نوفمبر 23, 2024 4:23 ص

الباحث  نضال عباس عبد اللطيف 

 كاتب  في الأدب الحديث ، سوريا .

الروائي القاص الدكتور محمد عبد الرحمن يونس الذي جاب أرجاء العالم ودرّس في ثلاث عشرة جامعة من جامعاته وحضر العديد من مؤتمراته الفكرية والأدبية حتى ليطلق عليه بحق :  “ابن بطوطة … سندباد الأدب العربي المعاصر   

“رواية ولادة بنت   المستكفي”   حصلت على الجائزة الأولى في مركز ابن خلدون الإنمائي لجوائز الإبداع العربي  .

مقدمة :  الرواية ملحمة أسطورية تحمل  الإثارة و الدهشة، و مزيداً من الواقعية والسحرية، والإشارات التاريخية، ومن عنوان الرواية ( ولادة ) يمكننا أن نتساءل: هل ( ولادة ) هي الشخصية التاريخية المعروفة في الأندلس ( ولادة بنت المستكفي)، أم هي الحياة الولودة باستمرار الحاملة لمزيد من التناقضات  ” الخير والشر، الفرح و الحزن)  وصولاً  الى النهاية المفتوحة على مصرعيها كانفتاح المحيط الأطلسي على الأفق.

أتت الرواية ضمن فصول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ،   ولكنها غنية بأحداثها المتعددة والمتنوعة  التي تجمع ما بين التاريخ المعاصر والتاريخ القديم، و مابين الواقع وما بين الخيال،  وجاء خلط الأحداث بين الشخصيات الرئيسية والثانوية ,  متناغماً متفرداً جديداً .  وما أن تبدأ بقراءة الرواية حتى تشعر نفسك أنك خارج الزمكان، إذ يأخذنا أسلوب الروائي يونس السهل الممتنع إلى أحداث متلاحقة   فلا نشعر بأنفسنا إلا و قد وصلنا إلى الصفحة الأخيرة من الرواية حيث الأفق البعيد ومياه  محيط  الأطلسي المتعدد في أبعاده ودلالاته.

   أتت الشخصيات من التاريخ المعاصر و من التاريخ القديم وتنوعت بين الشخصيات الرئيسية و الشخصيات الثانوية، ومن أهم هذه الشخصيات: عبد الله عبد الله العومري –  فاطمة الإدريسي -زنوبة- قراقوش الإسخريوطي -مدير مكتب قراقوش-زهرة- العبد– النادل- ولادة بنت المستكفي-ابن زيدون-عباس بن فرناس،  عبد الرحمن الداخل، شقنا بن عبد الواحد،  المولى  بدر..

تدور أحداث الرواية في فضاءات المغرب العربي، و تحديداً في مدينتي فاس والرباط المغربيتين، و في فضاءات مدن الأندلس، أيام حكم الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل لها، و بإبداع ماهر من كاتب متعدد القراءات في أنواع عديدة من الكتب: كتب التاريخ و الروايات والسير الشعبية،  قدم لنا السندباد  الروائي أحداث روايته بطريقة جميلة محببة  لم تخلو من الإثارة والغرابة، مستخدما التقنيات الروائية الحديثة في السرد و الحوار والاسترجاع، وشكّل  الأحداث الروائية  بكل دراية ومعرفة. 

نتفاجئ في الرواية بالكم الهائل للشخصيات التاريخية التي وردت ، وبعدد الكتب العربية والأجنبية (مراجع البحث ) وإلمامه بعالم الجغرافيا  ومعرفته لأغوار النفس البشرية ومشاعرها الإنسانية التي ظهرت جلية واضحة في الشخصيات  التي عشنا  معها الفرح والحب والخوف والحزن والكره  والنفاق والرعب،  وعرّفنا الروائي  على كم لابأس به من الكلمات الدارجة في المغرب الذي عاش فيه ردحاً من الزمن.

ثنائية الخير و الشر في الرواية :

 هذا الكون محكوم بالثنائيات الضدّية: النهار والليل، الشمس والقمر، الأرض والسماء. الشمال والجنوب , الشرق والغرب، البارد والساخن ,الداخل والخارج , الموجب والسالب , الحركة والسكون , الزيادة والنقصان ،العدل والظلم ,الحب والكره, قابيل وهابيل- الرحمن والشيطان، العلم والجهل  ، الخير بكل مافيه من (الحسن-السعادة –العمل النافع –القيم –المثل- الطاعة-الحق –الثواب العمل الذي يجب أن يعمل…والشر بكل ما فيه من (القبيح – المعصية –الباطل –الضعيف –الحزن –الضرر-العمل الذي يجب ألا يعمل  ) ، و  النفس البشرية مزيج من  الخير والشر، ومن خلال هذه الثنائيات تحاول الرواية أن تسلط الضوء على مجمول سلوك الشخصيات ومساراتها ، ويمكن القول إنّ ( ولادة ) الأنثى الجميلة التي تفيض شعراً و بهاءً و جمالاً  هي رمز الخير، وهي الأمومة والليونة والراحة والعواطف الخضرة والرطوبة والروح الاجتماعية، أمّا الوالي  قراقوش الأسخريوطي  فهو رمز الشر والفساد،  لأنه خالي من العواطف والضمير،  إنه الاستبداد  والجفاف والصراخ والفردية والأنانية .

و منذ البداية كان هابيل المقتول رمز الخير والحب والسلام و اللاعنف ، في حين جسّد قابيل القاتل رموزاً عديدة تشير إلى  الظلم والجور والطمع وسفك الدماء. و إذا كان الإنسان مجبولاً على الخير بالفطرة ، فإن الشر صفة عارضة تحيط به، نتيجة   لما يمر به هذا الإنسان من خلال ظروف الحياة الصعبة التي يعايشها،  والبيئة القاسية التي تحبط نفسيته و طموحه، وبالتالي تنعكس على  شخصيته  و تصرفاتها.

 إن البيئة القاسية الصعبة تعمل على أن تفرز معادن الناس، و تبلور سلوكاتهم، حيث يظهر بريق اللؤلؤ وصفاء الألماس لدى البعض، وصولا إلى المحار بعد رحلة من المعاناة والجهد الشاق  ..  وفي مقابل ذلك نجد من يرضى بالذل والهوان مقابل الراحة وسهولة الحصول على الملبس والمسكن وكماليات الحياة وترفها الكاذب الخادع، لذلك نرى كثرة الشكامين   وبائعات الهوى في الحانات. وهذا ما حاول السرد الروائي أن يشير إليه من خلال تفاعلات الشخوص الروائية.

 إن الظروف الأسرية والاجتماعية والتربوية والبيئة التي ينشأ فيها المرء تؤثر به، و تقولب شخصيته  ، وبالتالي ترسم مواقفه تجاه ما يدور حوله من ظواهر،  و من هنا فإن  علماء الاجتماع يؤكدون بأن البيئة  الغير طبيعية  هي التي تزرع الشر في أعماق الإنسان،  وتدفعه للعمل به .

بعض الشخوص الروائية في الرواية :

 ومن أهم الشخصيات الروائية التي شكلت أحداث رواية ولادة بنت المستكفي الشيخ العومري هذا الشاب المتفائل الآتي من مدينة  “خنيفرة” البؤبؤ الذي يضيء ليل المراكشيين المظلم إنها التاريخ والبوابة إنها الجواد الذي ماكبا في حياته (الرواية ص 24) و والده هو السيد الجليل الثري الأب الروحي لخنيفرة  يملك قرى كاملة في خنيفرة(الرواية 21)  ولديه قصور وبساتين ملاىء بالنخيل، و والدته الأميرة البدوية الجميلة، و بعد أن حصل على  الأستاذية التمهيدية بدرجة امتياز في الفقه والعلوم الدينية(الرواية 94)   سافر الى الأزهر الشريف بمصر، لإكمال الدراسات العليا وبقي سنتين يقرأ  ولكنه لم ينجح , وبعدها شعر بحقد دفين على شيوخ الأزهر الذين حرموه من شهادته .  تزوج من  فاطمة عبد الله  الإدريسي  سليلة  الأدارسة  والتاريخ والقباب والمنائر(الرواية 106)    ذات الأخلاق الرفيعة أخلاق الأمراء والشرفاء ونسبها يعود الى رسول الأمة( الرواية 142)  ، فاطمة  الأميرة الحسناء المتوجة بالشفق وخضرة البحر(الرواية 128)   الفتاة الحرة الطاهرة  و لم يمنعها نسبها الشريف ولا طهارتها من عشق الرقص والسينما والمسرح  و الإدمان عليها ( الرواية 159)،  وكانت حلم كل شخص في فاس حتى إنها رفضت الوالي قراقوش( الرواية 141) , وعندما جلس الشيخ عبد الله العومري  مع والدها طالباً يدها لم يمانع من شرب الويسكي مع الصودا، إذ  قرأ الفاتحة مع والدها  وشرب( الرواية 129) ، وفي ما بعد لم  يتوان عن الزواج ( عرفياً)  بأرملة صديقه (الهادي)،  صديق  الدراسة المميز في ثانوية يعقوب المنصور( الرواية 86) ، الهادي الذي يختلج قلبه له عند سماع اسمه .  و الغريب  في موضوع  زواجه من زنوبة  أنه لم يكن يصرف عليها مادياً، لذلك طردها صاحب البيت   لأنها لم تدفع الآجار فقد تأخرت خمسة أشهر عن السداد( الرواية 15)   حتى إنه لم يهدها ذرة كحل أو زجاجة روزي( الرواية 38 )   ، ولكنه كان كريماً مع ابنتها فكان يعطيها المال ويعدها بالدفاتر والحلوى من أجل أن تخرج من الغرفة وتتركه وحيدأ  مع أمها، ولكنها رفضت  ، وكان يدفعها فضولها لأن تتفرج عليه من ثقب الباب و هو في سرير أمها، و كان ذلك يؤذي مشاعرها، و يعكر نفسيتها، كلما رأته يعلو ويهبط في هذا السرير، مما جعلها تحقد عليه ولا تحبه، وبدلا من أن تراه عمّا و أبا لها ، رأته مغتصباً لوالدتها،  فقد كان نهماً جنسياً، و لا يستطيع صبراً حتى تنام  هذه الابنة( الرواية 53) .. التي كبرت وبدأت تفهم سر العلاقة بين أمها و بين الهادي( الرواية 48) .

لقد أجبرت حياة فاس القاسية الشخصية ( زنوبة) ، على الهجرة من فاس، و لم يحاول الشيخ العومري مساعدتها، و الحد من مأساتها، فهو لم  يرض بإشهار زواجه العرفي منها، لكي يسترها ويصونها ويصون ابنتها  التي أصبحت شابة  في سن الزواج( الرواية 16) ، فما كان منها إلا الرحيل  غير آسفة على فاس، شاكية في الآن نفسه ظلم العومري إلى ربها الكريم قائلة :  أشكوك إلى الواحد الأحد( الرواية 38 ).  وولادة هي الأخرى عرفت شخصية العومري، وطبعه الانتهازي، ومن الملاحظ أن الشيء الدفين في نفسية العومري  أنه كان طيلة حياته يمني نفسه بأميرة تنزعه من فاس وتطير به صوب خلجان وجزر جديدة( الرواية 35) ، حتى تكتمل مظاهر الأبهة و السيادة في حياته، لأنه كان يرى أن المرأة الجميلة تمنحه التفوق والسعادة، ومن هنا فقد وجد ضالته في (ولادة بنت المستكفي) . غير أنه  بعد أن حصل على( زنوبة) البهية الألقة، وعلى (ولادة) الأميرة الأرستقراطية  تخلى عن الحلقة والمريدين، ومن هنا بدا قليل الوفاء، إذ تخلى عن جزء من تاريخه المعرفي والفقهي( الرواية 196) .

 أما الشخصية الرئيسة الأخرى ( سي الهادي) ، فهو وفي لمبادئه وقيمه وثقافته، لقد أحب مبادىء سياسية واعتنقها ودافع عنها، وعندما أصرت عليه زوجته متوسلة أن يهرب إلى فضاءات أكثر أمنا، و يطلّق السياسية ، و يتوقف عن رفع شعار المظلومين في وجه الظالم المستبد ( قرقوش الإسخريوطي) رفض قائلا : ((  لن أخرج الا على نعش))( الرواية 51)   لقد آمن بمادئه وشعاراته , ومات وفياً لها . في حين نجد أن رفيقاً له ، سرعان ما  تنكر لكل مبادئه ، حين تم تعيينه رئيساً جديداً لحزب العمال ، إذ ذهب إلى قصر قرقوش زاحفاً و موالياً ولاءً مطلقاً ( الرواية 89) ، وعند ذلك كافأه قرقوش  بالبيت والسيارة  و الحظوة والجواري .

لقد كان تأثير الهادي قوياً على أخلاق زوجته زنوبة، إذ  جعلها عفيفة النفس، في سلوكها وحياتها، فعلى الرغم من زواجها العرفي بعبد الله العومري، لم تطلب منه المال حتى تدفع أجرة منزلها الذي يقضي فيه العومري أجمل لياليه، وكان حقها أن تطلب منه بوصفها زوجة له. لكن عزة نفسها منعته من أن تطالبه بالمال، وعندما انتهت أموالها ، تركت المنزل وغادرت المدينة.

          إن تأثير البيئة و الثقافة  بات واضحأ على عبد الله العومري وعلى  والهادي ، و إذ نقارن بين الصديقين عبد الله العومري والهادي، نجد أن الهادي أحب السياسة، واعتنق المبادئ مؤمناً بها،  ودافع من أجلها  ومات من أجلها ،  في حين أن  عبد الله العومري تخلى عن الحلقة والمريدين، أي تخلى عن إرثه المعرفي وقيمه الدينية، و سعى جاهداً للوصول إلى قلبي  زنوبة وولادة و جسدهما، وعندما استشعر الخطر في فاس  فرّ هارباً إلى اليكانت بصحبة ولادة لائذا بعطاياها ، بينما رفض الهادي  الهجرة والهروب من فاس وقال :إنّه لن يرحل من فاس إلا على نعش. . أمّا الشخصية الرئيسية الأخرى فاطمة الأدريسي  زوجة العومري سليلة الأدارسة والتاريخ والقبب والمنائر( الرواية 106) ، فهي أقل حضوراً و فاعلية  في السرد الحكائي، وهي نموذج مثقف، و رث مجداً تاريخياَ مشعاً علماً ومعرفة،  أبا عند جد ،  ولأنها  مازالت تعيش عبق هذا الماضي كان  رد فعلها عنيفاً  عندما طلب منها رجل أمن غير مؤدب بطاقة تعريفها الوطنية و هي تتجول في شوارع المدينة،  فقالت  أنا فاطمة الأدريسي معروفة في البلدة كلها( الرواية 105) , غير أن رجل الأمن سخر منها ومن تاريخها المعرفي، ومن أجدادها الأدارسة كلهم، ونقلها إلى مركز الأمن، وهناك أذلوها و أهانوا كل تاريخها الحضاري و الثقافي، وكل علوم آبائها و أجدادها، ثم قادوها إلى قصر الوالي قرقوش الإسخريوطي لينتقم منها ومن كل أجدادها الأدارسة الذين يكرههم و يحقد عليهم ، لأنهم  يتفوقون عليه و على أصول أسرته الوضيعة ،  و كان انتقام الوالي منها شديداً، إذ جلدها بالسياط و سجنها لأنها رفضت أن تمنحه جسدها،  ولفّق لها تهما سياسية خطيرة، ثم اغتصبها عنوة بعد أن ذاقها صنوف التعذيب الوحشية، فأذهلتها وحشية هذا الوالي، هي كانت تظن أنها أهم منه، و أن أجدادها الأدارسة هم أسياده علماً و معرفةً و نفوذاً وسيادة، إلا أن المفاجأة أذهلتها حين اكتشفت أن هذا الوالي الأهوج لا يقيم للأخلاق و العلم والشرف و السيادة وزناً ، و لا يهمه  إلا  شهواته، و إفقار شعبه و إذلاله حتى يظل مستكيناً له، و إذ وجدت نفسها مقادة إلى سرير الوالي، ومهانة ومجروحة نفسياً وجسدياً، تمنت لو أنها فهمت بنية النظام السياسي الوحشي، الذي يكرسه هذا الوالي، و بالتالي طاعوته و ذهب معه بالرضا، ورشته بالعطور واستسلمت له بلا وجع ولا سياط( الرواية 146)   . و هنا تشير الرواية بوضوح إلى الأساليب القمعية التي تلجأ إليها السلطة السياسية لتطويع المارقين عليها، و كسر هاماتهم و إذلالهم، و احتقار عقول المثقفين، ماضياً وحاضراً.

ابن زيدون :  هو الشاعر الأندلسي أحمد بن   زيدون، شاعر الحب و الغزل الرومانسي في الدولة الأندلسية ، سيد القصائد التي تبوح عذوبة وشفافية، عشيق ولادة وحبيبها، فهو يبدو في الرواية مثالاً للبخل والغيرة و الحسد والنرجسية( الرواية 161) ، و من خاصته البخيلة، و عندما رأى حبيبته ولادة تصرف أموالها بسخاء،  وصفها بـأنها مبذرة( الرواية 148)  وذلك لأنه  ربيب أمه بعد وفاة والده. وقد أراد سيف الوالي للقضاء على  ابن عبدوس( الرواية 27) ، و لأنه لا يستطيع الوصول إليه،   فقد  طلب من ولادة أن تسرقه له من قصر الوالي حين تزوره،   فوبخته ولادة ، و اتهتمه   بأنه  جاحد وناكر كابن القار والقطران والزيت( الرواية 32)    ،  مما نستشف أن  الروائي يونس تابع تاريخياً أدق  التفاصيل عن شخوص روايته، و اطلع على تاريخهم المعرفي و الثقافي من خلال المصادر التي أرخت لهم.  

ابن فرناس: هو ممثل الوعي المعرفي، و الفكر العلمي التجردي، عالم غرناطة ومخترعها الأول  العالم بالرياضيات والكيمياء والفلك، فهو أول من اخترع الساعة المائية (الميقاتة) وأول من أضاف  إلى ذات الحلق التي تتكون من سلسلة من الحلقات حتى  تمثل محاكاة لحركة الكواكب والنجوم وأول من صنع الزجاج من الحجارة،  وأول من صنع قلم الحبر ،واخترع طريقة لتقطيع أحجار المرو في الأندلس بدلاً من ارسالها الى مصر . وأول من كسا نفسه بالريش وصنع له جناحين، واحتال في تطيير نفسه  ( الرواية 185)  فقد بدا في الرواية مثالاً نظيفاً للصدق والوقار والتهذيب ، و حين أصابت المحن ولادة في فاس، وزارت قرقوش الاسخريوطي في قصره، و أراد اغتصابها، غير أنها احتالت عليه وهربت من قصره، اكتشفت أن عباس بن فرناس أكثر وفاء من كل أصدقائها، حين دافع عنها أمام أصدقائها، مؤكداً أنها الشرف عينه، و أنها ما منحت أبدا جسدها للسفيه قرقوش، في حين أن صديقيها: عبد الله العومري و ابن زيدون شكّا بأخلاقها، و اتهماها بالفجور. و على الرغم من تفوق عباس بن فرناس، و ثقته العالية بمقدراته العلمية ، فقد  كان حزيناً ، من منحى آخر،  لأنه شعر أنه غير مرغوب من الناس لأنه أصلع، و كان يحزّ في نفسه لأنه  لم يجد المرأة التي تقدر تفوقه العلمي واختراعاته (الرواية 167).

زهرة: فتاة شابة جميلة وفقيرة، نهشت البطالة آمالها، ووجدت نفسها عاجزة عن فعل  أي شيء، فاضطرت إلى أن تمارس الجنس ، بعد أن ضافت بها سبل الحياة،  ورأت أنه الوسيلة الوحيدة أمامها، وما أخذت  بالأقوال الرنانة التي ترددها الأمثال العربية القديمة ( تموت الحرة و لا تأكل بثدييها) ( الرواية 52) ، و فسرت جزءاً من الآية الكريمة على مزاجها وتأسيسا على حالة فقرها الأسود، و أقنعت نفسها أنه يجوز لها أن تزني (فمن اضطر لها غير باغ فلا أثم  عليه) . الوردة الذابلة نراها تفتحت وأينعت مع ابن فرناس فتوجها أميرة  فقدمت له الحب مقابل الحب ، وقررت أنها اليوم  لن تبيع جسدها وستبادله حباً مشتركاً  الحب الذي قرأت عنه أيام الثانوية( الرواية 193) ، و ما أن التقت بعباس بن فرناس، و أحبته حبا نظيفا حتى قررت  أن ترجع  له كل أمواله التي دفعا لها،  وقررت أن  تترك هذه المهنة الملعونة،  و تغادر فاس نهائياً ( الرواية 194) .

و من الشخوص الروائية الشريفة في الرواية،   ذلك العبد الذي عركته الحياة،  وطحنته و حددت  له ثمناً بخساً يُشترى من خلاله ، ويباع كأي متاع، وأخذت منه أعز ما يملك ألا وهي حريته، غير أن نقاءه الداخلي، ظل شامخاً، كقمم الجبال الشامخة التي تضاهي  جبال طوروس وشفشاون،  فهو يرفض أي المكاسب و الشهوات التي تأتيه بدون حساب، فقد رفض أن يخون سيده،  رغم محاولات زوجته الفاسقة صاحبة الحسب والنسب، ودعوتها له للخيانة والزنى،  غير أنه حاول التخلص منها محتجاً بأنه مخصي ، و غير قادر على الحب، غير أن زوجة سيده،  تكشف كذبه وتصرّ على إشراكه في حبائل جسدها، عندها يرفع صوته رافضاً قائلا:  لها أموت ولا أخون اليد التي مدت إلي وأنا لا أخون سيدي ولا أشرب من بئر وأرمي  حجراً  به( الرواية 67)  إن عبوديته لم تفقده وفاءه، و تماسكه و قوة شخصيته وارادته، و إيمانه بالقيم والمثل العالية، على الرغم من إغراء هذه السيدة التي لا يعني لها الوفاء الزوجي أي شيء.

 ومن الشخصيات النبيلة في الرواية  ذلك الطالب الذي يدرس في السنة الثالثة، شعبة الأدب الفرنسي،   لكنه يعمل في الأن نفسه، نادلاً في حانة سيئة( الرواية 156) تغص بالنساء المتاجرات بالجنس، وأنواع المــشروبات والمــخدرات ، ورجــال الأمــن السريين        ( الشكامين)  ، و مع ذلك فهو على غاية عالية من التهذيب، و  يحفظ أجمل أبيات الشعر، ويتابع دراسته الجامعية بتفوق، ويرسل نصف راتبه لأمه الأرملة وأخوته الأربعة( الرواية 156)    من أجل أن يتدبروا أمور حياتهم ،هذا الشاب يعرف الأصول والشعر والذوق والأدب فهو يرحب بولادة وابن زيدون أجمل ترحيب، ويستقبلهما في غرفته الخاصة المتواضعة ، التي حولها إلى واحة للأدب والشعر و الأناقة و الجمال في الترتيب، بفضل ذوقه الجمالي.

   مدير مكتب قراقوش: رجل جامعي تربى على العلم، و كان   أول متفوق في كلية الحقوق وأول من فهم القوانين و روحها ، لقد عاين تجاوزات قرقوش الاسخريوطي للقوانين، و تحريفه لها، و تسخيرها لسلطته الخاصة، و اغتصابه لنساء مدينته الجميلات بالسطوة و الترهيب، و الترغيب تارة، و بذل المال تارة أخرى, فما كان من هذا المدير إلا شعر بالندم العميق، لسكوته على هذه التجاوزات، وأدرك أنه حنث بيمينه الذي أقسمه أمام الله والقرآن لحماية بلدته ونشر الأمان والسلام فيها. إنه رجل قانون بامتياز، و ضليع بفقرات القانون ومواده عن وعي وفهم عميق، و عاشق لمدينته فاس، و بعد معاينته لما يدور في قصر قرقوش من ظلم و استبداد،  أكتشف أنه عاجز عن تطبيق القانون، و تكريس العدل، و أنه مجرد دمية  قبيحة بيد قراقوش يحركها  كيفما يشاء،و أنه مطلوب منه أن يصمت ويحرف القوانين وفقا لرغبة قرقوش و أهوائه، وكل ذلك مقابل ثمن بخس  سيارة ومسكن وحرس ، وعند ذلك يعود إلى رشده ويقول لنفسه : ما جدوى أن تملك سلطة العالم وأنت حزين مرعوب..( الرواية 178)، وعندما خافت ولادة من لقاء قرقوش وعدها ولادة بأنه سينقذها من  براثنه، فيما لو تجاوز حده( الرواية 206) ،  وكان وفياً حقاً لوعده، إذ أبر به، و سهل لولادة طريق الهروب، بعد أن أراد قرقوش اغتصابها.

 إن هذه الشخصيات (الصادقة الصامتة الساكنة…)، و التي تفعل الخير، و لا تريد شهرة لقاء فعلها هذا، هي شريحة تختبئ وراء طهارة أثوابها، و لايهمها الظهور و التفاخر بما تصنعه من خير، وتقدمه للناس، و قد احتفى بها السرد الروائي وقدمها في صور بهية جميلة، لكن راوي الرواية، لم يذكر أسماء لها، بل تركها جنوداً مجهولة، تعمل بنبل، و تخبتئ وراء صفاتها النبيلة، ولا يهمها إن برزت أسماؤها أم اختفت . و تنتهي رواية ولادة بنت المستكفي إلى فضاءات واقعية في كثير من سردها ، و سحرية و تاريخية و تراثية متعددة في خلفياتها المعرفية و الفكرية، و إلى نهاية مفتوحة على مزيد من الاحتمالات الخيرة و الشريرة في آن، و تحتمل هذه النهاية المفتوحة مزيداً من الفهم و التحليل و الأحداث المضمرة الجديدة في نفس من يقرأها، و في ذاكرته و تخيلاته و في فضاء مدينة جميلة تعدّ من أجمل مدن إسبانيا، و هي إليكانت، حيث يعلن السرد الروائي انفتاحه على هذ المدينة الجميلة قائلا : (( ها نحن في أليكانت، أو المرافئ، و آخرها، حمدا لله على سلامتكم (…) مرحبا بكم في أليكانت أمّ مدن العالم .. و أشهى نساء الأرض و التاريخ.. و أنظف مسابح العالم.. إقامة طيبة بين أهلكم و أحبابكم و عشيقاتكم)).( الرواية 228)    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *