، تعمل على تطوره، لأن الإبداع لا يتوافق والقيود وتكرار النموذج، لذلك يمكن القول حسب تعبير محمد بنيس :”لا معنى للنقد والتجربة والممارسة إن هي لم تكن متجهة نحو التحرر”(المرجع السابق. ص(21))

فالجديد الذي عرفه الشعر العربي الحديث من خلال تحرر الكتابة من تكرار نفس القالب والنموذج، وتحرر الذات الكاتبة من الركون لنفس الرؤى، كلّ ذلك ـ طبعا ـ ينْجُم عن الفعل النقدي والإبداعي لدى الشاعر. حيث يبقى حسب تعبير محمد بنيس أن :”فوران الجسد وتعميق الوعي النقدي هما المؤديان إلى مساءلة القوانين العامة للغة، وتفتيت متعالياتها، وإعطائها خصيصتها التاريخية…” [1]

ينضاف إلى جانب هذه المزاوجة بين الممارستين، إفادة محمد بنيس من الشعرية العربية والغربية قديما وحديثا.

  • نماذج التحديث في الشكل الفني للقصيدة عند بنيس

لم يكن اختيارنا للشاعر محمد بنيس اعتباطا، إنما أملته أهمية تجربته الشعرية، التي عُرفت بتعنُّتها وتمرُّدها على الأشكال الجاهزة، وثوقها الدؤوب لخلق أشكال إبداعية غير مسبوقة.

وسنتناول في هذا المبحث، نماذج من شعر محمد بنيس، والتي ارتأينا تماشيها مع موضوع هذه الدراسة، الذي يتمحور حول قضية التشكيل في الشعر المغربي المعاصر. وقد انصبّ الاهتمام على الدواوين الآتية : “كتاب الحب” وديوان “في اتجاه صوتك العمودي” ثم ديوان “مواسم الشرق”.

وسيتمّ ـ طبعا ـ التركيز في مقاربة هذه الدواوين على مسألة التشكيل سواء من ناحية توظيف الخط أو الصور.

تجربة “كتاب الحب”(كتاب الحب” محمد بنيس، دار توبقال، مطبعة فضالة، المحمدية. الطبعة الأولى 1995) :

لم يتم انتقاءنا لكتاب الحب لمحمد بنيس، إلا لأنه من التجارب الشعرية الفريدة في المشهد الشعري المغربي المعاصر. نحاول في هذا الصدد تسليط الضوء عليه، ومقاربته ـ بشكل أكثر ـ وفق الموضوع الذي تتمحور حوله هذه الدراسة.

وتبقى أول قضية تُطالعنا في هذا الكتاب هي مسألة التجنيس. ذلك أننا طالما اعتدنا خلال دراستنا لمسار الشعر العربي منذ القديم، تحديد الشعر من النثر. وأن كلاًّ منهما تنضوي تحته مجموعة من الأنواع والأصناف. بيد أننا أمام هذا الكتاب قد يلتبس علينا الأمر. هل كتاب الحب ديوان؟ ثم لماذا نقول ديوان لكتاب؟ أم أن هذا الكتاب نثر؟ ثم الأدهى من ذلك وجود الرسم ؟ فما الغاية من هذه الأشكال والرسومات؟ ما الذي يتوخّاه محمد  بنيس من هذا التداخل بين الشعر والنثر، بين الرسم والكتابة؟

طرح هذه الأسئلة ـ برأينا ـ من شأنها أن تُعيننا على التخمين في معرفة ماهية هذا الكتاب. إذ قد يساعدنا تجنيس الكتاب في التوصّل لطريقة تحليله ودراسته.

يعتبر كتاب الحب لمحمد بنيس حسب تعبير محمد مفتاح “صيغة معاصرة لطوق الحمامة “(المفاهيم معالم، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى 1999. ص(178)). وكلنا يعلم أن “طوق الحمامة” لابن حزم، وهو كتاب في الحب، يعود بنا إلى خزانة التراث العربي التي تتميّز بمكانتها وأهميتها. والسؤال الذي قد يُطرح في هذا الصدد: ما العلاقة التي تجمع بين محمد بنيس وابن حزم؟ أو ما هي نقط الالتقاء والاختلاف بين كتاب”طوق الحمامة” وكتاب الحب؟

نعلم أن “طوق الحمامة ” كتاب نثري. غير أنه إذا كان ” كتاب الحب ” ـ وفق رأي محمد مفتاح ـ صيغة معاصـرة لـ “طوق الحمامة”. فهل كتاب الحب يندرج ضمن النثر أم الشعر؟

إن المتأمِّل لـ”كتاب الحب” لمحمد بنيس، سيلاحظ من خلال تصفُّحه للوهلة الأولى وجود نصوص تُقابلها رسوم، أي أن هناك رسوما تُقابلها نصوص؛ حيث  يمكن أن نفهم أن كلاًّ منهما يشرح الأخر، ويوضِّحه. فكلّ منهما قراءة للآخر.

هذا اللقاء الحميمي بين الرسم والنص في كتاب الحب، والذي نُدرك من خلاله أن كلاًّ منهما يعكس الآخر. يقول محمد مفتاح بخصوص طبيعة العلاقة بينهما في هذا الكتاب :” إن المرسوم والمكتوب وجهان لعملة واحدة؛ تلك العملة هي خطاب المحبَّة ونصُّها”(المرجع السابق. ص(178))

ففي تجربة كتاب الحب، “يُفسح الجسد للعين مجال الرؤية، وتكتب العين تاريخ الجسد، كل منهما يتبادل مع الآخر لعبة إعادة إدراك الوجود والموجودات، وتمارس الكتابة افتضاض المألوف…”(حداثة السؤال. محمد بنيس ص(29)).

غير أن الملاحظة التي تجدر الإشارة إليها ـ هنا ـ هي أن تلك الصور والرسومات المقابلة للنصوص ليست من إبداع أو إنتاج الشاعر محمد بنيس نفسه ، وإنما من رسم الفنان التشكيلي (ضياء العزاوي). وهذا الأمر في حد ذاته إشكال يرتبط ببناء الدلالة وكيفية تلقيها. فهل صور الجسد العاري للمرأة كرسومات أتحفت النصوص المكتوبة في هذا الكتاب، تماشت مع المعنى الذي يتوخى الشاعر تبليغه، أم أنها شوّشت على ذلك، أو أنها أضافت معاني أخرى أضفت جمالية على الكتاب ككل؟

هذا التزاوج بين المرسوم والمكتوب يُجسِّد من ناحية أخرى علاقة العشق بين الذكر والأنثى، وما تتضمنه من لوعة وصبابة، وفراق وهجران، ولقاء ووصال. هذه المضامين يوحي بها غلاف الكتاب، ونلمسها من خلال النصوص.

فهناك ـ إذن ـ انسجام بين صورة غلاف الكتاب ومضمون هذا الكتاب، وبين الرسم والنص. لوحات تشكيلية تُقابلها نصوص شعرية. تتفاعل كلها في جمالية رائعة يُدركها المتلقي المتأمِّل. هذا ما حذا بمحمد مفتاح إلى التأكيد على أن ” المرسوم نسق تعبيري قائم الذات توظف آليات الإبصار لإدراكه الموجودة في مجال مّا في الدماغ؛ وآلة الإبصار أساسية في تحصيل المعرفة. ولذلك تحتل التعابير اللغوية البصرية حيزا من اللغات الطبيعية.”(المرجع السابق. ص(188))

ويضيف أيضا محمد مفتاح قائلا : “إن تلك الرسوم ليست إلا “رسوما”، أي أمارة على موضوعها ودليلا عليه” (المرجع السابق)؛ حيث تتمازج “نشوة اللون، ونشوة الكلمة، وبينهما وفيهما انخطاف الجسد” حسب تعبير أدونيس في التقديم الذي أتحف به كتاب الحب.(كتاب الحب، محمد بنيس. ص(7))

فالاحتفاء بالجسد واضح في هذه التجربة، إذ الرسومات هنا تمثل جسد المرأة، ويتحدّث محمد مفتاح عن طبيعة العلاقة بين الرسم والمضمون، قائلا:”وأما ما يختص بعلاقة الرسم بموضوعه فهو علاقة مشابهة ذات درجات متفاوتة: الخط أيقون على موضوعه، والصورة أيقون على موضوعها هو المرأة، والصورة الثنائية أيقون عل ى تحاذي الذكر والأنثى، والصورة الثالثة على وصالهما، والرابعة على انفصالهما، والخامسة على عماء الوضع، والسادسة على انقلابه…”(المفاهيم معالم، محمد مفتاح، ص(182).

ونلاحظ في هذه الصور أن الرسام ضياء العزاوي سلّط الضوء في رسوماته على بعض الأعضاء الجسدية التي لها دلالاتها المتوافقة مع مضمون كتاب الحب، مثل : الوجه،الشعر، الثدي، الفخذين… يقول أدونيس في هذا الصدد :”يُعيدنا محمد بنيس وضياء العزاوي، بعُري بهيّ، إلى هذا المسرح، يُغدقان على ظُلماتنا أشعة من نوره، يقذفان جحيمنا اليومي في فيض هذه الأشعة”(كتاب الحب، محمد بنيس. ص(8)).

كما يظهر لنا من بداية كتاب الحب أن محمد بنيس يستهله بشكل هندسي يتمثل في مثلث(أنظر الصفحة (6)من “كتاب الحب”)

هكذا، يبقى “كتاب الحب” تجربة لها ميزتها وظروف انبثاقها. وهذا ما يؤكده محمد بنيس فيما يتعلق  بخصوصية كل تجربة أو ممارسة إبداعية. إذ يقول :”لكل ممارسة تاريخُها، فيما هي مؤرِّخة للذات الكاتبة وزمنيتها، كان ذلك من أساسيات التأمل الشعري الذي رافق حماقاتي وذهولي، ولربما رافق أيضا صمتي واختياري عزلة من لا يذهب نحو سيادة أو سلطة “(كتابة المحو ، محمد بنيس، الطبعة الأولى 1994. دار توبقال للنشر. ص(12))

ديوان “في اتجاه صوتك العمودي”

يُعتبر ديوان “في اتجاه صوتك العمودي” لمحمد بنيس من الإبداعات الشعرية المعاصرة التي يُشهد لها بسبْقها في خوض غمار تجربة التشكيل إلى جانب ديوان “سبحانك يا بلدي” للشاعر أحمد بلبداوي، وديوان “سلاما وليشربوا البحار” للشاعر المرحوم عبد الله راجع.

ويتبيّن لنا عند تأمّل أغلفتها، أنها ضمن سلسلة الثقافة الجديدة، وهي المجلّة التي سبقت الإشارة لها، أي المجلة التي كان من مسيّريها الشاعر محمد بنيس. وطبعا تبقى لكل هذه الأمور دلالتها في فهمنا لعُمق هذه التجربة.

وأول ما يلفت انتباهنا عند رؤية هذه الدواوين وتصفحها هو الطريقة والخط الذي كُتبت به. والتي نلمس أنها تَهَبُ النص دفئا حميميا. فَ”ليس الخط حِلْية تنضاف إلى الكلام، إلى الصوت، إلى الزمان…عندما نُخضع الخط للوعي النقدي نتبين أنه بعيد عن أن يكون قِناعا، بل هو نسقٌ مغاير يخترق اللغة، يُعيد تكوينها وتأسيسها. ومن تمّ يتضح لنا كيف أن البحث عن بلاغة جديدة للنص يستلزم اختراق الكلام، الصوت، بالخط الذي يملك سرّه الخاص لقلب المفهوم السائد للشعر، وهو فعل يجذر مادية الكتابة وجدليتها”(حداثة السؤال، محمد بنيس. ص(26))

والملاحظة التي يمكن أن نُسجِّلها ـ هنا ـ هي كون هذه الدواوين تتفق على كتابتها بخطٍّ مغربي، حيث يتمازج الشعري والجسدي والوطني في عمل إبداعي متميز، حريٌّ بالمعاينة والدراسة.

فبالنسبة لديوان “في اتجاه خطك العمودي” لمحمد بنيس، نجد أن الخط الذي كُتب به هذا الديوان، كان من إنجاز الخطّاط عبد الوهاب البوري، وقد أشرف على ذلك التخطيط صاحب الديوان نفسه محمد بنيس؛ أما لوحة الغلاف فكانت من إبداع الفنان الحسين الميلودي.

كما نجد جملة “إلى الأصدقاء المبعدين عنِّي” تتصدّر هذا الديوان، الذي ارتأى صاحبه كتابته بخط يدوي، حيث الجسد يُصاحب الكلمة في امتدادها على البياض. فما العلاقة بين أصدقاء الشاعر وهذا الخط ؟

يمكن أن نفهم بقليل من التروّي أنه ما دام هذا الخطّ اليدوي يحمل بين ثناياه دفء الجسد وارتعاشته، فهذا يؤكد الارتباط الوطيد، والعلاقة الوشيجة بين الشاعر وأصدقائه.

بعد ذلك نجد إشارة الشاعر إلى السنوات التي كتب فيها قصائد ذلك الديوان، وهي إشارة لا تخلو من دلالات، لأن تلك الفترة حتما تتضمن أحداث وطنية وعربية وأيضا شخصية. وتبقى التخمينات مُشرعة على أكثر من قراءة ودلالة.

وفي الصفحة الموالية ـ أي الصفحة التي تحمل رقم سبعة ـ نجد الأعمال التي نشرها الكاتب إلى حين صدور هذا الديوان، وهذا الأمر حتما له دلالته التي تُنمُّ عن كون الشاعر عرف قبل هذه التجربة مجموعة من الأعمال والتجارب الشعرية التي مع طول الممارسة تختمر، ويُصبح لها وزنها.وأنه إلى جانب كونه شاعرا فهو أيضا ناقد. معنى هذا ـ برأيي ـ أنه يمارس الشعر عن وعي نقدي، أي أن تجربة الخط هنا مثلا ليست اعتباطا أو نوعا من التسلية؛ إنما هي همّ ووعي يقول محمد بنيس في كتابه “حداثة السؤال” :” لم نكن وحدنا مكبوتين، بل الخط المغربي هو الآخر انزاح عن فضاء العين، دخل مدرجات الأقبية وانزوى، ألغاه الخط المشرقي…

حان الوقت لنمنح النص ابتهاجه، ونسترد ملكيتنا للخط المغربي…نسترد هذا الخط ونسائله، نفكك أسطوريته ومتعالياته، لا تغوينا جماليته بقدر ما ننصت فيه لأثر من آثار جسدنا “( المرجع السابق. ص(27))

نفهم من هذا القول أن الخط المغربي عانى ويلات التهميش والقهر، وظلّ محصورا في الهندسة أو الزخرفة المعمارية المغربية، فآن له الآن مع تجربة الخط التي وُظِّفت في هذا الديوان وغيره، أن يتحرّر من سطوة الغفلة، واجتياح الخط المشرقي، كما تحرّر الشعر من قيود العروض الخليلي.

جمالية الخط المغربي ظلت حبيسة الزخرفة المعمارية ردْحا من الزمن بيد أنها مع هذه التجارب الشعرية أخذت تتزيا بحلة شعرية رائعة. والشعر يتجمّل برونق الخط وحُسنه.

ثم بعد ذلك في الصفحتين اللتين تحملان رقم ثمانية وتسعة، نجد تحت عنوان “كلمات” شهادات وتقديرات لكل من سلمى الخضراء الجيوسي، والدكتور سيد حامد النساج، ثم الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، فحواها يتمثل في انبهارهم بجرأة شاعرنا واستماتته من أجل إبداع رصين.

أما في الصفحة العاشرة فنجد عدد الطبعة وتاريخها، وفي الصفحة الموالية بخطٍّ مغربي بديع نجد هذه الكتابة “هذه القصيدةُ المُطاردَةُ” . ثم في الصفحة الثانية عشر نجد البياض الذي نفسه قد يحمل أكثر من دلالة، ربما البياض صمت، والسواد كلام.

وتُطالعنا في الصفحة الثالثة عشر لوحة تشكيلية رائعة بخطّ عبد الوهاب البوري، تحمل الرقم واحد، والكتابة فيها تتواجد داخل إطار على شكل مستطيل، حيث يقبع السواد ممتدّاً من الزاوية المتواجدة في الأعلى جهة اليمين في اتجاه زاوية أسفل المستطيل جهة اليسار. والكتابة داخل هذا المستطيل تتخذ شكل مثلث أو هرم، تبتدئ بكلمة “لَمْ”، وهي حرف نفي وجزم وقلب،فما الذي يودّ الشاعر نفيه؟ وتُختتم بكلمة “أَفِقْ” وهي فعل أمر. ويمكن أن تُعتبر هذه الكلمة عنوانا للنص. غير أن المعتاد في هذا الأخير أن يكون في وسط مطلع النص، إلا أننا نجده مكتوبا بخط بارز في الأسفل. وبرأيي أن هذا العنوان جاء بمثابة استهلال للنص، وفي نفس الآن خلاصة لمضمون النص.

ثم إذا قمنا بقراءة فاحصة أكثر للوحة، يمكن أن نعتبر أن كلمة “أَفِقْ” فعل مجزوم ب “لَمْ” التي تتصدَّر القصيدة، والكلام المتواجد بين حرف الجزم والفعل المجزوم جملة اعتراضية.

[ضع الصفحة 13]

وفي الصفحة (14)، كما في الصفحة ( 16) و(18) وغيرها من بعض قصائد الديوان نجد قصائد  كُتبت من أعلى إلى أسفل المستطيل بخطٍّ  مغربي جميل. وكل نص يحمل معه شكله وهندسة كتابته.

غير أنه في صفحات أخرى من الديوان، نعثر على لوحات جميلة بخط مغربي رائع، وكلّ منها لها وشْمها وخصائصها. ففي الصفحة (15) نجد قصيدة كتبت بخط مغربي بديع بشكل متموِّجٍ أكثر بروزا.

والملاحظ أن كل نص / لوحة تَنْكَتِبُ فيها الكلمات بطريقة، تختلف عن غيرها. إذ هناك قصائد مكتوبة في عرض داخل إطار اللوحة مثلا اللوحة الخامسة المتواجدة في الصفحة (17).

ونجد كذلك في الصفحة (19) الكلمات مكتوبة في أكثر من اتجاه، وحجم الخط مختلف أيضا، بين الكبير والصغير، والخافت والأكثر بروزا.

ثم في الصفحة 21 نجد القصيدة مكتوبة على شكل نصف دائري أو قوس في اتجاه الأعلى.

وفي الصفحة الموالية نجد السطر الأول مكتوب أيضا على شكل قوس في اتجاه الأسفل، ويتواجد بياض شاسع بين هذا السطر وباقي أسطر القصيدة، تتوسّطُه كلمة “لا تسألْ”، يمكن أن نعتبرها عنوانا للنص، وهذه الكلمة / العنوان فعل مضارع مجزوم بلا الناهية. صيغة النهي هاته تطرح أكثر من تساؤل: لماذا بنيس ينهى القارئ بعدم التساؤل؟

كما تجدر الإشارة إلى أن مسألة العنوان غير عامّة أو متواجدة في كامل قصائد النص. فهناك من تتضمنه، وأخرى بدون عنوان.

وأخيرا تبقى القراءة بهذا الديوان مفتوحة على لا نهائيتها. ونصوصه ـ بحقٍّ ـ كلها لوحات تشكيلية فنية بامتياز.

تجربة “مواسم الشرق” :

نحاول أمام تجربة “مواسم الشرق” للشاعر محمد بنيس تقديم ـ في عجالة ـ بعض الملاحظات والإشارات، التي نُلامس من خلالها في ضوء، وإلى جانب ما تقدّم فعل الكتابة الذي يختلف من تجربة لأخرى.

فأول ما يثير انتباهنا عند ملاحظة غلاف تجربة “مواسم الشرق”، وتصفح الديوان، أنه مكتوب بخطٍّ مطبعي عادي، وليس كما لاحظنا في التجربة السابقة ديوان “في اتجاه صوتك العمودي” الذي كُتب بخط يدوي مغربي، الذي أنجزه شخص آخر هو الخطاط عبد الوهاب البوري. حيث يتقاسم فيه همّ الكتابة شخصان، الشاعر والخطاط يتفاعلان لإنجاز لوحات تشكيلية فريدة.

  • علاقة التشكيل بالدلالة في القصيدة عند بنيس الشاعر

يطرح محمد بنيس في بيانه الذي أشرنا له آنفا، أن التوسُّل بالخط المغربي لا يخلو في عمقه من خصوصية مغربية تجاوزا وتمييزا عن الخصوصية المشرقية، إضافة إلى أثر ذلك في إضفاء جمالية تشدُّ المتلقي لهذا الشعر.

فالخط ـ إذن ـ يمكن أن يُعدَّ خزان دلالات ومعاني، لا يفقهها إلا الناقد والدارس الجهبذ، لذلك يبقى توظيف ثلة من الشعراء المغاربة المعاصرين للخط كإمكانية شعرية جديدة، تجسيدا لإدراكهم عُمق أهميته، وشتى دلالاته. يؤكد ـ في هذا الصدد ـ الشاعر أحمد بلبداوي ذلك قائلا:”من هنا لا يكون الخط مجرد زخرف وديكور خارجي بقدر ما هو منغرس في بنية اللغة…وهذه الذاكرة ليست ثابتة كما لو كانت قانونا مرتبطة به ارتباط الظل، تنتقل عدواها إلى مضمون النص ذاته، وتحتاج من الكاتب إلى وعي خاص وجهد في تفجير هذه الذاكرة…إن الخط في تصوري يحمل ذاكرة النص الذي يكتب به، ويشرب من مائه وعلى طريقة الصوفي ابن عربي أقول :” إن الخط أنثى عاشقة تستقبل بكل لذة العاشقين ما ينضح به النص في روحها…”(حاشية على بيان الكتابة، أحمد بلبداوي، المحرر الثقافي، 19 أبريل 1981)

نستشف من هذا القول أن الخط لا يخلو من دلالات. فهو ليس شكلا أجوفا كما يعتقد البعض. بل هو يتسم بروابط وطيدة مع مضمون النص. كما أنه يتضمن أيضا جمالية خاصة يتفتق بها النص الشعري التشكيلي.

هكذا، يبقى الاشتغال على فضاء النص، وتجسيم القصيدة تواصل مع العين و الأذن. لأنها تبقى غنية بالدلالات والمعاني المتضمنة بين ثنايا الرسوم والأشكال الهندسية والعلامات التشكيلية واللغوية. فهي ـ إذن ـ قصيدة بصرية وسماعية في نفس الآن ، تجمع بين البعد الزمني والمكاني.

وهذه النصوص يمكن أن تؤدي ثلاث وظائف مهمة ، نعرضها على الشكل الآتي:

ـ الوظيفة اللسانية التي تهتم بالدلالات المتضمنة بين ثنايا الألفاظ.

ـ الوظيفة الأيقونية: التي تتكلف بمقاربات العلامات والرموز.

ـ الوظيفة التشكيلية: وهي التي نلمسها من الصور والأشكال.

ويبقى الشاعر محمد بنيس أول من التفت إلى تجربة التشكيل في الشعر المغربي المعاصر في كتابه النقدي “ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب” سنة 1979. حيث اهتم فيه بتوضيح أهمية المكان، وما يختزنه من معاني ودلالات تضفي التجدد و التطور على هذا الشعر. إذ يقول :”لم يتطرق النقاد لبنية المكان في المتن الشعري المعاصر بالمغرب، وعدم احتفالهم بهذا المجال البصري يعبر بوضوح عن تحكم التصور التقليدي في قراءات النص الشعري، خاصة وأن أهمية المكان ذات دلالة لا يمكن اعتبارها جانبا هامشيا، أو ترفا فكريا، أو لعبة مجانية”(ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب” محمد بنيس. دار العودة، بيروت ـ لبنان. الطبعة الأولى 1979. ص(97)).

فبنيس يربط في هذا القول بين التشكيل الشعري والحداثة الشعرية، وبأنه ضرورة فنية، ينبغي ألا نتجاهل أهميتها وقيمتها في مسار التحديث الشعري بالمغرب.

إلى جانب ذلك يعتبر بنيس أول من قدّم بيانا تنظيريا حول الكتابة سنة 1984. وهذا طبعا يعكس مدى الوعي الذي امتلكه رواد هذه التجربة في شعرنا المغربي المعاصر، سيما إذا علمنا أن عبد الله راجع نفسه تنبّه لهذه القضية في قوله :” وإنه من الضروري توظيف العين التي ظلت مهملة منذ بداية الشعر العربي إلى تجربة بنسالم حميش”

يتبين لنا مما سلف ذكره، أن التشكيل الشعري قفزة تعكس التحديث الشعري. وينبغي أيضا للممارسة النقدية أن تُواكب التطور الذي تشهده الممارسة الإبداعية، وأن تتخلص من تحكّم وسيطرة التصور التقليدي عليها في قراءة النصوص ومقاربتها. ذلك أن الاحتفاء بفضاء النص، ليس أمرا ثانويا، بل إنه يتضمن دلالات تبرز أهمية المكان في تشكيل النص وبنائه.

بيد أن التساؤل الذي قد يتبادر إلى أذهاننا، ما هي العلاقة التي تربط  الشاعر محمد بنيس بفن التشكيل؟ ولماذا فكّر فيه كمعطى يحقق من خلاله تجربة شعرية متميِّزة وناجحة ؟

يصرّح بنيس في أكثر من مكان باهتمامه الكبير بالتشكيل، وبالنقد التشكيلي، إذ يقول:”…أشعر في بعض الحالات أنني مسكون بإعادة تركيب العالم وفق قوانين ومنظورات العمل التشكيلي. لقد كنت أتابع الفنون التشكيلية منذ بداية شبابي كهاجس طفولي، والتقيت مع فنانين تشكيليين بمدينة فاس، فكانت بداية الحوار، وبداية التساؤل، وبداية الاهتمام. ونتيجة غياب النقد التشكيلي في المغرب، دفعتني نفسي للمغامرة، وبداية قراءة اللوحة لا يمكنها أن تكون لغة التشكيل، ومن هنا بدأت بعض كتاباتي المتناثرة حول قضايا الفن التشكيلي في المغرب”(جلة المعرفة، العدد189 /  1977. ص(من 119 إلى 123) ص(119 و120))

نلمس من هذا القول أن بنيس اتخذ مسألة التشكيل كهمّ يحاول أن يقرأ اللوحة بلغة غير لغة التشكيل. وهذا يُنمّ عن وجود علاقة وطيدة بين الشاعر والتشكيل،”إذن فاللغة التشكيلية بالنسبة للشاعر هي جزء من لغته الشعرية، وقد فطن الفنان المصري رمسيس وهو يتحدث عن أزمة النقد التشكيلي في مصر إلى أن من أسباب غيابه ابتعاد الشعراء عن ممارسة النقد التشكيلي. وهذه ملاحظة ذات دلالة عميقة ، لأن الشعر ربما كان أقرب الفنون إلى التشكيل…” (المرجع السابق، ص(120))

ويرجِّح بنيس السبب في ذلك إلى أنه “ربما كان الأساس هو طبيعة الإيقاع الموجودة بين الشعر والتشكيل من ناحية، وطبيعة إفراغ أو ملء الفراغ من خلال تركيب البعد البصري للنص التشكيلي”(المرجع السابق)

ونختم هذا الفصل بقول محمد بنيس في كتابه حداثة السؤال :”وهاهي الكتابة، إذاً، لا تخرج على المألوف من أجل التعلّق بأوهام أخرى، ولكنها بحث عن بلاغة مغايرة للنص، على أنها لا تنساق وراء الغي والعصيان. إن مفهوم الخط كما تمّ توضيحه، يمكِّن من الخروج على دائرة الكلام المغلقة، يرحل بالجسد بعيدا، حيث الاحتفال المنسي يحتفظ بتحرّر أعمق لم نكن نسائله”(المرجع السابق. ص (26)).

 

 

خاتمة

يمكننا في ضوء كل ما تقدّم من محطّات هذه الدراسة اعتبار موضوع “ظاهرة التشكيل في الشعر المغربي المعاصر” مقترحا قابلا للمساءلة وإعادة القراءة. فهو قضية فتحت التجربة الشعرية في المغرب على إمكانات هائلة، وآفاق غير محدودة. كما أكسبت هذا الشعر حضورا متميّزاً في الساحة الشعرية العربية. وأضفت عليه حيوية وتجددا ساهما في استمراريته وخلوده.

وهذه القضية لا تزال تحظى باهتمام النقاد والباحثين، وبغواية الشعراء والمبدعين، وليست كما يخال البعض أنها ظلت حبيسة جيل السبعينات. إذ نلفى الشاعرة وفاء العمراني في ديوانها “حين لا بيت” توظف تجربة التشكيل. وكذلك الشاعر حسن نجمي يُصدر ديوان “الرياح البنية” باشتراك مع الفنان التشكيلي محمد القاسمي، ويكاد يعكس هذا الديوان مثانة العلاقة الممكنة بين الشعر والتشكيل.

ونُدرج في السياق ذاته قول صلاح بوسريف:” فتعدُّد أشكال بناء القصيدة، وتعدّد أشكال تعبيرها، هو أحد المعابر الأساسية التي بها تبني الحداثة مُنجزَها الشعريّ وهو منجز يتحقّق في أكثر من شكل شعري واحد، إذ لا فرق في مثل هذا الوضع بين الشعر نثرا، والنثر شعرا…ما دام الشعر يختبر مجاهل شعرياته في أكثر من شكل تعبيري ويوجد بالقوة في كل لغة يسرقها ألق الشعر…”(رهانات الحداثة: أفق لأشكال محتملة، صلاح بوسريف. دار الثقافة . الطبعة الأولى ص1996. ص(26))

ويبقى دائما “الشعر على تخوم أجناس كثيرة من الإبداع، خاصة البصرية منها، كالمنمنمات والتخطيط والتصوير وغيرها التي لا تزال تشهد على قوتها الإبداعية وغناها الجمالي قطع المخطوطات العربية والإسلامية المحفوظة في مكتبات ومتاحف أنحاء المعمور.

وليست علاقة المبدعين المغاربة المعاصرين لهذه التجربة علاقة متحفية، بل علاقة حيّة نابضة ومتطورة شملت فنون الفرجة وألوان الموسيقى والسماع وسواها من الفنون، ولعلّ الإبداعات التشكيلية المغربية المعاصرة حظيت بالنصيب الأكبر في توأمة الشعر بغيره من الفنون، وهكذا أصبح للتجربة المغربية رصيد هام من القطع والمشاعر الإبداعية المشتركة بين الشعراء والرسامين …”(مجلة البيت، العدد الأول / خريف 2001، “تجربة “تقاسم” ” محمد الأشعري ص(144و145))

ونخلص من خلال ثنايا دراسة هذا الموضوع أن الشعر المغربي المعاصر، وخاصة مع جيل السبعينيات، “مثّل خطوة نحو تجربة عبور الخطر، حيث الشعر يهدِّم حدوده التقليدية. صخب الحياة وصخب الجسد أصبحا عنصرا حيويا في إعادة بناء القصيدة. تمحي الحدود بين الشعر والنثر، يخرج البيت الشعري على تقعيده القبلي، يتولّى التنافرُ مصاحبة الكلمات، يتدخل الحذف في صوغ الترابطات، وتعثر العين على تاريخها المنسي في الخط المغربي ومشهد الورقة البيضاء. المواجهة كانت أساس هذه التجربة، وبالدم الشخصي كانت القصيدة تعثُر على إمضائها”(كتابة المحو ، بنيس، ص(138 و 139))

هكذا نستشف أن تجربتي الخط والتشكيل ليستا منتهى التحديث في الشعر المغربي المعاصر، لأنهما لا يعدوان أن يكونا تجربة. وعموما، سواء بالنسبة للشعر أوغيره من الفنون، يبقى “الفن تجربة,لأنه بحثٌ ثم بحثٌ”(المرجع السابق، ص136)

والملاحظة التي يمكن أن نخلص إليها، أن المشهد الشعري المغربي المعاصر أصبح يعجُّ باستمرار بتجارب شعرية شابّة وفتيّة، تسعى دوما إلى تطوير رؤية هذا الشعر الفنية، وشكله التعبيري المتجدد ضمانا لصيرورته وحيويته، مما أدى إلى تعدد الرؤى وتنوعها.

وتبقى ظاهرة التشكيل بما فيها تجربة الخط مُشرعة على لا نهائيتها، ولا يمكن اختزالها في هذه الدراسة، التي نتمنى أن تكون بداية متواضعة لدراسات وازنة.

أما في ديوان مواسم الشرق المكتوب بخط مطبعي، الأمر يختلف، ذلك أن “الخط المطبعي عادة ما يلغي النص كجسد، حروف باردة تسقط على الأوراق ـ البياض، يتحكم فيها سفرٌ من اليمين إلى اليسار يختزل النص في معنى، والمعنى في كلام، يمحو نشوة القراءة وتعدد الدلالة”(حداثة السؤال، محمد بنيس، ص(26))

كما يمكننا الإشارة إلى أ ن هذه التجربة تختلف كذلك عن تجربة “كتاب الحب” السابقة، التي وجدنا أنها تتضمن رسومات يدوية تُقابل النصوص المطبعية. هذه التقنية أكسبت “كتاب الحب” سمات خاصة، جعلته تجربة فريدة في المشهد الشعري المغربي المعاصر.

غير أن ديوان مواسم الشرق لا يخلو من خصائص تميزه، فرغم كونه لا يحتوي على رسومات أو لوحات خطية تشكيلية، فإنه يتميز بتشكيلاته الإيقاعية، في كيفية الاشتغال على البياض، وطريقة كتابة السطر، وحجمها من حيث الطول والقصر.

ويبقى المشترك بين هذه التجارب الثلاث هو فعل الكتابة عند محمد بنيس كمشروع إبداعي نظري. لأن الشاعر حين يكتب، فهو في حالة حضرة أو جذبة، يتقاسمها مع ثلاثة أطراف أساسية في فعل الكتابة، وهي : الشاعر والنص والمتلقي. فأن ” تدخل الكتابة حضرتها. أجساد بمجموعها تلتقي، تعيد رؤية الأشياء والإنسان، تُغيِّر الحساسية. جسد الكاتب، جسد النص، جسد القارئ. إلغاء لأحادية الكلام، استقدام لجدليّة الكتابة وإقرارها. كل جسد يكتب الآخر، يجدده، يحرره…”(حداثة السؤال، محمد بنيس. ص(26)).

 

الأعمال

المعجمية والنقدية والإبداعية المعتمدة

المعاجم:

1المنجد في اللغة والأعلام ،طبعة 1984، منشورات دار المشرق ـ بيروت.

لائحة الكتب النقدية:

2-“الجمالية عبر العصور” اتيان سوريو ، ترجمة ميشال عاصي، منشورات عويدات بيروت ـ باريس،الطبعة الثانية 1982.

3- كتابة الصورة، محمد مختار الجنوبي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ  طبعة 2002 .

4- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،جابر عصفور،الطبعة الثالثة 1992، المركز الثقافي العربي.

5- المدخل إلى علم الجمال فكرة الجمال، هيغل . ترجمة : جورج طرابيشي. الطبعة الثالثة 1988. دار الطليعة للطبعة والنشر، بيروت، لبنان .

6- جماليات والمكان،تأليف: غاستون باشلار،ترجمة: غالب هلسا، الطبعة الثانية 1984. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان

7-  كتاب الهوامل والشوامل، أبو حيان التوحيدي، بدون تاريخ الطبعة.

8- دلائل الإعجاز،عبد القاهر الجرجاني .

9- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،جابر عصفور،الطبعة الثالثة 1992، المركز الثقافي العربي.

10- كتابة المحو، محمد بنيس، الطبعة الأولى 1994، دار توبقال للنشر.

11ـ حداثة السؤال، محمد بنيس، الطبعة الثانية 1988، المركز الثقافي العربي.

12- المفاهيم معالم، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى 1999. ـ

13- كتابة المحو ، محمد بنيس، الطبعة الأولى 1994. دار توبقال للنشر.

14- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية، محمد بنيس، الطبعة الأولى 1979. دار العودة بيروت.

الدواوين:

كتاب الحب” محمد بنيس، دار توبقال، مطبعة فضالة، المحمدية. الطبعة الأولى 1995.

المجلات والجرائد المعتمدة:

ـ كناش إيش تقول”، بنسالم حميش، دار الأندلس، دار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1977.

ـ “سبحانك يا بلدي”، أحمد بلبداوي، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر بالدار البيضاء، الطبعة الأولى،1979.

ـ حدثنا مسلوخ الفقر وردي، أحمد بلبداوي، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر بالدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1983.

ـ هبوب شمعدان”، أحمد بلبداوي،منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى 1990، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط.

ـ”في اتجاه صوتك العمودي” محمد بنيس. مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1979.

ـ مواسم الشرق” محمد بنيس، دار توبقال، مطبعة فضالة، المحمدية. الطبعة الأولى 1985.

ـ مجلة المعرفة، العدد189 / 1977. ص(من 119 إلى 123)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *