د.محمد براز
وزارة التربية الوطنية ـ المغرب
berrazmohammed@gmail.com
00212681799160
الملخص
يعتبر موضوع “الاستثناء في القواعد الفقهية الكلية ومقاصده الشرعية” أحد الأبحاث الهامة في مجال الفقه وعلومه، باعتباره موضوعا يبحث في فقه الاستثناء وأسبابه وأحكامه ومقاصده الشرعية، ويُبيّن الأهداف والغايات والمقاصد التي من أجلها استثنيت بعض الأحكام عن مسائلها الأصلية وقواعدها الكلية، مما يدلّ دلالة واضحة أن فقه الاستثناء لا ينفك عن علم المقاصد، فخروج بعض الأحكام الاستثنائية عن مسائلها الفقهية لوجود حكمة أو علّة تقتضي ذلك الإخراج، يجعل الحكم الاستثنائي فيها أقرب إلى مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة وجلب المصالح ودرء المفاسد ورفع الحرج، مما يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، غير عاجزة عن مواكبة مستجدات العصر ومتطلباته، بفضل اعتبارها الخاص للظروف المستجدة العارضة والأحوال الطارئة المتغيرة، فالأحكام الاستثنائية شرعت للحفاظ على المصالح أن تنخرم، أو يفضي تطبيق القواعد الفقهية الكلية إلى نتائج ومآلات مخالفة لأحكام الشريعة ومقاصدها، وهذا خير دليل على مرونة الدين الإسلامي ووسطيته واعتداله، وأن أحكامه مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد كأصل ومبدأ كلّي مقرر، وأنه ما من كلّي أدى القول به والوقوف عن عمومه إلى حرج ومشقة إلا وُجدت له استثناءات كحلول استحسانية تحقّق المقاصد السامية للتشريع الإسلامي، مما يدل دلالة قاطعة على رعاية الدين الإسلامي الأغر بكلياته وجزئياته لما فيه مصلحة العباد في جميع تصرفاتهم ومعاملاتهم الدينية والدنيوية.
الكلمات المفاتيح: لاستثناء – القاعدة الفقهية- المقاصد- الغاية –المصالح – المفاسد – لأحكام الفقهية – لأصول- الفروع- الكلي– الجزئي.
Exceptions to the general jurisprudence rules and their purposes in Islamic Sharia
Dr : mohammed berraz
Specialization : Islamic Fiqh
Faculty of Letters and Human Sciences Fez-Sais-Morocco
Workplace : Ministry of National Education – Morocco
Abstract
The topic of “Exception in the General Jurisprudential Rules and its Islamic Purposes” is considered one of the important researches in the field of jurisprudence and its sciences. It is a topic that examines the jurisprudence of exception and its causes and religous purposes, and shows the goals, objectives and aims for which some cases were excluded from their original issues and general rules. This clearly indicates that the “jurisprudence of exception” is inseparable from the “science of the purposes”. so the separation of some exceptional rules from their jurisprudential issues, because there is a wisdom or a reason that requires that separation, makes the exceptional rule, in this case, closer to the purposes of Sharia in achieving justice, achieving interests and warding off corruption. Hence, it makes Islamic Sharia valid for every time and place coping with the novelty of the present time. This is thanks to its special consideration of the emerging and changing circumstances. These exceptional rules aim to preserve the benefits and guarantee that the general jurisprudential rules are applied within Sharia boundaries. This clearly relfcts Islam´s moderation and that its rules are based on achivening benefits and warding corruption as a general principle of this religion. Indeed, the “science of expcetion purposes” allows trenscanding the difficulties that arose from applying the religious text´s general meaning. This is a crystal clear indication of the care of Islamic religion, in its entirety and parts, for the interest of the people in all their religious and worldly behavior.
Keywords : the exception – jurisprudence rule – Aims and goals- the aim- interests-spoilers – jurisprudence rulings – assets – branches – total -partial
مقدمة البحث:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعـد، فإن البحث في علوم الشريعة الإسلامية سواء كان دراسة أم تحقيقا أم تصنيفا، يجب أن يكونَ له غاية يرومها وهدف يصبو إلى تحقيقه، وهذا ما قصدت فعله ـ بإذن الله تعالى ـ في هذا البحث.
1 ـ التعريف بموضوع البحث:
يعتبر علم الفقه من أهم علوم الشريعة الإسلامية التي نشأت لفهم النص الشرعي وفقهه واستنباط الأحكام الشرعية منه، لتطبيقها على نوازل ومستجدات كل عصر، وحلّ قضاياه سياسة كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو فكرية أو غيرها حلاّ يستند إلى شرع الله الحكيم وتوجيهه القويم.
وعلم الفقه لم ينشأ دفعة واحدة، بل مرّ بفترات ومراحل كانت مليئة بالأحداث والوقائع الاجتماعية، جعلته ينمو ويتطور حتى اكتملت معالمه، وكثرت مسائله، وتفرعت إلى فروع كثيرة أضحى من الصعب حصرها، وضبط عددها، وهذا ما دفع بفقهاء الشريعة الإسلامية إلى وضع قواعد فقهية كلية، تجمع كل واحدة منها مجموعة متجانسة ومتشابهة من فروع ومسائل تستوعبها وتندرج فيها، وتلم شتاتها، وتربطها بالكليات والأصول، وكان من نتائج هذا العمل الجليل والمجهود الجبار، ظهور علم جديد ألا وهو “علم القواعد الفقهية”.
إن هذا العمل العظيم الذي قام به الأولون ذلل الكثير من الصعوبات التي تقف في طريق الفقهاء والعلماء، وذلك بضبط هذه الكثرة من الفروع الفقهية وحصرها في قواعد كلية تندرج تحت كل منها مجموعة متجانسة يضبطها حكم واحد، فصارت هذه القواعد الفقهية هي عصارة الفقه وزبدته، واحتلت مكانة مركزية مما جعل الكثير من العلماء والفقهاء يؤكدون على تحصيلها واعتبروا من لا يهتم بها مفرطا في الفقه غير ضابط له، حتى قال الإمام القرافي (ت684هـ) رحمه الله: “وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتوى وتكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء (…) ومن جعل تخريج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره”. (القرافي، 1421هـ ـ 2001م، ج1 ص: 3)
وهذه القواعد الفقهية هي أحكام أغلبية غير مستمرة دائماً، وذلك لأنها تصور الفكرة الفقهية المبدئية التي تعبر عن المنهاج القياسي العام في حلول القضايا وترتيب أحكامها، والقياس كثيراً ما يتخلف وينخرم ويعدل عنه في بعض المسائل إلى حلول استحسانية استثنائية لمقتضيات خاصة بتلك المسائل، تجعل الحكم الاستثنائي فيها أقرب إلى مقاصد الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة وجلب المصالح ودرء المفاسد ورفع الحرج عن المكلفين، ولأجل ذلك كانت القواعد الفقهية قلما تخلو إحداها من مستثنيات في فروع الأحكام التطبيقية خارجة عنها، إذ يرى الفقهاء أن تلك الفروع المستثناة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، أو أنها تستدعي أحكاما استحسانية خاصة.
ومن خلال ما سبق يتضح أن الاستثناء في القواعد الفقهية هو: إخراج لمسألة أو أكثر أو لصورة أو أكثر من حكم القاعدة لسبب يقتضي هذا الإخراج تحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في جلب المصالح ودرء المفاسد.
وكون القاعدة الفقهية أغلبية تَرِد عليها بعض المستثنيات لا يعني عدم جواز الاستدلال بها، لأنّ الاستثناء من القاعدة لا يُضعف من حجيتها وقوتها، فالعبرة للغالب وليس للنادر، وإنّ الاستثناء عندما يَرِدُ على قاعدة ما، إنما يكون استناداً إلى قاعدة أخرى راجحة في مقام الاستثناء خاصة وليس خروجاً عن أصل القاعدة ودليلها.
2 ـ مشكلة البحث:
إن نيل هذه القواعد الفقهية وإدراكها والبحث في مقاصد مستثنياتها من أصعب المباحث الفقهية، فعلم القواعد الفقهية فنّ بديع لا يقدر على ممارسته إلا من أوتي موهبة فذة في الفكر والنظر، وعلما غزيرا في اللغة، وفقها واسعا في الدين، وملكة خاصة في إدراك تلك الاستثناءات ومقاصدها وعِلَلِها على خفائها ودقّتها، حتى قال الإمام السيوطي (ت911هـ): “ولعمري إن هذا الفن لا يدرك بالتمني، ولا يبلغه إلا من كشف عن ساعد الجد وشمر، واعتزل أهله وشد المئزر”(السيوطي، 1427هـ / 2006م، ص: 2).
وبناء على ما تقدم، يتحدد الإشكال المركزي في قلة الدراسات والبحوث التطبيقية التي تناولت موضوع الاستثناء في القواعد الفقهية، حيث لم أعثر على دراسات أو بحوث معاصرة تناولت الموضوع بالتحليل والدراسة، خاصة الجانب المتعلق بمقاصد الاستثناء في القواعد الفقهية، وهذا ما سنبيّنه بإذن الله تعالى عبر الأسئلة الآتية:
ما المقصود بالاستثناء في القواعد الفقهية؟ وما علاقته بالمقاصد الشرعية؟ وكيف يمكن تنزيل فقه الاستثناء على مستجدات العصر ونوازله؟
3 ـ أهمية البحث:
تتجلى أهمية موضوع ـ مستثنيات القواعد الفقهية الكلية ومقاصدها في الشريعة الإسلامية ـ في الحفاظ على الميزان المقاصدي للشريعة الإسلامية، فخروج بعض المسائل الجزئية عن حكم القاعدة الفقهية لوجود حكمة أو مقصد يقتضي ذلك الإخراج، يجعل الحكم الاستثنائي أقرب إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا ما يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان غير عاجزة عن مواكبة مستجدات العصر ومتطلباته.
ثم إن الموضوع يزداد أهمية لكونه في القواعد الفقهية الكلية التي يكاد يرجع إليها جميع مسائل الفقه، فهي أصل لما سواها من القواعد، وأصل لسائر الفروع والجزئيات، ولهذا المعنى قال السيوطي: “القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها” (السيوطي،1427هـ / 2006م، ص: 5).
فموضوع القواعد الفقهية من أهم المواضيع التي تحتاج إلى الدراسة لما لها من أهمية قصوى وقيمة علمية في مجال تنظيم الأحكام الفقهية المبثوثة في كتب الفقه، وإذا أمكن للفقيه أن يستوعب القواعد أمكن له تطبيقها على ما يعرض له من أحكام فرعية جزئية، ثم إن استيعاب الفقيه للقواعد يُعمِّق عقليته ويُوَسِّع أفقه ويولد لديه ملكة فقهية تمكنه من جمع شتات الجزئيات وضبطها.
4 ـ أهداف البحث:
بناء على الأهمية القصوى للقواعد الفقهية، وبالإضافة إلى شغفي وحبي للبحث في الفروع الفقهية الذي نشأت عليه، حدا بي ـ لما تعين علي إعداد بحث أتقدم به للمشاركة في المؤتمر العلمي الدولي الثامن، المجتمع وعاء الإنسان والعلوم، محور العلوم الشرعية ـ أن أتوجه مباشرة إلى هذا الجانب، لأن ضبط الفروع وضمها إلى كلياتها والبحث في مقاصد مستثنياتها، يعطي تصورا أعمق لهذا العلم.
وقد لفت نظري موضوع: “مستثنيات القواعد الفقهية الكلية ومقاصدها في الشريعة الإسلامية” إذ مع كثرة البحوث المقدمة في القواعد الفقهية ظلت مسألة “مقاصد الاستثناء في القواعد الفقهية” نقطة غامضة تُثير تساؤل كل من يريد الإطلاع أو دراسة هذا الجانب الفقهي، إذ لم تُطْرق من قبل الباحثين إضافة إلى أنها لم تتناول بشكل خاص وموسع فيما بين أيدينا من مصنفات المتقدمين، فرغبت أن أبحث في هذا الموضوع، وأكون بذلك قد سَلَّطت الضوء على جزئية لطالما ظلّت غامضة، وقدمت مساهمة متواضعة تضيف لبنة جديدة إلى هذا العلم.
5 ـ الدراسات السابقة:
إن أغلب المصنفين في القواعد الفقهية، صنّفوا هذه القواعد في كتب الأشباه والنظائر، واهتم آخرون بشرحها كغمز عيون البصائر للحموي، وشرح القواعد الفقهية للزرقا من المعاصرين، وكان عملهم في ذلك محصورا في شرح القاعدة والتطبيق عليها، وفي بعض الأحيان يُشيرون إلى بعض المسائل التي تخرج عنها استثناء دون ذكر مقاصد هذا الاستثناء أو سببه أو ذكر تفسير لذلك، وهذا هو المنهج العام الغالب في هذا النوع من المصنفات، باستثناء بحث للأستاذة سعاد أوهاب، تحدثت فيه عن المسائل المستثناة من القواعد الفقهية بوجه عام.
أما المصنفات التي تناولت موضوع الاستثناء في القواعد الفقهية بوجه خاص وبعناوين يدل ظاهرها على معالجة هذه الجزئية، إنما تشير في أحسن الأحوال إلى الاستثناء دون ذكر أسبابه ومقاصده، إضافة إلى أنها مصنفات مذهبية، فالإمام البكري مثلا في كتابه: “الاستغناء في الفرق والاستثناء” يذكر القواعد مع الضوابط ويذكر المسألة المستثناة كل ذلك وفق المذهب الشافعي.
6 ـ منهج وخطة البحث:
اعتمدت في معالجة هذا البحث المنهج الاستقرائي التحليلي، ذلك أن الأمر يتوقف على تتبع القواعد الفقهية والوقوف على المسائل المستثناة منها واستخراج مقاصدها، وقد أملت علي طبيعة الموضوع أن أتناول الحديث عنه في مقدمة وثلاث مباحث وخاتمة، أدرجت تحت كل مبحث أمثلة تطبيقية، وضمّنتها مطالب إذا اقتضى الأمر ذلك.
أما المقدمة: فتناولت فيها التعريف بموضوع البحث، ومشكلته، وأهميته، وأهدافه وأسباب اختياره، والدراسات السابقة، ومنهج خطته.
وأما المبحث الأول: فقد عنونته بـ “تاريخ نشأة القواعد الفقهية”، والمبحث الثاني: اهتم بـ “فقه الاستثناء في القواعد الفقهية”، والمبحث الثالث: اهتم بـ “الاستثناء في القواعد الفقهية الكلية ومقاصده في الشرعية”، وقد قسمته إلى خمسة مطالب: اهتم المطلب الأول: بقاعدة “الأمور بمقاصدها”، والثاني: بقاعدة “اليقين لا يزول بالشك”، والثالث: بقاعدة “المشقة تجلب التيسير”، والرابع: بقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” أو “الضرر يزال”، والخامس: بقاعدة “العادة محكمة”.
وأما الخاتمة: فتحدثت فيها عن أهم النتائج العامة التي توصلت إليها من خلال هذا البحث، والمقترحات والتوصيات التي أراها مناسبة لتوظيفه وتطويره.
وحتى تستكمل الدراسة جوانبها الفنية، ذيلت هذا البحث بجملة من المراجع والملاحق التي لابد منها لتيسير قراءته ومطالعته، وذلك لتُلقي أضواء كاشفة عن موضوعاته وأهم محتوياته.
وأسأل الله السداد في القول، والرشد في الفعل، والصواب والتوفيق في الأمر كله، إنه وليي، وهو حسبي ونعم الوكيل.
المبحث الأول: تاريخ نشأة القواعد الفقهية
نشأت القواعد الفقهية إبان عصر الرسالة ومنبع التشريع، فقد كانت أحاديثه صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام بمثابة القواعد العامة التي تنطوي تحتها الفروع الفقهية الكثيرة، كقوله: “الخراج بالضمان” و “لا ضرر ولا ضرار” و “البينة على المُدَّعِي واليمين على المُدَّعَى عليه”، وما سواها من جوامع الكلم وبدائع الحِكَم التي خصّ الله تعالى بها نبيّه عليه الصلاة والسلام، فأصبحت عند الفقهاء قواعد ثابتة مستقلة وجرت مجرى القواعد الفقهية.
وهذه القواعد الفقهية لم تنشأ دفعة واحدة وفي وقت معين، وإنما مرّت بمراحل عديدة من حيث وضعها وتنسيقها ثم تأصيلها، فتكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدرّج في عصور ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح استنباطا من دلالات النصوص الشرعية العامة وأدلتها، ومبادئ أصول الفقه، وعلل الأحكام، وأسرار التشريع، والمقررات العقلية، فقد كانت تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية ومسالك الاستدلال القياسي عليها، أعظم مصدر لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها خاصة بعد استقرار المذاهب الفقهية الكبرى، وانصراف الفقهاء والعلماء إلى تحريرها وترتيب أصولها وأدلتها.
المبحث الثاني: فقه الاستثناء في القواعد الفقهية
إن الشريعة الإسلامية راعت أحوال المكلفين كلها سواء كانت عادية أو استثنائية، لأن الناس تختلف أحوالهم من صحة إلى مرض، ومن إقامة إلى سفر، ومن يسر إلى عسر، ومن أمن إلى خوف، ومن سلم إلى حرب، ومن سعة واختيار إلى ضيق واضطرار، ومن شباب وقوة إلى شيخوخة وضعف وغير ذلك، لهذا تنوعت أحكامها إلى أحكام أصلية وأخرى استثنائية، وبتعبير أهل الاصطلاح الفقهي إلى عزيمة وهي ما شرع أولاً غير مبني على الأعذار، ورخصة وهي ما شرع ثانيا مبنيا على الأعذار.
ومن يتتبع أحكام التشريع في القرآن الكريم والسنة النبوية يجد أمثلة كثيرة للاستثناء يتضمن النص الشرعي في كل صورة حُكْمين، أحدهما للحالة العادية، وثانيهما لظرف طارئ يقتضي التخفيف من الحكم الأول، لما يترتب على تطبيقه من حرج شديد أو مشقة بالغة قد تصل إلى الهلاك، ولا يُعقل أن يُشرع الحكيم سبحانه وتعالى أحكاما جاءت أول الأمر للمحافظة على أمور ضرورية منها النفس، ثم يهدر هذه النفوس من غير جناية من أصحابها.
والحاصل أن الاستثناء طريق من طرق الكشف عن مقاصد الشارع وحِكمه، إذ لا يمكن أن يقع الاستثناء في القواعد الشرعية وغيرها إذا لم يكن القصد من ذلك تحقيق مقصود الشارع في جلب المصالح ودرء المفاسد، ومعرفة المستثنيات واستخراج عِللها ومقاصدها ليس أمراً هيِّناً ولا سهل المنال ولا يتيسّر لكل أحد، بل يحتاج إلى أهلية بالغة وعقلية نادرة، ودراية تامة بالأصول وما تشتمل عليه ومعرفة شرائطها وعلاقة بعضها ببعض، وبالتالي فإن الاهتمام بمعرفة مقاصد ما يستثنى من القواعد الفقهية يعتبر أمرا في غاية الأهمية، ويحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة والدراية.
يقول الإمام البكري في مقدمة كتابه: “الاستغناء في الفرق والاستثناء” مبينا سبب إعراض أهل العلم عن البحث في الاستثناء: “… لأني قد رأيت أهل العلم قد زهدوا في طلبه، ولم يجعلوا لهم إليه طريقا، ومع ذلك جوهره في قعر بحر عميق، وطالبه نائم لا يفيق، همته داثرة، ورغبته قاصرة، ومستفيده قليل، والحفيظ له كليل، يبعد عن الجمع الكثير، ويرغب في الجمع القليل”(البكري، 1408هـ ـ 1988م، ج 1 ص: 109).
المبحث الثالث: الاستثناء في القواعد الفقهية الكلية ومقاصده في الشرعية
المطلب الأول: قاعدة “الأمور بمقاصدها
فقاعدة “الأمور بمقاصدها” على وجازة لفظها وقلة كلماتها، تعتبر من جوامع الكلم، لأن مصدرها الحديث النبوي الصحيح “إنما الأعمال بالنيات”، فمكانتها بمكانة ما بنيت عليه وشرفها بشرفه وأهميتها بأهميته، ومعناها يفيد أن التصرفات الصادرة من الإنسان من قول أو فعل تختلف أحكامها باختلاف مقصود فاعلها، إذ الحكم المترتب على أمر ما يكون بحسب هدف صاحبه منه، فالدافع المنبعث من القلب هو الذي يترتب الجزاء على وفقه في كل الأعمال دنيوية كانت أو أخروية، وفي هذا الصدد يقول مصطفى الزرقا: “إن أعمال المكلف وتصرفاته من قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات” (الزرقا،1986م، ج 2 ص: 965).
لكن لا ينبغي أن يفهم مما تقدم أن تبدّل القصد يقتضى في كل حال تبدّل الحكم الشرعي، فهناك بعض الأحكام الشرعية التي لا تتبدّل أحكامها نظراً للقصد والنية، وتعتبر من المسائل التي تستثنى من قاعدة “الأمور بمقاصدها“.
ومن أمثلة ذلك: النظر إلى مآلات الأفعال من غير نظر إلى البواعث والنيات: كمن قصد الشر بفعل المباح: يكون آثما فيما بينه وبين الله، ولكن ليس لأحد عليه من سبيل، ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي، كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجراً ينافسه، فإن هذا بلا شك عمل مباح، وهو ذريعة إلى إثم هو الإضرار بغيره وقد قصده، ومع ذلك لا نحكم على عمله بالبطلان بإطلاق، ولا يقع تحت التحريم الظاهر الذي ينفّذه القضاء، فإنّ هذا العمل من ناحية النية ذريعة للشّر، ومن ناحية الظاهر قد يكون ذريعة للنفع العام والخاص، فإن البائع بلا شك ينتفع من بيعه ومن رواج تجارته ومن حسن الإقبال عليه، وينتفع العامة من ذلك الرَّخْص، وقد يدفع إلى تنزيل الأسعار.
ومن مستثنيات قاعدة “الأمور بمقاصدها” كذلك: من قصد الحرام فوقع فعله على شيء مباح له: أي أن يكون موافقا للشارع في الفعل مخالفا له في القصد، وهو لا يعلم بالموافقة الفعلية، كمن نوى الزنا فوقع على زوجته يظنّها أجنبية عنه، فهذا لا يُحدُّ حدَّ الزاني رغم قصده الزنا، إلا أنّه يأثم لنيته فعل الحرام لجرأته على الله تعالى.
ويستثنى كذلك من حكم هذه القاعدة: الهازل والمستهزئ فإنهما وإن كانا غير قاصدين حقيقة إلى ما ينشئانه من عقود وتصرفات إلا أنهما يعاقبان بلزوم عقودهما، لأن الهزل والاستهزاء ليسا من الأعذار المسقطة للتكليف بل هما من منهيات الشرع، قال تعالى: “وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا” (القرآن الكريم، البقرة: 229)، وقوله: “وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ”(القرآن الكريم، التوبة: 65).
فإن نكاح الهازل وصريح طلاقه ورجعته واقع بإجماع العلماء وهو المحفوظ عن الصحابة والتابعين أخذا من الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح، والطلاق والرجعة” (أبي داود،1969م/ 1970م، رقم: 2194).
المطلب الثاني: قاعدة اليقين لا يزول بالشك
إن قاعدة “اليقين لا يزول بالشك” من أمهات القواعد الفقهية الكبرى، وهي أصل شرعي عظيم عليها مدار كثير من الأحكام الفقهية، يتمثل فيها مظهر من مظاهر اليسر والرأفة في الشريعة الإسلامية، حيث فيها تقرير لليقين باعتباره أصلا معتبرا، وإزالة للشك الذي كثيرا ما ينشأ عن الوسواس لاسيما في باب الطهارة والصلاة، كما تعد من أكثر القواعد تطبيقاً، قال السيوطي: “اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المُخَرَّجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر” (السيوطي، 1427هـ / 2006م، ص:55).
وهذه القاعدة يدعمها القرآن والسنة والإجماع، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على الاعتداد بها، قال القرافي: “… فهذه قاعدة مجمع عليها، وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه” (القرافي، 2001م، ج1،ص:111).
وقد تتبّع بعض العلماء الأفذاذ المسائل والفروع في الفقه، فتوصلوا إلى أن هناك مسائل معدودة تستثنى من قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك“، فوجدوا تلك المسائل اليسيرة خرجت لأدلة خاصة أشاروا إليها، فقالوا: “إن حكم اليقين لا يزال بالشك، فكل من شك في شيء هل فعله أم لا ؟ فهو فاعل في الحكم، ولا يزال حكم اليقين بالشك إلا في مسائل، وقد صدق من قال: “هذه قاعدة مطردة لا يخرج منها إلا مسائل يسيرة”(النووي،1417هـ / 1996م، ج1، ص:205).
ومن مستثنيات هذه القاعدة: استثناء الشك في الحدث عند المالكية: فمن بين الخلافات الفقهية الخاصة بالطهارة التي نجدها مبثوثة في كتب الفقه، الخلاف الواقع في الشك في الحدث هل يمكن اعتباره ناقضا من نواقض الوضوء أم لا؟
في هذه المسألة ترى كل المذاهب الفقهية أن الذي يتطهر ويحصل له يقين بطهارته، ثم يحدث له شك فهو باق على طهارته ولا يضر حصول الشك، فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو متطهر، ومن تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو غير طاهر، إعمالا لقاعدة “اليقين لا يزول بالشك”، ولم يخالف في ذلك إلا المالكية الذين اعتبروا الشك في الحدث ناقضا من نواقض الوضوء، حيث أزالوا اليقين الذي هو الطهارة بالشك الذي هو الحدث.
فالمالكية يرون أنه من توضأ وشك في الحدث، وجب عليه إعادة الوضوء حتى يدخل الصلاة وليس في قلبه شك، فإن الشك ينافي الخشوع الذي يعد فيها الركن الأسمى، فرغم أنهم متفقون مع الجمهور في العمل بهذه القاعدة إلا أنهم خالفوهم في هذه المسألة.
ومن مستثنيات هذه القاعدة كذلك: الإشارة المعهودة أي المعلومة المعتادة للأخرس الأصلي بعضو من أعضائه، كَيَدِه، أو رأسه، أو عينه، أو حاجبه، معتبرة كالبيان باللسان، وهي بمنزلة نطقه فتعتبر، ولذلك قال الفقهاء: “الإشارة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان” (مجلة الأحكام العدلية، 1405ه، ص: 70).
إلا أنه: لا تُقبل إشارة الأخرس في الحدود لأنها تدرأ بالشبهات، لقوله صلى الله عليه وسلم: “ادرؤوا الحدود بالشبهات” (البخاري، 1414هـ/1994م، رقم: 6438).
ففي الحدود يقدّم الشك على اليقين، وهذا يخالف منطوق القاعدة، أي أن ما كان ثابتا متيقنا لا يرتفع بمجرد طروء الشك عليه، ويصبح المستثنى هو: “اليقين يزول بالشك في الحدود”، ومن مقاصد من هذا الاستثناء ما يلي:
1 ـ حماية الفرد من الضرر وافتراض براءته أولا، وتفسير الاحتمال لصالحه ثانيا، وهذا يدل على حرص الشريعة الإسلامية على إنصاف المتّهمين في الجرائم المنسوبة إليهم.
2 ـ أنه يجعل القاضي المسلم على بيّنة من حق الفرد في الأمن، بحيث لا يقضي بالإدانة إلا بعد ثبوت دليل الإدانة لديه ثبوتا يقينيا قطعيا لا ريب فيه.
3 ـ يعتبر مبدأ درء الحدود بالشبهات من المبادئ الأساسية في الإثبات الجنائي في الشريعة، فيقصد به تفسير الدليل عند الشبهة أو الشك فيه لصالح المتّهم، وهي إسقاط عقوبة الحد متى قامت لدى القاضي شبهة حول ثبوت ارتكاب الجريمة الموجبة لهذه العقوبة.
فكان الهدف من مخالفة منطوق قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك” هو أن الأمر يتعلق بإلحاق ضرر على النفس، ولا يمكن أن نطبق حداً حتى يحصل اليقين القاطع التّام الذي لا يصاحبه أدنى شك، مخافة ظلم المتهم وافتراض براءته، وهذا من أهم مميزات الشريعة الإسلامية العادلة وخصائصها التي تحرص كل الحرص على إنصاف المتهمين في الجرائم المنسوبة إليهم، وبهذا تفوقت على كل النظم والقوانين الوضعية مهما تطور واضعوها وأوغلوا في المدنية والحضارة.
المطلب الثالث: قاعدة المشقة تجلب التيسير
تعتبر قاعدة “المشقة تجلب التيسير” من القواعد الفقهية الكلية التي تبين لنا سماحة الدين الإسلامي ومرونته وتقديره لأحوال العباد في يسرهم وعسرهم، جاهضة بذلك كل الآراء المشككة في سماحة هذا الدين على أنه دين التكاليف الشاقة التي تقف عائقا أمام حركة الإنسان وتطوره، فهي قاعدة مقطوع بصحتها لا ينازع في ثبوتها مسلم لتوفر أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع، وهي أصل عظيم من أصول الشرع لأن معظم الرخص منبثقة عن هذه القاعدة، بل إنها إحدى الدعائم التي يقوم عليها صرح الفقه الإسلامي، وقد تواطأت أقوال العلماء على أن جميع رخص الشرع وتخفيفاته في العبادات والمعاملات تتخرج عن هذه القاعدة، قال الإمام السيوطي: “يتخرّج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته” (السيوطي، 2006م، ص: 77).
ومن المشاق التي لا أثر لها في جلب تيسير ولا تخفيف، وتعتبر من مستثنيات قاعدة “المشقة تجلب التيسير”: مشقة التكاليف الشرعية: كمشقة الوضوء والغسل في فصل الشتاء، ومشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد ولاسيما صلاة الفجر، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبا، ومشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على الجناة، فإن في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات لما يجده من الرقة والرحمة، ولمثل هذا قال تعالى: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ” (القرآن الكريم، النور: 2).
فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها، لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالبها، ولفات ما يترتب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات .
ـ وفي هذا ردٌّ فقهي ومقاصدي على أولئك الذين اتخذوا مسألة اليسر في الإسلام ذريعة للتهاون الذي قد يؤدي إلى التنصُّل من التكاليف الشرعية، فاليسر ورفع المشقة في الشريعة الإسلامية راجع إلى التوسط والسهولة، وهو ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لطاعة الله تعالى على أحسن وجه ممكن، ولذلك فإن متصيد التخفيفات ومتتبع رخص المذاهب لا كلام معه هنا، لأنه متّبع لهوى نفسه وليس تابعا لمقاصد الشريعة الإسلامية.
وإذا تقرر هذا فالشارع لم يقصد من التكاليف والأفعال المأمور بها المشقات التي تلابسها، وإنما قصد المصالح المترتبة عليها العائدة على المكلف عاجلا أم آجلا، فليس المقصود من الصلاة مثلا إتعاب الجسم وحصر الفكر، وإنما الغرض تهذيب النفس وخشوعها لله، وكونها سبيلا للامتناع عن الفحشاء والمنكر، وليس المقصود من الصوم إيلام النفس بالجوع والعطش وحرمانها من طيبات الرزق، وإنما الهدف هو التقوى وصفاء الروح وسموها وتنمية عاطفة الرحمة والإنسانية فيه، وما الشارع في هذا كالطبيب يعطي المريض الدواء المر لا يقصد إيلامه، ولكنه يقصد أن يزيل علته، وهذا واضح في سائر التكاليف الشرعية.
والحاصل أن التكاليف الشرعية من صيام وصلاة وحج ونحوها، وعقوبات الجرائم من قصاص وحدود، كل هذه الأمور تتضمن نوعًا من المشقة والألم، فهذه المشقة لا تُسقط العبادة، ولا تُوجب التخفيف فيها بالترخُّص، لأن هذه المشقة تقرَّرت مع هذه التكاليف، وإنما الذي يقتضي التخفيف بالترخُّص، هي المشاقُّ التي تنفكُّ عن هذه التكاليف، فليس لأحد أن يُفْطر في رمضان لشعوره بشدة الجوع، كما أنه ليس لأحد قَدَرَ على نفقات الحج وهو صحيح البدن أن لا يحج لما في الحج من مشقة السفر والبعد عن الأهل والوطن، فمثل هذا النوع من المشقة لا أثر له في إسقاط الواجبات أو تخفيفها، لأن المشقة المعتادة في التكاليف الشرعية لا أثر لها في جلب تيسير ولا تخفيف، لأن جميع الأعمال والتكاليف الشرعية لا تخلو من المشقة.
المطلب الرابع: قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” أو “الضرر يزال”
فقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” قاعدة نبوية مروية بسند مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من جوامع كلمه، بنيت عليها أبواب كثيرة من الفقه واندرجت تحتها من المسائل الفرعية ما لا يكاد يحصى، وأضحت هذه القاعدة شعارا إسلاميا للعدل ورد العدوان، والتعاون البناء، وتحقيق الأمن، ونشر السلام بين الناس.
ومعناها أنه لا يجوز شرعاً لأحد أن يلحق بآخر ضرراً ولا ضراراً، وقد سيق ذلك بأسلوب نفي الجنس ليكون أبلغ في النهي والزجر، وهي أساس لمنع الفعل الضار وميزان عند القاضي في تقرير القضايا والأحكام، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد، ومن ثم فإن اعتبار الفقهاء لهذه القاعدة كواحدة من القواعد الفقهية الكبرى التي بني الفقه عليها، هو إدراك منهم أن لها من الشواهد والنصوص الشرعية التي توصلها مرتبة القطع في ثبوت معناها، وأن اختيارها هو اختيار لأصل تقرر في الشريعة الإسلامية.
ومن المعلوم أن لكل قاعدة استثناء، وهذا ما ينطبق على قاعدة “الضرر يزال” أو “لا ضرر ولا ضرار” حيث حصر الفقهاء لهذه القاعدة استثناءات تخرج عنها تحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في جلب المصالح ودرء المفاسد.
ومن مستثنيات هذه القاعدة: إذا كان إزالة ضرر شخص يتطلب إدخال ضرر مثله أو أكثر منه عن شخص آخر، فلا يجوز ذلك شرعا، فإن الموازنة تقضي بعدم إزالة ذلك الضرر بارتكاب ضرر آخر، فهنا نقول: “الضرر لا يزال”، لأن الناس جميعهم مخلوقات الله تعالى متساوون في جميع الحقوق والواجبات.
فالضرر لا يزال بضرر مثله، وهذا قيد لقاعدة “الضرر يزال”، أي أن الضرر يزال في الشرع إلا إذا كانت إزالته لا تتيسر إلا بإدخال ضرر مثله على الغير، فحينئذ لا يرفع ولا يزال بضرر مثله، ولا بما هو فوقه بالأولى، وفي مثل هذه الحالة يجبر الضرر بقدر الإمكان، فإن تعذر جبره، فإنه يترك على حاله، كما إذا لم يجد المضطر لدفع الهلاك جوعاً إلا طعامَ مضطرٍّ مثله أو بدن أدميٍّ حيٍّ فإنه لا يباحُ تناولهما، وكما لو تعسّرت ولادةُ المرأة والوَلَدُ حيٌّ يضطرب في بطنِها وخِيفَ على الأمِّ فإنَّه يمتنع من تقطيع الولدِ لإخراجه لأنّ مَوْتَ الأمِّ به أمرٌ مَوْهُومٌ” (الزرقا، ج 1، 1414هـ/1993م، ص:195).
ومن مستثنيات قاعدة “الضرر يزال” كذلك: قاعدة: “يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”: تضمنت فيها أحكاما متعددة، منها أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، فالفرد عليه أن يضحي بمصالحه الشخصية في سبيل النفع العائد على المجتمع، ولو أدى ذلك إلى لحوق ضرر به، كمن هُدم بيته لوصل أو توسعة طريق، فضرره هذا لا يزال، فالقاعدة تقتضي إزالة الضرر العام بتحمل الضرر الخاص.
كما يجوز معاقبة المجرمين وإن ترتب على العقوبة ضرر بهم، لأن فيها عدلا ودفعا لضرر أعم وأعظم، ومن ذلك: مشروعية القصاص، والحدود، وقتل البغاة وقاطع الطريق، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله، ففي كل هذه الأمور الضرر لا يزال عن هؤلاء، لأن ضررهم الخاص يعارض الضرر العام، وفي مثل هذه الحالات لا تطبق قاعدة “الضرر يزال”، وإنما يعدل إلى قواعد أخرى وهي: “ارتكاب أخف الضررين” أو “الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف” أو “يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”، تحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية في جلب المصالح ودرء المفاسد.
ففي كل هذه الأمور شرع الإسلام ارتكاب أخف الضرَرَيْن، ففي القصاص مثلا: مفسدة قتل القاتل أخف من ضرر نشر الجريمة في المجتمع، حقنا للدماء وتحطيما لكل مظاهر الهمجية، والحد من شهوة الانتقام والأخذ بالثأر، فالشريعة الإسلامية عند تشريعها للقصاص هدفها هو إقامة العدل وصون الحياة الشريفة لكل مسلم، حتى يعُمَّ الأمن بين أفراد المجتمع مصداقا لقوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (القرآن الكريم، البقرة: 179).
المطلب الخامس: قاعدة العادة محكمة
فقاعدة “العادة محكمة” من القواعد الكلية الخمس الكبرى في الفقه الإسلامي، وهي من الحجج الشرعية المعتمد عليها، إذ أنّ العرف والعادة إحدى حُجج الشّرع فيما لا نصّ فيه، لكن رغم ما يملكه العرف من سلطان في تجديد وتحديد الأحكام العملية فيما يستجد للناس من أقضية، غير أنه لا يتم تحكيمه ولا اعتباره إلا باستيفاء شروط تبين حدوده، وتحدد إطاره حتى لا يتعارض مع أصول الشريعة وثوابتها.
فالعرف لا يكون له أثر في التشريع إذا كان مخالفا لنص شرعي من الكتاب أو السنة أو الاجماع، كتعارف الناس في وقت من الأوقات على إقرار بعض المحرمات كشرب الخمر، وأكل الربا، وغير ذلك مما ورد تحريمه نصا فهو مردود لا اعتبار له، ولا يجوز أن يراعى في تقنين أو فتوى أو قضاء، فالعرف في مثل هذه الأمور غير معتبر، لأن اعتباره إهمال للنص واتباع للهوى وإبطال للشرائع، فما جاءت الشرائع لتقرير المفاسد، وإنَّ تكاثر الأخذ بها يدعو إلى مقاومتها لا إلى إقرارها، ويقتضي ذلك أن تكون عادات الناس منسجمة وموافقة للأحكام التي جاءت بها الأدلة الشرعية، وإن خالفتها بطل اعتبارها وبطل تحكيمها، وهذا من مستثنيات قاعدة العادة محكمة.
ولهذا ألغى التشريع الإسلامي كثيرا من أعراف العرب الفاسدة التي تعارفوا عليها قبل الإسلام، كوأد البنات والتعامل بالربا والطواف بالبيت عراة، وشرب الخمر ولعب الميسر، والاستقسام بالأزلام والأصنام، وكل ما كان باطلا من عادات الجاهلية، فالإسلام لم يعتبر هذه العوائد والأعراف الفاسدة لما فيها من شرك بالخالق تعالى، وما فيها من أضرار جسيمة على العباد.
والحاصل، أن العرف إنما يعمل به في حدود الحرية التي تركها للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات، دون الحالات التي تولى الشرع فيها تحديد الأحكام على سبيل الإلزام، وإلا لأمكن أن تقلب الأعراف على مر الزمن أسس التشريع كلها رأسا على عقب، فتنقرض الشريعة بتاتا، ومن هنا يمكن القول: بأن النص الشرعي الخاص الآمر هو المعتبر المحترم، ولو صادمه عرف عام، فلا يعتبر أي عرف أو عادة أو أي اتفاق على خلافه.
خاتمة:
بعد الانتهاء من عرض محاور بحث “مستثنيات القواعد الفقهية الكلية ومقاصدها في الشريعة الإسلامية”، فإني أضع في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصّلت إليها والمقترحات والتوصيات التي أراها مناسبة لتوظيفه وتطويره لتكون بداية لبحوث أخرى تغنيه وتثريه.
ـ النتائج والحلول والمقترحات:
1 ـ تبين لي من خلال البحث في القواعد الفقهية الكلية المأثورة في الفقه الإسلامي أنها لم توضع كلها جملة واحدة كما توضع النصوص القانونية في وقت معين على أيدي أناس معلومين، بل تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدريج في عصور ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح، استنباطا من دلالات النصوص التشريعية العامة، ومبادئ أصول الفقه وعلل الأحكام والمقررات العقلية.
2 ـ تمتاز أمهات القواعد الفقهية الكبرى بالاتساع والشمولية والاستقلالية، وتعتمد النصوص الشرعية مصدرا لها، وأنها محل اتفاق لدى فقهاء المذاهب الأربعة، وتتفرع عنها قواعد أخرى جامعة لمسائل وفروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه.
3 ـ إن القاعدة الفقهية يمكن أن تكون مستندا للقضاة والمفتين في تخريج المسائل التي لم ينص عليها الفقهاء مما تشملها القاعدة ولم يقطع بأنها خارجة عنها، لذلك أرى أنه من المجدي تصنيف القواعد الفقهية على شكل مواد دستورية أو قانونية تعتمد في القضاء تسد ذلك النقص الذي قد يحصل في القوانين الوضعية.
4 ـ إن البذرة الأولى للقواعد الفقهية بدأت تَنبتُ إبان عصر الرسالة ومنبع التشريع، حيث كانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام بمثابة القواعد العامة التي تنطوي تحتها الفروع الفقهية الكثيرة، وذلك كقوله عليه السلام: “الخراج بالضمان” و “لا ضرر ولا ضرار” و “البينة على المُدَّعِي واليمين على المُدَّعَى عليه”، وما سواها من جوامع الكلم وبدائع الحِكَم التي خصّ الله تعالى بها نبيّه عليه الصلاة والسلام.
5 ـ إن معظم هذه القواعد الفقهية هي مستنبطة أو مضمون آية قرآنية أو حديث نبوي شريف، صيغت في شكل قواعد فقهية نحو قاعدة: “العادة محكّمة” فهي مأخوذة من قوله تعالى: “خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ” (القرآن الكريم، الأعراف: 199)، ومثل قاعدة: “الأمور بمقاصدها” فهي مضمون الحديث الصحيح: “إنما الأعمال بالنيات”، أو نص حديث مثل قاعدة: “لا ضرر ولا ضرار”، وأحيانا تكون القاعدة قولا لبعض الأئمة المجتهدين كقاعدة: “إذا ضاق الأمر اتّسع”، فإنّه قول الشافعي رحمه الله (السيوطي، 1427هـ / 2006م، ص: 83).
6 ـ رغم اختلاف الباحثين عن بداية نشأة القواعد الفقهية، إلا أنني أرجح في الجملة أنّ القواعد الفقهية المستنبطة من النصوص القرآنية والحديثية أسبق في الوضع من القواعد الفقهية المستنبطة من المسائل الفقهية المتشابهة، ووجه ذلك: أنّ النصوص الشرعية من القرآن والسنة سابقة في الوجود للمسائل الفقهية، ومن جهة أخرى فإن القواعد الفقهية تختلف من ناحية واضعها، فبعضها نصَّ أهل القواعد على أنّ واضعها هو العالم الفلاني، وبعضها الآخر مجهول واضعها.
7 ـ إن ترتيب القواعد والضوابط ذات الموضوع الواحد على شكل نظريات يعطي تصورا جيدا لموضوعها ويرسي أسسا قويمة في بحثها، ويسهل دراسة الفقه بتجميع شتاته، فكما كان للقواعد الفقهية دورا بارزا في تيسير الفقه الإسلامي ولمّ شتاته عن طريق نظم الفروع المتناثرة في سلك واحد فلا ريب أن توسيع البحوث وفق منهجية النظريات الفقهية، تخرج الفقه الإسلامي في ثوب جديد توظف فيه الضوابط والقواعد الفقهية في الموضوع الواحد بصورة أشمل وأوسع، لأن الدراسات العلمية المعاصرة في مختلف التخصصات تدعو لمثل هذا الأمر، وليس هذا تغيير في مضمون الفقه الإسلامي وإنما في طريقة عرضه.
8 ـ إن مسألة الاستثناء في القواعد الفقهية وُجدت بوجود القواعد ونشأت بنشأتها للتلازم الواقع بينهما، فقد حرص العلماء على توضيح ما يدخل من الفروع ضمن مشتملات القاعدة وما يخرج عنها، غير أن إفراد هذا الباب بالتأليف لم يكن مقصودا للعلماء في القديم ولا في الحديث، فقد كان تناول الاستثناء من القواعد يرد تبعا ولم يكن مقصود المؤلفين.
9 ـ إن البحث في الاستثناء في القواعد الفقهية ومقاصده في الشريعة الإسلامية ليس بخارج عن المنظومة الفقهية العامة القائمة على عملية الاستدلال والاستنباط والتي ترجع إلى أصول الفقه العامة، لذلك ينطبق عليها ما ينطبق على هذه المنظومة من الخلاف الفقهي بأسبابه المعروفة، وهذا الذي يجري على النصوص يجري على القواعد الاستقرائية أيضا، إذ يعمد كل فقيه إلى ما قوي لديه من الأدلة، وقد يجمعون على استثناء جزئية من حكم كلي وهذا أقوى أسباب الاستثناء، ويكون مستند إجماعهم إما على النص كما رأينا في أحكام الهازل، أو على العرف كتضمين الصناع.
10 ـ إن مسألة الاستثناء رغم ما قيل في سلبيتها من حيث تأثيرها على كلية القاعدة، غير أنها دليل ناصع على مرونة الشريعة الإسلامية، وأنها مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح كأصل ومبدأ كلّي مقرر، وأنه ما من كلّي أدى القول به والوقوف عند عمومه إلى حرج إلا ووُجدت له استثناءات كحلول استحسانية تحقق مقاصد الشرع، وهذا دليل على رعاية الشريعة الإسلامية الغراء بكلياتها وجزئياتها لما فيه مصلحة العباد في جميع تصرفاتهم ومعاملاتهم.
وبعد هذه الجولة في محاور هذا البحث والنتائج المتحصلة من خلاله، أرجو أن أكون قد حققت الهدف المرجو منه وهو تسليط الضوء على موضوع “الاستثناء في القواعد الفقهية الكلية ومقاصده الشرعية” الذي لم ينل حظه من الاهتمام لا في القديم ولا في الحديث، رغم الدراسات التي تظهر من حين إلى آخر في هذا العلم، فإن كنت وفقت فيه للصواب فهو من فضل الله العليم القدير وفيض كرمه، وإن قصرت فهذا مبلغ جهدي، أسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
لائحة المصادر والمراجع:
- القرأن الكريم.
- البخاري أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الفكر، الطبعة الأولى: 1414هـ/1994م.
- البكري بدر الدين الشافعي، الاستغناء في الفرق والاستثناء، تحقيق: سعود مسعد الثبيتي، مكة المكرمة: معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، الطبعة الأولى: 1408هـ ـ 1988م.
- الحافظ أبي داود، سنن أبي داود، إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، دار الحديث، حمص سورية، نشر وتوزيع: محمد علي السيد حمص، الطبعة الأولى: 1969م/ 1970م.
- الزرقا مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام لمصطفى، مطبعة طربين، دمشق، الطبعة العاشرة: 1387هـ/1986م.
- السيوطي جلال الدين، الأشباه والنظائر في الفروع، تحقيق: محمد تامر وحافظ عاشور حافظ، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة- مصر، الطبعة الثالثة: 1427هـ / 2006م.
- الشيخ أحمد، شرح القواعد الفقهية، بقلم مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى: 1414هـ/1993م.
- القرافي شهاب الدين، أنوار البروق في أنواء الفروق” ، دراسة وتحقيق مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، دار السلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى: 1421هـ ـ 2001م.
- مجلة الأحكام العدلية، حرّرتها: لجنة من العلماء في عهد الدولة العثمانية برئاسة أحمد جودت باشا، المطبعة العثمانية، قسطنطينة، الطبعة الثانية: 1405هـ.
- ـ النووي محيي الدين، المجموع شرح المهذب، تحقيق: محمود مطرجي، دار الفكر، لبنان، الطبعة الأولى: 1996م.