نوفمبر 23, 2024 12:32 ص

دة.جليلة مراوحي

دكتورة في اللسانيات الاجتماعية

جامعة ابن طفيل – أستاذة التعليم العالي مساعدة بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالرباط           

JALILAMRAOUHI@GMAIL.COM

212664698499+

الملخص

يعد تحقيق التنمية السياسية أـو التحديث السياسي رهانا تسعى جميع الدول إلى كسبه، في محاولة منها لاحتواء التحولات الكبرى التي تطرأ عليها. يقتضي ذلك رفع مشاركة كل فئات المجتمع في سيرورة بناء الدولة الديمقراطية. في المغرب، ما يفوق نصف السكان بقليل هن نساء، وبالرغم من تبني الدولة مقاربة النوع الاجتماعي في مجموعة من المجالات، فإن مشاركة المرأة في تدبير الشأن العام تظل جد محتشمة.

ترمي الورقة التالية إلى البحث في الأسباب الثقافية والاجتماعية التي تبقي المرأة خارج المنافسة على ممارسة السلطة. في أفق معالجة الإشكال التالي: لماذا لا تنخرط المرأة في الشأن السياسي بنفس القدر الذي يمارس به الرجال السلطة في مؤسسات الدولة؟ وهل من مجال لكي تتحقق التنمية السياسية عبر مقاربة النوع؟ وهل يكون تعليم الفتاة مدخلا مناسبا لإحداث التغيير في السياسة؟

بعد تحليل المعطيات الصادرة عن الجهات الرسمية، تبين بأن الدولة قامت بمجهودات ملموسة في سعيها لتمكين النساء سياسيا، عبر تبني مقاربة النوع، خصوصا في قطاع التعليم. لكن تحليل البرامج المدرسية والمحتويات وتمثلات الأساتذة الساهرين على تنفيذها، يفيد بأن التنزيل الفعلي لمقاربة النوع يصطدم بحاجز الثقافة الاجتماعية والسياسية السائدة، التي تشكل امتدادا للعقلية الذكورية المحافظة.

الكلمات المفتاح

التنمية السياسية- الديمقراطية – مقاربة النوع الاجتماعي- تمكين النساء سياسيا- تعليم الفتاة

 

Gender and political development

Dr. Jalila MRAOUHI

Education and training professions in Rabat                 

    Ibn Tofeil University

Abstract

Achieving political development or political modernization is a challenge that all countries seek to win. In an attempt to control the major transformations that occur to them. This requires raising the participation of all segments of society in the process of building the democratic state. In Morocco, just half of the population is women, and despite the state’s adoption of a gender approach in a range of areas, the participation of women in managing public affairs remains very modest.

The following paper aims to investigate the cultural and social reasons that keep women out of competition to exercise power. On the horizon of tackling the following problem: Why are women not involved in political affairs as men? Is there room for political development to be achieved through a gender approach? Would girls ’education be an appropriate turning point in making a change in politics?

After analyzing the data issued by the official authorities, it became clear that the state has made concrete efforts in its endeavor to empower women politically, by adopting a gender approach, especially in the education sector. However, the analysis of school programs, the contents and the representations of the teachers working on their implementation indicates that the actual performance of the gender approach collides with the barrier of the prevailing social and political culture, which is an extension of the conservative mentality.

Key words: Political development­- Democratic state- Gender approach- Girls ’education- Empowering women politically

 

مقدمة

كشفت المندوبية السامية للتخطيط (2019) على أن عدد النساء في المغرب يفوق عدد الرجال، حيث يقدر عددهن في منتصف سنة (2018) بنحو 17.67 مليون، أي ما يمثل أكثر بقليل من نصف سكان المغرب (50.1٪). لكن المفارقة هي أن من تساهمن في سنّ القوانين لا تشكلن سوى (21٪) من مقاعد المؤسسة التشريعية. ربما لن نأتي بجديد عندما نقول بأن المجتمع الذي يمشي على ساق واحدة ويعطّل عمل الأخرى هو مجتمع محكوم عليه بالتخلف والتأخر عن ركب التنمية، خصوصا وأن الدولة المغربية تضع نصب أعينها، كأولوية الأولويات، صياغة نموذج تنموي يُخرج الجميع من النفق.

يتبادر للذهن سؤال بديهي يفرض ذاته بذاته وهو: لماذا لا تنخرط المرأة في الشأن السياسي بنفس القدر الذي يمارس به الرجال السلطة في مؤسسات الدولة؟ وهل من مجال لكي تتحقق التنمية السياسية عبر مقاربة النوع؟ وهل يمكن أن يكون التعليم مدخلا مناسبا لتعديل الثقافة السياسية بما يخدم قيم المساواة والديمقراطية؟

أهمية البحث

تعيش المرأة في المجتمعات الشرقية وضعا شادا جدا، لكنه بحكم العادة والتكرار صار يبدو عاديا ومقبولا، بل صارت كل محاولة للتغيير وكل مطلب حقوقي يقوِّم الاعوجاج ويُعيد الأمور إلى نِصابها، يجد مقاومة شديدة من المجتمع؛ ذكورا وإناثا. تكمن أهمية هذا البحث في المساهمة في تشكيل وعي بالواقع، يستند على المقاربة السوسيولوجية في بناء تصور عقلاني، قادر على إدراك الآليات المتحكمة في التمثلات والممارسات التي تتحكم فيها العقلية الذكورية، والتي تؤثر سلبا على بلوغ التمكين السياسي للنساء. كما التزم العمل الحالي بالتفكير في منافذ للخروج من هذا الوضع عبر التأثير في الثقافة السياسية من خلال التعليم، وبالأخص تمدرس الفتاة.

أهداف البحث

إن النبش في جذور الفوارق الاجتماعية القائمة بين الجنسين، يكون الهدف منه هو فضح مظاهر استغلال الفروق البيولوجية بينهما للإبقاء على النظام الأبوي (الباطريركي) المهيمن، والذي يبقي على النفوذ والحظوظ كامتياز يمتاز به الرجل، وكأنه حق طبيعي غير قابل للمساءلة والنقاش. إن تعرية هذا الواقع والانخراط في النقاش العلمي الذي يؤطر نظريا أشكال وعينا به، يندرج في أفق زحزحة الصورة النمطية للمرأة التي تجعلها تعتقد بأن مكانها الطبيعي هو المنزل، حيث تقوم بأدوارها التقليدية كأم وربة بيت.

إذا كانت سمة الثقافة بشكل عام والثقافة السياسية على وجه التحديد هي التحول وعدم الثبات، فإن أحد أهداف هذا البحث هي ضبط المتغيرات المتحكمة في تشكيل تلك الثقافة، بحيث تصبح الشروط الثقافية العامة سانحة لإحداث التغيير، ومساندة للمرأة في سيرورة التحول نحو مزيد من الحضور والمشاركة الفعلية والفعالة في المجتمع.

إن إيمان المرأة بقدراتها وتحصيلها لوعي بإمكانات الفعل المطروحة أمامها، سيجعلها تبحث عن موطئ قدم لها داخل الفضاء العمومي والانخراط في تدبير الشأن العام، عبر ممارسة السياسة والإسهام في أوراش بناء الديمقراطية، من خلال الالتحاق بمؤسسات الدولة، فاستكمال مسار الديمقراطية في المغرب مرتبط بتحرر النساء من الخوف ومن التردد الناتج عن عدم الثقة في النفس ومن العادات والتقاليد التي تحد من قدرتها على ممارسة السلطة. فيكون الهدف الأسمى للنضال هو دعم الديمقراطية وللعدالة الاجتماعية.

 

حدود البحث

جاءت الورقة العلمية التالية في سياق البحث عن إطار نظري يعمل على تقديم فهم أعمق وأدق للأسباب الاجتماعية والثقافية التي تحول دون بلوغ مطلب المناصفة بين الرجل والمرأة في العمل السياسي.وكما هو مسطر في الأهداف، فإن المنحى الذي يتخذه البحث يسير في اتجاه المراهنة على التعليم في أفق تحقيق التنمية السياسية المنشودة عبر مقاربة النوع الاجتماعي. استغرق الجانب النظري حيزا مهما من اهتمامنا، مما جعل التجريد يطغى على الورقة البحثية. نأمل أن يجد هذا العمل امتدادا له في دراسة ميدانية، ترصد إلى أي مدى تمكن تعليم الفتاة اليوم من تغيير وضعها في المشهد السياسي، وكيف خاضت حملتها الانتخابية الأخيرة في ظل المشروع التنموي الجديد الذي يسعى المغرب إلى تفعيل مخرجاته.

 

فروض البحث

تقوم الدراسة الحالية على الافتراض العام التالي: إن التمييز بين الجنسين على أساس النوع هو نمط من أنماط التنشئة الاجتماعية التقليدية، تمت مأسسته داخل حقل السياسة. بالرغم من أن الثقافة السياسية في المغرب هي ثقافة ذكورية، إلا أنه يمكن اختراقها والتأثير فيها عبر مدخلين: أولهما إرادة سياسية منصفة تستطيع تحقيق التمكين السياسي للنساء، والمدخل الثاني هو التعليم الذي من شأنه أن ينتج وعيا بديلا ومقاوما لثقافة التهميش والإقصاء. وهما الافتراضان الجزئيان اللذان سيوجهان التحليل عبر هذه الورقة.

المنهج وأدوات البحث

لقد اعتمدت الدراسة الحالية المنهج الاستنباطي الذي يقوم على تعيين المقدمات والمسلمات العامة، والتي تبرز العلاقة الوطيدة للتمكين السياسي للمرأة بمقاربة النوع. ثم الانتقال إلى عرض الجزئيات التي تستلزِم عنها، حيث أبرزنا انغماس الثقافة السياسية السائدة في نفس العقلية الذكورية المهيمنة. بعدها انتقلنا إلى تحديد الفروض والنتائج التي نتحقق من جدواها من خلال قراءة في الإحصائيات الرسمية المتعلقة بالانتخابات التشريعية وتتبع تطورها عبر مدى ثلاث مراحل انتخابية متعاقبة، وكذا الأرقام الصادرة عن وزارة التربية الوطنية التي ترصد وضعية المتعلمات في المدرسة، لتحديد مظاهر التحول الذي يعرفه التمكين السياسي للمرأة المغربية في العقد الأخير في علاقته بتمدرس الفتاة. لننتهي إلى خلاصة تركيبية تقف عند معيقات التمكين السياسي وإمكانات التغيير المطروحة.

  1. التنمية السياسية

1.1. تعريف التنمية السياسية

ظهرت الإرهاصات الأولى لمفهوم التنمية السياسية (ت.س) في أعقاب الحرب العالمية الثانية أوائل الخمسينات من القرن الماضي، فارتبطت بالدول الحديثة النشأة في إفريقيا والشرق الأوسط وفي آسيا، وكذلك اهتمت بدراسة بعض الدول العتيقة في أمريكا اللاتينية.

يُنظر ل (ت.س) عند (HAGOPIAN 2000: 883) على أنها سيرورة غائية يتم تطبيقها في سياقات ما بعد الاستعمار وامتدت إلى المناطق التي تسير باتجاه التنمية الاقتصادية. الأدوار الجديدة والأدوار المستحدثة للدول السائرة في طريق النمو، وانبعاث الهويات الأخلاقية والصراع مع كل التحديات التي تطرحها على وحدة الأوطان، ومحاولة إرساء مؤسسات ديمقراطية حديثة في إطار الدول الديكتاتورية…، هي كلها أسباب كانت مقنعة لإعادة الحياة لمفهوم التنمية السياسية.

تمت صياغة المفهوم من قبل علماء الاجتماع والاقتصاد، ثم تبناه علماء السياسة لدراسة مختلف الأنظمة السياسية. تُعرَّف (ت.س) باعتبارها تكييف لأنماط الحياة القديمة مع متطلبات العيش الحديثة؛ أي الانتقال من وضع قديم إلى وضع يحمل معطيات جديدة. وقد حصر  (Almond, 1960)نوعية التحول في انتقال السلطة. نفس المبدأ يركز عليه (Lerner, 1958) في تعريفه ل (ت.س) عندما اعتبرها أحد الجوانب المتعددة الأبعاد الخاصة بسيرورة التغير الاجتماعي التي تأخذ على عاتقها إحداث عدد واسع من التغيرات في جميع المستويات، أخذا بعين الاعتبار: أداء الدولة ورفاهية الشعب، وأنشطة النخبة والاتجاهات السوسيوقتصادية والثقافية والسياسية التقدمية حسب ما ورد في (Karimi 2014: 68 )

وفقا لما ذهب إليه(W. Pye, 1965) ، تعد (ت.س) مفهوما أساسيا يدعم الانتشار التدريجي، في جميع أنحاء المجتمعات، لما يسمى بعالم الثقافة. أول ما تسعى إليه (ت.س) هو تطوير الدولة أو الوطن. ويشمل التطوير كل أفراد المجتمع من ساكنة إلى أعلى مستوى في الحكومة ومؤسسات النظام السياسي. يكون أداء الحكومة محترما عندما تدخل (ت.س) في اعتبارها الرفع من قدرة النظام السياسي على تدبير الشؤون العامة والتحكم في النزاعات وحسن تدبير المطالب الشعبية. أما (La Palombara,1963) فيربطها، من جهة، بالتنمية الإدارية والتنمية القانونية التي تلعب فيهما البيروقراطية دورا رئيسيا، ومن جهة أخرى تكون (ت.س) هي عملية بناء الديمقراطية عبر تعزيز قيمها لدى الشعوب.

يرى بعض السياسيين بأن (ت.س) هي مرادفة للتحديث السياسي الذي يقتضي عقلنة السلطة وذلك بتعويض سلطات تقليدية بسلطات سياسية وطنية، والتمييز بين الوظائف السياسية مع تطوير البنية لتصير ملائمة للوظائف الجديدة. كما يقتضي التحديث السياسي رفع مشاركة مجموعات مختلفة من المجتمع. ومن زاوية نظر علماء الاقتصاد، فالتنمية السياسية هي عامل من العوامل الميسرة لرفع الدخل الفردي والمساعدة على النمو الاقتصادي والتطور الصناعي.

في ستينات القرن الماضي، تم اعتماد المقاربة السوسيولوجية في دراسة المفهوم عوض الفلسفة السياسية التي تستوحي أفكارها من دراسة العالم النامي، لأن فهم السياسة في المجتمعات النامية يكون أفضل عبر دراسة المجتمع لا بدراسة الحكومة؛ نظرا لكثرة التغيير الذي تعرفه المؤسسات الحكومية في تلك المناطق. فهي غير قادرة على إعطاء وصف دقيق لأدائها الحالي في أفق التنبؤ بسلوكها في المستقبل.

إنه لمن الأجدى دراسة الثقافات الشعبية (التقليدية) وتأثير الغرب فيها، ومسارات التنشئة الاجتماعية، والممارسات المرتبطة بالتوظيف، والبنيات التحتية السياسية والمجموعات ذات التأثير والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والتواصل.[1] لذلك، ارتأينا في هذه الدراسة الارتكاز على المقاربة السوسيولوجية، بالبحث في مسارات التنشئة الاجتماعية التي أنتجت التمييز بين الجنسين، موضحين العوائق الثقافية التي تحول دون انخراط المرأة في سيرورة التنمية السياسية بشكل فعال.

1.2. خصائص التنمية السياسية

تعتبر المساواة من الخصائص الأساسية التي تميز(ت.س). تقتضي المساواة مشاركة جماهيرية في الأنشطة السياسية واعتبار القوانين من طبيعة كونية، حتى يتسنى تطبيقها على جميع الطبقات ومختلف فئات الشعب. تقوم المساواة، في تصور (Carry, 1959 )، على مجموعة من المبادئ حددها فيما يلي: ضرورة توفير لكل شخص فرصة مناسبة لتطوير شخصيته، بحيث لا تمنح جماعة أو طبقة ما امتيازات على حساب الآخرين. يتم توزيع الحقوق بشكل متكافئ بين جميع الأفراد وعلى الجميع التمتع بفرص متكافئة لولوج السلطة.

تتحدد الخاصية الثانية ل (ت.س) في قدرة النظام ومخرجاته ومدى تأثيره في المجتمع والاقتصاد، والحكومة وأدائها ومجموع الشروط التي من شأنها التأثير في عملها؛ فهي مطالبة بالقيام بمداولات وتقديم تبريرات فيما يخص تنفيذ السياسات العامة، كما تقاس قدرة النظام السياسي بدرجة العقلانية التي تسود الإدارة. في حين تكون الخاصية الثالثة المميزة ل (ت.س) هي التميز أو انتشار التخصص؛ فكل هيئة أو مؤسسة هي ملزمة بأداء وظيفة محددة بغرض إتقانها مع الحرص على إدماج جميع المؤهلات كغاية قصوى.

انطلاقا من هذه الخصائص الثلاث، تكون (ت.س) عند (HAGOPIAN 2000/33: 884) مدعوة إلى تحقيق الاستقرار عبر التعديل التدريجي لمخططاتها. فيما يخص المشاركة السياسية، يتوجب عليها البرهنة على قدرتها على تعبئة الجماهير. وعليها تقع مهمة بناء الوطن واستحضار كرامته في الأشغال الدولية. يجب عليها أن تكون مرئية في الساكنة بأكملها وفي الحكومة وفي مؤسسات النظام السياسي.

1.3. مقاربة نظرية للمفهوم

اعتمد الدارسون في دراستهم ل (ت.س)على مقاربات التحديث والبنيوية الوظيفية والنظرة الغائية للتطور.

  • التحديث

بالنسبة لهذا المفهوم، فهو مستوحى من أعمال ماكس فيبر الذي ينطلق من فكرة أن تطوير الاقتصاد سيتبعه سلسلة من التحولات في النظام الاجتماعي والتي من شأنها تحويل الأنظمة السياسية؛ فمثلا التمدن والهجرات المرافقة له، يمكنها أن تحدث تغييرا على المستوى السياسي. فعوضا من أن يظل الولاء السياسي محصورا في نطاق ضيق لقرية الانتماء وأقوى رجالاتها، فيمكن أن يتحول إلى الوطن وبيروقراطية الدولة الشرعية التي تتولى الحكم.ثم إن الانتشار الواسع لوسائل التواصل بين الشريحة المتعلمة من المجتمع، من شأنه تسريع وثيرة التحديث.

  • البنيوية الوظيفية

كان النوع الثاني من الدراسات حول(ت.س)، في الستينات من القرن الماضي كثير التأثر بأفكار دوركهايم، حيث قدم مقاربة بنائية وظيفية للسياسة تعمل على صياغة نماذج تضم الخصائص المشتركة بين الدول بهدف إحداث مقارنات واسعة بينها.  المقاربة من الفكرة القائلة بأن لكل نظام سياسي بنيات سياسية، مما يعني حاجة جميع الأنظمة إلى تحسين الأداء لنفس الوظائف. تشكل البنيات نوعان: رسمية كالبرلمان والسلطة التنفيذية البيروقراطية والمحاكم، وغير رسمية كالأحزاب السياسية والتجمعات المهمة والعلاقات القائمة على القرابة أو الانتماء لنفس السلالة والانتماء الطبقي والمظاهرات وأعمال الشغب…إلخ. وفقا لهذه المقاربة، تتأتى دراسة (ت.س) انطلاقا من معرفة أي البنيات وجب مقارنتها داخل الأنظمة السياسية المختلفة، لمعرفة ماهي الوظائف الواجب العمل على تحسين أدائها.

  • المنظور الغائي ل (ت.س)

(ت.س) هي حسب HAGOPIAN (2000/33: 886) حركة النظام السياسي باتجاه تحقيق هدف أو عدة أهداف، غالبا ما تكون جزء من سيرورة التحديث العامة. تضم هذه المقاربة كلا من التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية، ويعتبر الغرب هو النموذج الذي يجب أن يحتذى به لتحقيق التنمية في الاتجاهين معا.لكن ما يعاب على هذا المنظور هو محاولته محو التنوع الكبير للقضايا الأساسية التي تشغل الشعوب، وتعزيز نزعة التمركز حول العرق الغربي والتحيز لقيمه، واعتبار التقليد والتحديث وجهان متعارضان، كل منهما يسير وفق نمطه الخاص.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حاولت (ت.س) أن تمضي بشكل غير متساو عبر مختلف المجالات والمناطق. أرادت أن تخلق نوعا من التعايش بين أشكال متعددة من الاجتماعي والتنظيم السياسي. في هذا المستوى، يبدو أن فهم الأوضاع سواء من حيث الاستقرار أو المساواة…، لا تتم فقط انطلاقا من دراسة تأثير القوى الأجنبية أو المحلية المساهمة في التحديث والتحضر، بل أيضا دراسة المؤسسات السياسية وبنيات الدولة وقوة الاقتراحات السياسية. كما عرفت الفترة مساءلة بعض الفرضيات المعيارية التي تطرحها أدبيات الفترة السابقة؛ فتحولت من التركيز على البنيات والوظائف والأدوار، وعادت من جديد إلى المفاهيم والمؤسسات، وكذا مساءلة النموذج الغربي حول مدى تجانسه ومدى قابليته للتعميم.

1.4. انتقاد (ت.س)

جاءت أهم الانتقادات من الباحثين في أمريكا اللاتينية، عبر مساءلة النموذج الغربي في التنمية ولماذا على دول العالم الثالث اقتراض هذه النماذج الدخيلة أو ما يعرف بنظرية التبعية. إذا كانت دول أمريكا اللاتينية تعاني الفقر، فذلك راجع لعدم عدالة المبادلات التجارية على الصعيد العالمي، حيث يبدو الفرق شاسعا بين ثمن المواد الخام التي يتم تصديرها للخارج والمواد المصنعة التي يتم استيرادها. هذا التفاوت تحديدا ما يوسع الهوة بين دول الغرب النامية ودول أخرى غير نامية.

إن الفكرة القائلة بوجود تعارض بين التحديث والتقليد التي تتبناها أدبيات (ت.س) هي فكرة مرفوضة جملة وتفصيلا، فما هو تقليدي في هذه المجتمعات يصعب إلحاقه بالتحديث، لأن العالم الحديث يحتاج ويستغل العالم القروي والأسواق غير المهيكلة في المجال الحضري لانخفاض تكلفة اليد العاملة وأثمنة المواد الغذائية.

ينفي (Huntington, 1968) بأن يكون التطور الاقتصادي وسيلة لتحقيق (ت.س) وديمقراطية مستقرة. على العكس من ذلك، فهو يرى بأن التحديث السوسيوقتصادي قد يؤدي إلى تزايد الطلبات التي من شأنها خلق نوع من عدم التوازن داخل الأنظمة السياسية بل والسعي في انهيارها. نفس التصور يدافع عنه(O’Donnell, 1973) ، الذي ينسب انهيار الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية وتحديدا في المناطق الأكثر تحديثا، حيث تقل الأمية ويكثر التحضر، إلى عوامل اقتصادية بنيوية. فالتحديث بالنسبة له قد يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى مخرجات غير ديمقراطية.

من خلال العرض الذي سبق، يمكن قياس المسافة الفاصلة بين النظام المغربي والديمقراطية التي تبنى على أساسها أية تنمية؛ لأن (ت. س) تشترط لتحقيقها إحقاق المساواة بين جميع فئات المجتمع، وهو الشرط الذي يصعب تحققه في ظل مجتمع يهيمن فيه الذكور وتغيب فيه النساء عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار. لتعميق فهمنا لأسباب تهميش المرأة في السياسة، سنحاول فيما يلي البحث في الأسس الاجتماعية والثقافية التي تكرّس هذا الإقصاء.

  1. النوع الاجتماعي وأسس الهيمنة
  2. تعريف النوع الاجتماعي

يعرّف مفهوم النوع الاجتماعي باعتباره حقل الدراسة الذي ينظر للأشياء بطريقة مغايرة، تأخذ بعين الاعتبار حقيقة وجود أنواع مختلفة في هذا العالم. يدرس الجندر الطرق التي تعمل من خلالها المعايير وأنماط السلوك المنسوبة إلى الذكورة والأنوثة،ويُستخدم كفئات تحليلية لرسم الحدود الفاصلة بين الاختلافات البيولوجية للجنسين، وطريقة توظيفها لوصف الأفعال، وتحديد اختصاصات كل من الذكر والأنثى.

إن هدف البحث وفقا لهذه المقاربة هو فضح مظاهر استغلال الفروق البيولوجية بين الجنسين للإبقاء على النظام الأبوي (الباطريركي) المهيمن، وذلك بجعل المرأة تعتقد بأن مكانها الطبيعي هو المنزل، حيث تقوم بأدوارها التقليدية كأم وربة بيت، وأي محاولة لتبديل تلك الأدوار من شأنها أن تحكم على المرأة بالشقاء والتعاسة كما خلص إلى ذلك (Pilcher & Whelehan 2004: 56-59). تنطبع الأشياء بطابع النوع الاجتماعي عندما تنخرط في سيرورة اجتماعية تنتج وتعيد إنتاج الفروق بين المرأة والرجل، بحيث يعطى الامتياز للذكر ضدا عن الأنثى. إن أهم تفسير تقدمه مقاربة النوع للفوارق القائمة بين الرجل والمرأة، هو طرح مسألة السلطة في المجتمع وتبيان كيف ولِم يتم توزيعها بشكل مختلف بين النساء والرجال.

كثيرا ما يتم الخلط بين النوع البيولوجي والنوع الاجتماعي، لذلك نجد من الضروري تعريف النوع البيولوجي حتى يتضح للمهتم الفرق بين المفهومين. فإذا كان النوع الاجتماعي يشير إلى كل ما يرتبط بنظم المجتمع وما يحدَّد للرجل والمرأة من أدوار ومهام، يتم إعداد الفرد للالتزام بها لاحقا من خلال سيرورات التنشئة الاجتماعية، فإن النوع البيولوجي يقصد به نوع الجنس هل هو ذكر أم أنثى؛ فالحديث هنا يكون عن الطبيعة وما وهبته للفرد من خصائص فطرية وعضوية ثابتة وغير قابلة للتغير أو التحول من تلقاء نفسها.

إذا كانت ثقافة الشعوب متمايزة، فذلك يعني بأن الأدوار التي يتم إسنادها إلى كل من الرجل والمرأة، في مجتمعات متباينة، أيضا ستكون متمايزة، إلا أنها تظل قابلة للنقد والتعديل. لا يوجد قانون بيولوجي يلزم المرأة بالقيام بأشغال البيت وحدها دون إشراك الرجل في نفس المهام، ولكن الطبيعة أعدتها وحدها للقيام بوظائف الحمل والإنجاب والإرضاع. يبدو جليا بأن المهام الاجتماعية يمكن إنجازها من طرف كلا الجنسين، لكن الأدوار البيولوجية تخص كل نوع على حدة، أما الأبحاث التي تهتم بقضايا النوع الاجتماعي فيكون الهدف من ورائها هو تحقيق نوع من المساواة بين كل من الرجل والمرأة حتى تصير العلاقة بينهما أكثر إنسانية وأقل تحيزا لأحد الجنسين.

لقد حاولت فلسفة ما بعد الحداثة تصحيح مسار الحركة النسوية بدعوتها إلى التخلي عن فهم الصراع وكأنه صراع الرجل مع المرأة والاستعاضة عنه بالتفكير في مقاربة عادلة للنوع الاجتماعي. فالمطلوب من الحركة النسوية هو توسيع زاوية النظر إلى المجموعتين: “مجموعة النساء” و”مجموعة الرجال” باعتبارهما مجموعات تنتمي إلى نفس المجموعة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اختلافاتهم والفروق في السن والطبقة الاجتماعية والعرق والميولات الجنسية…إلخ.

إن هذا التقاطع مع الحركة النسوية وفلسفة ما بعد الحداثة هو ما أنتج ما بعد النسوية. وإذا كان على الحركة النسوية الاستفادة من دروس ما بعد الحداثة، فإن عليها القيام بأبحاث ميدانية تبرز الأثر الذي يحدثه نوع الأفراد في مصادرهم المادية وحظوظ العيش ومجموع التجارب التي يمرون بها.

  • أسس الهيمنة الذكورية

انطلاقا من قلب كلي لعلاقة الأسباب بمسبباتها لا يمكن إدراك الهيمنة الاجتماعية، التي تبدو وكأنها نمط من بين أنماط العلاقات المستقلة بشكل كلي عن علاقات القوة. تتحمل الأساطير والطقوس عبء مواءمة القوانين للتقسيم المعد سلفا، فيكرس النظام القائم اللامساواة بجعلها رسمية ومعترف بها لدى الجميع. يدخل التمييز القائم على أساس الجنس ضمن خانة العادي والطبيعي، وقد يصير في بعض الأحيان تمييزا ضروريا ولا بد منه؛ إنه يسكن الأشياء في المنزل، ويستقر في الجسد، وفي العالم الاجتماعي برمته، ويعمل من خلال أنظمة تمس الفعل والتفكير.

إن قوة النظام الذكوري لا تحتاج للتبرير طالما يفرض نفسه كنمط عيش محايد لا يقبل الانخراط في نقاش يشرعن لوجوده. يكمن سر قوة النظام الذكوري في عدم القدرة على إدراك تأثير الميكانيزمات العميقة التي تؤسس التوافق بين البنيات المعرفية والبنيات الاجتماعية. إنها ميكانيزمات خفية يتم فيها إلصاق كل التأثيرات الرمزية للشرعية بتمثلات مدرَكة لاشعوريا.

يشتغل النظام الاجتماعي كآلة رمزية ضخمة تعمل على المصادقة على الهيمنة الذكورية التي تأسست عليها، فتكون النتيجة هي تقسيم الشغل وفقا لجنس المشتغِل. ويُقسَّم الفضاء أيضا تقسيما جنسانيا؛ فيكون السوق هو الفضاء الذكوري بامتياز، بينما يصير المنزل هو الفضاء الخاص بالأنثى، حيث تعمل على إنجاز المهام المضنية والمتدنية القيمة والأجر مثل: الاهتمام بالبيت وحيوانات الإسطبل وجلب الماء والكلأ معالإقصاء من الوظائف النبيلة.

يدرِك العالم الاجتماعي الجسد كواقع مجنَّسٍ يحمل في ذاته مبادئ الرؤية التي تدرك الواقع مشطورا إلى نصفين: عالم الذكور وعالم الإناث. وفقا لهذا التصور يصبح الجسد نفسه مشرِّعا للتمييز؛ فالأعضاء البيولوجية مختلفة والوظائف البيولوجية كذلك مختلفة. وعليه، فالاختلاف في الوظائف الاجتماعية يصير مقبولا بل مفروضا اجتماعيا. مما يعني خضوع الجسد وتحركاته لصياغة اجتماعية مبهمة متفق ضمنيا بشأنها، غدت تبدو وكأنها معطى طبيعيا لا صناعة ثقافية.

يتحرك الجسد داخل الفضاء العام وفق ضوابط معينة؛ فمقياس شرف الرجل واستقامته يكمن في المواجهة والنظر في الوجه والعينين وأخذ الكلمة أمام العموم، ويكون الخطاب تقريريا وقاطعا ومفكرا فيه. يتموقع الرجل في الفضاء الخارجي والرسمي، وإليه توكل المهام الخطرة (الحرب) والمثيرة (الذبح) لأنه يتسم بالقوة والصلابة، في حين يتحرك جسد المرأة بشكل مغاير امتثالا للثقافة، حيث تميل إلى الانزواء موجهة نظرتها إلى الأسفل، ما يضمن غظ البصر تجنبا للفتنة، منحنية الظهر والأيادي مطوية جهة الصدر.

غالبا ما تُفرض حدود على الجسد باسم “الحرام”(Bourdieu 1998: 21-48) ، فيكون اللباس محتشما يوازي مراحل نموها المختلفة وهي: طفلة وعذراء مقبلة على الزواج ثم زوجة وربة عائلة. في هذا السياق نجدها تكتسب عادة شد الحزام ورفع الشعر، ففي ذلك تعطيل لعمل جزء من الجسد أو العمل على إخفائه وهو في حالة حركة. ومن خصائص المرأة المثالية في الثقافة الذكورية اتصافها بالنقص وفقر في المعلومات والأفكار لأن ذكاءها يعد نقمة عليها.

  • التنشئة الاجتماعية والتمييز بين الجنسين

إن التمييز بين الرجل والمرأة جاء نتيجة عمل جماعي هائل ودائم ومعَمَّم يسمى التنشئة الاجتماعية، والتي لا تظهر إلا نادرا كفعل بيداغوجي معلَن ومصرَّح به. إنه عمل يشمل الذهن والجسد إن على المستوى النظري أو العملي. تعمل آلية التنشئة الاجتماعية الضخمة على تثبيت الفوارق بين الذكور والإناث عبر طقوس مُمأسِسة للتمييز. ويعد الختان أحد الطقوس التي تزكي فكرة الفحولة الذكورية، كما يتم تشجيع الصبي على ممارسة نوع معين من الألعاب والرياضات التي يبرز فيها فحولته مثل: الرماية والقنص والصيد. ينفصل الولد تدريجيا عن الأم، ويتم ذلك في أعراف بعض القبائل بوضع المولود الذكر على الجانب الأيمن للأم، ثم وضع بينهما سكين كبير أو حجر من أحجار الدار.

يبدأ التنكر للجانب الأنثوي في الذكر بقص الشعر قبل أول دخول له إلى السوق. يتولى الأب عملية القص بأداة حادة يحتكر وحده استعمالها. توضع بيضة نيئة في “قِبِّ” الصبي وقفل ومرآة يحملها في يده. يكسر البيضة قبل دخول السوق ثم ينظر في المرآة حتى تدرك الذات ذاتها من خلال عملية الانعكاس. يحيل فعل كسر البيضة وفتح القفل على الفحولة، فهي كلها أفعال شبيهة باختراق جسد المرأة كفعل غريزي صرف يتم الإعداد له اجتماعيا.

ظلت الفوارق بين الذكور والإناث تتعمق إلى أن اختزلت العالم والممارسات في ثنائيات متعارضة تؤسس للأخلاق بل حتى الجمال من بينها: (مرتفع/ منخفض)- (مستقيم/ ملتوي)- (صلب/ مرن)- (مفتوح/ مغلق).

تنحو التربية الأساس إلى تزويد الذكر والأنثى بطرق مختلفة في استعمال الجسد بشكل عام أو جزء من أجزائه؛ فطرق المشي وتعابير الوجه والنظرة…كلها تفاصيل تعبر عن أخلاق وسياسة وفهم معين للكون. بهذا نلقن النساء كيفية التواجد في الأماكن العامة بأشكال مقبولة اجتماعيا والتي يعد الحجاب اليوم هو أحد مظاهرها الأكثر انتشارا، حيث يمثل هذا اللباس نوعا من أنواع الانخراط في النظام القائم دون حاجة إلى نهي أو أمر مباشر أياّ كانت الجهة الآمرة، بل حتى “المتبرجات” لا تستطعن الظهور بحرية داخل الفضاء العام؛ يستشف ذلك من عمليات شدّ التنورة القصيرة نحو الأسفل مع الحرص على جمع الساقين وعدم بسطهما عند الجلوس، أو مواراة القميص الواسع العنق باستعمال اليد… كلها سلوكات تدل على انزعاج المرأة من نظرة الآخر لجسدها وما يتبع تلك النظرة من أحكام قيمة مسيئة لمكانتها في المجتمع.

حاولت النساء التصدي للهجوم الذكوري على حقوقهن وحريتهن في التعبير عن ذواتهن، لكن الآليات التي تبنتها لتحقيق هذا الغرض، لم تأتي متحررة تماما من سطوة الثقافة الذكورية المهيمنة. فأكثر النساء لا تستطعن ممارسة سلطتهن إلا بالانمحاء الذاتي والاستعانة بقدرتهن على الإنجاب. تلجأ الأم إلى إبراز المعاناة الصامتة أمام الابن الذكر، لبسط نفوذها لاحقا. ينظر الولد لتلك المعاناة كدين يجب تسديده، وضمنيا فهو دين غير قابل للتسديد، مهما توالت المحاولات اللامتناهية لاستيفائه، أو تلجأ النساء إلى الشعوذة وهو ما يعزز دونيتهن ويثبت الصورة النمطية عن المرأة الماكرة أصل الآثام والشرور. إن السحر والحيل والكذب أو إظهار نوع من السلبية داخل غرفة النوم…، ما هي إلا عنفا هادئ تواجه به المرأة العنف المادي أو الرمزي الذي يمارسه عليها الرجل.

أما في عصرنا الراهن، وبعد معارك خاضتها المرأة من أجل تحرير الجسد من هيمنة الذكور، سنجد تحررها لم يتحرر كثيرا من النظرة الذكورية التي انتفض ضدها بظهوره الاستعراضي في الإعلانات، وبلجوئه إلى قوة الإثارة والإغراء التي يتحول من خلالها الجسد إلى موضوع للاستهلاك الانتقائي والتفاخر الذكوري بحيازة الجسد الأكثر أنوثة وجمالا، أو قد يتخذ الصراع منحى المواجهة بين الرجل والمرأة.

لذلك وجدت الحركة النسوية نفسها مدعوة إلى مراجعة منطلقاتها على ضوء منطق مغاير، حيث نبهت فلسفة ما بعد الحداثة إلى ضرورة تخلي الحركة النسوية عن فهم العلاقة وكأنها صراع الرجل مع المرأة، والاستعاضة عنه بمقاربة عادلة وأكثر إنسانية للنوع الاجتماعي. فالمطلوب، في تصور  (Pilcher & Whelehan2004: 110-111) هو توسيع زاوية النظر إلى المجموعتين؛ “مجموعة النساء” و”مجموعة الرجال” باعتبارهما مجموعتين تنتميان إلى نفس المجموعة البشرية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اختلافاتهم والفروق في السن والطبقة والعرق والميولات الجنسية…

إن التقاطع مع الحركة النسوية وفلسفة ما بعد الحداثة هو ما أنتج ما يصطلح عليه ما بعد النسوية (post-feminism)، التي باتت مدعوة إلى الاستفادة من دروس ما بعد الحداثة عبر القيام بأبحاث ميدانية تبرز الأثر الذي يحدثه نوع الفرد، ذكرا أو أنثى، في موارده المادية وفرص عيشه وخبراته.

  1. الفوارق بين الجنسين وتحديات التنمية السياسية

ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لكل شخص الحق في أن يصير عنصرا ضمن أعضاء حكومة بلده. كما أن إعلان بيكين (1995) حول المساواة والنوع الاجتماعي يؤكد على المشاركة المتكافئة للنساء والرجال في اتخاذ القرار السياسي، إذ حصل الاتفاق على أن تحسين المشاركة السياسية للمرأة من شأنه أن يرسي الشفافية ومساءلة الحكومة واستدامة التنمية، شريطة أن تكون المساهمة فعلية وفعالة تضم جميع مراحل وضع السياسات، انطلاقا من دراسة الميزانية إلى التنفيذ ثم التقييم.

يقع مفهوم التمكين السياسي للمرأة في قلب النقاشات التي تطرح مسألة ممارسة السلطة من منظور النوع الاجتماعي، :(Sundström. Pamela. Wang. Lindberg 2015: 4-26) حيث يقصد به عند

“سيرورة الرفع من قدرة المرأة لتصبح قادرة بشكل واسع على تحديد الاختيارات والانتماء إلى الهيئات والمشاركة في صناعة القرار داخل المجتمع”، بحيث أن كل تفكير في السلطة هو بالأساس تفكير في القدرة على الاختيار لدعم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ لذلك يكون تمكين المرأة هو تعديل لعلاقات السلطة التي تحد من إمكاناتها واستقلاليتها.

عادة ما يتحقق التمكين للنساء بتقييم حاجاتهن واهتماماتهن التي تدفعهن للظهور خارج روتين الحياة اليومي؛ فحرية التنقل والخروج من الفضاء الخاص دون الحاجة إلى استئذان هو مؤشر من مؤشرات تمكين المرأة. كما يقتضي تمكينها تحرير الموارد من أية سلطة؛ كالتحرر من العمل الإجباري والانخراط في العمل المؤدى عنه، والحق في الملكية الخاصة، والتمتع بالحريات الأساسية ثم المعاملة المتكافئة أمام القضاء. إن تحقيق التمكين السياسي للنساء يستلزم توفر آليتين اثنتين: تقتضي الأولى الانخراط في الهيئة وتقوم الآلية الثانية على المشاركة، فماذا نقصد بكل من الآليتين؟ وكيف تعملان على تحقيق التمكين السياسي للنساء؟

  • الهيئة

الانتماء لهيئة هو أن تكون عنصرا فاعلا في سيرورة التغيير عن طريق المشاركة الفعالة في وضع الأهداف. تقدم الهيئة بعدا ثانيا للسلطة نظرا لقدرتها على التأثير في الأجندة السياسية، حيث يمكنها طلب دعم الدولة والمساهمة في تغيير المجتمع. ترتبط الهيئة بالصوت؛ فعلاقات السلطة المحددة جندريا قد تعيق المرأة عن التعبير بحرية وطرح المواضيع السياسية للنقاش والانخراط في النقاش العمومي، بينما يقتضي التمكين السياسي للنساء التمتع بحرية التعبير عن أي رأي سياسي في أي منبر إعلامي كان، والحق في تكوين أو المشاركة في أي تجمع سياسي كان.

إن الهيئات الجماعية ونمو المجتمع المدني والمساهمة في برامج التنمية في البلاد، هي آليات بيد النشطاء حتى يتحقق لهم التمكين السياسي، وعلى النساء أن يجدن موقعا خاصا بهن في الإعلام والأدب؛ فعندما يكون القلم رجاليا فهو يعبر عن قضايا الرجال، أما عندما يكون القلم نسائيا فسيكون أقرب إلى التعبير عن هموم النساء.

  • المشاركة السياسية

إن أهم خطوة باتجاه التمكين السياسي للنساء هي حيازة مقاعد في الانتخابات السياسية، لأن الجماعات العرقية والاثنية والجندرية…، هي الأكثر ملاءمة لتمثيل نفسها في المسار الديمقراطي؛ فالنساء مطالبات بتوفير العدد الكافي من المواطنات للدخول في صراع سياسي علني أو بغية التأثير عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار. لذلك على المرأة المشاركة في احتجاج ما عندما يختص الحزب بتنظيمه، وكذلك الانخراط في جمعيات المجتمع المدني، مع إيجاد موطئ قدم في الصحافة والإصرار على فكرتي السيرورة process)) والتغيير، إيمانا منها بأن التغيير هو سيرورة تستلزم المرور بمراحل متعددة وعلى الذي ينشده أن يتحلى بصفي الثبات والإصرار حتى تتحقق الأهداف المنشودة.

تتأثر المشاركة السياسية بمنسوب الديمقراطية الذي تضخه الأنظمة السياسية في مؤسسات دولها، ويقاس عموما بمدى حماية الحقوق المرتبطة بالحريات، وتحسين المشاركة في الهيئات ومؤسسات المجتمع المدني، مع وجود تأثير ملحوظ لزيادة هامش الحرية الذي تتمتع به المرأة في المجال الخاص والذي ينعكس، حتما، بشكل أو بآخر على مقدار انغماس المرأة في الشأن العام وخصوصا المشاركة السياسية.

لقياس مؤشر المشاركة السياسية يتم اعتماد متغير “توزيع السلطة حسب النوع”. وينخفض هذا المؤشر بشكل ملحوظ داخل الدول المنخفضة الدخل لضعف تغطيته، مما يشير إلى وجود علاقة بين الوضع الاقتصادي والتمكين السياسي للنساء، فإلى أي حد يؤثر التطور الاقتصادي وجودة الديمقراطية في مستوى التمكين السياسي للنساء؟

يعتبر التطور الاقتصادي عاملا من العوامل المهمة المساهمة في اللامساواة بين الجنسين. فكلما تحسنت الوضعية المالية للنساء، صار بمقدورهن التحرر أكثر من المهام اليومية والتفرغ للعمل السياسي. كما أن التحول في نمط العيش من اقتصاد الزراعة إلى اقتصاد ما بعد الصناعة، أفرز أيضا تحولا إيجابيا على مستوى القيم، حيث صار التركيز أكثر على استقلالية الفرد وقدرته على التعبير عن ذاته، مما انعكس إيجابا على مستوى تمكين النساء، بعدما ارتفعت نسبة الاستفادة من التعليم وارتفعت نسبة حضورهن ضمن القوى العاملة الرسمية والمؤهلة لشغل مناصب القيادة. لكن، ما تزال الكثير من النساء غير قادرات على اقتحام مجال السياسة نظرا لعدم توفرهن على المتطلبات المالية لخوض الانتخابات وتمويل الحملات الانتخابية.

 

  1. التمكين السياسي وتمدرس الفتاة

تحمل (ت.س) في تعريفها فكرة التكيف مع التغيير الاجتماعي والانتقال من وضع تقليدي إلى وضع حديث يحتاج إلى إدماج المعطى الجديد ضمن بنية قائمة، مع التركيز على مفهوم السلطة التي ستتحول بدورها من سلطة تقليدية إلى أخرى حديثة، قادرة على التأثير في بنيات المجتمع على جميع الأصعدة، الثقافية منها والسياسية والاقتصادية.

إذا كانت (ت.س) مرادفة للتحديث السياسي فهذا يعني فيما يعنيه السعي إلى رفع مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية من نساء ورجال عبر تعزيز قيم الديمقراطية ومنح فرص متساوية لكل شخص يسعى إلى تطوير ذاته عبر ممارسة السياسة وولوج السلطة. أما وهي منظور إليها من زاوية الاقتصادي، فإليها توكل مهمة تحسين مستوى عيش الساكنة وتحقيق رفاهيتهم من خلال تزويد دخلهم الفردي.

تطرح في هذا السياق علاقة الثقافة السائدة بالديمقراطية. فالديمقراطية ليست مقولة مجردة منعزلة عن الواقع الذي تمارس فيه. قبل التفصيل في العوامل الثقافية المؤثرة في الديمقراطية وفي التمكين السياسي للنساء، نعرف أولا ما المقصود بالثقافة السياسية. “يقصد بالثقافة السياسية مجموعة من القيم والمعايير السلوكية المتعلقة بالأفراد في علاقتهم مع السلطة السياسية التي تتطور مع تطور العلاقة بين الحاكم والمحكومين.وتعني أيضا لدى (عزت، فوزى باهي، نظير2017: 107-108)، منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور”.

وفي تعريف آخر نجد بأن “الثقافة السياسية هي مجموع الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تعطي نظاما ومعنى للعملية السياسية، وتقدم القواعد المستقرة التي تحكم تصرفات الأفراد داخل النظام السياسي، وبذلك فهي تنصب على المثل والمعايير السياسية التي يلتزم بها أعضاء المجتمع السياسي، والتي تحدد الإطار الذي يحدث التصرف السياسي في نطاقه”. كما يمكن الاستعانة بالتعريف الأنثروبلوجي للثقافة الذي قدمه1992):4 (Berstein باعتبارها مجموع السلوكات الجماعية وأنظمة التمثل وقيمالمجتمع في تعريف الثقافة السياسية، فتكون بذلك هي: “مجموع مكونات الثقافة مطبقة على السياسة، مما يعني قابليتها للتغيير وفقا للمرحلة التاريخية وللنظام السياسي القائم.”

يستلزم عن هذه التعاريف قبول بأن عناصر مثل المهارات الاجتماعية والقواعد الأخلاقية ومعايير الجمال والممارسات داخل الفضاء الخاص، تشكل جزء من الثقافة السياسية. والحديث عن نموذج واحد للديمقراطية قابل للتطبيق على الجميع دون مراعاة الخصوصيات الثقافية للشعوب هو تصور متجاوز، كما أن الاختباء وراء مقولة الخصوصية الثقافية قد يكون سوطا من سياط الأنظمة الكليانية الذي تجلد به شعوبها، لذلك فإن التحدي المطروح هنا هو البحث عن ضوابط كونية وقيم إنسانية يخضع لها الجميع: كحقوق الإنسان وقيم العدالة والتضامن…مع مراعاة طبيعة القيم والمعايير السائدة على الصعيد المحلي.

إن المجتمع المغربي له خصوصيته الثقافية التي تميزه عن غيره. لكنه يشترك مع مجتمعات أخرى فيما يتعلق بعلاقات السلطة المحددة جندريا. فالملاحظ هيمنة الذكور على الإناث وتكريس اللامساواة القائمة على النوع. ذلك ما توصلنا إليه من خلال بحثنا في أسس الهيمنة الذكورية، حيث خلصنا إلى أن المرأة تتشكل اجتماعيا وفقا للنموذج الأبوي الذي يحدد لها المنزل كفضاء مقبول للعيش، والأمومة وما يرتبط بها من عناية الزوج والأطفال كوظيفة مع وسم هذه الأدوار بالدونية.

في السنوات الأخيرة، بدأنا نلاحظ التحاق المرأة بسوق الشغل في مجموعة من المجالات، لكن الثقافة السائدة لا ترى في ذلك محاولة لتحقيق الذات أو سعيا لإثبات الشخصية واستقلاليتها بقدر ما تبرره بالضرورة الاقتصادية، على أساس أن عمل المرأة هو وسيلة لتيسير الزواج، شريطة أن لا يتعارض مع وظيفتها الأساسية في المنزل.

يتعرض جسد المرأة إلى رقابة صارمة تفرضها عادات وتقاليد المجتمع الذكوري، ما يجعلها تميل إلى الانزواء والتواري عن الأنظار استجابة لمنظومة القيم المحافظة. كما أن المرأة المثالية، وفقا لنفس النموذج، لا يجب أن تبدي ذكاء ملحوظا ولا دراية بالأمور، لأنه يوحي بكثرة تجاربها في الحياة وهو أمر يتعارض مع النموذج المطلوب. لذلك، يجب أن يكون تفكيرها بسيطا ومحدودا، وأكثر ما يثير اهتمامها كيفية الاعتناء بالجسد معقل الإثارة والشهوة.

جاء الخطاب الديني محاصرا للجسد، فنجده في صيغته المتشددة يدعو إلى حرمان المرأة من كافة الحقوق، وفي صيغته المعتدلة يرى بأن الإسلام لم يحرمها من حقوقها السياسية عدا رئاسة الدولة، في حين يرجع الموقف المعاصر المسألة إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إذا كانت التنشئة الاجتماعية قد أعدت الرجل للاستحواذ على الفضاء العام، وزودته بما يكفي من الآليات لكي يقتحم السلطة ومجالاتها منذ الطفولة إلى سن الرشد، فإن المرأة لم تعد لذلك؛ لأن ممارسة السلطة لا تعتبر من الأساس دورا من أدوارها. وقد تمكنت الثقافة السائدة من نشر هذا الوعي وجعلت المرأة تقتنع تمام الاقتناع به، وهو ما أفقدها الثقة في نفسها وغيب دعمها لنساء أخريات في الانتخابات، فهي لا تستطيع ممارسة سلطتها إلا بالاستعانة بقدرتها على الإنجاب أو باستعمال أساليب ملتوية كاللجوء إلى الخرافة والشعوذة، والسؤال المطروح هو: هل يعد واقع النساء قدر محتوم لا مجال لتغييره؟

رأينا في الفقرات السابقة بأن سمة الثقافة السياسية هي التغيير والتحول لارتباطها بالمعايير العامة والاتجاهات السائدة في المجتمع، لذلك وجب إيجاد المتغيرات المتحكمة في تلك الثقافة والعمل على ضبطها بالشكل الذي يمكّن المرأة من ممارسة السياسة تماما مثلها مثل الرجل. فهل يكون التعليم مدخلا من مداخل إحداث التغيير في السياسة؟

4.1 نصيب الفتاة من السياسة

بدلت الدولة مجهودا ملحوظا من أجل محو الفوارق بين الذكور والإناث في المجال السياسي. بنفس النفس ستعمل على الرفع من تمثيلية النساء وطنيا وجهويا ومحليا، ويتأكد ذلك انطلاقا من التدابير والإجراءات التي اتخذتها الإرادة السياسية في هذا المجال، والتي يعد من أهمها:

  • التنصيص على ألا تتضمن كل لائحة من لوائح الترشيح اسمين متتابعين من نفس الجنس،
  • إحداث دائرة انتخابية على صعيد كل عمالة أو إقليم أو مقاطعات موجهة حصريا للنساء، على ألا يقل عدد المقاعد المخصصة لها عن الثلث،
  • إحداث دائرة انتخابية إضافية على مستوى المجالس الجماعية مكونة من مقعدين على الأقل، موجهة للنساء،
  • وضع الحكومة إجراءات تحفيزية للأحزاب السياسية من أجل تخصيص مراكز متقدمة للنساء،
  • وضع لائحة ترشيح وحيدة تشتمل على جزأين: يتضمن الأول أسماء للمترشحين والمترشحات، والثاني أسماء مترشحات فقط.
  • إدماج مقاربة النوع الاجتماعي عند وضع الجماعات الترابية أنشطتها وبرامجها التنموية لسنة 2015، مع إحداث هيئات ترابية استشارية تهتم بقضايا المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع،
  • إشراك النساء في اللجن المحلية للتخطيط وتفعيل لجان المساواة وتكافؤ الفرص،
  • إحداث صندوق الدعم لتشجيع تمثيلية النساء من خلال المساهمة في تمويل البرامج والأنشطة المعتمدة من طرف الأحزاب السياسية والمجتمع المدني على الصعيد الوطني والترابي،
  • عقد شراكات مع مجلس أوروبا للرفع من إدماج النساء في الحياة العامة وعملية صنع القرار والسياسات،
  • ضمان لكل مواطنة ومواطن الحق في التصويت وفي الترشح للانتخابات والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية،

لقد أدت الإصلاحات الدستورية، خصوصا، تلك التي تلت احتجاجات الحركات النسائية عقب الربيع العربي، إلى إحداث تغيرات مهمة في نظام الانتخابات في المغرب، كان من نتائجها أن تضاعف عدد المقاعد الوطنية المخصصة للنساء، فانتقل العدد من 30 إلى 60 مقعدا من أصل المجموع البالغ 395 مقعدا، وذلك بنسبة (15 في المائة(. وأدى القانون الجديد إلى زيادة كبيرة في عدد المرشحات في انتخابات (2011)، فانتخبت 67 امرأة في البرلمان. وفي انتخابات (2016)، وفقا لِ (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) 2017: 42)، فازت 81 امرأة وذلك (بنسبة 21 في المائة) من مقاعد المؤسسة التشريعية.

بعد الانتخابات الأخيرة (شتنبر 2021)، تؤكد النتائج الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية المغربية (فضاء الانتخابات، 2022)، فوز 96 سيدة، أي بنسبة (24.3 في المئة). أما الحكومة الجديدة المتكونة من 24 وزيرا فقد حظيت النساء منها بستة حقائب وزارية،  ولأول مرة تمكنت المرأة من الإشراف على وزارات ذات حساسية مثل وزيرة الاقتصاد والمالية، ووزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني ووزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، والوزيرة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، ووزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة. كما تم تعيين كاتبة دولة واحدة. إنه مد تصاعدي باتجاه رفع تمثيلية النساء في السياسة، لكنه حتما يظل بعيدا عن تحقيق مطلب المناصفة التي حث عليها الدستور في الفصل 19.

بالرغم من المجهود المبذول والذي يؤكد وجود إرادة سياسية حقيقية لدمج المرأة المغربية في الحياة السياسية، إلا أن النتائج المحصلة تبقى دون انتظارات الحركات النسائية ولا ترقى إلى تحقيق مشاركة سياسية نسوية فعلية كما أرادها المشرع أن تكون. تتحكم في هذا الواقع مجموعة من المعيقات منها الذاتية والموضوعية؛ فالنساء عموما يبخسن من دورهن في العمل السياسي، لأن المجتمع جعلهن يعتقدن بأن السياسة هي شأن رجالي وأن التفريط في الحقوق هو فضيلة تحسب لهن بتزكية من العادات والأعراف السائدة، فنجدهن منسحبات طوعا من مجال المنافسة، خصوصا مع انتشار الفقر والأمية بين أعداد كثيرة منهن.

ورغم تبني القوانين الداعمة لحق المرأة في النشاط السياسي، فالفجوة بين الواقع والمأمول تظل عميقة؛ بالنظر لغياب الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية التي تعمل على إقصاء العنصر النسوي من مواقع صناعة القرار، وبالنظر أيضا للاختلالات التي تعرفها العملية الانتخابية برمتها والتي جعلت المواطن المغربي يفقد الثقة في المؤسسات بشكل عام.

لن تستطيع النساء بلوغ مطلب المناصفة بحضور شكلي يؤثث قبة البرلمان ما لم يتهيأ المجتمع بأكمله لقبول المرأة في مجال ممارسة السلطة، الأمر الذي يستدعي نشر ثقافة مجتمعية مغايرة وقادرة على استيعاب الحاجيات المتجددة لجميع الأفراد في أفق تحقيق التنمية السياسية بالمغرب. ويقع على التعليم ثقل نشر ثقافة مدرسية تمهد للثقافة السياسية البديلة التي ستعمل على دمج الفتاة بتغيير نظرتها لنفسها ولوظيفتها داخل المجتمع. فهل تستطيع فعلا المدرسة المغربية الحالية الفوز بالرهان؟

4.2 نصيب الفتاة من التعلم

إن إقصاء الفتاة من التعليم يعتبر تمييزا ضدها، وهي ممارسات اجتماعية عانت منها الكثير من الفتيات في الماضي وما تزال تعاني منها فئة ليست بالقليلة، خصوصا تلك المتواجدة في القرى، وهو الأمر الذي يؤكده عبد الله عبد الدائم في ثمانينات القرن الماضي (1984: 30) في قوله:”وكان الفتيان وحدهم فيما يظهر، يتعلمون القراءة والكتابة. أما الفتيات فكن يتعلمن الغزل والحياكة وتهيئة الطعام ورعاية الشؤون المنزلية والغناء والرقص أيضا.”

في إطار جهودها لتدارك الفجوة التي عمّقتها الثقافة بين الجنسين، اتخذت الدولة مجموعة من التدابير مكنت من تحسن المؤشرات المرتبطة بتمدرس الفتيات، أدرجها تقرير صادر عن2020)  (CEDAW/C/MAR/5-6,

وهي كما يلي:

  • تنفيذ مبدأ التعليم الإجباري إلى غاية 15 سنة،
  • عرفت نسب تمدرس الفتيات ارتفاعا ملحوظا في جميع مستويات التعليم الأساسي، قاربت (%99,1) سنة 2017،
  • بلغ عدد المستفيدين من المطاعم المدرسية في التعليم الأساسي العمومي بجميع مستوياته سنة (2017-2018)، (1114353) تلميذا (48.5 %) منهم فتيات،
  • بلغ عدد المستفيدين من الداخليات (111321) تلميذا (49 %) منهم فتيات،
  • بلغ عدد المستفيدين من المنح الدراسية (136764) تلميذا على المستوى الوطني بالتعليم الأساسي العمومي بجميع مستوياته (47.5%) منهم فتيات و(80551) مستفيدا بالوسط القروي ( 47%) منهم فتيات،
  • وصل عدد المستفيدين من النقل المدرسي سنة (2017-2018)، ( 153180) طفلا (46%)،
  • منذ سنة (2009-2010) استفاد أزيد من 4 مليون تلميذا سنويا من مبادرة “مليون محفظة”، 1,8 مليون منهم فتيات، حوالي (45,5 %) في المتوسط،
  • وصل عدد المستفيدين من برنامج “تيسير” سنة ( 216 -2017) إلى (859.975) تلميذا ضمنهم (%45) فتيات،
  • دعم تمدرس الفتيات في العالم القروي من خلال المدارس الجماعاتية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية (دار الطالبة) التي توفر التغذية والإيواء، ودروس الدعم والمخيمات الصيفية والأنشطة الثقافية والرياضية. بلغ عدد المستفيدات موسم (2018-2017)، ( 31078) مستفيدة، بنسبة (51%) من العدد الإجمالي للمستفيدين،
  • إعداد خارطة طريق للفترة (2014-2020) لمحاربة الأمية في صفوف النساء، بلغ عدد النساء منهم (2.533.208) بنسبة (85.60 %)،
  • مكن تنفيذ البرنامج الوطني لتزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب من رفع نسبة التزود إلى79 %سنة (2018)، مما ساهم في تحسين تمدرس الفتيات وتوفير وقت إضافي للنساء للقيام بأنشطة مدرة للدخل،
  • كهربة القرى واستعمال الآلات الكهربائية في الأشغال المنزلية، أدى إلى ربح الكثير من الوقت الذي يستغل في زيادة تعليم الفتيات القرويات ومحاربة الأمية وتشجيع الأنشطة المدرة للدخل (إنشاء تعاونيات) وتعلم مهارات جديدة، وتحسين الوعي الصحي عبر الانفتاح على وسائل الإعلام،
  • تنفيذ البرنامج الوطني الأول للطرق القروية مكن من فك العزلة عن (2.885) مليون نسمة من الساكنة القروية تمثل فيها النساء نسبة (50.7%).

يبدو من خلال الأرقام أعلاه بأن جهود الدولة تركزت حول الجوانب المادية والبنيات التحتية المساعدة على تمدرس الفتاة في الوسطين الحضري والقروي، من مطاعم مدرسية وداخليات وتوفير النقل المدرسي والمنح المحفزة…، خصوصا في الوسط القروي. لكن الملاحظ بأن أعداد المتمدرسات تكون مرتفعة في المستويات الدنيا وتنخفض في القرى كلما وصلت الفتاة إلى مستويات متقدمة في الدراسة. كما أن المهن التي تلجها الفتيات في سوق الشغل تخضع أيضا للتمييز؛ حيث يسهل على المرأة الحصول على مهنة سكرتيرة أو مدرِّسة أو ممرضة أكثر من المهن الأخرى المرموقة اجتماعيا والمرتفعة دخلا.

35 9 (1)2018)  : (Slaoui, Belghiti هذا ما توصلت إليه أحدث الدراسات في المجال، والتي تؤكد بأن التوزيع الجندري للأدوار قد اختلف عما كان عليه في السابق، إلا أن التغيير انحصر فقط في الولوج بشكل متكافئ للمدرسة ومعاملة المرأة، نسبيا، باحترام مع الإبقاء على الأدوار التقليدية. إذا افترضنا جدلا بأن النظام التعليمي غير متحيز لجنس المتعلم، فإن العادات والتقاليد تعمل على تعميق الفوارق بين الجنسين بدءا بالأسرة، ويتكرّس ذلك في المدرسة وعبر وسائل الإعلام.

ففي المدرسة، قد تبدو الأمور متكافئة بصيغة الأرقام، لكن تحليل البرامج والمحتويات يفيد بأن التنزيل الفعلي لمجموعة من المضامين الدراسية لا يخدم المبادئ التي تقوم عليها مقاربة النوع الاجتماعي، وخير مثال على ذلك الكتب المدرسية بما تحتويه من نصوص لا تعكس بشكل جلي الفاعلية والإبداع النسائي، وكذلك الصور المرافقة لها التي نلمس فيها نوعا من التحيز للثقافة السائدة.

التي (Ait Bouzid 2019 7(2):219-227)     هذا ما رصدته دراسة لعينة من الكتب المدرسية خلصت إلى وجود عدم توازن بين الذكر والأنثى على مستوى عدد الأسماء والألقاب التي تستعمل للدلالة على كل من هما، حيث نلاحظ هيمنة أسماء الذكور والضمائر المحيلة عليها في النصوص، مما يوحي بتفوق الذكر على الأنثى. نفس التفوق سنلمسه فيما يخص عدد الشخصيات التي تبرزها الصور المعروضة في الكتب المدرسية المعتمدة، مع الإبقاء على الصورة النمطية التي تحتجز المرأة في الأدوار الكلاسيكية المعتادة داخل الفضاء الخاص.أما الذكور، فمازال الكتاب المدرسي يقدمهم في صورة المحارب والشرطي والرياضي وكل ما يشترط القوة والشجاعة والإقدام.

في محاولة للتدارك، يعرض الكتاب المدرسي بعض الصور لنساء تزاولن مهام غير اعتيادية كرئيسة دولة أو رئيسة وزراء أو رائدة فضاء، خصوصا في الوحدة المعنونة ب:”المرأة والسلطة”، ويقدم الرجال في وظائف غير اعتيادية كسكرتير مثلا. لكن رغم المجهود المبذول، إلا أننا نجد في بعض الوحدات إسناد أدوار ثانوية تكون المرأة فيها تابعة للرجل الذي يمتلك السلطة.

أما تمثلات المدرسين الساهرين على تنفيذ البرامج الدراسية، فتكاد تكون أكبر عائق أمام تحقيق مطلب المساواة  الحقيقية بين الجنسين، لأن أغلب المدرسين يشكلون امتدادا لنفس العقلية المحافظة، فهم نتاج لها ويعيدون إنتاجها فيما يروجون له من أفكار وما ينجزونه من أعمال وتصرفات داخل الفضاء المدرسي، خصوصا تلك الفئة منهم المكلفة بالتدريس بالمراحل الأولى من تنشئة الأطفال.

نفس الموقف سجله الناجي (2013: 40) الذي يرى بأن الفوارق بين الجنسين يتم تكريسها في المدرسة عبر تمثلات الأساتذة لكل من الجنسين (الأحكام المسبقة والصور النمطية) مع غياب مقاربة النوع في الكتب الخاصة بالأساتذة. صحيح، تم إدراج محور مقاربة النوع في برامج تكوين الأساتذة المقبلين على مزاولة المهنة، لكننا نلمس مقاومة عنيدة لمفاهيم المقاربة، خصوصا في صفوف المدرسين الذكور، لأنها تحاول خلخلة نظام أبوي طالما منحهم امتيازات ليسوا على استعداد للتخلي عنها.

خلاصة

يفترض في التنمية السياسية أن تجعل من السلطة التنفيذية في البلد، سلطة قادرة على حسن تدبير الشأن العام بمختلف مطالبه الشعبية، وأن تجعل من الديمقراطية وقيمها فكرا وممارسة متجدرة في كل الأفراد. إنه لمن الصعب التخطيط لتنمية سياسية دون إشراك كل المجموعات المختلفة من المجتمع، تحقيقا لرفاهية الجميع.

وإذا كان من خصائص (ت.س) إقرار المساواة بين جميع الفئات ومنح فرص متكافئة لتطوير الذات، فإن دراستنا لوضع المرأة في المجال السياسي بالمغرب، تؤكد وجود فوارق بين الجنسين تمنع من تحقيق المساواة الفعلية في ممارسة السلطة والمساهمة في تدبير الشأن العام. ثم إن عجز النظام على تحقيق مطلب المناصفة رغم إقراره في الدستور، يؤكد مرة أخرى على بعد المسافة عن (ت.س) المنشودة. وهو الأمر الذي يتأكد من جديد بالنظر إلى ضعف المؤسسات على تعبئة الجماهير خاصة من فئة النساء.

تمكنا من الوقوف في هذا العرض على أحد المعيقات الأساسية لتحقيق التنمية السياسية في البلاد، هو عدم تمكين النساء سياسيا. ويرجع الوضع إلى سيادة ثقافة اجتماعية ذكورية ترخي بظلالها على السياسة، فتحدد الكيفية التي يجب أن يتصرف وفقها الأفراد داخل النظام السياسي. لم تستسلم النساء لهذا الواقع، بل حاولت وبضغط من الحركات النسوية البحث عن منافذ للخروج من حالة الإقصاء والتهميش السياسي ولعل أهمها هو التعليم.

تحقق بالفعل إدماج مقاربة النوع في السياسة التعليمية للبلد، وبدلت الدولة مجهودا محمودا على مستوى الرفع من أرقام المتمدرسات، خصوصا في العالم القروي، وتشجيع بقائهن في المدرسة بتوفير البنيات التعليمية والظروف المادية، لكن البحث في البرامج والمحتويات وفي تمثلات الأطر التربوية المكلفة بإنجازها، يؤكد بأن مقاربة النوع لا تملك آليات التنزيل الجيد لمفاهيمها على مستوى الواقع، مما يجعل إدراجها صوريا لا يلامس عمق المشكل ولا يستطيع زحزحة الثقافة الذكورية الموروثة عن عرشها.

لذلك، فالمطلوب هو مراجعة البرامج وتحيين الكتب المدرسية بما يحقق الهدف المنشود من إدراج المقاربة، والمتمثل في تغيير الثقافة السائدة واستبدالها بثقافة تعترف بمؤهلات النساء وبقدرتهن على الريادة وممارسة السلطة تماما كما يفعل الرجال، دون إغفال الاشتغال على تمثلات المدرسين والعمل على تقويمها، حتى يصير العنصر البشري مؤهلا للقيام بالأدوار التربوية والتعليمية المنوطة به.

لائحة المراجع باللغة العربية

  • اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) 2017))، التمثيل السياسي للمرأة في المنطقة العربية، الأمم المتحدة، بيروت،
  • الموقع الرسمي لوزارة الداخلية المغربية، فضاء الانتخابات، تاريخ الزيارة: 15/01/2022
  • عبد الله، عبد الدائم (1984) التربية عبر التاريخ من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت،
  • منى، عزت. أحمد، فوزى. ريهام، باهي. مروة، نظير (2017) المشاركة السياسية للمرأة، مؤسسة فريدريش إيبرت، مصر

لائحة المراجع باللغة الأجنبية

  • – Ait Bouzid, Hassan. (2019). Research in English Language Pedagogy. Gender issues in select Moroccan ELT textbooks, July, RELP, 7(2), 209-231
  • – Berstein, Serge. (1992). L’historien et la culture politique. Vingtième Siècle, revue d’histoire, (35), 67-77
  • – Bourdieu, Pierre. (1998). La domination masculine, Paris, Editions du Seuil
  • – CEDAW/C/MAR/5-6. (2020).Combined fifth and sixth periodic reports submitted by Morocco under article 18 of the

Convention due in 2014, Advance unedited version

  • Hagopian, Frances. (2000). Political Development. Revisited. Comparative Political Studies. ©2000 Sage Publications, Inc, 33(6/7), 880-911
  • Karimi, (2014), Political Development Concept by Looking Briefly at the Iran’s Mohammad Reza Pahlavi Rule. Journal of Public Administration and Governance. Macrothink Institue. (4), 67-78
  • Souad, Slaoui. Karima, Belghiti (2018). Promoting Gender Equality in Moroccan Educational Institutions: Reality or Illusion?. KULTŪRA IR VISUOMENĖ. Socialiniųtyrimųžurnalas, 9 (1)
  • Sundström Aksel. Pamela, Paxton. Wang,Yi-ting. Lindberg (2015). Staffan Women’s Political Empowerment: A New Global Index, 1900-2012. University of Gothenburg, Sweden
  • Pilcher, Jane & Whelehan, Imelda. (2004) Fifty Key Concepts in Gender Studies. London • Thousand Oaks • New Delhi, SAGE Publications Ltd.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *