نوفمبر 23, 2024 4:18 ص
timthumb

د. وسن مرشد محمود

كلية الحكمة الجامعة/ بغداد

Wsn.aljuborie@gmil.com

009647700830118

الملخص

 تتلخص فكرة البحث حول شعر الشاعر احمد مطر ، والتوقف عند القصائد التي اعلن فيها نقده الصريح ضد كل ماهو ممنوع ، وغير مرغوب فيه من قبل الطرف الحاكم ،وشبه الحاكم أي الوجه المخفي الذي يعد اشد سطوة من الوجه المعلن .

إذ أهتمت النتاجات الأدبية الحديثة ، بمناقشة القضايا الاجتماعية المعاشة، والحفر في القضايا الضاغطة على سلوك الحياة اليومية للإنسان.

ويهدف البحث إلى تقديم قراءة نقدية عميقة لمختارات شعرية  اهتمت بنقد السلطات الضاغطة ، والكشف عن سطوة  وجودها على  الواقع الاجتماعي المعاش.

ويكشف البحث عن طريق تعريف السلطة السياسية ، أن البعض ، أتخذ من هالة الدين ركيزةً اساس لتحقيق وجوده الطوعي وتهميش وجود الآخر.

ومهمة البحث كشف و تقديم نماذج شعرية  مختلفة ، ايقنت بأهمية رفض  الواقع الضاغط ، الذي يسعى الى تهميش الآخر في الأحيان اغلبها.

فكلما تطور الفكر زادت إشكاليات المجتمع ، والضغوط المسلطة عليه.

فلغة القصائد واعية لهذه الضغوط ، ورفض الممارسات السلبية الموظفة  بإزاء الآخر.

وأهتم  البحث بقراءة مدى تأثير التاريخ وظلاله على الواقع الجديد، لنكتشف  أننا نعيش في تاريخ  داخل تاريخ مظلم، لا يرث غير الدمار والخراب.

وخلص البحث الى بعض النتائج التي توصلت اليها الدراسة

 

Political criticism in Ahmed Matar’s poetry

Dr Wassan Murshid Mahmmoud

Al-Hikma University – College/ Baghdad

 

Abstract

The age of the guide Summary: The idea of research is summed up in the poetry of the poet Ahmed Matar, and to stop at the poems in which he announced his explicit criticism against everything that is forbidden and undesirable by the ruling party, and the semi-ruler, i.e. the hidden face, which is more powerful than the declared face

Modern literary productions were concerned with discussing lived social issues and digging into issues pressing on the behaviour of human daily life.

The research aims to provide a deep critical reading of poetry anthologies that focused on critiquing pressure authorities and revealing the influence of their presence on the lived social reality.

The research reveals, by defining political authority, that some have taken the aura of religion as the basis for achieving their voluntary existence and marginalizing the existence of the other.

The more thought develops, the more problematic society becomes, and the pressures placed on it.

The language of the poems is aware of these pressures and rejects the negative practices employed towards the other.

The research was interested in reading the extent to which history and its shadows affected the new reality, to discover that we live in history within a dark history, which inherits nothing but destruction and devastation.

The research concluded with some of the findings of the study

 

المقدمة:

إنَّ دراسة تجربة مهمة مثل تجربة الشاعر احمد مطر  ، تحتاج إِلى وعي نقدي يُسهم في تفكيك المنظومة ويسلط الضوء على تلك المرجعيات المتسربة داخل النصوص، وحتى نقوم بهذا الدور كان لا بد لنا مَنْ البحث عن تلك الطريقة التي نستطيع عن طريقها قراءة النص قراءة دقيقة

إِنَّ المزاج الأيديولوجي الذي حكم كثيراً من مسارات الثقافة العراقية والعربية هو الذي أنتج جملة من ( التابوات ) التي حكمت مصير الثقافة والوعي، بحيث أفضى إِلى نمو وازدهار مصطلح ( التابو ) ، بما يحمله هذا مَنْ محاذير في السياسة والدين والجنس ، ولعل إِشكالية هذهِ المحاذير تأتي عن طريق منحها هالة من القداسة ، بحيث تتحول كل السلوكيات والمرجعيات الثقافية إِلى تقديس مستمر لا يمكن المساس به .

ولا تخلو تجربة إبداعية واحدة في كل فنون الإبداع من سلطة ظاهرة و باطنة تتحكم في معطيات النص، وتفرض وعيها على القارئ والمتلقي ، وتأتي قدرة الناقد من ذلك الوعي الذي يُسهم في التعرف والكشف عن تلك المضمرات السلطوية داخل النص .

    البحث:

إذا كانت السلطة السياسية وتشكلاتها المحور الرئيس في البحث بصورة عامة ، ومالها من تأثير على الشعر والشاعر بصورة خاصة ، فلا بد مَنْ مناقشة مفهوم السلطة والاستبداد قبل المضي في مضمار البحث .

مع إنَّ هناك كثيراً من المصادر والمراجع التي تحدثت عن السلطة والاستبداد ، إلا أَنني أتوقف عند هذهِ التعريفات بما تقدم من تصور عن السلطة بوصفها قوة وممارسة تسربت داخل النص الشعري.

إِنَّ السلطة لا تنحصر في الجهاز الذي يقوم على قمع المجتمع عن طريق الدولة أو السلطة التنفيذية(اباه، 2004، 178 )بل تتمثل في شبكة الإخضاع و الهيمنة، وهذا لا يظهر إلا على مستوى العلاقات والتقانات والأدوات ، وهذا ما يلزم البحث عنه ، وطرق انتشار هذهِ التقانات وتكوينها (فوكو،2003، 68 )، فالسلطة موجودة في كل زمان ومكان ، وتمارس ضغوطاتها بأشكال متعدده0

وعليه فالبحث يجب أَنَّ يتعمق في الأرضية المتحركة لعلاقات القوة وهي بحسب- فوكو – علاقة قوى تتحقق وتظهر كممارسة عيانية بين قوتين (دلوز، 1978،79 )، فالقوة أداة مطواعة بيد السلطة بها تقوم وتستقيم، و لا تتعامل بالقانون النظري ؛ لأنَّ قانونها الشرعي هو عملي بحد ذاته ، ليس هدفه حياة الإنسان ، بل هدفه فرض هيمنة أكثر تسلطاً وضغطاً (ليبيس، 2006، 276 ) .

ووردت تسميات عديدة للسلطة منها السلطةً التقليدية و الكارزماتية ، والشرعية (قانونية) ، و ثيوقراطية وديمقراطية و الليبرالية والشمولية ( التوتاليتارية ) و الدينية…الخ ، وهناك سلطات فرعية كـ (سلطة الآب على الأبناء وسلطة الشارع على الشخص…الخ) ، فضلاً عن السلطات المستنبطة، مثل سلطة(الكنيسة)*،  وما تهتم به دراستنا هي السلطات الأربع (السياسية والدينية وسلطة القبيلة”سلطة الأعراف والتقاليد”، وسلطة الجنس).

ووردت في المعاجم اللغوية كلمة السلطة لتشير إلى ” القهر ، وقد سلطه الله ، فتسلط عليهم ، والاسم من السلاطة ”  (منظور،مادة سلط) .

ولتشير إلى التمكن ، “سلطته على الشيء تسليطاً ، مكنته منه ، فتسلط تمكن وتحكم ” (الفيومي، 1987،مادة سلط) ، ومن مفرداتها “القدرة (اليمني، 1948، 7/213))؛ كونها تفرض أمراً ما على أمر آخر، والقدرة بمفهومها المتداول في أوساطنا الثقافية ،هي أنَّ للسلطة المشروعية في إجبار الآخرين للأمتثال إلى قوانينها ، فالسلطة شكل من أشكال القوة ؛ لأنَّها تقود وتوجه الأمة بإرادتها هي ، من دون السماح للآخرين  بتقديم طروحاتهم وتنظيراتهم (الحسن،1984، 124)، وبذلك فنحن أمام لبس بين مفهوم القوى بوصفها قوة ، والقانون بوصفه نظاماً.

ويجب علينا التفريق بين المفاهيم والدلالات التي تؤشر الفرق بين هيمنة كل من الديكتاتور، أو بالمعنى السائد في أوساطنا الثقافية (الطاغية) ، وبين (الاستبداد) ، فالدلالتان تؤشران قبح السلطة الحاكمة ، فالأول (الطاغية – الديكتاتور)همهُ الحكم والتسلط ،إما الاستبداد فيأتي نفوذه ُبدرجة أعلى ؛ كونه يتحكم وينفرد بالحكم والرأي العام.

فالسلطة الشمولية تمتلك فكراً إيديولوجياً واحداً ، وهيمنة ضاغطة على القوانيّن والرأي والسلطة ، من قبل فرد واحد ومَنْ قبل حزب واحد ( شراب، 1984، 68) ،إنَّ ما يدعو إليه الشاعر في اشعاره هذهِ اختيار أحد أمرين الحياة الكريمة أو الموت ، وهو الأمر ذاته الذي أكده ( البيركامو) في أثناء حديثه عن خصائص التمرد عند الإنسان ؛لأنَّ المتمرد يجعل الذات تتغلب على الذات الضاغطة، وهذا ماسعى اليه الشاعر احمد مطر إذ وظف اشعاره لتفريغ الكبت الداخلي لذاته اولاً، ثم ذات المجتمع ثانياً ، واجمل ماقاله:

جس الطبيب خافقي

وقال لي:

هل ها هنا الألم؟

قلت له:نعم

فشق بالمشرط جيب معطفي

واخرج القلم

..

هز الطبيب رأسه..ومال وابتسم

وقال لي: ليس سوى قلم

فقلت : لا ياسيددي

هذا يد ..وفم

رصاصة ..ودم

وتهمة سافرة..تمشي بلا قدم  (مطر،1987   ،  63)

الشاعر عبر عن سلاحه الماطق وهو القلم، الذي يمثل السلاح الفتاك للسلطة الضاغطة، فبه تحيا الأمم وترتقي، وبه تموت الدكتاتورية وتنتهي فهو(  هذا يد ..وفم

رصاصة ..ودم)

وليختم نصه بالقول:(وتهمة سافرة.. تمشي بلا قدم)   ويترك هذا الفراغ ليرسم القارئ الصورة بنفسه .

ونجد إنَّ الحصار الأعلامي يبقى السلاح الضاغط على المثقف ،  فبدلاً من توظيف طاقاته الإبداعية والإنتاجية لصالح المجتمع ؛ كونه يمثل وعي الشعب ، إلا أننا في واقع الأمر نجد الرقابة في مقابل ذلك تشدد الحصار عليه ، ومَنْ ثم هذا التشديد يدفعه إلى توظيف طرق ملتوية بغية التعبير عمّا يلج في داخله ، ليقول الشاعر:

لي صاحب

ويدرس في الكلية الطبية

تأكد المخبر من ميوله الحزبية

وقام بأعتقاله

حين رآه مرة

يقرأ عن تكون الخلية

وبعد يوم واحد

افرج عن جثته

بحالة امنية:

في رأسه رفسة بندقية

في صدره قبلة بندقية

في ظهره صورة بندقية

لكنني

حين سألت عن حارس الرعية

عن امره

اخبرني

ان وفاة صاحبي قد حدثت

بالسكتة القلبية.   (المصدر السابق)

وظف النص لغة حوارية عالية الدقة والمفهوميةلمحاورة الذات اولا  ،وهذا ما جعله يسأل ويجيب وكأنه فعل قصدي بعد رحلة الاستغراق في  الوصف والتصوير بهدف تهيئة السامع وتشويقه واستحضاره الأشياء أمامه ، كما نجده عمد إلى التوثيق في نصه هذا ( الكلية الطبية ، المخبر ، الخلية ، بندقية، رعية) ، لتحقيق التأثر والتأثير المباشر مع القارئ ، واستخدام هذهِ الألفاظ أشارة إلى القرينة التي تدل على التورية و المواربة المقصودة في النص ككل ، ناهينا القول :عن أنَّ لفظة (الخلية) تحتمل أكثر من تأويل ، فقد تكون خلية نحل ، وقد تكون خلية (المخابرات ) ، وبتوظيفه هذا أجده وفق بتمرير نصه الشعري ، وفي القصيدة ذاتها يقول :

وصفوا لي حاكما

لم يقترف ، منذ زمان

فتنة او مذبحة

لم يكذب

لم يخن

لم يطلق النار على من ذمه

لم ينثر المال على من مدحه

لم يضع فوق فم دبابة

لم يزدرع تحت ضمير كاسحة

لم يجر لم يضطرب

خلف جبال الأسلحة

هو شعبي

ومآواه بسيط

مثل مأوى الطبقات الكادحة .(المصدر السابق)

نجد النص يتجه نحو توظيف الفعل المضارع الدال على الاستمرارية (يقترف، يكذب ، يخن ، ينثر، يضع، يزدرع، يجر) ، والاستمرارية دلالة أنَّه دائم البحث عن مثل هذا الحاكم .

والمواربة في النص تحمل معنيين الأول قريب( لم يقترف ) ، والثاني بعيد(منذ زمان) وهنا تصدر الغموض الموقف الشعري ليصل حد الإبهام ، وكأنه وظف  ظاهرة الخفاء والتجلي التي تثير ذهن القارئ للنص الأدبي( مآواه بسيط )، هذهِ المعادلة تبحث عن الجواب لتجده في قوله 🙁 مثل مآوى الطبقات الكادحة) ، لتفضي هذه الإجابة عن لغة صمت – أي مواربة مغلفة بلغة الصمت – ، وهذا الصمت  يدل على أنَّ هناك وجوداً لغائب حاضر يفرض وجوده على النص ولغته ، فالنصوص الحديثة تعتمد في تنظيماتها على السكوت والصمت ، لتوظف المواربة والمخاتلة والتورية ، ومن ثم تعبر عن طريقها عن صمتها الفضيع .

وإنَّ من أهم الأسباب التي تدفع بالشاعر وغيره من الشعراء إلى توظيف هذا النوع من الشعر ، هو الشعور بالظلم في مجتمع قلق ضاعت فيه قيمة العدالة الاجتماعية ، إذ إنَّ فقدان هذه العدالة ينتج مجتمعاً يخيم عليه قانون الغائب ؛ ولأنَّ اختلال القيم الاجتماعية في مجتمع ما نتيجة لتدهور الظروف السياسية والاقتصادية يقود إلى ضياع هذهِ القيم والتخلي عن الكثير منها ، ليطلق شعره قائلا :

حين اموت

وتقوم بتأبيني السلطة

ويشع جثماني الشرطة

لاتحسب ان الطاغوت

قد كرمني

بل حاصرني

وتتبعني حتى اخر نقطة

كي لا اشعر اني حر

حتى وانا في التابوت   (المصدر السابق)

يستعين الشاعر في نصه هذا بالالأشياء المؤكدة ويثبتها بالبراهين للوصول إلى الإقناع ، بهدف التأثير بالقارئ ، والتي عن طريقها يخلق جواً من التشكيل باستخدام تراكيب متوالية و متصلة بعضها ببعض حتى يفصل في شرح فكرته ، فالعمل الأدبي هو عمل تشكيلي ، بمعنى ما ، وهو تكوين لعالم كامل وفق رؤية خاصة للمحيط تحتويه وتتجاوزه بمستويات مختلفة باختلاف مبدع عن آخر (الملحم،2007، 430  ) ونجد قصدية توظيف الفعل المضارع بصفة مستمرة داخل النص ، وهذا ما يوثق  اهتمامه بعنصر الحدث والزمن والحركة ( تقوم ، يشيع ، تحسب،تتبعني).

وتحاول القصيدة الحديثة  إنَّ تقرأ “الواقع المحيط … وبهذا نخرج من أطار  الدائرة المغلقة ، وهنا يقتضينا المنطق العلمي والأمانة في الرصد والتحقيق ،… أنَّ نقرر حقيقة أنَّ ليس كل موهبة شكلت وتشكل قطعة أثاث فاخرة في حركة الشعر العربي” (مبارك،2011،39-42  ففهم المواربة الموظفة في النص تفضي بنا إلى الدلالة المباشرة ، ليكشف لنا النص عن تحول الناس إلى بائعي ضمير ، فبدلاً من راحة الإنسان في ماواه الأخير، بقي يتتبع حتى هو في التابوت ..

ومن الملاحظ على قصيدة الشاعر، إنَّها تتناول القضايا المحيطة بنا والمسايرة لحياتنا  كالحرية والعدل ، وغياب الديمقراطية وغيرها من القضايا ، فنجد الشاعر في نصه يميل إلى المباشرة ، واستعمال الألفاظ البسيطة ، محاولا أنَّ يبث ضمن طيات قصائده ، الهم السياسي الذي تعيشه البلدان العربية .

وعليه فالقصيدة السياسية الحديثة تحاول أنَّ تنتقد الوضع السياسي الضاغط ، لنجد الرغبة القوية عند كثير من الشعراء المعاصرين في أنَّ يشغلوا أقلامهم في نقد الوضع المتردي ، وكشف الصورة الحقيقية لهيمنة هذه السلطة ، إذ نجد الشاعر يسجل هذا في نصه المباشر – بعيداً عن المواربة والتورية والمخاتلة – ، يقول :

دائرة ضيقة

وهارب مدان

امامه وخلفه يركض مخبران

هذا هو الزمان…….(مطر،1989، 4 )

كون القصيدة قد كتبت خارج الوطن بلا (تابوات) ، فيمكن أنَّ تكون قد أعطت فسحة مجال أكبر للتعبير عمّا يريد ، فللشاعر الفضاءات والسماوات ليملأ صدره بقدر مَنْ مساحات الحرية ، موظفا هذا هو الزمان

إذ تتضمن القصيدة اشارات سيميائية عالية وواضحة  تنقلنا مباشرة  إلى الواقع العراقي وتحولاته ، وهو نص في الوقت ذاته يفسح المجال للشاعر لسرد ما في ذاته المضطربة ، وربما  هذا مادفعه إلى توظيف لغة المباشرة في هذا النص ليسجل عن طريق هذه المباشرة ذاته المتمردة في قوله : (دائرة ضيقة) ، ليدخل فضاء القصيدة محور جديد في أشراك الذات مع الذات الآخر ، هذا مَنْ جانب ، ومَنْ جانب أخر فإنَّ النص يقدم لنا التفاتة ذكية جداً أستطاع الشاعر عن طريقها أنَّ يقدم لنا نقداً للسلطة السياسية بتوظيفه (هارب مدان) من دون التلميح للأسماء و الشخصيات ، فالمباشرة الذكية جاءت لتخرج النص من عتمته.

في مقلب القمامة

رايت جثةً لها ملامح الأعراب

تجمعت من حولها النسور والدباب

وفوقها علامة

تقول:هذي جيفة(مطر،3/12)

ولكون الشاعر احمد مطر عايش الواقع العراقي بحذافيره ، فمن هنا نجده قد خاض معركته الرئيسة ضد مأساته الخاصة ، هنا  يبقى سلاحهُ الوحيد الكلمة يوظفهُ ليطرق باب الحرية ، وعليه فقد حاكت قصائده الواقع السياسي وانتقدته ، ولعل للنسيج الثقافي للشاعر – الذي تكون من ثقافة الداخل والخارج – دوراً في جعل رأيه واضحاً وجلياً ، ومَنْ ثم دفعه إلى زج غضبه ومخاوفه في قصائده التي ضجت بلغة التمرد على السلطة ككل ، والرقيب بشكل خاص ،فهنا نجده كيف يصف المزبلة التي وقعت فيها جثة الإنسان العربي،وكيف الوحوش تحيطه كالنسور والدباب وفوقها لوحة تقول:كرامة الإنسان فقدت لأجل الأجنبي وهذه الجثة هي الكرامة العربية المهمشة من قبل سلطاتها الضاغطة، التي تبحث عن مصالحها الذاتية اولاً قبل مصالح الإنسان.

في بلاد المشركين

يبصق المرء بوجه الحاكمين

فيجازى بالغرامة

ولدينا نحن أصحاب اليمين

يبصق المرء دما تحت ايادي المخبرين

ويرى يوم القيامة

عندنا ينثر ماء الورد والهيل

بلا إذن

على وجه امير المؤمنين(مطر،1/55)

يقوم الشاعر نصه هذا ، برسم صورة قائمة على استبطان نفسية الحاكم المستبد ، وتعرية وكشف أيديولوجيته القمعية ، ليذهب النص بالكشف والتصريح عن رغبة الشاعر في نقل الصورة المظلمة للساسة ، لينقل لنا حجم الإدانة والتعرية ، التي يهدف النص في الوصول إليها ، فـ (يجازى بالغرامة) تنقل لنا حجم وبشاعة الممارسة الدموية والإبادة الوحشية التي كممت الأفواه ، وذهبت لتكمم الذات ككل .

ويستلزم هكذا نوع من القصائد رؤية فائقة ، يرجع فيها إلى النضوج الأيديولوجي  للشاعر ، وهذا ما يدفع – النضوج – بالشاعر إلى أنَّ يوظف شعره أغلبه بالمباشرة لنقد السلطة ، وعيوبها ، وهذا الواقع المتردي أصبح أداة مطواعة بيد الشاعر ليوظف عن طريقها نصه ، وليجد القارئ في أشعار الشاعر أساليب متعددة في العرض وتعرية وكشف للواقع وعيوبه ، من جرأة وتمرد ، ومواربة ، وثورة على سلطة الرقيب مما تشير هذهِ الأساليب العديد من الإشكاليات بين الشاعر والرقيب السياسي .

صورة الحاكم في كل اتجاه

باسم

في بلد يبكي من القهر بكاه

مشرق

في بلد تلهو الليالي ضحاه

ناعم

في بلد حتى بلاياه

بأنواع البلايا مبتلاه

صادح

في بلد معتقل الصوت

ومنزوع الشفاه…..(مطر،1989، 24).

كون القلق والخوف يرافقان الإنسان بمجرد ولادته في مجتمعات ضاغطة ،  سيؤثر هذا الخوف على مسار عمله ، فيلجأ الكثير منهم ويعمد إلى المراوغة بغية ضمان حياته ، وقد تكون هذهِ القصيدة واحدة من الأساليب التي يوظفها الشاعر ؛ كونه يدرك (في بلد يبكي من القهر بكاه) ، فهذا الخوف دفعه إلى كتابة نص يحمل  في داخله أسرار وسلوك السلطة ، فنجد القصيدة تحاكي الخوف ، و تحاكي العراق ومحنته ، وهذا يمثل انشطاراً لذات الشاعر ، إذ انطبعت هذهِ الأيام المريرة ليتعلم منها أول درس وأقساه “بأنَّ للكلمة مفعولها السحري ، لكن لها أثمانها الباهضة ، فطغيان المكان في النص يوصلنا إلى فكرة تمكن الخوف التي صورت لنا المشهد كله ، كما يعكس لنا علاقة الشاعر بالسلطة ؛ و كون السلطة تمتلك القوة ؛ فهي تمتلك القدرة على السيطرة على الوضع الكلي وليس الجزئي فقط ، فالسلطة بكل وسائلها المعروفة عملت وتعمل على استدراج المثقفين إلى جانبها وزجهم في خطابها ، وبالتالي فإنَّ الذي لا يستجيب لمطالبها يصيبه القلق الذي يؤدي إلى الخوف .

طول عمري

يركض القهر امامي وورائي

هو ظلي في الضحى

وهو ندمي في المساء

هو لي في الصيف حمارة قيظ

هو لي برد شديد في الشتاء

هو مائي

وهوائي

………

الف شكر أيها القهر

على هذا الوفاء

انا لم الق وفاء مثله

عند جميع الأصدقاء(مطر،3/69).

إنَّ صورة التناوب في النص الشعري – بين الماضي والحاضر – للشاعر ، تنم عن تَعلق الشاعر بالذكريات والاضطرابات النفسية ، فمن قوله : ( طوال عمري ) يبدأ النص بسرد اختلاجاته الداخلية ( يركض القهر امامي،وورائي) ، ثم (هو لي برد شديد في الشتاء) ، ليترك نصه مفتوحاً بأنتظار الموت المؤجل ، لكنه ـ الموت المؤجل- موجود نفسياً، وممتنع جسدياً ، وهذه صورة تعد من أكثر الرموزـ النفسية –لأحتواء الانكسار الذاتي للشاعر بالدرجة الأولى ، والإنسان بالدرجة الثانية.

وقد أصبحت السياسة وسطوتها عائقاً أمام العمل الأدبي ، وكانت مَنْ إحدى أساليبها فرض الهيمنة والنفوذ والتسلط الضاغط على الأقلام والعقول الإبداعية، وبدوره – هذا الضغط – عدّ الحافز الأول والأساس لوضع طرقٍ ملتوية لديمومة العمل الإبداعي ، بالتمرد والمواربة تارةً ، وبامتزاج الأعمال الأدبية بالتابوات تارة أخرى.

وهذا ما أكدته لنا قصائد الشاعر احمد مطر ، فقد جاءت قصائده أحتجاجاً ضد الأنظمة الضاغطة( الأستبدادية ) وتسربت السلطة بصورة غير مباشرة ، حاول فيها الشاعر  نقدها ، وبيان سلبياتها وحماقاتها في ظل استبداد قهري ، فنجدها عبرت عن محنة الإنسان العراقي ومأساته بوجه خاص ، والمجتمع العربي بوجه عام ، ولكنها مع كل ذلك نجدها في بعض الأحيان قد ارتسمت بالتفاؤل والألم في الوقت نفسه .

الهوامش:

1- ينظر:اباه، السيد  ولد (2004)، التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو ، السيد ولد أباه ، الدار العربية للعلوم ، بيروت – لبنان ، ط2 ،   187 .

2- ينظر:الحسن، د.احسان محمد(1984)،علم الاجتماع السياسي ، مطبعه الجامعة ، الموصل ، د . ط  : 124.

ينظر:دلوز،جيل(1978) المعرفة والسلطة ( مدخل لقراءة فوكو ) ، ترجمه سالم يفوت ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، ط1  : 79 0

3- ينظر:شراب، ناجي صادق(1984)، السياسة دراسة سيسولوجية ، دار الجيل ، دمشق :  68 .

4- ينظر:فوكو، ميشيل(2003)، يجب الدفاع عن المجتمع “دروس أُلقيت في الكوليج  دي فرانسي له 1976 “، ، ترجمة وتقديم و تعليق د. الزواوي بغورة ، دار الطليعة ، بيروت ، د. ط  : 68

5- الفيومي، احمد بن علي (1987)،المصباح المنير ،بيروت ، د. ط ،  مادة ( سلط ) .

6-ينظر:ليبس، يوليوس(2006)، أصل الأشياء ” بدايات الثقافية الإنسانية” ، ترجمة كامل إسماعيل ، دار المدى للثقافية والنشر ، ط2  : 276 .

7-مبارك، محمد(2011)، عبد الوهاب البياتي (وعي العصر والبنية الشعرية ) ، مكتبة عدنان ، بغداد ، ط1 : 39 – 42

*عن طريق الدراسة تمكنت من رصد هذه التصنيفات للسلطة.

8-مطر،احمد(1987)،لافتات 1، ط2،لندن، : 63.

9 م.ن: 96-97    .

10-م.ن:137-138

11-م.ن:80

12-مطر،احمد(1989)، ديوان الساعة، لندن،ط1: 4.

13-مطر3: 12.

14-مطر1:55.

15-مطر، احمد(1989)، اني المشنوق أعلاه، لندن، ط1،: 24.

16-مطر 3: 69

17-ينظر:الملحم،اسماعيل(2007)، شهوة الكتابة وسلطة النقد ، م .الموقف الأدبي ، اتحاد كتاب العرب ، دمشق ،ع ، 430

18-منظور، ابن، لسان العرب ، مادة (سلط).

19-اليمني، نشوان بن سعيد الحميري(1948)، الحور العين ، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانخي ، القاهرة ، د. ط ،  : 7/213 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *