أ.م.د.ندى عايد يوسف
قسم التربية الفنية – كلية التربية الأساسية
الجامعة المستنصرية
hirabosh99@yahoo.com
009647710583898
الملخص:
منذ إطلالة القرن العشرين والعالم الفني يشهد تحولات وانزياحات تتجه نحو تجديد أنظمة فنية تعبر عن وجهة نظر مبدعيها، وتحدد مسارات نسقية ترتبط بالتنوع الثقافي الذي شهدته الساحة الفنية، نتيجة دخول نخبة من الشعراء والمنظرين والكتاب في تجمعات مع الفنانين والولوج في حوارات ثقافية، كان من شأنه إثارة التساؤلات والبحث عن الحلول عن طريق رفض الخط التشكيلي، وتكوين نسق مغاير يعكس الإشكالات الاجتماعية والثقافية الجديدة. فكانت ولادة الانطباعية التي منحت موقعا لتحدي كل ما هو مألوف،وتأكيد ما هو مرفوض.إذ بدأ ذلك مع صالون المرفوضات الذي يعد “نقطة تحول في تاريخ الفن يتحدد بفضله أنسب موعد لبدء تاريخ الفن الحديث” . فظهرت أعلام مشاكسة كانت السبب في إحداث مقدمات من الجدال الفنيبدأ مع ظهور الكاميرا الفوتوغرافية وصولا إلى الشاشة الرقمية التي ترافقت مع التطورات العلمية والتكنولوجية وصولا إلى المعلوماتية، المؤطرة بمسميات عصور الحداثة، وما بعد الحداثة،وبعد مابعد الحداثة، وصولا إلى العصر الرقمي.
وبناء على ذلك يناقش البحث أبعاد العلاقة التي تربط الفن المعاصر بالمخرجات المعاصرة ودراسة التأثير المتبادل بينها. بمعنى أن الخطاب الثقافي الجديد المرتبط بالوسائط والنظم المعرفية المجاورة، ادى الى انزياح مفاهيم الفن. كما أن موضوع البحث لا يتعامل مع الرسم بوصفه فناً يعتمد معايير ثابتة؛ بل بالكشف عن مواطن التجديد والتحول المتتالي في أنساقه.
ونتيجة لتلك الإشكالياتيهتم البحث بقراءة التحولات النسقية في فن الرسم والتشكيل المعاصر قياسا إلى القيمة الجمالية، المنبثقة من الوسائط والتقانات المؤثرة على تلك التحولات. لذلك جاءت هذه الدراسة بعنوان (مخرجات التحول من اللوحة الثابتة الى الصورة الرقمية في الفن التشكيلي المعاصر)
حيث تضمنت المقدمة الوقوف على مشكلة البحث بغية رصد المتغيرات العالمية للفن، لاكتشاف موقع التشكيل في تلك المنظومة. فضلاً عن تسليط الضوء على العلاقة التواصلية بين العمل الفني وجمهور المتلقين والمخرجات الفنية المعاصرة.
أما أهداف البحث فتتلخص بالآتي:
- الكشف مخرجات التحول من اللوحة الثابتة الى الصورة الرقمية في الفن التشكيلي المعاصر.
- التعرف عن الأساليب الفنية التي تقترحها المخرجات الجديدة.
الكلمات المفتاحية: التحول، اللوحة الثابتة، الصورة الرقمية، الفن الرقمي، الفن التشكيلي
Transformation from the painting to a digital imageIn contemporary art
Dr.Nada Aaied Yousif
Department of Art Education – Faculty of Basic Education
Mustansiriya University
Abstract
Since the beginning of the twentieth century, the artistic world has been witnessing shifts and shifts that tend towards the renewal of artistic systems that express the point of view of their creators, and define systematic paths related to the cultural diversity witnessed by the art scene, as a result of the entry of elite poets, theorists and writers into gatherings with artists and engaging in cultural dialogues. Raising questions and searching for solutions by rejecting the plastic line, and forming a different format that reflects the new social and cultural problems. It was the birth of Impressionism, which was given a site to challenge all that is familiar and confirm what is rejected. It began with the Salon of the Rejected, which is considered “a turning point in the history of art, thanks to which the most appropriate date for the start of the history of modern art is determined.” Quarrelling flags appeared, which was the reason for the creation of introductions to the artistic debate, which began with the advent of the photographic camera, all the way to the digital screen, which coincided with scientific and technological developments, leading to informatics, framed by the names of eras of modernity, post-modernism, and after post-modernism, leading to the digital age.
Accordingly, the research discusses the dimensions of the relationship between contemporary art and contemporary outputs and the study of the mutual influence between them. In the sense that the new cultural discourse associated with the media and the neighbouring knowledge systems led to the displacement of the concepts of art. In addition, the subject of the research does not deal with drawing as an art that adopts fixed standards. Rather, it is by revealing the citizens of renewal and the successive transformation in its systems.
Because of these problems, the research is interested in reading the systemic transformations in the art of contemporary painting and composition in comparison to the aesthetic value emanating from the media and technologies affecting these transformations. Therefore, this study was entitled (Outcomes of the Transformation from the Still Painting to the Digital Image in Contemporary Fine Art)
Where the introduction included standing on the research problem to monitor the global variables of art, to discover the place of composition in that system. As well as shedding light on the communicative relationship between the artwork, the audience, and the contemporary artistic outputs.
The research objectives are summarized as follows:
- Disclosure of the outputs of the transformation from a still painting to a digital image in contemporary plastic art.
- . Learn about the artistic methods proposed by the new outputs.
The researcher adopted the descriptive approach in analyzing the samples
Keywords: transformation, static painting, digital image, digital art
الفصل الأول:المقدمة:
يعيش العالم اليوم الكثير من التحولات الثقافية التي يصعب الإمساك بحدودها أدت إلى تغيرات جذرية في الأنساق؛ من نسق الاكتشاف إلى المعرفة. إذ ظهرت ثقافات موازية واستُحدثت أنواع من المعارف التي أجبرت الإنسان على تغيرات مصيرية في مفاهيمه وعقائده، أدت لظهور انساق ثقافية تستوعب عصر الآلة والذكاء الصناعي، حتى غدت تنافس الذات الإنسانية. وتراجع دور الفرد في محاولته إيجاد مكان له داخل النسق الثقافي.
ويذهب (لويس كوسر) (Lewis Coser)، إلى انه “يمكن النظر إلى الصراع على انه ظاهرة ايجابية لها تأثير تكاملي مهم، فمن خلال الصراع يُطلق النسق شحنات التوتر الكامنة فيه ويُدخل سلسلة من التعديلات في آليات عمله” ( إيان كريب، 1999، ص78) . وبهذا تتوالد الأنساق وتظهر سلالات جديدة في المفاهيم والأفكار والحاجات، وقد ساعد في هذا حضور الكم الهائل من وسائل الاتصال المتمثلة بالتلفاز والفضائيات والانترنيت وما لها من قوة تأثير تفوق أهمية الكلمة، حتى بدأت الشاشة والنظام المعلوماتي يقتحم العالم في البيت والشارع والمطار والمطاعم، وتحول نظام الصورة من الثابت إلى المتحرك، ليتسع تأثيرها ليس فقط عالم الفنان فحسب بل في التأثير في أفكار الوعي الجمعي للمجتمع ككل.
مشكلة البحث:
وعلى هذا الاساس بدأت مشكلة الفن وأتجاهاته تتمدد على أكثر من سياق سواء بالانتاج او التلقي، وصار استيعاب هذه المتغيرات يرتبط بثقافات متعددة. لذا اصبحت الاشكالية تمتد نحو رصد التحولات النسقية في الفن التشكيلي المعاصر، ناتج عن الانفتاح على مفاهيم ورؤى مغايرة.
وفي ضوء ذلك يمكن وضع هذه المشكلة أمام التساؤلات الآتية:
هل تغير مفهوم الرسم على وجه الخصوص ومفهوم الفن على وجه العموم؟
ما هي التحولات التي حدثت في الأساليب الفنية المعاصرة والصورة التشكيلية؟
كما باتت فاعلية اندماج المجالات الاعلامية وتكنولوجيا المعلومات الرقمية؛ مع الفنون التشكيلية والبحث في العلاقة الناتجة من ذلك التداخل، من الامور المهمة لتأسيس انظمة جديدة تستوعب التحولات الجديدة بغية اعادة قراءة الاعمال الفنية والكشف عن الخطاب المضمر على وفق مبررات التواصل التي صارت من اساسيات الطرح الفني.
أهمية البحث:
وهكذا فإن اهمية البحث تمثلت في محاولة تفسير داخل السياق الثقافي بالاعتماد على مجموعة من الحقول التيتسعى الى استيعاب الاشكالية التي اثارها التداخل بين الفنون التشكيلية والعلوم المعرفية. وتحويل هذا الفهم لاستيعاب الاعمال غير المألوفة، الناتجة من متتالية التحولات النسقية التي ظهرت بفعل دخول الوسائط الاعلامية كقوة مسيطرة. وتكوين آفاق معرفية جديدة للوقوف على طبيعة تلك التحولات.
وبناءً على ذلك تكمن اهمية البحث في الوقوف على المتغيرات العالمية للفن، وذلك لاكتشاف موقع التشكيل واهميته في تلك المنظومة. لفهم السياق العالمي باستقراء المفاهيم الجديدة التي اسهمت في احداث التبدلات في بنية الفنون التشكيلية. والكشف عن التحولات الفنية واتجاهاتها.
اهداف البحث:
ومما تقدم تتحدد اهداف البحث في:
الكشف مخرجات التحول من اللوحة الثابتة الى الصورة الرقمية في الفن التشكيلي المعاصر.
التعرف عن الأساليب الفنية التي تقترحها المخرجات الجديدة.
منهج البحث: اعتمدت الباحثة المنهج الوصفي التحليلي
الفصل الثاني:
الاختراق الفوتوغرافي وتداخل الفنون
هناك إجماع على أن ظهور الكاميرا أصاب الرسم بهزة عنيفة؛ لان الصورة الفوتوغرافية نافست مهارة الفنان في محاكاة الواقع، فاتجه الفنان ليرى على وفق ما يفكر ويعرف، ويترك الواقع الذي استنفذ عنصر الدهشة والإثارة، وانتقل من نقل الواقع إلى رصده.
ومع مجيء عصر ما بعد الحداثة وثورة الاتصالات والمعلومات وتداخل الأفكار والآيديولوجيات يصبح تصنيف الفن وتوقع مخرجاته أكثر صعوبة. نتيجة التركيز “على سقوط الحدود بين الحقول المعرفية والثقافات، التي توافر مرجعية فكرية لطروحات إزالة الحدود بين الأسواق العالمية، ليسود بذلك منطق السوق، الذي يسمح له إخضاع كل شيء لمنطق التسليع”. (باسم علي خريسان ، 2006، ص246)الذي نتج منهتعليب الثقافة وتحويلها إلى سلعة يسهل تداولها واحتكامها إلى آليات السوق في العرض والطلب. ومن ثم فتح المجال لهيمنة عصر الصورة في ثقافة جديدة ولدت نسقاً مغايراً ناتجاًمن إلغاء الفوارق بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة، التي تمازجت مع ما أضافته التغيرات الصناعية والاقتصادية، معلنة “تراجع المقروء أمام المرئي على الشاشة، وطغيان مجتمع الصورة على مجتمع العقيدة والآيديولوجية، وحلول الواقع الاصطناعي للنظم الرقمية والعلامات الضوئية محل الواقع الفعلي للكائنات البشرية واللغات الطبيعية”. (علي حرب: 2000، ص172). مما قدم انفتاح غير محدود للوسائط وطرائق العرض وفق المتغيرات في المفاهيم والأفكار.ومع هذه المتغيرات تم تفعيل دور المؤسسات بأنواعها المختلفة لتتبنى الفنانين والترويج لأعمالهم وصولا لأهداف السيطرة والهيمنة.
من اللوحة الثابتة إلىاللوحة الرقمية:
كان لثورة الاتصال الأثر البالغ في السياسة والاقتصاد، مثلما كان للانترنت والصورة الرقمية والشاشة فاعليتها في عصر الموجة الثالثة. ولذلك امتلك الفن نسقاً آخر غير تلك الجمالية العتيقة التي تبناها منذ قرون. ولا سيما مع تخوم ما بعد الحداثة وحضور أميركا بديلا عن مركز الفن الأوربي.وبدأ صوغ الآيديولوجيات الكبرى التي لامست الفن بكل مفاصله. ومع(يفيس إيدس) (Yves Eudes) “فأن كل إنتاج ثقافي ينبغي أن يكون له محتوى إيديولوجي واضح مهما يكن شكله أو نوعه، ومن هنا كانت القاعدة المتفق عليها في مستوى المصالح الخاصة الأميركية، التي تنص على أن الثقافة ينبغي أن تكون الغلاف الخلاب لأي بضاعة سياسية”. (علي ناصر كنانة: 2009، ص16).
كماوجد كل فنان أسلوبهالأدائييمكن عن طريق مخرجاته التشكيلية الإشارةإليه، مما اكسب المدرسة تنوعاًأسلوبياً كبيراً.ولم يعد للمدرسة معايير عامة يتبعها الجميع بل تظهرالحقول الملونة ذات الحافة المتشظيةعند (روثكو) شكل (1)، وتعبيرية النساء عند (دي كوننك)، شكل (2)، والخطوط العمودية والحافة الصلبة عند (نيومان)، شكل (3).وبقعية(بولوك)، شكل (4). فلكل فنان أداؤه الخاص المختلف جذريا عن بقية فناني التعبيرية التجريدية، إذأصبح العمل الفني استعراضاً لقدرات الفنان التقانية.
وبرغم تلك الاداءات شديدة التباين بين فناني التعبيرية التجريدية لم يبتعد مفهوم الفن عن دائرة تخصصه. ومع التجريد ما بعد الرسموي “بدا كأنه يقود الإمكانات التي يوافرها الرسم الخالص إلى خاتمة من نوع ما، فتوجه الفنانون إلى نبذ فكرة القماشة المرسومة. وقد أدىإلى تحول الاهتمام نحو النحت وازدياد التجارب القائمة على المزج بين مواد الرسم المختلفة في اللوحة الواحدة”. (ادوارد لوسي سميث: 1995، ص103). ومن هؤلاء الفنانين (فرانك ستيلا) الذي ادخل النحاس والألمنيوم وتقانات النحت والكرافيك في أعماله. كما في شكل (5).إذ تلاشت الجدران الفاصلة بين الفنون التشكيلية والتي تتطلب قراءات فنية تتلاءم والمخرجات الجمالية الجديدة التي سمحت فيما بعد للانطلاقة نحو كل شيءوأي شيء مهد للظهور الكاسح للفن الشعبي.
فالصدمة والتشظي والانفتاح كان بداية التحرر الذي ساعد على تقويض الأفكاروإحداثالإزاحةوما رافقها من استبدال جذري للأنظمة الشكلية والتقانات والمواد المستعملة ناتجة من استيعاب واستقرار لمفاهيم كانت متأرجحة في المجتمع. ومع تلك الضغوط ظهرت مسميات متداولة في المجتمع انعكست على مخرجات الأعمال الفنية. فكانت نظرية الكايوس أي “فلسفة الفوضى التي تقود إلى النظام”. (علي حسين الجابري، 2007، مجلة دراسات فلسفية، عدد (20)، تشرين الأول، ص155).فضلاً عن مفاهيم الاقتصاد والرفاهية والاستهلاك والربح والنفعية بمجموعها تمثل مشاريع لتحقيق نظام خاص. لذلك توجب ظهور فن دعائيللايدولوجيا الجديدة قادر على التواصل مع كل دول العالم، ويعمل على صناعة ثقافة تروج لتلك الأفكاروتوافر الحاجات الرئيسة لتحقيق هيمنة مركزية الأميركي الجديد. وبهذا تحولت مصادر القوى المسيطرة من الدين والسياسة، نحو اعتماد ثقافة الاستهلاك والإعلام وامتلاك التكنولوجيا. إذيعتقد (هربرت ماركوز) “إن التقانة تسعى بشكل دؤوبإلى خلق إنسان جديد، إنسان يمثل الاستهلاك الاستفزازي حده الأقصى حتى يصبح شعاره (أنا استهلك إذنأنا موجود)”. (عمر مهيبل: 2007، ص143). فمن المستهلك إلى الفن، ومن النخبة إلى الشعبي، ومن الفن إلى التواصل، هذه الخطوط تكشف عن دخول الفن الشعبي (البوب آرت) الذي يعد ربيب الدادا، لكن فرقه المفهوميهو أن فن البوب لا يرفض المجتمع، بل هو ولد منه ومعبر عن النزعة التسويقية وروح العصر الاستهلاكية، ويعلن أن الفن للجميع ويرفض أحادية العمل وأحادية التصنيف، فانفتح بلا حدود نحو اللامعقول من الوسائل والوسائط، وأسس قاعدة تفصل ما قبل عن ما بعد من الحركات الفنية. وفتح بالفعل المجال لكل إنسانأن يكون فنانا إذا وجد مؤسسة اقتصادية تدعم فنه، وتحول الفنان من مبدع إلى منتج يحقق حلم (وارهول) الذي تمنى أن يصبح آلة.هذا الذيأحدث خلخلة في مقاييس متحف الفن التشكيلي التي كانت تعتمد على الإبداع الفردي للفنان ومهارته في إيجادأسلوب في الرسم مخالف لما هو مألوف.
وبكيفيات إدخال المواد الجاهزة والصناعية في العمل الفني، ظهرت التقانة الطباعية الكرافيكية كمثير ينسف الاعتقاد بأهمية اللوحة المفردة، نحو إمكانية تعدد النسخ الموقعة باسم الفنان ذاته وبكلفة اقل، ترتبط بمفهوم الاستهلاك والتداول، وتتلاءم وثقافة المجتمع الجديد.وذلك لأن”ثقافة الصورة هي الابتكار الأبرز…وتحديداً مع اختراع تقانة الاستنساخ التي أرست الأسسالأولى للثقافة الجماهيرية”. (علي ناصر كنانة: 2009، ص18).
وظهر تحول جذري في مفهوم الصدمة ناتج من الابتعاد عن الوسائل الفنية الاعتيادية.وإحداث الصدمة من استعمالتقانةجديدة في الوسائط والموادجاهزة فاق ما أحدثته الدادا، التي مثلها (روبرت روشنبرغ) باستعمال تشكيلة مختلفة من المواد الجاهزة، فضلاً عن الكولاج والأكريلك والطباعة الحريرية والحيواناتالمحنطة وإطارالسيارة، شكل (6). والذي خلق من تلك الفوضى عملاً فنياً يقتحم المجاورات ويحدث نظاماً شكلياً يحتفى به، مثلما يحتفى بابتسامة الموناليزا. كما أن (دوشامب) كرر “احتجاجه بعجلة دراجة وضعت فوق تابوريه مع حمالة صحون ومشط صدئ، وقد أعطى رد الفعل ضد لا معقولية الحرب والعالم، بالتضافر مع روشنبرغ ووكيله التجاري ليوكاستيللي، ليعلن من ولادة الفن الجاهز والبوب ارت والإعلان عن حقبة جديدة”.(روجيه غارودي: 1998، ص45-46.). ونتج من إرهاصات تلك المرحلة أن تكشف أعمال(البوب آرت) عن خطاب إشهاري موجه مباشرة إلى المتلقي، ليحدث خلخلة في مفاهيم الجميل والجمالأمام متغيرات المجتمع الجديد الاجتماعية والسياسية والصناعية والاقتصادية.
وتأتيأهمية(جاسبر جونز) و(اندي وارهول)، في أنهماأسهما في نسف الذاكرة الإيقونية. إذ استعمل (جونز)الأعلامالأميركية شكل (7)، أما (وارهول) فقد قوض رموز النجوم، ورسخ الاعتقاد بإمكان اقتحام تلك الصور التي تمثل رمزا للجمال أو للقوة أو للسياسة ومن ثم إمكانية تداولها واستهلاكها. ووجه بهذا الصدد(مارلين) رمزاً متلوناً لصورة المرأةالأميركيةمتعددة الوجوه، وليس مثالا للجمالوالإغراء شكل(8). كما أن (وارهول)أسهم في إدخالالإعلانات التجارية وعدها عملا فنيا مميزاًعن طريق استعمال قناني الكوكا وعلب الحساء والصابون وغيرها. شكل (9).
هذه التقانات والتجاوزات على مناطق أخرىساعدت علىتحرك الرسم وتهجينه حتى صار العمل الفني مزجاً من عُدد وخامات النحت والرسم والسيراميك. وأصبح من العسير تمييز انتماء العمل إلىأيمن تلك التخصصات. إنها مهدت الطريق لهجر الزيت والفرشاة وساعدت علىإدخال التقانات الكرافيكية التي تحولت في المستقبل إلى صورة أثيرية مع دخول الحاسوب والسينما والفيديو والأقمار الصناعيةإلى مجال الفن التشكيلي. فضلاً عن دخول سينوغرافيا المسرحفي الفنالاستعراضي السمعي البصري.التي جعلت الصورة الفنية في نهاية مسيرتها الثقافيةتعتلي عصر ما بعد المكتوب.لقد “سمحت الأنظمة الرقمية والتقانات السينمائية بالتعاطف والتقمص مع ما يحدث أمامنا على الشاشة وتحويل ما هو صلب إلىأثيري، من اجل إشباع رغباتنا في الاكتشاف والتمتع”.(بلاسم محمد: 2006، ص281). حتى ظهرت مدارس فنية تتبع مسارات وأبعاداً متطورة، تمتلك خصائص وسمات نابعة من التغيرات الفكرية والعلمية لتحقيق أساليب جديدة في خارطة التشكيل وتبتكر معطيات لإبداع منظومات بصرية تبتعد عن السائد وتغتني بلعبة الاختلاف عن طريق توظيف الاكتشافات العلمية والتقانةوالتكنولوجية والالكترونية والرقمية. ومن تلك المدارس يمكن تحديد (الفن البصري) الذي حاول اقتناص الإيهام والغموض في إظهار الصورة الفنية،من جراء الدخول إلى مجال التلفاز والإعلان والعمارة والديكور.
ومع فن (الاوبتكال آرت) انغمس الفنان في علوم البصريات والتكنولوجيا لدراسة تجارب فنية أحدثت اهتزازات فسيولوجية. إذ”جاء دور الرسم ليتحرك! ويصبح أكثر التقانات تنوعاً كما يستعمل اليوم، أما بصورة انتقائية أو متزامنة.. تقانات مستعارة من البصريات والسينما والميكانيك والكهرباء والالكترونيات، وبما أن المعرفة التقانية تتجاوز قدرات الفرد، فقد ظهرت مجموعات من الفنانين تعمل معا على انجاز عمل إبداعي مفرد”. (جي. أي. مولر، وفرانك ايلغر: 1988، ص163). ناتج من ابتكار وإدخالآليات ووسائط وخامات وتقانات تم تفعيلها من مناطق معرفية مختلفة، كان من مخرجاتها المشاركة الجمعية في العمل الفني يشترك فيها المهندس والعالم والفنان، وحضور المتلقي كأساس لاكتمال العمل الفني.
وعليه يكون فن (البوب آرت) وفن (الاوب آرت) هو تعبيراً عن التناقض الذي جاءت به فنون ما بعد الحداثة ومفاهيمها. فمع الفن الشعبي يكون حضور مصطلح الفوضى التي ينتج عملاً متناسقاً، يتناقض مع الدقة والنظام والاقيسة لتحقيق الإيهام البصري، الذي أحدثته البنيوية وأفكارها، حين يتم الحكم عليه عن طريق المعطيات والمعلومات التي تجمعها حاسة البصر وما يحدثه الشكل من اثر على العين لتنقله إلى الدماغ الذي يحلل ويركب الصورة في محاولة لتقصي المعطيات وإعطاء الحكم النهائي باعتماد الأنظمة الهندسية والفسيولوجية والتلاعب بقواعد المنظور، بعد الأخذ بمسببات الظواهر الشكلية التي لا تتناسب مع بديهيات الشكل الأولي الخام. وبهذا تحرك الفن للفعلالهجين مع العلوم الأخرى وتحقق المتوازن بين الفن والعلم، عندالوتيرة المتسارعة للاكتشافات العلمية والالكترونية والتقانية. وبهذا تهجر اللوحة عدتها القديمة لتدخل إلى عصر تقانات الصورة والاندماج مع السينما والحاسوب والشاشة والبلازما. وأصبح تداول مصطلح الفن البصري بدلا من فن الرسم هو من بديهيات المجتمع المعاصر.وتتحقق مقولة (فولفن) بأن “تاريخ الفن هو تاريخ لعلم البصريات الفنية بمعنى انه تاريخ للأحوال الفسيولوجية والسايكولوجية الخاصة بأي منهج في دراسة الطبيعة”. (ارنولد هاوزر: 1968، ص129). شكل (10)، (11).
مقابل هذا التوجه استحوذت عروض الفن البصريعلى زوايا قاعات العرض واشتملت على الجدران والسقوف كما في أعمال (سوتو) الذي انتقل بالحركة من العمل نحو حركة جسد المتلقي في داخل العمل وملاحقة التغيرات التي تحدثها الانعكاسات الضوئية للأسلاك الزجاجية وأشرطةالألمنيوم والقضبان المعدنية مع استعمال الحجوم الكبيرة لإحداثالتأثير والتفاعل والدهشة بين العمل والمتلقي كما في شكل (12). وتلك الاستكشافات أدتإلىإحداثتأثيراتمن حركات فنية لاحقة بلغت الذروة في فن التركيب installation art، الذي هو “شكل فني له مرجعيات مع فن الحدث وفن الأداء وفن التجميع”.
Smith, Edward Lucie 2004, p118-119.
إذيقدم فن التركيب إثارة في بيئة مصنعة، ويتجاوز حدود اللوحة والمعرض والمتلقي،عن طريق تلاقح التأثيرات مع الوسائط والخامات المستعملة بوسيلة متلائمة مع البيئة المحيطة،إذ يكون المكان الداخلي والخارجي جزءاً من العمل ومحملاً بمواد متباينة تستدعي علاقات وأفكاراً وأمزجة ومشاعر مختلفة ومعقدة. ويتم عرضها لمدة محدودة في المعارض ومن ثم تفكيكها حال انتهاء مدة العرض؛وهي استجابة للحضور والتفاعل من المتلقي.إن هذا النتاج المرئي “لا يخاطب وعي الفرد بقدر ما يتوجّه إلى استثارة عواطفه والحصول على استجابة آنية في العلاقة مع المنبّه. هذه الصيرورة يمكن إيجادها في حالة الفرد الذي يبقى مشدوداً إلى المرئي من دون أن يكون حاضراً بوعيه في ما يراه”. (علي ناصر كنانة: 2009، ص27).
فيعيش حالة من التغريب أمامأشكال تجريدية لا تتطابق مع خزينه الصوري. عندما تدفعإلى سياق آخرفي صناعة فن يسعى إلى فصل جذور المتلقي من واقعه المادي ويشد انتباهه ويسلب إرادتهوصولاً إلى إقحامه جزءاً من العمل التركيبي. كما في عمل الفنان (غبريال داو،Gabriel Dawe) الذي يقتصر عمله على شبكات ضخمة محاكة من خيوط وخشب ومسامير وأنتجأعمالا بصرية تجريدية تبدو كأنهاأضواءبألوان مختلفة أو ذات تأثيرات رقمية تختلف عن تجريدات الحركات الفنية السابقة. تلك الأعمال تتطلب دقة وانتظاماً في العلاقات الرياضية والهندسية وكأنها تنتمي إلى فن (الاوب آرت). كما وظف الفنان الحاسوب لإتمام التخطيطات الأوليةلأعماله الفنية في بعض الأحيان. كما في شكل (13). وتلك الشبكات يتم تفكيكها حال الانتهاء من العرض وكل ما يبقى منها فكرة توثيق بالصورة والتسجيل لا غير.
وعليه لم يعد حلم الفنان بان تعرض أعماله في صالات أشهر المتاحف العالمية، بل يكتفي بساعات من العرض في أماكن جديدة يتم توثيقها بالصور،ما يمثل رؤية فنية جديدة ومقاييس مختلفة. تتطابق مع مفاهيم عصر يحتفي بآنية الفرجة، والسرعة.عندما يستقبل كل يوم تقانات يتسابق الفنانون في توظيفها، وأمام تلك السباقات الفنية اكتفى الفنان بتأكيد وجوده عن طريقأعماليمكن أن تزيلها التغيرات المناخية، كما طرحها الفن الكرافيتي (Graffiti Art) شكل (14)، الذي لا يُعد “رسما فقط ولا صورة بل هو فعل بصري تختلط فيه الكتابة مع الصورة المتحركة ويقترب كثيرا من فن السينما لكنه يتخطاها في وسائل العرض الأكثر انتشارا في الساحات والحدائق والطرق والبيوت والكتب والجرائد وغيرها”. (بلاسم محمد: محنة الرسم، 2006، ص283).لقد استمد مقومات نجاحه من فن الإعلان وعالم التلقي في كل مكان، في الشارع والملعب والحمّامات العامة وفي أنفاق المترو وعلى الشاحنات (Freight Art)، والقطارات (Train art) شكل (15). ليعلن فناًإعلانياً بكل معانيه، يمحي قوانين المعارض واللوحة المعلقة وحفلات الاستقبال والمرطبات، وذهاب المتذوق إلى مكان العرض. انه فن يأتي قسرا إلى المشاهد ويلاحقه بالصورة والكلمة، إنه ينبثق من المجتمع ويعبر عن تطلعاته، هو جزء من تاريخ المدينة الجديدوصيرورتها.مثلما صارت الشاشة وسيطاً بديلاً عن جدار العرض، إنها جدار متنقل بين أحشاء المدينة وعلىالقاطراتوالشاحنات. واتخذت موقعا بديلا عن خيمة السيرك بعروضها وتفعيل التواصل بين الفنان المجهول وأطياف المتلقين.
ظهرت المؤسساتية المتصارعة تحمل في عدتها الفن الكرافيتي، الذي يبث رسائل إعلانية متعددة عن طريق اتحاد الصورة مع الكتابة، والتي تكون الرسالة سياسية للتعبير عن الوقوف ضد الكبت والقمع والأفكارالرأسمالية في المجتمع. أو تكون الرسالة موجهة ضد سوق الفن ونظام المعارض الفنية وراودها. فضلاً عنعدّه فناً تزيينياًولا سيما في الأحياء الفقيرة للإثارة والمتعة المجانية.
وهنا لم يقتصر إدخال اللغة على الفن الكرافيتي بل حدثت الانتقالة من اللغة إلى التشكيل مع الفن المفاهيمي. عندما أزاح وظيفة اللغة من المكتوب إلى المرئي. عن طريق الصورة الكتابية بعيدا عن معناها المكتوب. فأحدث التحول من المعنى الأحادي للغة المكتوبةإلى تعدد المعانيوتأويلها. إنالفن المفاهيمي لا يبحث في اللغة بل يبحث في معنى ما بعد المكتوب.هذا المفهوم يقود إلى وضع تساؤلات حول ماهية
العمل والموضوعات التي توظف لانجازه وتقنيات إظهاره، مع المواد الجاهزة التي عرضها (دوشامب)، الذي احتج بقوة ثم ما لبث أن أصبحالآن مقبولا بوصفه فناً.
وعلى هذا الأساس يمكن القولبتجدد الوسائط والوسائل التي عملت على إمكانإعادةإنتاجأعمال الفن المفاهيمي بوسائط حديثة مثل التصوير الفوتوغرافي، والأفلام، والفيديو، ووسائل الإعلام والنظم المعلوماتية، فضلاً عن الاستعانة بالجسد، والبيئة، والحدث، والأداء.للتغلب على فكرة انجاز عمل فني يهتم بالجميل والجمال. والاهتمام بخاصية التفكير في نوعية الأشياء.فمن أكوام النفايات صنع الفنان مئات التماثيل تعرض في كل دول العالم شكل (16)، ومن أطنان الكتب شيد الفنان محطة تعبئة للبنزين شكل (17). ولقد أدخلت الفنانة الفلسطينية (منى حاطوم) مثالاً مجموعة من الأكياس الترابية، التي نمت عليها الأعشاب، وأسهمت الطبيعة في هذا العمل فالنباتات نابضة بالحياة مستمرة بالنمو وليست صناعية، في عملها (حدائق بابل المعلقة)، شكل (18). ومثلما اقتحم الفن الكرافيتي بعبثيته جدران المباني، أصبح الفن المفاهيمي جزءاً من العمارة يعطي تعريفا صوريا عن وظيفة ذلك المبنى المعماري الذي زينه. شكل (19)
ومثلما يحدث في الثورات العلمية. اقتضى مع الثورات الفنية، ظهور تحولات سياقية، ترتبط بالتغيرات السياسية الاجتماعية والفكرية الكبرى. إذ أرغمت الكاميرا الفوتوغرافية الفن على تغير نماذجهوأنساقه والابتعاد عن الواقع، وإيجادأنظمة جديدة ابتعدت تدريجيا عن المضمون والموضوع ليصل بالعمل إلىأقصى درجات الشكلية والتجريد. ومع ظهور الشاشة ومغرياتها في صناعة عوالم مجانية للمتلقي، أصبحت للمخيلة وسائط جديدة تسهم في انطلاقها نحو اللامحدود. ووجد الفن منافسا قويا قادرا على صناعة ملايين الصور. إذ “تطرح الشاشة الصور وكأنها امتداد للواقع أو جزء منه.. فالواقع والإيهام يتحركان على امتداد بصري يومي في الصالات وعلى جدران المدن وكذلك في المطارات والساحات والبيوت.. فالشاشة فرضت نفسها كواقع آخر ينقل صورا من عوالم مختلفة”. (بلاسم محمد: اللوحة التشكيلية وصدمة التاريخ، 2006، ص12(.
[1]- Christine Rosen: The Image Culture). أحدثت هزة جديدة تطلبت إيجادأرضيةفنية جديدة أرغمته على هجر القماشة والباليت المحدد الألوانوإيجاد وسائط الكترونية تنتقل بالفن من اللوحة الثابتة نحو الفن التشكيلي المتحركوإنتاجصورة أثيرية لها مرجع تقاني وعلمي يختلف عن أنموذج اللوحة وانساقها الفنية. هذا التحدي كان نتيجة حتمية للتغيرات الثقافية والتقابلات المعرفية بين التكنولوجيا والتداخلات الفنية. ليصبح الفن في نسق كوني مختلف ويخاطب أطيافاً تقبل التجديد من المتلقين. إذ “إننا في عالم اليوم صرنا ننام ونأكل الصور، ونصلي لها ونلبسها أيضا”.
وفي القرن الحادي والعشرين دخل (فن الفيديو)إلى منطقة الرسموأضافإمكانات جديدة،ليكون جزءاً من العرض في الصالات الفنية.ويصبح الفن أكثر بروزا وتواصلا ناتج عن إيجاد حقل مغاير يقدم عن طريقه شكلا فنيا ناتجاًمن ولادة نسقمغاير يتلاءم مع التغير الثقافيالجديد، ساعد عليه تطور الوسائط والعدد وصولا إلى الكاميرات الرقمية عالية الدقة.
وفتحت تلك التقاناتآفاق جديدة للفنانين للتواصل مع العالم عن طريق الشاشة التي تعكس الواقع الاجتماعي بصوغ معاصريمثل رؤية الفنان الحديثة. كما في عمل الفنان العراقي (عادل عابدين) بعنوان (رغوة) (foam) إذ يتشكل الرمز طفلا يتدرب على وضع رغوة الحلاقة واستعمال الشفرة بحذر على وجه بالون أسود مثبت على كرسي الحلاقة.تجعل من التوتر المستمر في الشريط المصور طاقة توحي بالقلق والاضطراب والعبثية مدفوعة بحداثة وليدة تمثل عراق اليوم وبأوضاع آيلة للانفجار في خضم توقعات مستحيلة كنقطة انطلاق نحو الانفجار المحتم.وفي أثناء الحلاقة بتفجر البالون يتحول لون الكرسي فجأة إلى اللون الأحمر بما يحمله اللون من صفة إعلانية تهدد حقيقة عالم الصورة المعروضة بكاملها للزوال غير المعلن. شكل (20).
وفي فضاء تكنولوجيا المعلومات والنظم الرقمية صار الحاسوب وسيلة جديدة دخلها الفن للبحث عن نماذج تقترحها الشاشة وتختفي معها الذات والفردية، يتحول فيه الفنان إلى مبرمج له دراية بالبرامج المخصصة لإنتاجالأعمال البصريةثنائية الأبعاد وثلاثية. ومع تلك المثيرات لم يعد من أساسيات دخول عالم الفن، المعرفة التاريخية بالحركات الفنية والتدريب على أعمال كبار الفنانين. وذلك لان العُدد والنماذج والوسائل قد تغيرت بعد تبوء الحاسوب مسؤولية خزن المعلومات، أمامإقصاء الذاكرة الإنسانية، وعلى الفنان أن يستعيد خزين الذاكرة الحاسوبية، بكبسة زر،لتتحول فيها وظيفة الفنان من مجال الإبداعإلى مجال الرؤيةوالإنتاج مع التقانة الرقمية. وبهذاتصبح “البنية المبرمجة، الموضوعة بتناسق وانتظام تبعاً لتصميم حدد مسبقا.. بعيدا عن أي انفعال، أو حدث، أو ذكريات.. هي انعكاس لذلك التحول إلى الوظيفي الخالص”.(محمود أمهز: 1996، ص364-365). وبعد أن كان الفنان يستغرق أعواما وهو منهمك بتنفيذ عمل فني، أصبح اليوم ينفذ عشرات الأعمال وهو جالس يحتسي الشاي أمام شاشة الحاسوب.
وفي المقابلوافرت النظم الرقمية للمتلقي الذي يبعد آلافالأميالوسيلة اتصالية أعطته صلاحية الفرجة المجانية والتواصل عبر التصفح الالكتروني، مع إمكانية توافر الأقراص المضغوطة والصور المطبوعة بتقانة عالية عن أعمال الفنانوإيصالهاإلى بلد المتلقي بواسطة وسائل الاتصال السريعة.ومع تلك المستجدات انتفت الحاجة اليوم إلى حضور المتحف، انه يحضر بعدة طرق إلى البيت وشاشات العرض. وصار بإمكاننا الانتقال بين القارات لنرى ملايين الصورعلى جهاز الحاسوب الذي صار اليوم متحفاً كونياً بلا جدران.وإزاء تلك المستجدات “يمكن لآلاف الصور أن تظهر وتختفي في دقائق. إذ تحول الطلاء إلى ضوء، وصرناأمام صور متحركة.. يمكن أن تحث على حضور الغائب المتأمل الفوقي.. الذي تغيب فيه الذات العارفة والاعتراف بواقع إنساني جديد يزيح بكل مفرداته ومجاوراته الذائقية الجمالية التي يتم التنظير لها من فلاسفة الجمال ونقاد الفن عبر تاريخ الرسم بأكمله”. (بلاسم محمد: ، 2006، ص291).
كما أن الرسم والحاسوب ينتميان إلى خلفيتين ثقافيتين متباينين، وتمازجهما يقتضي تنازل الرسم عن تقاناته وخاماته والتخلي عن عبق التفرد والاكتفاء بتقانات بصرية تستوجب وجود عين تلمس وتفسر وتشعر بالجمال وتكون بديلة عن كل الحواس. ويتحول العمل إلى صورة مرئية في شاشة أو مطبوعة يتراجع أمامها مصطلح الرسم أمام تقدم الصورة التي تطلق العنان للمخيلة تبحث عن واقع افتراضي بعيد عن صورة الواقع. شكل (21). وكان تاريخ الرسم يعلن تمرده على وجوده، حين ينزع إلى عمل هزات عنيفة وانقطاعات متتالية، في توظيف التقانات والخامات لصالحه. ومع مجيء عصر الإعلاماتيةاكتفى الفن بالانزواء بدور ثانوي ليكون وسيلة لصالح التقانة والرقمية، مع اختفاء الذات الإنسانية أمام الآلة.
ومن تلك المقدمات كلها هناك اعتقادأن فنان الحاسوب هو المتحكم بالآلة وهو المسؤول عن اختيار النماذج والأنساقوالألوان، واقتصار التبدل على مخرجات شكلية بعيدا عن الجوهر وذلك بإبدال اللوحة بالشاشة، وحضور الفأرة (الماوس) بدلا من الفرشاة. لكن الواقع المضمر يعلن إنساناً رقمياً متجرداً من ذاته يخضع لقوانين تقاناتالحاسوب وبرامجياته المتاحة ومعاييره الاتصالية، متميز بسرعته وآنيته وانتشاره وتدفق هائل للمعلومات والصور.فالفنان “السايبورغي كائن لا يعرف الحدود ولا التمايزات الطبقية أو الثقافية.ويعيش في فضاء سايبيري تلاشت فيه كل عناصر التفاضل، وانفتح العالم على احتمالات بلا نهاية لإعادة تنظيم البنى والعلاقات الاجتماعية. ولن ينتهي عند احتمالية ثابتة، ولكنه سيواصل التفكيك والإدماج”. (أماني أبو رحمة: أدب الألفية الثالثة، 23/ 8/ 2011. www.shehrayar.com.). وأمام هذا الإسناد الرقمي تسقط الإحالات وتقتضي نسف الأنساق وولادة أنموذج تقاني مقطوع الجذور، يغير مفهوم المعنى الذي يحتكم بالثقافة الالكترونية وشروطها.يستطيع بهيمنته “التأسيس للغة بصرية يُستحوَذُ عن طريقها كلياً على طاقة البصر ويحصل هذا الاستحواذ وفق مستويين. الأول: اعتقال العقل والمخيلة في دائرة البصر وعزل المتلقي عن محيطه. أما الثاني فهو يتطور عن المستوى الأول في تفاعل اللامرئي في الصورة والعالم الباطني للإنسان”.(علي ناصر كنانة: 2009، ص22).
وعن طريق الانتقالات النسقية في الفنون البصرية من الرسم إلى الفن الجاهز إلى الحدث ومن ثم إدخال الآلة والشاشة والفيديو والحاسوب والسبرانية وتوظيف التقانات الرقمية وصولا إلى البث عبر الأقمار الصناعيةشكل (22) ، و(23).. صار لثقافة الصورة دور فاعل بوصفها وسيلة اتصالية جديدة انتقلت بالفن من التلقي الفردي نحو التلقي الجماهيري. وتلك الثقافة الجديدة التي تقولب الأفكار تبعا للحاجات لتحقيق الهيمنة. ومع تلك التقانات وأهمية ثقافة الصورة في عصر ما بعد المكتوب، تشعبت وتغيرت وسائل العرض الفني تدريجيا لتتلاءم مع متغيرات الثقافة الاتصالية. وبما أن الصورة هي الوسيط الاتصالي الأهمفي النظام الثقافي الجديد كونها تمثل خطاباً عالمياً لا يحتاج إلى معرفة لغوية. وتجد لها جمهوراقادراً على قراءة الصورة حتى لو كان ينتمي إلى بلد آخر ويمتلك ثقافة مغايرة؛ ظهرت مؤسسات ربحية لها غايات مختلفة وجدت في الصورة الفنية وسيلة مهمة للسيطرة على الذوات والوصول إلىالأهداف. في محاول للتحكم في العالم والسيطرة عليه من جراء توظيف كل الإمكانات للتحكم بالفرد والدول.وباتت ثقافة الصورة تمثل وسيلة تنافسية ورمز للقوة ولغة للصراع بين الدول الكبرى والمؤسسات الربحية والتي فرضت هيمنتها على المجتمعات الأخرى.فمثلا “شركة (جنرال إليكتركس – General Elwctrics)، وهي صناعة عسكرية ضخمة، أصبح لها اهتمام كبير بالصناعات الثقافية ووكالات الأنباء”. (سمايرز جووست: 2009، ص300).
ومع انقسام العالم الكوني على عالم منتج وعالم مستهلك. صار الفن سلعة تتحكم المؤسسات في صوغهوالسيطرة حتى على الفنان. تستعمله كذريعة لصناعة الثقافة وإعادةإنتاج الوعي عن طريق وسائل الاتصال الحديثة وقدرتها على التأثيرفي الجماهير، للوصول إلىأقصى بقاع العالم. فضلاً عن تمويله بوصفهوسيلة دعائية تمارس المؤسسة عن طريقه آيديولوجيتها.والتحكم بالجماهير وتملي عليهم رغباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. “ومنذ تلك اللحظة من التاريخ التي أُنجزت فيها صناعة الثقافة بناء آلياتها، أمكن لها صناعة الوعي، أن تبيعه معلبا داخل السلعة. وأمكن لمنتجها الأعظم (الثقافة الإعلاميةأو الجماهيرية أو التجارية) أن تكون أساساً لإعلام جديد ذي آفاق كونية، يصدّر لغته إلى القارئ بما تحمل من مواقف عبر مساحة كبيرة تدعى الرأي العام”.(علي ناصر كنانة: 2009، ص13).
الفصل الثالث: تحليل العينات
عينة(1) بلاسم محمد، 2009، الانفجار
يمثل الإنسان محور مهم في عمل الفنان الذي اتخذ بؤرة مركزية في العمل وتمظهر بأشكال وأماكن مختلفة. أقصى الحدود الحسية بالهجرة من الواقع والانتقال نحو عوالم سريالية للتعبير عن مضامين سلبية مشحونة بانفعالات الموت والدمار. ويلاحظ أن الفنان لم يمنح الأجساد ملامحها الواقعية لأنه أراد منها أن تكون صالحة لاتخاذ أدواراً مختلفة تبعاً لاماكن وجودها لحظة الانفجار، التي قد تمثل الأنا أو الآخر. ووقع الاختيار على الآخر بفعل قوى غيبية، أما الأنا فاتخذت من فعل الصدفة مسوغا للإقناع بنجاتها من ذلك الدمار.
ويتميز العمل بتكوين حر تنتشر فيه الأشكال بحرية في الفضاء وتبحث عن قوانين وعلاقات جديدة لتفعيلها في دلالات ذات مستويات متداخلة ومتحولة تمثل عناصر جذب، ومثير استفزازي للتلقي الذي ينفتح على سلالات تأويلية لا نهائية تنطلق خارج حدود الشكل الظاهر بفعل آلية التحليل والتركيب التي من شأنها أن تقود إلى تأسيس ستراتيجية للقراءة تحدث الانزياح في القيم الجمالية بفعل المسافة المتكونة بين أفق توقع المتلقي الذي يستند إلى كم من المرجعيات المتداولة، وبين ما يحدثه العمل من كسر لتوقع التلقي.ليحاول الكشف عن الفجوات ومن ثم ملئها بالأجوبة التي تسهم في إحداث تحول في ذائقيته الفنية. فالفنان لم يحاكِ الواقع بل ترجم ما رأى إلى مدركات تجسد المضمون بصياغات غير مألوفة تسهم في تجلي قيم جمالية مستخلصة من تجربة مؤلمة عاشها الفنان. مرسلة إلى متلقي ضمني مُفترض يولد مع المباشرة بالعمل، وتجسيدها لتبقى حية في ذاكرة التلقي والتاريخ الاجتماعي.
عينة(2) قيس السندي، 2007، البترول
مابرح النزاع مستمر حول تدويل التنوع في الأنساق وتوظيفها في أعمال تنتمي إلى خارطة التشكيل بفعل الوسائل المستخدمة في نسيج الصياغة النهائية لفكرة العمل الذي يطلق عليه عملاً فنياً. ليكون جزء من تعاقب نسقي وتحول على طول التاريخ الفني الذي ينبغي عبوره. لتأسيس أنماط جديدة من رحم المجتمع الرأسمالي. تستكشف منه الأفكار لتوليد صور لا تسترجع ما سبق وإنما تكون ناتجاً لظاهرة منبثقة من أحداث المجتمع الأكثر تداولا وتأثيرا. وهذا ما قدمه الفنان العراقي (قيس السندي) في عمله التجميعي (البترول)*. والذي يمثل تكوين تجميعي ثلاثي الأبعاد. إذ يتكون من حوض زجاجي يحوي على النفط الخام تطفو في داخله قصاصات ورقية وصور ممزقة لأعمال الفنان (يحيى الواسطي). كما ادخل الفنان اللغة بإيجاد نقطة التقاء بينها وبين والمادة لتكون لها وظيفة تثقيفية تسهم في الإعلام والإعلان عن قضيتها وتفعيل محتوى مضامينها. والتي تؤهلها لبث الكثير من الدلالات التي تحيل العمل إلى انفتاحات تأويلية تنتقل بين ما هو مدرك ومحسوس. وبهذا أنتج العمل التجميعي صورة منبثقة من تحول أبجدية العناصر إلى فكرة تفوق أهمية الشكل. لما تحمله من قيم جمالية تتأرجح بين الفكرة والمادة، لها معايير مختلفة في أنظمتها الشكلية وآليه إخراجها. تُقصي المعنى الأولي لترتقي بما هو جوهري كامن خلف المظهر المادي.
عينة(3): اليزابيث برايس، 2012، جوقة وولورث
جمعت الفنانة في عمل فيديوي واحد، ثلاثة موضوعات متناقضة من تواريخ مختلفة، تمثل صور لعمارة قوطية من القرن الثالث عشر، وعروض أداء لمجاميع من فتيات حقبة الستينيات، وحريق كبير في متجر الأثاث من سبعينيات القرن العشرين، شكل (19-أ، ب)؛ تعرض على شاشة لما يقارب من عشرين دقيقة. إذ ينبني العمل على جزأين يعرض أحدهما لقطات من العمارة القوطية عن طريق جولة في أرجاء البنية الداخلية للكنيسة بعرض خليط وتفاصيل من الصور والمخططات المعمارية الأرشيفية بالأسود والأبيض. وتوجيه الانتباه إلى المنقوشات الزخرفية وتفاصيل البناء، وأماكن الجلوس بلقطات سريعة، تتقاطع مع لقطات مغايرة أخرى لفرق رقص وموسيقى من الفتيات في مرحلة الستينيات من القرن العشرين.
ولاستكمال دورة السرد يبدأ الجزء الثاني بعرض لقطات مأخوذة من ارشيف قناة (BBC) الإخبارية، تحكي قصة انتشار حريق حقيقي حدث في مخزن (مانسشتر وول ورث، Manchester’s Woolworth) عام (1979). تتقاطع تلك الصور، مع لقاءات لمجاميع من الشهود الذين يصفون الأحداث ساعة وقوع الحريق. ويرافق العمل موسيقى تصويرية؛ مع التركيز على تكرار بعض الصور والكلمات لفترة وجيزة جداً من كلام الشهود وبعض الحركات الرشيقة للفتيات، والسنة اللهب المرافقة لأصوات التصفيق وطقطقة الأصابع.
وتشير كلمة (جوقة،Choir)، الموجودة في عنوان العمل إلى فرقة من المطربين، وكذلك وصف مساحة في الكنيسة تتكون من مقصورات بنيت لتحمل جموع مرددي الأناشيد الدينية في الكنيسة.
صاغت الفنانة عملها بتوظيف تقنيات الفيديو الرقمي لعمل ميلودراما**سينمائية استخدمت فيها الصورة والصوت والنص، لإثبات أن كل تلك المعارف قابلة للتكيف،وتعمل أنساق إبداعية جديدة ضمن تكنولوجيا الإعلاماتية. لمعالجة الموضوع بصرياُ ولفظياً وسمعياً للمزج بين العناصر المتباينة ضمن التاريخ الاجتماعي وفانتازيا الخيال. وتحقق جماليتها من الاختلاف في المرجع والتاريخ والتقانة.
ويمثل العمل رغبة الفنانة بإحياء لحظات اختفت من الحياة، كنوع من حنين نحو الماضي ورؤية سريعة لأحداث من التاريخ القديم. عن طريق لغة الشاشة القادرة على التداول وتسهم في مد خطوط الاتصال والتواصل بين العمل والتلقي. وما يعزز هذا التواصل هو ظاهرة الاختلاف التي طرحها العمل للجمع بين العمارة والموسيقى التصويرية وحدث مروع؛ والذي ساعد عليه وجود التكنولوجيا الرقمية التي نزعت الطابع الاجتماعي عن الأحداث الغير متتالية في الزمن؛ وصاغت المنجز النهائي وكأنه موضوع جمالي كلي موحد يعرض بتوظيف الشاشة. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يخضع العمل إلى قانون مغاير للفرجة. باستخدامه لغة التسارع في عرض اللقطات المتباينة بوقت كافٍ يستوعبها جيل تربى على التلفاز والكومبيوتر؛ لكن الفرجة في هذه الحالة لا تخضع لقانون الشاشة التي يتحكم بها المتلقي بل تفرض استلاباً قسرياً تحت مسمى البث المرسل على وفق قانون العمل الذي يأخذ المتلقي في جولة بصرية متخمة بالصور ذات جرأة وقوة في الطرح. وأمام هذا المد الصوري تتكرر بعض الجمل اللغوية (شكل 19 – ج)، لتعزيزها في عقل التلقي وتأخذ مكانها في خزين الذاكرة. إذ تظهر على الشاشة جمل متقطعة ومكررة ترافق ظهور اللقطات وأصوات الموسيقى مثل (خرجنا من أسفل ورأينا جميعا السنة اللهب قادمة من النوافذ، وذهب كل شيء، وكل البنات رموا الكؤوس في الأسفل في الأرض، ورموا كل شيء، وإنا ما زلت اسمع الأصوات، وقد كسروا كل الأقداح، ورموا كل شيء من النوافذ، واستمروا بالتكسير، وأنا ما زلت اسمع.. نحن الجوقة)، هذه الجمل اللغوية تصنع طقوسها بالتكرار للإسهام في تفعيل التأثير الدرامي لدى التلقي الذي يسمع الأصوات والتصفيق في جميع أنحاء المعرض. مما يؤدي إلى إثارة عمليات الاستجابة والتساؤل وتنشيط الحماس لفهم الشفرات المرسلة من المرئي والمقروء والمسموع. والسعي نحو الارتقاء إلى مستوى الإدراك من ملء الفجوات الناتجة من عدم التوافق بين ما يُبث وما يتم استيعابه، بالمقارنة بين الصورة الآنية الظاهرة في الشاشة ومضامينها المضمرة. وبهذا لن تكون عملية الحوار والاستجابة متساوية بين المتلقين المختلفي الثقافات والمستويات الفكرية.
الفصل الرابع: نتائج البحث ومناقشتها
في لعبة التحولات في وسائط العرض قدمت المؤسسات إمكانات اقتصادية ووسائط مغرية وموارد ضخمة وتمويلاً اقتصادياً لترويج الأفكار القادرة على استرجاع ما أنفقته المؤسسة وتحقيق الإرباحوالأهداف المؤسسية. التي تقوم بشراء الأفكار ومن ثم إعادة بيعها. لتحقق الفائدة وتقدم بالمقابل فرصة للفنان ليصبح بطلاً كونياً.
مع ازدهار المشاريع المؤسساتية أصبح من الضروري إطلاق سلسلة من العروض الفنية بمخرجات تختلف عّما أصبحمألوفا في الفن الجاهز. وبهذا اقتحم الفن معارف أخرى ليجد مخرجات غير مألوفة تحدث الدهشة والصدمة. وبحث عنأماكن عرض جديدة تستوعب ضخامة الأعمال الفنية. فانتقل الفن من قاعة العرض إلى مسرح التشكيل وإدخال المؤثرات الضوئية والصوتية في عروض فن الأداء ويكون دور الفن استعراضيا تكونه بنيات مختلفة. ومن ثم انتقل الفن إلى الشارع في فن الحدث ليربك الهوية الفنية في تمازج مع الحدث والبيئةوالاحتفال بعروض آنية سريعة. ومن بين الأنشطة المتاحة التي يصفها (كابرو) أنشطة تدور في أماكن يقوم الإنسان بخدمة نفسه، فمثلاً يقف بعض المشاركين داخل أكشاك الهواتف العامة ويتناولون السندويشات ويشربون الصودا فيحينيراقبون العالم من خلف الزجاج.(كاي نيك: 1999، ص56-57). تبرز مع تلك العروض تساؤلات عن معنى الفن ودائرة انتمائه التخصصي.
برز تناقض جديد مع دخول الحاسوب والذكاء الصناعي في الثمانينيات إذ تبدلت الوسائط التي أثرتفي دور الفنان الذي أصبحمبرمجا ومهندسا وعالم. إذفرضت الثقافة المتحولة على الفنان أنموذجا فنيا يرتبط بتحولات العصر وتطوراته. وبما”أن البرمجيات في عصر صناعة الاعلاميات (Informatigue) هي مفتاح القوة، وان مفتاح التسلط على البرمجيات، هو نظام الاستثمار، وآخرأداة للسيطرة”. (الفن توفلر: 1991، ص25).
صار لزاما على الفن أن يلاحق تلك البرمجيات ليكون وسيلة تواصلية إعلاماتيةعابرة للقارات قادرة على صناعة الوعي وإحداث التغيرات الثقافية الموجهة. وهذا التحول أدىإلى حدوث تغيرات جذرية في بنية النظام الفني ومخرجاته التي تتحكم فيها المؤسسات المهيمنة.إذبدأت عملية إنتاج الفن من قبل المؤسسات تطبقالمعايير الاقتصاديةوالإنتاجيةلتدعيم وتعزيز الآليات المهيمنة وتكوينأنظمةآيديولوجياتمن شأنها تعزيز تلك الهيمنة.
من تلك التغيرات في وسائط العرض من استعمال المواد الجاهزة في فنون العصر الاستهلاكي، إلى الآلة في فنون العصر الصناعي، وصولا إلى الشاشة والحاسوب في فنون عصر الرقمية، التي تعززت في القرن الواحد والعشرين يكون المتلقيأمامإشكالية تصنيف الفن، فليس بوسعه اليوم أن يحدد مع الوسائط الجديدة، تصنيف انتماءالشكل الفنيإلى التجريد أو التشخيص؛ لان الفن لم يعد صورة من لون على قماش سواء كانت الصورة أصليةأو مستنسخة. فالرسم انتقل إلىتقانات فتحت الآفاق نحو عوالم افتراضية. إذتوالت الأساليب في مدة زمنية قصيرة وتحول الصلب إلىأثير وتغيرت مفاهيم اللوحة التي تحولت إلى شاشة،تشكل عن طريقها صيغاً ثورية تأخذ مكانتها في مستقبل التاريخ الفني. وتلك التغيرات كانت في السابق تستند إلى ثورات فردية. أما اليوم فالمؤسسات الربحية هي التي تحدد معاييرها وأنساقها ونماذجها الفنية الجديدة لتمرير أهدافها غير المعلنة. ويصبح الفن يُصنع من خارج الذات، وصنّاعُهُ مؤسسات غير ثقافية.وما ساعد على ذلك وجود الترسانة الإعلامية والاتصالية التي من شأنها أن تعيد تشكيل الوعي والترويج لأهداف المؤسسة باسم الثقافة والفنون.
على وفق المفهوم الجديد تكون الأعمال الفنية صالحة للفرجة فحسب وليست للاقتناء تعجز أمامه النظريات النقدية القديمة كالنفسية والانطباعية والفلسفية وغيرها من قراءتها؛ لان الفنأوجد حلة صورية اتصالية تكتفي بالعرض لمدة محدودة، بتوظيف مخرجات تقانية ورقمية مبهرة تعكس رفاهية الوضع الاقتصادي وصلاح الهيمنة. يختفي معه التساؤل: ما معنى العمل؟ ويظهر تساؤل بديل: من يشتري العمل؟
مصادر البحث
أبو رحمة، أماني: (2011) أدب الألفية الثالثة، 23/ 8. www.shehrayar.com.
ارنولد هاوزر: 1968 ، فلسفة تاريخ الفن، ت: رمزي عبده، مطبعة جامعة القاهرة.
باونيس، الآن: 1990،الفن الأوربي الحديث، ت: فخري خليل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد.
بلاسم محمد: 2006،محنة الرسم في عصر ما بعد الحداثة، دراسات في الفن والجمال، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، الأردن، ط1.
جي. أي. مولر، وفرانك ايلغر: 1988،مئة عام من الرسم الحديث، ت: فخري خليل، دار المأمون، بغداد.
خريسان، باسم علي: 2006،ما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، ط1.
روجيه غارودي: 1998،الولايات المتحدة طليعة الانحطاط، ت: مروان حموي، دار الكتاب للطباعة والنشر، دمشق، ط1.
سمايرز جووست: 2009،الفنون والآداب تحت ضغط العولمة، ت: طلعت الشايب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
سميث، ادوارد لوسي: 1995،الحركات الفنية الحديثة، ت: فخري خليل، دار الشؤون الثقافية، بغداد.
ضياء يوسف: 2012، عادل عابدين النافذة تفتح على المبدأ، موقع كلوروفيل. www.sedrh.com
علي حرب: 2000، حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية ، المركز الثقافي العربي، بيروت.
علي حسين الجابري: 2007،العولمة وإدارة الحدث بين الفلسفة الكايوسية والتطبيق الادهوقراطي، مجلة دراسات فلسفية، عدد (20)، تشرين الأول- كانون الأول.
علي ناصر كنانة: 2009،انتاج وإعادة إنتاج الوعي، منشورات الجمل، بغداد-بيروت.
عمر مهيبل: 2007،من النسق إلى الذات، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 .
الفن توفلر: 1991،تحول السلطة، ت:حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
كاي نيك: 1999،ما بعد الحداثة والفنون الادائية، ت:نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2.
كريب، إيان:1999،النظرية الاجتماعية من بارسونز الى هابرماس، ت: محمد حسين غلوم، عالم المعرفة، الكويت، العدد 244.
محمود أمهز: 1996، الحركات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت،.
- Christine Rosen:2005,The Image Culture, The New Atlantis, A Journal of Technologe&Society, fall. thenewatlantis.com
- Smith, Edward Lucie: 2004, Dictionary of Art terms, 2edition, thames&hudson, Slovenia,.
*كتب الفنان عن هذا العمل “عندما أُكتٌشِفَ النفط في العراق في عام 1927, أصبح البلد حينها معروفاً بثروته النفطية وباتت هذه الصفة تفوق شهرته كمهد للحضارات منذ ألاف السنين”. ينظر موقع الفنان قيس السندي
**الميلودراما هو نوع من العروض التي تحوي مبالغة في التعبير عن العواطف والانفعالات ومفعمة باللقطات المؤثرة. وتوظف الموسيقى للحصول على إثارة اكبر.
اشكال العينات
بلاسم محمد، 2009، الانفجار
قيس السندي، 2007، البترول
اليزابيث برايس، 2012، جوقة وولورث