أ.د. أحمد بوعنان
أستاذ التعليم العالي ـ المدرسة العليا للأساتذة
جامعة محمد الخامس – المغرب
bouananemgt@gmail.com
00212661300338
ذة. بوشيت محجوبة
باحثة في العلوم المعرفية والتربية ـ المدرسة العليا للأساتذة / جامعة محمد الخامس – المغرب
Bouchait1981@gmail.com
00212671670943
الملخص
يخطو علم الأعصاب التربوي خطوات سريعة لتطبيق مخرجات العلوم العصبية والمعرفية في الفصول الدراسية. مما جعله مجالا بحثيا متعدد التخصصات يسعى الى استثمار المعرفة العلمية المختبرية حول آليات التعلم والمعالجة العصبية المركزية في الممارسات التعليمية والتطبيقات التربوية. يراهن على العلاقة التفاعلية بين الدماغ والرفع من جودة التحصيل الدراسي في التربية العادية والتربية الخاصة.
وبالرغم من الانتقادات المشككة في شرعية الانتقال من النظرية العصبية الى الممارسة التربوية، إلا أنه في ظل تداخل ما هو بنيوي ونفسي وسلوكي ومعرفي وبيئي في تكوين شخصية المتعلم، تبرز قوة علم الأعصاب التربوي باعتباره جسرا يبنى فوق الفجوة المختلقة بين العلوم العصبية والتربية. لهذا، سنسعى من خلال هذا البحث الى رصد مسار نشأة وتطور علم الأعصاب التربوي، بعد تحديد طبيعته ونطاق موقعه ضمن العلوم العصبية والنفسية والمعرفية. مع الإشارة الى مجالات بحث التربية العصبية، والتمثيل لموضوعين مركزيين في الدراسة التربوية العصبية: الوظائف التنفيذية واضطرابات التعلم المحدد، وتقديم ثلاثة مفاهيم أساسية تربط التعليم والدماغ وفق آخر اكتشافات الأبحاث العصبية: اللدونة العصبية، باعتبارها آلية تغيير وتعديل عصبي للتعلم. ومفهومي إعادة التدوير العصبي والتثبيط العصبي اللذين يؤكدان على أهمية معرفة المدرسين للهياكل البنيوية والوظيفية لدماغ المتعلم، من اجل إنجاز تخطيط استراتيجي تدريسي وتعليمي يقوم على المخرجات العصبية.
الكلمات المفتاحية:
علم الأعصاب ـ التربية – علم الأعصاب التربوي – التعلم – اللدونة العصبية.
Educational Neuroscience:
Foundation track and specialization bet
Dr Ahmed Buanan
Professor of Higher Education – Higher School of Teachers
Mohammed V University – Morocco
Covered bushet
Researcher in Cognitive Sciences and Education – École Normale Supérieure / Mohammed V University – Morocco
Abstract
Educational neuroscience is making rapid strides in applying the outputs of neurosciences and cognitive sciences in the classroom. Which made it a multidisciplinary research field that seeks to invest laboratory scientific knowledge about learning mechanisms and central nervous processing in educational practices and educational applications. It bets on the interactive relationship between the brain and the improvement of the quality of academic achievement in regular education and special education.
Despite the criticisms of the legitimacy of the transition from neurological theory to educational practice, however, considering the overlapping of what is structural, psychological, behavioural, cognitive, and environmental in the formation of the learner’s personality, the strength of educational neuroscience emerges as a bridge built over the gap created between neurosciences and education. Through this research, it is necessary to monitor the path of the emergence and development of educational neuroscience, after determining its nature and the scope of its location within the neurological, psychological, and cognitive sciences. Concerning the fields of neuroeducational research, and the representation of two central topics in the neuroeducational study; Executive functions and specific learning disorders, presenting three key concepts that link learning and the brain according to the latest findings in neurological research: Neuroplasticity, as a mechanism of change and neural modulation of learning. And the concepts of neural recycling and neural inhibition, emphasize the importance of teachers’ knowledge of the structural and functional structures of the learner’s brain, to achieve strategic teaching and learning planning based on neural outputs.
keywords:
Neuroscience-education-educational neuroscience-learning-neural plasticity.
مقدمة
يندرج هذا الموضوع في سياق التجاذبات العلمية حول الانتماء البحثي لبعض القضايا داخل البيئة المدرسية، خاصة فيما يتعلق بالوظائف المعرفية التنفيذية من قبيل اللغة، التعلم، الذاكرة، الادراك، والقدرات المعرفية والميطا-معرفية كالانتباه والفهم والاستدلال والتخطيط والمراقبة والتنظيم (…). فضلا عن الانزلاقات التي يعرفها المتدخلون التربويون في وصف وتشخيص وتحليل معيقات الفعل التعليمي التعلُّمي، نتيجة الفشل في توسيع الرؤى العلمية في دراسة مواضيع التعلم النمائية والأكاديمية، وتأثير التحفيز الوجداني على الأداء العصبي المعرفي، استراتيجيات التدريس الحسية العصبية في رفع الأداء المعرفي ودور التعلم في تنشيط مناطق دماغية…
وإذا كان من المسلم به أن قضايا التعليم والتربية العادية تنسب بحثيا الى علوم التربية والعلوم الانسانية، من خلال مرجعياتها المرتبطة بالسياقات البيئية والظروف النفسية والاجتماعية والتعليمية للتلميذ، فإن التربية الخاصة اعتمدت على علوم الأعصاب أثناء البحث في المعيقات الصحية، والقدرات المحدودة بيولوجيا وفيزيولوجيا للمتعلم من ذوي الاحتياجات الخاصة، من أجل اكسابه القدرة على الاندماج في الوسط المدرسي، واكتساب بعض المعارف والمهارات الذاتية.
ومن أجل خلق جسر تواصل بين العلوم الإنسانية والتربوية من جهة، والعلوم المعرفية العصبية من جهة ثانية، لزم الأمر الجمع بين مخرجات علم الأعصاب ومقومات القضايا التربوية، وهو ما نتج عنه ميلاد تخصص معرفي فتي تحت مسمى: “علم الأعصاب التربوي”، يستهدف فهما أفضل لكيفية تنظيم الدماغ لعملية التعلم، والإسهام في وضع أفضل الطرق والاستراتيجيات التعليمية لجعل عملية التعلم أكثر فاعلية اكتسابا وأداء.
- أهمية الدراسة
- الكشف عن مقاربة علمية معرفية عصبية لمشاكل التربية العادية والدامجة؛
- تتبع تطور الدرس العصبي في البحث التربوي وتقاطعاته مع باقي العلوم النفسية، المعرفية، المعلوماتية؛
- إبراز أهمية التدخلات التربوية القائمة على نتائج علم الأعصاب في علاج أ تخفيف شدة الاضطرابات التعلمية عند الأسوياء وذوي الاحتياجات الخاصة.
- أهداف الدراسة
- يسعى هذا البحث الى تحقيق عدة أهداف، نعرضها كما يلي:
- تحديد ماهية علم الأعصاب التربوي ونشأته وتطوره؛
- إبراز دور علم الأعصاب التربوي في فهم الآليات العصبية السيرورات المعرفية في دماغ المتعلم؛
- إبراز دور التعليم في تعديل الأنساق البنيوية والوظيفية العصبية بالدماغ.
- إشكالية الدراسة
لقد عرف المنجز العلمي العصبي طفرة، نتجت عن التطور الكبير في أبحاث علم التشريح العصبي، وذلك بفضل تقنيات تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي (MRI)، وتخطيط الدماغ الكهربائي (EEG)، والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI).. ما مكن علماء الأعصاب في السنوات الأربعين الأخيرة من تحديد المكونات البنيوية للجهاز العصبي المركزي، والمناطق الدماغية المسؤولة عن العمليات العقلية العليا كالإدراك والتعلم والتفكير اللغوي… وتتبع الوظائف العقلية والبنيات التشريحية المسؤولة عنها أثناء القيام بنشاط معرفي (الكلام، القراءة ، الكتابة ، الحساب، الادراك البصري..)، فانعكس ذلك إيجابا على الدراسات المتخصصة في علم الأعصاب المعرفي، حيث توصل الباحثون الى معرفة وظائف مختلف باحات القشرة المخية، ومعرفة سيرورة عمل الخلايا العصبية، وكيفية معالجة المعلومات على مستوى الشبكات العصبونية الدقيقة. بحيث شكل ذخيرة يمكن استثمارها في تكوين رؤية علمية للممارسات الفصلية، وعمليات التعلم، والقيود البيولوجية المفروضة عليها، في سبيل ترجمة نتائج البحث العصبي الى إجراءات تدريسية، وتخطيط مناهج وسياسات تربوية تجمع تخصصات متعددة نفسية، وعصبية، ومعرفية، وتربوية. وقد تولد عن ذلك بناء نموذج علمي موحد “علم الأعصاب التربوي”، يضمن تحقيق الإنصاف بين المتعلمين، من خلال مراعاة خصوصية الأفراد المعرفية العصبية، واستحضار التفاعل البيئي والاجتماعي داخل الوسط المدرسي.
تأسيسا على ما سبق، ومن أجل تقديم مقاربة علمية للموضوع، يلزم استشكال وبحث مدى واقعية تنزيل ما جاد به المختبر العصبي على الميدان التربوي، ومدى شمولية النتائج العصبية من حيث تطبيقها في مختلف المؤسسات التعليمية، وذلك وفق ما يلي:
الى أي مدى تمكن علم الأعصاب التربوي من تقديم حلول عملية لمعالجة الإشكالات المعرفية العصبية داخل البيئة المدرسية؟
د) منهج البحث
نعتمد المنهج التاريخي لرصد نشأة وتطور علم الأعصاب التربوي داخل حقول علمية تتقاطع في علاقتها بما هو نفسي، معرفي، عصبي وتربوي. والمنهج الوصفي والتحليلي، لعرض الموضوعات والقضايا التي يتناولها علم الأعصاب التربوي، مع التطرق الى آفاق وتحديات استثمار نتائج البحث العصبي في الوسط التربوي، وما يرافقه من مقاومة من علماء وتربويين يركزون على سؤال الأخلاق والأنسنة للحياة المدرسية.
- التأطير العلمي والمفاهيمي لعلم الأعصاب التربوي:
يتطلب البحث في نشأة علم الأعصاب التربوي وتطوره تدقيقا بالغا في التقاطعات العلائقية والمفاهيمية مع باقي العلوم التي تصب في المعرفة العصبية، والنفسية، والمعرفية، والتربوية. ذلك أنه لازال علما فتيا يستمد قوته النظرية والتطبيقية من خلال تكامل وتفاعل الحقول المعرفية ذات الصلة، مثل: العلوم المعرفية، علم النفس بفروعه، علم الأعصاب بفروعه، وعلوم التربية. فضلا عن علم التشريح والأحياء والمعلوماتية.
في الواقع، نتحدث عن وجود أرضية مشتركة لمنجز علمي يحمل في طياته مستقبل تحويل الممارسة التربوية الى ممارسة علمية (Tolmie, Butterworth, 2013). وليس المقصود هنا ان يقدم بديلا مختزلا عن العلوم النظرية والتطبيقية في ميدان التربية، أو أنه يزعم أن مقاربة قضايا التعليم والتعلم من منظور الآليات الدماغية هو الأفضل، إذ أن جوهر التربية والتعليم يأتي في سياق فلسفة مجتمعية، تراعي خصوصية الأفراد بأبعادها الذاتية والعلائقية. وعليه، يهدف علم الأعصاب التربوي الى “ترجمة رؤى جديدة، يتم تحويلها من دراسة الآليات العصبية التي يقوم عليها التعلم الى تطبيقات عملية في الفصل الدراسي لتحسين النتائج التعليمية” (Thomas and Ansari,2020,5).
نشير بداية الى ضرورة التمييز بين مرحلتين متمايزتين لعلاقة علم الأعصاب بالميدان التربوي:
- مرحلة الممارسة العملية لنتائج علم الأعصاب في ميدان التعليم من أجل تحقيق فهم أفضل لإمكانيات الدماغ البشري في اكتساب معرفة أجود وتعلم أفضل، وما رافقه من معارضة شرسة بالإقرار باستحالة ربط جسر بين علم الأعصاب والتعليم (بروير،1997).
- مرحلة الظهور والتصريح العلني بميلاد علم جديد يدشَّن على صرح “فهم الدماغ” (OCDE,2007).
بناء عليه، سنسلط الضوء على الأدبيات المعرفية لتحديد الإطار المفاهيمي للعلوم التي ساهمت في النقلة النوعية نحو ميلاد التربية العصبية، لأن تحديد ماهية علم الأعصاب التربوي يعتمد على علاقته بمجالات البحث الأخرى في التربية والتي تركز على كيفية اشتغال الدماغ.
1-1 المرجعيات العلمية المتقاطعة مع علم الأعصاب التربوي:
- علم الأعصاب Neurosciences:
يهتم علم الأعصاب بدراسة عمل الجهاز العصبي على المستوى الجزئي والخلوي والارتباطات العصبية التي تتعلق بالوظائف السلوكية والمعرفية. ويبحث في كيفية تنظيم الأجهزة العصبية للإنسان والحيوانات وكيفية عملها (Purves, 2009). من جهة أخرى، “يدرس علم الأعصاب تأثيرات أمراض الجملة العصبية، بما فيها الدماغ والحبل الشوكي والمخيخ والأعصاب والعضلات في سلوك الإنسان.” (لوف وويب، 2007، ط). هذه الهياكل البنيوية تشترك فيها جميع الفقريات، لكن ما يجعل الدماغ البشري فريدا هو حجمه الكبير بالنسبة لحجم جسمه (ديكون،2014، 314)، نتيجة كثافة الإنتاج الخلوي للعصبونات الداخلية والاتصالات العصبية الداخلية نتيجة للتطور البشري، إذ أن ” وجود تركيز في المزيد من الخلايا العصبية بالقشرة المخية له دور في تفريد الانسان بالقدرات اللغوية والرمزية” (بوشيت، 2022، 190).
أفرز تطور تقنيات التصوير العصبي وغزارة الدراسات العصبية في عدة مجالات، ظهور تخصصات متعددة لعلم الأعصاب، من قبيل: علم النفس العصبي، علم الأعصاب المعرفي، علم الأعصاب التربوي، فلسفة الأعصاب، الاقتصاد العصبي، الأخلاق العصبية…تتوحد جميعها عند الهدف الأساس من العلوم العصبية؛ معرفة كيفية عمل الدماغ والجهاز العصبي المحيطي أثناء الفعل السلوكي والمعرفي والانفعالي.
فما الذي تستفيده العلوم التربوية من علم الأعصاب؟
- تحديد الهياكل البنيوية والوظيفية لمعالجة المعلومات وارتباطاتها العصبية في الدماغ.
- تعرف كيفية عمل الدماغ وهو يتعلم ويتفاعل، لفهم سيرورات العصية للمعالجة المعرفية والميطا-معرفية.
- خلق لغة مشتركة لتسهيل التواصل بين الباحثين والمدرسين، والسعي الى تكوين باحثين وخبراء في التربية وعلم الأعصاب وعلم النفس المعرفي.
تكشف العلوم المعرفية عن اتحاد اختصاصات مختلفة من حيث منهج التفكير، هذه العلوم وجدت مسبقا في كياناتها الموضوعاتية والمفاهيمية الأصلية، غير أنها تلتقي في البحث عن كيفية معالجة الدماغ للمعلومات من منظورها الخاص. تمثل “مجالا ينجم عن التقاطع الجزئي والكلي بين اختصاصات مختلفة تحظى باستقلالية مصونة: كعلوم الأعصاب، وعلم النفس، والألسنية، والذكاء الاصطناعي. وقد يحدد مكان هذا التقاطع حقل العلوم المعرفي للأعصاب، وعلم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي المعرفي.” (تيبرغيان،26،2013).
ويعمم مركز التحليل الاستراتيجي الفرنسي (CAS,2010) ملمح العلوم المعرفية ليحدد ماهيته في ” كل نظام معالجة معلومات معقد قادر على اكتساب المعارف وتخزينها ونقلها. يستند إذن إلى دراسة ونمذجة ظواهر متنوعة مثل الإدراك، أو الذكاء، أو اللغة أو الحساب أو التفكير أو الوعي”(Gaussel et Reverdy,2013,p3).
في الواقع، يقوم صرح العلوم المعرفية على نظام يعالج ويستدل ويحفظ ويستدعي المعلومات من البنى الوظيفية العليا، لينقلها للعالم الخارجي وفق نماذج تجسد المعلومات في الدماغ بطريقة يسهل التعامل معها. فاللغة تتم معالجتها وفق قوالب خاصة بها، مخزنة بترميز مسبق في الدماغ على شكل نماذج لغوية، يشترك في امتلاكها كل من المتكلم والمتلقي لتحقيق فعل التواصل. وبهذا” تفترض العلوم المعرفية أن تمثيل المعلومات في الأنظمة الذكية رمزي (Simon et Kaplan, 1989)” (المير، 2008).
بناء عل ما سبق، يتضح أن العلوم المعرفية تقارب معالجة المعرفة في مفهومها الشامل، مع مراعاة منهج المعالجة وفق الإطار الخاص لكل مجال بحثي؛ ” كالهندسات والألسنية والأنثروبولوجيا والسيكولوجيا والعلوم العصبية والفلسفة والذكاء الاصطناعي” (عطية،2022، ص20). أي تعبر عن منهج تفكير، يتفاعل مع المعلومات وكيفية معالجتها في الدماغ، فهي تدرس سيرورة النشاط المعرفي لكل علم من العلوم الأخرى، كل في إطار تخصصه. مع العلم أن المتح من علوم مختلفة ومتنوعة “تمتد من السيكولوجيا المعرفية إلى فلسفة الذهن إلى اللسانيات المعرفية إلى علوم الأعصاب إلى نظرية الارتقاء إلى مختلف فروع العلوم الاجتماعية… يطرح صعوبات إبستمولوجية وميثودولوجية تهم بالأساس التحديد الذي تخصصه هذه العلوم لمفهومي المعرفة والمعرفية” (أحرشاو،2018، ص8).
يعرفه عالم النفس المعرفي هيكان Hécaen بأنه “مجال يعالج الوظائف العقلية العليا في علاقاتها مع البنيات الدماغية” (Siéroff,2004,3). فهو يقصد كل دراسة لتأثيرات المعالجة العصبية العقلية على السيرورات المعرفية.
ويضيف هيكان (نفس المرجع) في خضم بحثه في تداخل العلوم، بأن علم النفس العصبي هو من جهة أولى؛ مجال لعلم الاعصاب. إذ يرتكز على العلاقات المشتركة مع علم التشريح الاكلينيكي الذي يسمح بتحديد وظائف الهياكل البنيوية المختلفة في الدماغ، والتغيرات السلوكية الناتجة عن اضطرابات في اتصالات الجهاز العصبي. ومن جهة ثانية، هو مجال معرفي، يسمح باختبار الفرضيات المعرفية النظرية تجريبيا بالاعتماد على قدرات المريض الدماغية.
وعليه، فإن علم النفس العصبي هو” العلم الذي يقوم بدراسة العلاقة بين السلوك والمخ.”(عبد القوي، 2011، 22). يتأسس على نتائج علم التشريح والبيولوجيا والفيزيولوجيا. ويسعى علماء النفس العصبي الى فهم كيفية معالجة العمليات العقلية المسؤولة عن إنتاج السلوك السوي والمرضي. ذلك أن الإجراء التقييمي والتعديلي للسلوك المضطرب يتم عمليا في مجال علم النفس العصبي الإكلينيكي.
من هنا، يظهر أن الخلفيتين النفسية والعصبية لهذا العلم، تربطان بين الدراسات العصبية البيولوجية لمعالجة الوظائف العقلية وتأثيرها على التجليات السلوكية والاضطرابات النفسية الناتجة عن أمراض المخ وإصاباته. لكن هذا التخصص لم يعد يقتصر على الرعاية والتأهيل الصحي، بل تعداه الى الانفتاح على قطاعات من قبيل علم الأعصاب التربوي في شق أمراض النمو، وعلم الأعصاب المعرفي التطوري في ارتباط بالعلاقات المحتملة بين علم الأعصاب والتربية، لاسيما ما يتعلق بالجانب النفسي والأخلاقي للبحث العلمي.
تتراكم المعارف في علم النفس المعرفي بفضل الأبحاث والاكتشافات العلمية في مجموعة من التخصصات، أهمها علم الأعصاب والعلوم المعرفية وعلم النفس. فمنذ اعتماد علم النفس موضوع المعرفة للبحث والدراسة سنة 1957، تناولت فروع علم النفس سواء الاجتماعية، أو التربوية، أو التطورية، أو الاكلينيكية مواضيع معرفية كالوظائف المعرفية، الذكاء، التعلم، التذكر، الاستراتيجيات المعرفية…
يعرفه تيبرغيان Tiberghien بأنه “مجال من السيكولوجيا العلمية، يتعلق بدراسة عمليات المعرفية وبناها عند الانسان والحيوان أيضا. وأحيانا تسمى العمليات المدروسة ملكات معرفية أو بسيكولوجية: كالإدراك والانتباه والذاكرة واللغة والنشاطات الفكرية والقرار…”) تيبرغيان،2013، ص345).
أما نيسرNesser فيصفه ” بذلك العلم الذي يركز الاهتمام فيه على دراسة الكيفية التي يتعلم بها الأشخاص، ويبنون من خلالها معارفهم ويحتفظون بها، ويستخدمونها” (عطية،2022، ص27).
وحدد هنت (Hunt,1989) تعريف علم النفس المعرفي في” الدراسة العلمية التي تحاول فهم طبيعة الذكاء الإنساني والكيفية التي يفكر بها الانسان” (سولسو،2000، ن).
نخلص إذن، الى أنه علم يهتم بدراسة كيفية تمثل العالم الذي نحيا فيه، وكيفية معالجة وتحويل تلك المدخلات إلى معرفة وسلوك، وبالتالي فعلم النفس المعرفي يقيس كل العمليات النفسية والمعرفية لمختلف مجالات السلوك؛ من إدراك وتذكر وتصور ذهني وتعلم وانفعال وتواصل لغوي…
لقد تمخض علم النفس المعرفي عن أزمة الحاجة للتأطير العقلي للمقاربات التجريبية (مثير، استجابة) التي استغرقت فيها المدرسة السلوكية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. من تم” أدرك إمكانية التعاون بين تخصصات مختلفة كالمعلوميات وعلم الأعصاب في فهم وتفسير ما يجري في الذهن حين يستثار النظام الذهني بمثير خارجي أو داخلي” (المير،2008). وبذلك تمكن العلماء من دراسة البراديغمات المستعصية على علم النفس السلوكي، وانفتحوا على علمية المعرفية النفسية لإشكالات الادراك (برودبنت، Broadent,1949)، التفكير (برونر، Bruner,1915)، الانتباه (نورمان، Norman,1935)، الذاكرة (كيليان، Quillian,1943)، اللغة (تشومسكي Chomsky,1928، ميلر، Miller,1915) … لتساهم في انطلاقة وتطور العلوم المعرفية. غير أن التحكم بعمليات الوعي والتنظيم الرمزي للمعرفة، وضبط سيرورة معالجة الوظائف المعرفية في المستويات العميقة، لازالت تحتاج للتنظير والأجرأة المسموح في السياقات الغنية بالتبادلات المعرفية النفسية وتأثيرها على الهندسة العصبية للأفراد ودينامية الجماعة، وهذا ما يوفره علم الأعصاب التربوي في السياق المدرسي.
- اللسانيات العصبية Neurolinguistics:
يرصد هذا المجال العلاقة بين اللسانيات والعلوم العصبية داخل شرنقة العلوم المعرفية. فهو علم يدرس اللغة والدماغ والسلوك، ويقوم على ” دراسة العلاقات المتبادلة بين الدماغ والسلوك اللغوي. مرادفها ألسنية نفسية عصبية ” (عطية،2022، ص21).
يُعرف هانك Hank اللسانيات العصبية في قاموس حديث اللغويات- العصبية بأنها:” فرع من اللغويات يتعامل مع ترميز المقدرة اللغوية في الدماغ”. (ليسر،2007، ص548). ويدرس الميكانيزمات الدماغية لسيرورات فهم وإنتاج اللغة، وفق اسهامات متعددة التخصص من علم اللغة والأعصاب والخوارزميات الحسابية.
لقد استفادت اللسانيات العصبية من الطفرة التقنية والآلية والحاسوبية في مجال البحث العلمي في الطب والجراحة والأحياء. حيث يمكن رصد النشاط العصبي المتدخل في المعالجة اللغوية داخل الدماغ، علاوة على تحليل أداء اللغة والاضطرابات التي قد تلحقها. وبهذا يتسع المدلول الاصطلاحي ليشمل ” دراسة الارتباطات بين التصنيف التشريحي السريري والتصنيف اللغوي للحبسة الكلامية”(Dubois,1967,p6). ويمكن تصنيف اضطرابات اللغة لاعتماد استراتيجيات تعليمية على نماذج لغوية نفسية معرفية حسب:
درجة الخلل العصبي الذي يعوق سيرورة المعالجة اللغوية بهيكل دماغي معين؛
تحديد العوارض الاكلينيكية للإنجاز اللغوي قصد وصف وتصنيف الحالات.
كما يؤكد الاتجاه التوليدي على أهمية اللسانيات العصبية، والتي تتمثل في بيان كيفية امتلاكنا لقدرات فطرية لغوية في الدماغ، وفي “توجيه دراسات اللغة الى قضايا داخلية ذهنية، تتمحور حول القدرة اللسانية التي يوظفها البشر في اكتساب اللغة وإنتاجها وتأويلها” (عطية، 2022، ص144).
يرى نعوم تشومسكي Noam Chomsky أن البنى اللغوية تتأسس على عمليات حيوية بيولوجية، وتوجد داخل الانسان قدرة فطرية مسبقة تعالج اللغة، سماها تشومسكي الإعداد المسبق للدماغ. فاللغة بوصفها إجراء تولديا يشكل الأوصاف البنيوية التي تتميز بخواص صوتية ودلالية وبنيوية، “لا تكون مؤهلة لتكون لغة إلا بفضل اندماجها في أجهزة الأداء”(تشومسكي،2009، ص79) .
بما أن اللسانيات العصبية ترجع البناء الوظيفي للغة الى شبكة الاتصالات العصبية والخلوية بالدماغ، فإن البحث التربوي أصبح في حاجة الى مقاربة المرتكزات البيولوجية لإنتاج اللغة والكلام، ليس فقط من أجل تشخيص وعلاج اضطرابات تعلم اللغة، بل من أجل تطوير استراتيجيات اكتساب اللغة والتعدد اللغوي.
ويسمى علم الأعصاب الإدراكي، لأنه مجال علمي يدرس المعالجات العصبية الكامنة وراء الإدراك. فهو “مجموعة من التخصصات التي تهدف الى تحديد طبيعة العلاقات بين الإدراك والدماغ” (Arboix-Calas,2018,p49). أما روبرت ستمبك (Robert Stembeg,1949) فيحدده في “علم يختص بدراسة كيفية إدراك الأشخاص للمعلومات وتعلمها، وتذكرها، والتفكير فيها” (عطية،2022، ص26).
يهتم علم الأعصاب المعرفي، إذن، بدراسة الأسس العصبية للعمليات المعرفية، وكيفية عمل الدماغ في إنتاج المعرفة. يرى العقل البشري نظاما معقدا يعالج المعلومات المدركة من خلال توجيه البحث الى المستوى الخلوي والدوائر العصبية للدماغ. ويستهدف هذا العلم فهم طبيعة وهيكل عملياتنا العقلية؛ حيث أصبح من الممكن وصف وتتبع الأنشطة الذهنية أثناء معالجة مهمة معرفية، فمثلا” أثناء قراءة جملة، يتم تحديد الهياكل البنيوية والوظيفية المتدخلة في معالجة القدرات المعرفية المتدخلة في سيرورة القراءة؛ بدءا من التقاط الرموز المكتوبة من المدخلات الحسية وإدراكها بصريا على مستوى الفص القذالي نحو المعالجة الدلالية على مستوى منطقة فيرنيك، في اتجاه المعالجة اللغوية والتحكم البيولوجي لجهاز النطق على مستوى منطقة بروكا، لتتم ترجمة اللغة المكتوبة الى لغة شفهية، ومعالجة اللغة القرائية حسب المناطق الدماغية ذات الصلة. (Dehaene,2007,p6).
بناء على ما سبق، نخلص الى وجود حواجز منهجية موضوعاتيا وبنيويا ووظيفيا، تحول دون تكامل نتائج الدراسات العلمية بما يخدم تجويد الفعل التعليمي-التعلمي وتطويره. مما فرض البحث عن حقل يستمد من هذه العلوم قوة مفاهيمها وعلمية منجزاتها في دراسة الدماغ أثناء تنفيذ مهام تعلمية، ثم يتدخل على ضوئها عمليا لتشخيص وتتبع وعلاج وتجويد الفعل التعلمي.
1-2 طبيعة وأصول علم الأعصاب التربوي
يبدو أن استثمار نتائج أبحاث الدماغ في العلوم التطبيقية أو الاكلينيكية، لم يكن كافيا لبلوغ الى ذروة الاستعمال الأمثل للدماغ البشري، خاصة في مجال التربية الغني بالتفاعلات المعرفية والحس حركية والانفعالية. مما طرح إشكالية ترجمة المعرفة الى مناهج واستراتيجيات وطرائق. فكيف يمكن الانتقال من العلوم العصبية نظريا الى الممارسة التربوية الواعية؟ كيف يمكن ضمان المساواة والانصاف في اكتساب التعلُّمات من خلال تنشيط أقصى للملكات الدماغية المعرفية عند المتعلمين بالرغم من اختلافاتهم الفردية؟
هناك نهج بديل عن المقاربات الأحادية للفعل التربوي في كل من التربية العادية أو التربية الخاصة، يربط بين العلوم المعرفية، وعلم الأعصاب وعلم النفس والتعليم. إنه علم الاعصاب التربوي. الذي يحاول إخراج العلوم العصبية المعرفية من عزلتها وبرجها العاجي، بسبب افتقارها للقدرة على توصيل نتائجها وترجمتها الى أفعال تعليمية تعلمية، تراعي فارقية ودينامية السياقات المدرسية.
نحاول في هذه الفقرة الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية، لتحديد مسار نشأة وتطور مفهوم ودور علم الأعصاب التربوي: ما هو علم الأعصاب التربوي؟ ماهي المراحل الأولى لنشأته؟ وكيف يتفاعل علم الأعصاب مع التعليم؟
- تعريف علم الأعصاب التربوي:
تخصص بحثي يهتم بدراسة القضايا التربوية خاصة داخل الفصول الدراسية على مستوى الدماغ، فهو يدور حول استخدام المعارف المتوفرة عن وظائف الدماغ وجعلها فعالة في حل المشاكل التعلمية أساسا.
يؤكد ماسون (Masson,2014) أن علم الأعصاب التربوي يسعى الى إنشاء جسر بين وظائف الدماغ والآليات المرتبطة بالتعليم والتعلم Brault Foisy et Masson,2020,p 219))، فهو مقاربة تدرس الآليات الدماغية المرتبطة بالتعلُّمات المدرسية والتعليم بغاية تحقيق فهم أفضل وتقديم الحلول الممكنة لبعض المشكلات التربوية.
نصل إذن الى تعريف عام لعلم الاعصاب التربوي باعتباره مجال بحثي متعدد التخصصات يسعى الى ترجمة نتائج الأبحاث حول الآليات العصبية للتعلم الى ممارسات وسياسات تعليمية بمعنى انه يبحث عن التنظيم السلوكي، واتخاذ القرار، والتحفيز، والتفكير، والوعي الأخلاقي Thomas M.S.C and al, 2019,p 480)).
- نشأة علم الأعصاب التربوي
نشأ علم الأعصاب التربوي نتيجة لتطور تاريخ البحث التربوي، ومر من ثلاث مراحل (Denis, Butterworth, Tolmi,2014,p2) قبل أن يصبح تخصصا منفصلا:
- المرحلة الأولى: التربية وعلم النفس
يدرس علم النفس السلوك، ويهتم التعليم بتأثير التعلم على السلوك، من هنا تظهر أهمية علم النفس في الكشف عن حقيقة الفروق الفردية في التعلم، حيث يختلف الأفراد على مستوى القدرات المعرفية في اكتساب اللغة، وتعلم القراءة والرياضيات، والتي يمكن قياسها بواسطة اختبارات نفسية ومقاييس للأنماط المعرفية من قبيل اختبارات الذكاء والذاكرة العاملة…كما تمت صياغة العديد من النظريات في علم النفس التربوي وعلم النفس المعرفي، لدرجة أن بروير(Bruer, 1997,p4) اعتبر أن هذا الأخير هو الجسر المنطقي الوحيد بين العلوم والتعليم. ونتتبع فيما يلي أهم المحطات التاريخية التي ساهمت فيها علم النفس في تطوير البحث التربوي:
*1833: دافع هربارتHerbart عن علمية علم النفس بالاعتماد على الميتافيزيقا والرياضيات. ومنها استمد نظريته التربوية في وضع طرق تجريبية للتدريس تقوم على العفوية واللعب مع استحضار البعد المعرفي التأملي، وبهذا كانت انطلاقة علم نفس الطفل وتجدد الطرق العلمية لعمل أصول التدريس في أواخر القرن التاسع عشر.
*1922-1930: دار نقاش بين إدوارد ثورندايك Edward Thorndike وبراونل Brownell حول كيفية تدريس الرياضيات؛ فالأول يؤكد على حفر روابط الأرقام البسيطة كنوع من التعلم الارتباطي. أما الثاني فقد طبق الأفكار النفسية على الممارسة التعليمية للرياضيات.
*افي الخمسينات والستينات من القرن العشرين: أثرت النظرية البنائية لبياجيه Piaget في الساحة التربوية وعلم نفس النمو خاصة حول التطور المعرفي، حيث يرى أن الطفل يبني مخططات جديدة للتعلم في حالة عدم إدراك المحفزات الجديدة بالمخططات القديمة.
*1978: يكشف التقييم النفسي أن بعض التلاميذ يعانون من صعوبات في تعلم القراءة، بالرغم من ظرفيتهم العادية صحيا واجتماعيا، فتوصل الباحثون النفسيون الى أن المتعلمين يعانون من عجز في تحليل البنية الصوتية للغة. ويرى براينت Bryant وبرادلي Bradly أن التدريب الصوتي قد يساعد ذوي عسر القراءة (Denis, Butterworth, Tolmi,2014,p3).
- المرحلة الثانية: علم النفس وعلم الأعصاب
نتج عن تعاون علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، تخصص علم الأعصاب المعرفي. ذلك أن النظرة البحثية للتعلمات المدرسية قد تغيرت. إذ أصبح البحث يدور حول كيفية المعالجات عصبية للمعرفة، ووظائف الهياكل البنيوية العصبية، مثل الوظائف التنفيذية والذاكرة والتعلم، والتساؤل حول الأساس العصبي للتعلمات واضطراباتها، وقد مرت هذه الدراسات من مسار تاريخي تتمثل أهم مراحله فيما يلي:
*1892: حدد دوجيرين Dejerine أدلة على الأساس العصبي لعسر القراءة والإملاء ((Denis,2014,p4؛ إذ تربط شبكة القراءة في الدماغ التعرف البصري في المنطقة السفلية مع الكلام، وكذا في التلفيف الجبهي السفلي ومع معاني الكلمات في الفص الصدغي الأوسط. وقد مكن ذلك من فهم أفضل الطرق الفردية للقدرة على تعلم القراءة في حالة عسر القراءة.
إنه مرتبط بانخفاض التنشيط في المنطقة الصدغية السفلية اليسرى، وببنية غير طبيعية في الفص الصدغي الأوسط الأيسر. هذه النتائج من شأنها المساعدة في تصنيف المتعلمين على أنهم معسرين في القراءة، وبالتالي يتم تكييف الطرائق والاستراتيجيات التعليمية، والامتحانات مع طبيعة القدرات التعلمية لديهم، ومحاولة تجاوز تلك الاضطرابات تربويا.
أخلص إذن، إلى أن أهمية الدراسات العصبية التي قام بها دوجيرين Dejerine على من يعانون اضطرابات في الادراك والتعلم والذاكرة، تكمن في الـتأسيس للقواعد العصبية للعمليات المعرفية ذات الصلة بمناهج التدريس؛ بنية الذاكرة وانواعها، وسيرورات المعالجة المعلوماتية وتخزينها واسترجاعها.
* دراسات (Warringto,1982) و(Caramazza and McCloskey,1987) و(Dehaene and Cohen,1995): بناء على دراسات عجز التنظيم الوظيفي للإدراك الرياضي عند عدد من المرضى، تم تحديد البنية التشريحية المسؤولة عن المعالجة الرياضية (Denis,2014,p4).
* منذ العقدين الماضيين: تطورت تقنيات تصوير الدماغ التقليدية في تطبيقات علم النفس منذ الثمانينيات (اختبارات بينيه Binet، القياسات السلوكية الدقيقة، قياس الوقت العقلي)، ومع حلول التسعينات، أمكن رصد السيرورات العصبية المواكبة للنشاطات التعلمية تكنولوجيا، فتم استخدام تقنيات التصوير العصبي متقدمة تستهدف دراسة الشبكات العصبية للمخ الكامنة وراء الوظائف المعرفية: تخطيط كهربة الدماغ EEG، والتحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء القريبة NIRS، والتصوير بالرنين المغناطيسي MRI.
*العقد الأول من القرن العشرين: وفر التصوير العصبي إمكانية التدقيق أكثر في العمليات المعرفية المسؤولة عن قدرات معرفية محددة لها علاقة بالممارسات الصفية، مثل: تتبع المعدل النمائي للذكاء اللفظي وغير اللفظي، الأساس العصبي للذاكرة اللفظية، الذاكرة المكانية، الفروق الفردية في تعلم القراءة…
- المرحلة الثالثة، ظهور علم الاعصاب التربوي:
وجه جون برويرJohn Bruer نقدا لاذعا لفكرة ربط علم الأعصاب بالتربية في مقاله الشهير المعنون ب “التعليم والدماغ: جسر بعيد جدا”. حيث أشار الى وجود مسافة كبيرة بين علم الأعصاب والفصل الدراسي. لكن بعد مرور خمسة وعشرين سنة، وتحت رقابة لجان أخلاقيات البحث (مثلا لجنة أخلاقيات البحث المشتركة لإعادة التصوير العصبي بكيبيك)، أمكن تتبع نشاط الشبكات الدماغية أثناء أداء مهمة تعلمية، ثم تدريب المختبرين على تقنيات لتحفيز وتنشيط الاتصالات الكهربائية والكيميائية بين التشابكات العصبية للبنيات المستهدفة.
كما أن الانتاجات الغزيرة (رغم قصر مدة ميلاد هذا التخصص في 2007) من اكتشافات ودراسات ومقالات وتحديد طرق التشخيص والتقييم والعلاج التعلمي للأسوياء وذوي التربية الخاصة، ساعد في ضبط الفروق الفردية بين المتعلمين، وتفييئهم حسب نوع الاضطراب: اضطرابات تعلم القراءة، الكتابة، الحساب، اضطراب تطور اللغة، والتطور الاجتماعي والعاطفي… كلها فروق وحالات يمكن الكشف عنها بربط القدرة المعرفية والوظيفة التنفيذية وسيرورات المعالجة العصبية.
يوصف علم الأعصاب هنا، بأنه “الدراسة التجريبية للدماغ والجهاز العصبي المتصل، يلقي الضوء على تأثير تركيباتنا الجينية على التعلم على مدار حياتنا، بالإضافة الى العوامل البيئية.. وهذا يمكننا من تحديد المؤشرات الرئيسية للنتائج التعليمية ويوفر أساسا علميا لتقييم مناهج التدريس المختلفة” (Sander,2021,p134).
إن الانتقال الى الممارسة التعليمية على أساس عصبي، تحتاج الى مقاربة بين تخصصية، تقوم على وحدة الموضوع والهدف؛ تطوير وصقل الممارسة التعليمية التعلمية من شأنه تطوير العمليات النفسية المعرفي العصبية للمتعلم. وهذا ما ذهب إليه لوريلارد (Laurillard,2007) مبدأ “قابلية التشغيل البين-منهجي méthodological interopérability”، حيث يقر بأن التربية وعلم النفس بفرعه المعرفي وعلم الاعصاب هي مباحث تختلف من حيث التخصص والمنهجيات، إلا أنه من الضروري أن يختبر كل تخصص نتائج الآخر إذ يمكن إيجاد منطقة تقاطع، يتم التوسط بقابلية التشغيل البيني المنهجي لها من خلال نماذج حسابية واضحة لعملية التعلم” (Denid,2014,p7).
بناء على ما سبق، ينتج علم النفس نظريات التعلم، التي تتوقع عمل الأنظمة المعرفية، أما علم الأعصاب فيتفاعل عبر مسارين مختلفين (Thomas M.S.C and al, 2019,p 480.): الأولى يكون غير مباشر عبر علم النفس، يسعى فيها علم الأعصاب لاستخدام أدلة لتعزيز النظرية النفسية. أما الثاني فمباشر، يعتبر المخ عضو بيولوجي، ويسعى الى تحسين النتائج التعليمية من خلال تحسين صحة الدماغ، مستحضرا بذلك العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة على المعالجة العصبية المعرفية، من قبيل؛ المكان، الزمان، المنبهات الخارجية وتأثيرها على الانتباه والادراك، العامل الغذائي، التنفسي (هواء نقي)، اللياقة البدنية، الغذاء، نوعية وكمية التعلمات…وبالتالي كل ما يهيئ الدماغ للوضعية المثلى للتعلم.
- مسار تطور علم الأعصاب التربوي:
انطلقت مجموعة من المشاريع العلمية والمجتمعية لدعم وتعزيز التوجه العلمي العصبي نحو الانفتاح على الممارسة التربوية، قبل أن يتم الإعلان عن ميلاد علم الأعصاب التربوي سنة2007:
*1988: تأسيس ما سمي بالمجتمع المتعلم” الدماغ وعلوم الأعصاب والتعليم” فرع الجمعية الأمريكية للبحوث التربوية (AEREA).
*1999: أطلق مركز التعاون الاقتصادي والتنمية للبحوث التربوية والابتكار (CERI) مشروعا معنون ب”علوم التعلم وبحوث الدماغ”(OCDE,2007,3).
*2002: تنشر منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OECD)) كتاب وتقرير بعنوان” فهم الدماغ: نحو علم جديد للتعلم” comprendre le cerveau: vers une nouvelle science de l’apprentissage””. ويسعى الى التعريف بالدماغ بيولوجيا وفيزيولوجيا، وتبيان كيفية تحسين الممارسات الصفية وتكييفها في مواضيع القراءة، الكتابة، الحساب والتعلم مدى الحياة.
*2004: إضافة (OCDE) جزء خاص بالعواطف في التعلم، وإنشاء منصة تفاعلية لتجميع أبحاث الممارسين. كما اعتمدت جامعة هارفرد Havard برنامج دراسي يرتكز على أبحاث الدماغ في التربية.
*2007: منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) “فهم الدماغ: ولادة علم جديد للتعلم” ” comprendre le cerveau: vers une nouvelle science de l’apprentissage”.”
*2014: أطلقت مؤسسة Education Endowment Fondations (EEF) في المملكة المتحدة مخطط التعليم وعلم الأعصاب Wellcome Trust، بهدف توفير التمويل للمشاريع التعاونية بين رجال التعليم وعلم الأعصاب سعيا لتطوير أبحاث قابلة للتطبيق في الفصل الدراسي.
ولازال هذا المجال يطرح عدة أسئلة، جلها قيد الاختبار:
- هل الفهم الأفضل للدماغ يساعدنا على تدريس أفضل؟ لماذا يسهل على متعلمين إنجاز عمليات حسابية، ويصعب عليهم التمثيل الهندسي لأشكال معينة؟
- ما هي أفضل طريقة لتدريس القراءة؟
- ما تأثير العقاب والثواب على الأداء المعرفي العصبي، المهاري، العاطفي والاجتماعي؟
- هل التركيز على المدخلات الحسية في التعلم يكثف التشابكات والاتصالات العصبية في الباحات المسؤولة عنها؟
- محددات علم الأعصاب التربوي
1-2 مجالات علم الاعصاب التربوي :
تجاوزت تطبيقات علم الأعصاب مجالات الصحة النفسية والعقلية والاقتصاد والتسويق والسياسة وحتى فك رموز الخطابات…الى التربية والتعليم؛ مجاله المميز والعصي بفعل تنوعه وديناميته، حيث يقوم بتوجيه استراتيجيات التدريس بما يتناسب مع طرق التعلم، من خلال تحديد السيرورات المعرفية العصبية عند المتعلمين الأسوياء، ذوي اضطرابات التعلم والاحتياجات الخاصة من أجل تكييف التخطيط البيداغوجي للفعل التعليمي، ونهج طرق تدريسية ووسائل فعالة، لا تراعي فقط حدود القدرة المعرفية للاكتساب عند المتعلم، بل تسعى الى الرفع من تحفيز: الارتباطات العصبية، والجهد الكهربائي بين المشابك الخلوية، وإفرازات النواقل العصبية كالدوبامين (مهم للتعلم والاتساق الحس-حركي والذاكرة) وتعديل وعلاج اختلالات المعالجة الدماغية للتعلمات المدرسية
من هنا يمكن استخلاص ثلاثة مجالات بحثية رئيسية للتربية العصبية (Masson,2007,p311)، تسمح بدراسة مختلف المشكلات التربوية على أساس عصبي.
المجالات | تعريفه | فروعه |
البيداغوجيا العصبية Neuropédagogie
|
مجال يدرس الآليات العصبية المرتبطة بالعملية التعليمية-التعلمية دون الإحالة الى الخلفيات المرجعية للتخصص المدَّرس | -البيداغوجيا العصبية للإدراك
– البيداغوجيا العصبية للانتباه – البيداغوجيا العصبية للتعلم – البيداغوجيا العصبية للذاكرة – البيداغوجيا العصبية للميطا-معرفة – البيداغوجيا العصبية للعواطف – البيداغوجيا العصبية الحركية |
الديداكتيك العصبية Neurodidactique
|
مجال يدرس الآليات العصبية المرتبطة بتعلم المواد المدرسة وتدريسها | – البيداغوجيا العصبية للغات
-البيداغوجيا العصبية للرياضيات – البيداغوجيا العصبية للقراءة – البيداغوجيا العصبية للعلوم – البيداغوجيا العصبية للموسيقى |
التكيف العصبي المدرسي
Neuro adaptation scolaire |
مجال يدرس دماغ المتعلمين من ذوي صعوبات تتعلق بالاندماج أو التكيف في النظام المدرسي | -التكيف العصبي لاضطراب السلوك
-التكيف العصبي لاضطراب تشتت الانتباه -التكيف العصبي للموهوبين |
2-2التغييرات المفاهيمية في علم الاعصاب التربوي :
شجعت ثلاثة اكتشافات المجتمع العصبي لتركيز جهوده في الأبحاث التربوية؛ أولا: التعلم يعدل بنية الدماغ. ثانيا: يؤثر البناء الهيكلي للدماغ على التعلم. ثالثا: يؤثر التعليم في تطور الدماغ (Masson,2007).
هذا الاقتحام لأسرار الدماغ، غير حمولات مجموعة من المفاهيم، التي كانت عصية عن الاستعمال خارج السياق العصبي في المختبرات الطبية. نجدها اليوم تسد الفجوة بين علم الاعصاب والتعليم؛ من أهمها: اللدونة العصبية، إعادة تدوير الخلايا العصبية، آلية التثبيط العصبي.
- اللدونة العصبية Neuroplasticity:
تمثل “قدرة الدماغ على التغير بشكل تكيفي أثناء التعلم والذاكرة”(Ischinger,2007,34)، فهي آلية عصبية تسمح بإعادة تنظيم بنيوية ووظيفية للتشابكات العصبية. يتم إنشاء ارتباطات عصبية وتعديلها وتقويتها حسب نوعية التعلم، ومدة التعلم مما يحيل على قدرة الدماغ على التعلم مدى الحياة بفضل مرونة الخلايا وقابليتها للتعديل والتطور. كما وتضعف الاتصالات الخلوية ويتم القضاء على شبكاتها في المناطق غير العاملة. وقد سبق ان أكدت أعمال هب (Hebb, 1949) على أن تعديل الوصلات العصبية في الدماغ يؤدي إلى تغير في السلوك، نتيجة اتصال الخلايا العصبية ببعضها أثناء سيرورات المعالجة المشتركة. (يوضح هب (Hebb, 1949) أهمية اللدونة العصبية في ربط التعليم بأبحاث الدماغ، بالتمثيل التالي: عندما يكون محور عصبي Aقريبا بدرجة كافية لإثارة الخلية Bويشترك بشكل مستمر في تحفيزها وتنشيطها. تحدث بعض سيرورات النمو أو التغيير الأيضي في خلية واحدة أو كلتيهما بحيث تزداد كفاءة Aبشكل متناسب معB والخلايا الجديدة التي أطلقتها. وهذا ما يفسر مثلا نسيان تعلمات معينة لأن الخلايا العصبية لا تشتغل معا لمدة معينة، أو مقاومة التعلم الجديد بسبب مكتسبات خاطئة سابقة نتيجة رسوخها بقوة في شبكات عصبية نشيطة عمليا.
- إعادة التدوير العصبي Neuronal Recycling:
نتساءل بداية؛ إذا كان الدماغ مرنا وقابلا لاكتساب أي قدرة أو مهارة جديدة، فلماذا لا تعالج أدمغة المتعلمين على اختلافها المعلومات المدرَّسة وبأي طريقة كانت؟
لقد أظهرت أبحاث علم لأعصاب الحديثة “أدلة متزايدة على أن الدماغ ليس مرنا تماما (Dehaene,2005; Dehaene et Cohen,2007)، وأن بعض المناطق أكثر استعدادا من غيرها لاكتساب قدرات جديدة” (Masson,2014,504). فبالنسبة لتعلم القراءة مثلا، ترتبط قراءة الحروف والكلمات بالتنشيط المنهجي للقشرة الصدغية اليسرى من المخ. وهي منطقة التعرف البصري على اشكال الكلمات VWFA، تغزو هذه المنطقة المناطق القريبة من القشرة البصرية الأولية؛ التي كانت مخصصة بيولوجيا للتعرف على أشكال الوجوه والأشياء لتستبدلها بالتعرف على الحروف والكلمات، أولا، نظرا لتقاطعها مع العصب البصري بالمنطقة القذالية، ثانيا، لأن معظم الأطفال يطورون المناطق اللغوية المرتبطة بالمنطقة اليسرى قبل مرحلة القراءة.
هذه العملية التي قمنا بوصفها وتحليلها، أطلق عليها عالم الأعصاب المعرفي ستانيسلاس ديهان (Stanislas Dehaene,2005) مفهوم” إعادة التدوير العصبي” وهي العملية التي يتم من خلالها غزو دوائر الدماغ الأقدم تطوريا بواسطة اختراعات ثقافية جديدة مثل القراءة والكتابة والحساب. حيث تقوم إعادة التدوير العصبي على إعادة التنظيم العصبي الخاضع لقيود وراثية وتطورية، واستحواذ الوظائف والمهارات التعلمية الجديدة (الادراك البصري، الانتباه، العد…) على التيارات العصبية بالمناطق القريبة والشبيهة وظيفيا؛ فعلى سبيل المثال: يميل الأطفال الى النظر في الوجوه، يستكشفون الإيماءات ويفككون رموزها، تتم إعادة تدوير هذه المناطق لمعالجة ترميز اللغة المكتوبة لتعلم القراءة بعد الالتحاق بالمدرسة. في نفس سياق تمثيل اسهام هذه الآلية في وصف وتحليل العمليات العصبية للتعلم؛ تفسر صعوبة تمييز p/qأو b/d قراءة بالميل الأصلي لنظام التعرف البصري لتعميم صورة المرآة.
- آلية التثبيط العصبي Neural inhibition
يشير هذا الميكانيزم الى” عمليات كبت الحافز الذي يسحب استجابة منافسة من أجل تنفيذ استجابة أولية أو قمع المشتتات التي تبطئ الاستجابة الأولية” (Xie,2017,page1). فالبنية الدماغية الأولية تؤثر في المعالجة العصبية للتعلم، بالإيجاب في حالة استخدام اتصالات عصبية بمناطق التعرف البصري على الأشياء لإعادة تدويرها لتؤدي وظيفة التعرف والإدراك البصري لكن على الحروف والكلمات لقراءتها. وبالسلب إذا ترسخت المفاهيم الخاطئة وتشبت التلاميذ بتمثلاتهم غير الصحيحة نتيجة لمكتسبات البنى الدماغية الأولية، هنا يجب تثبيط تحفيز الشبكات العصبية غير المناسبة لفعل التعلم، مع تنشيط مناطق التثبيط العصبي في الباحة الجبهية الجانبية (VLPC)، الباحة الأمامية الجبهية (DLPC) والباحة الحزامية الأمامية(ACC)(Masson,2014,p505).
ففي حالة الديسليكسيا، يساهم تشتت الانتباه في إعاقة الادراك البصري لصورة الكلمة، مما يدع المتعلم الى تعويضها بكلمة قربة شكلا. يتدخل المدرس هتا باستراتيجية تدريسية تثبط معجم الذاكرة العاملة وتحبس المثيرات غير النافعة في تعرف الحروف لصالح المعالجة القذالية المسؤولة على التعرف البصري، فمثلا يقوم بتغطية النص مع ترك الكلمة المعنية ظاهرة، أو تتبع حركة الأصبع على الكتاب بواسطة العين مع القراءة.
نجمل ما سبق، في الخطاطة أسفله، لتبيان المفاهيم الرابطة بين التدريس والدماغ، والتغييرات الدماغية الناتجة عن نوعية التدريس الموجه لانتباه التلاميذ.
- مواضيع علم الأعصاب التربوي
لا يتسع المقال لطرح جل المسائل المطروقة بحثيا من علم الأعصاب التربوي، لكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الادراك البصري والسمعي، الحدس العددي، التعلم العصبي للقراءة، للكتابة، للحساب، العاطفة العصبية، الأخلاق العصبية… وبالتالي سنتحدث عن موضوعين مركبين وحاضرين بقوة في دراسات التربية العصبية؛ الوظائف التنفيذية واضطرابات التعلم.
أ- الوظائف التنفيذية:
هي مجموعة من العمليات المعرفية ذات الصلة بالمجالات الأكاديمية، وتتضمن المرونة والتحكم المعرفي؛ تتجلى المرونة من خلال تحقق دراسات علم الأعصاب المعرفي في كيف أن تطور الوظائف التنفيذية في سن أصغر ينبئ باستعداد أكبر للتحصيل المدرسي، وفي عمر متقدم يرتبط باستمرار تطور مناطق الدماغ الجبهيةThomas M.S.C and al, 2019,p 484)). أما التحكم المعرفي، فيربطه علم الأعصاب التربوي بتنظيم مشاعر الأطفال في سياقات تربوية، ففيما يتعلق بقلق الرياضيات مثلا أشار كل من بيلوك وميلوني (Beilock and Maloney,2015;Chang and Beilock,2016) الى أن العاطفة والادراك الاجتماعي للعلاقات بين المتعلمين والمدرسين له تأثير في كيفية ارتباط العاطفة بتطوير علاقات مناطق الفص الجبهي بالأجهزة الجوفية المسؤولة عن التعلم المحدد (نفس المرجع).
- ب- الاضطرابات النمائية والأكاديمية
يحسب لعلم الأعصاب التربوي منجزه الهام في مجال التربية الخاصة والمقاربة الفردية الفارقية في التربية العادية. إذ يسعى الى دمج وتلبية احتياجات متعلمين يعانون من اضطرابات نمائية في العمليات المعرفية العصبية وتؤثر في تحصيله الأكاديمي؛ من قبيل اضطرابات اللغة، نقص الانتباه، اضطراب في وظيفة تنفيذية… وكذا اضطرابات التعلم الأكاديمية مثل اضطرابات تعلم القراءة، اضطرابات تعلم الكتابة، اضطرابات تعلم الحساب.
نشير هنا الى تصدع معرفي واصطلاحي مزدوج؛ أولا: توصيف حالة متعثري الفصول الدراسية العادية في التعلم الأكاديمي. حيث يصنفون مرة في خانة بطئي التعلم، ومرة متأخرين دراسيا، ذوي صعوبات التعلم. ثانيا: خلط بين مصطلحي اضطرابات التعلم Learning Disorders وصعوبات التعلم Learning Disabilities
ولحل هذا الاشكال، نحيل على المراجعة الخامسة من الدليل المرجعي التشخيصي للإحصاء والاضطرابات النفسية DMS-5 سنة 2013، حيث عرفت اضطرابات التعلم المحدد SLD بأنها “اضطراب في النمو العصبي ذو مصدر بيولوجي يرتكز على شذوذ في المستوى المعرفي”(DMS-5,p65) ، يعني أن الاضطراب مصطلح طبي يعكس خللا في الوظيفة العصبية والنمائية للعمليات النفس معرفية للإنجاز العقلي. ويعاني منه أطفال سليمين من الإعاقة الظاهرة (بصرية أو سمعية) وذوو ذكاء متوسط أو فوق المتوسط ومن أوساط اجتماعية طبيعية، وبالتالي هم في حاجة الى اختبارات نفسية معرفية عصبية لتشخيص نوع الاضطراب التعلمي (ديسليكسيا، عسر الحساب…)، وطرق تدريسية مختلفة. أما مصطلح صعوبات التعلم فهو متداول في الميدان التعليمي، ليشير الى عجز بنيوي عقلي أو جسدي يعوق الأداء التعلمي، من جهة أخرى قد تقترن الإعاقات باضطرابات التعلم، مما يفرض على أهل الاختصاص الطبي والتربوي السعي الى إعادة تأهيل وإدماج الطفل في الأنشطة الحياتية. نوضح ما سبق من خلال الخطاطة التالية:
نذكر إذن أن بطء التعلم أو التأخر الدراسي هي حالات تعثر تربوي متعلقة بالسياق النفسي أو الاجتماعي أو المدرسي للمتعلم، ما أن نعمل على حل المشكل (عنف، تعليم سلبي أحادي الفعل، نمطية الطرق التدريسية..) حتى يزول العائق. وبالتالي نخلص الى أن اضطرابات التعلم المحدد ترتبط بخلل وظيفي ذو أصل عصبي في الدماغ. الكشف عنه يتطلب مقاييس تشخيصية تربوية ترتكز على مخرجات علم الأعصاب، لاقتراح حلول وتدخلات علاجية تستهدف تطوير روابط المدخلات الحسية بمعالجة سيرورات التعلم داخل المنطقة الدماغية المسؤولة عن التعلم المحدد.
3- رهان علم الأعصاب التربوي، التحديات والآفاق
- سؤال رهان علم الاعصاب التربوي
ما الذي يدفعنا الى علم الاعصاب التربوي؟ وجود وضعيات تعليمية تعلمية خاصة، يصعب فيها تشخيص وتحديد الطرائق والاستراتيجيات الفعالة لمعالجتها، فاضطرابات التعلم المحدد هي حالات تشكو من صعوبات في تعلم اللغة والقراءة والكتابة والحساب، غير أن أصلها خلل عصبي في هيكل بنيوي أو وظيفي محدد، ينتج عنه ضعف أو غياب استجابة الاتصال العصبي فيها لمعالجة المعرفة المدرسية.
لهذا يفتح علم الاعصاب التربوي باب الممارسة العلمية الواعية للمدرسين، قصد تشخيص وتفيء متعلميهم بواسطة اختبارات ومقاييس، تستهدف تحديد مكمن الخلل بناء على نقطتين أساسيتين:
- المعرفة العلمية المسبقة للمدرسين والمتحصل عليها من نتائج دراسات سابقة للدماغ في مختبرات علم الأعصاب المعرفي، أو من تكوينات مؤسساتية بين تخصصية في علوم المعرفة وعلوم التربية وعلم الاعصاب.
- التجليات السلوكية أثناء إنجاز مهمة تعلمية داخل اختبارات التشخيص، من شأنها أن توجه المدرس الى تحديد أولي للاضطراب التعلمي، وطلب رأي وتعاون أصحاب الاختصاص (اخصائي نفسي، أخصائي النطق والتواصل، أخصائي حس-حركي) لتأكيد الحالة.
نشير هنا الى مثال لاختبار الفرز النيورولوجي السريع QNST لتشخيص ذوي صعوبات التعلم المتعلق بالكفاءة العصبية لموتى مارجريت وستيرلينج هارولد وسبولدنج تورما في 1978، من إعداد وتقنين عالم النفس الفيزيولوجي عبد الوهاب محمد كامل سنة 1989 (سليمان عبد الواحد،2020، ص310).
إن فهم عمليات التعليم والتعلم المبنية على أبحاث الدماغ، يساعد أصحاب القرار في اتخاذ إجراءات تخطيطية وتنفيذية للسياسة التربوية، علاوة دفع المدرسين لتجويد أساليبهم وتحسين مهاراتهم التعليمية، وكذا توعية الآباء لخلق بيئة تربوية أفضل لأطفالهم. هذا لا يعني أنه يمثل المصباح السحري لإصلاح التعليم، بل يقود الممارسة التربوية على ضوء أسئلة كثيرة تجد أجوبتها بالإحالة على تخصصات الفلسفة وعلوم الاجتماعية وعلوم التربية، والعلوم المعرفية، لكن دون إقصاء لعلم الأعصاب. لأن هذا الأخير يقدم أدلة حول كيفية ونوعية التعلمات التي يستجيب لها الدماغ مع تحديد زمن التعلم ووقته الأنسب لتنشيط أكبر للشبكات العصبية المسؤولة عن ذلك.
فمثلا؛ يشير ديهان في كتابه La bosse des math (Dehaene,2010) إلى أن الانسان يولد وهو يمتلك الحدس الرياضي، لكن بفعل تفاعل الرضيع والطفل فطريا مع هندسة الفضاء في مهده أو بيته، عقد مقارنات عددية بسيطة بين مجموعات الحلوى أو الألوان مثلا تتطور الارتباطات العصبية في التلفيف الزاوي والمنطقة الصدغية الأولية لتنتقل الى تعقيد الشبكات العصبية نتيجة تكثيف التداريب المدرسية. حتى عندما يبلغون درجة الاحتراف في الرياضيات فإن المتعلم يصل الى ربط العلاقات المجردة واتخاذ القرارات المنطقية، مع ربط الرموز الحسابية والهندسية باللغة المكتوبة والشفهية… هنا وجب مراعاة التدرج البيداغوجي في تقديم المعارف الرياضية (العددية والهندسية والقياسية) من البسيط الى المعقد، ومن الحسي الى المجرد، ومن المحاكاة الى الابداع والاختراع.
- آفاق وتحديات علم الاعصاب التربوي
في الواقع، يعتبر التشكيك والتخوف الذي يحيط بهذا العلم الفتي، منطقيا ومطلوبا. في ظل غياب صمام الأمان من تدخل غير المختصين والخبراء علميا وتربويا، في تصميم أدوات تعليمية وتدخلية زائفة (مثل بعض التطبيقات الرقمية للتعلم) أو أن يكون التدخل أكثر ولاء لنتائج عصبية صارمة مختبريا (مثل وحدة وتعميم القانون العصبي). فلابد من مراعاة الفروق الفردية في تطور التفكير واللغة والتطور الاجتماعي والعاطفي لما له من تأثير في تعديل أو كبح السيالات العصبية التي تنتج أثناء سيرورة.
هذا الذي يخيلنا على التأكيد على أن اتساع افق علم الأعصاب التربوي رهين بشرطين أساسين:
- أولا، يحتاج علم الأعصاب التربوي الى رفع التوتر مع منتقدي علمية هذا الحقل، على اعتبار أنه فقط ترجمة لعلوم المعرفة العصبية وتنحصر تدخلاته في نشر الكتب تمويل مشاريع التجارب المخبرية، كما أن تطبيق العلوم الأساسية في الصل ليس بالأمر الهين نظرا لتعدد أنظمة التعلم.
- ثانيا: التركيز على المقاربة الأخلاقية في معالجة القضايا العصبية-التربوية. حيث إن مدار التعلم المدرسي، أطفال ومراهقين، وإن كانت غايتنا الرفع من القدرة المعرفية للمتعلمين، فيجب استحضار البعد الإنساني، والحذر من تشيء الأفراد من خلال تجريدهم من العوامل الاجتماعية واللغوية. علاوة على ذلك، يجب أن تطبيق مبادئ أخلاقية صارمة في استخدام الاختبارات والمقاييس التنبؤية للنتائج العلمية.
4- توصيات البحث
- الدعوة الى إعداد مصوغات تكوينية تستهدف تعزيز فهم العمليات الذهنية والآليات العصبية المتدخلة في السيرورات المعرفية والميطا-معرفية أثناء التعلم.
- تدريب رجال ونساء التعليم على اختبارات تشخيصية واستراتيجيات تدريسية علاجية ممكنة التطبيق في مختلفة البيئات المدرسية، بشراكة مع مختلف الفاعلين في العلوم العصبية بفروعها.
- تفعيل المقاربة التشاركية والبين التخصصات في التعامل مع القضايا التعلمية تشخيصا، تدخلا، علاجا وتتبعا، وفي السعي إلى تطوير الأساليب التعليمية القائمة على مخرجات دراسات الدماغ العصبية المعرفية.
- استحضار نتائج البحث العصبي التربوي في التخطيط التعليمي التعلمي للمناهج والمقررات والأنشطة الدراسية.
- الدعوة الى عقد شراكات بين الجهات المؤسساتية المسؤولة لتشجيع البحث العلمي وتسخير مختبراتها للدراسات الجادة.
- قائمة المصادر والمراجع
- أحرشاو الغالي، العلوم المعرفية: من مخاض التعريف والتأسيس إلى رهان التطبيق والاستثمار، المجلد 3 العدد 2 ص 7، المجلة العربية لعلم النفس، فاس سنة 2018.
- بوشيت محجوبة، التطور المشترك للغة والمخ من منظور اللسانيات المعرفية العصبية لتيرنيس ديكون، المجلة الأمريكية الولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد الحادي عشر الجزء الثاني، أبريل 2022.
- تشومسكي نعوم، آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل، ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، الطبعة الأولى، 2009.
- تيبرغيان غي وآخرون، قاموس العلوم المعرفية، ترجمة جمال شحيد، مراجعة مصطفى حجازي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، دجنبر2013.
- تيرنس دبليو ديكون، الانسان.. اللغة.. الرمز: التطور المشترك للغة والمخ، ترجمة شوقي جلال، نشر المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2014.
- رسل لوف وواندا ويب، علم الأعصاب للمتخصصين في علاج أمرا اللغة والنطق، ترجمة: محمد زياد يحيى كبة، النشر العلمي والمطابع، الرياض، 2007.
- عطية سليمان أحمد، في اللسانيات العصبية…المعالجة اللسانية للغة، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، الطبعة الأولى، 2022.
- سامي عبد القوي، علم النفس العصبي: الأسس وطرق التقييم، مكتبة أنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 2011.
- سليمان عبد الواحد يوسف، الكفاءة السيكومترية لاختبار المسح النيورولوجي ” الفرز العصبي السريع QNST” وفاعليته في الكشف عن الأفراد ذوي صعوبات التعلم: دراسة ميدانية تقييمية نقدية مقارنة للنسختين العربيتين، دار المنظومة، 2020.
- سولسو روبرت، علم النفس المعرفي، ترجمة الصبوة محمد نجيب، كامل مصطفى محمد، الدق محمد حسنين، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 2000.
- ARBOIX-CALAS France, Neuroscience cognitives et sciences de l’éducation : vers un changement de paradigme ? Open Edition journals, Education et socialisation Les cahiers du CERFEE, 49/2018.
- Brault Foisy Lorie-Marlène et Masson Steve, Mieux comprendre les mécanismes cérébraux d’apprentissage pour faciliter la mise en application des connaissances issues de la recherche et favoriser la réussite scolaire des élèves, Cortica, 2022.
- Bruer John, Education and the Brain: Abridge Too Far, Educational Researcher, vol 26, No 8, pp4-16,1997.
- Dale Pruves, Neuroscience, Scholarpedia.org, 2009.
- Dehaene Stanislas et all, Pédagogie et manuels pour l’apprentissage de la lecture : comment choisir ? Analyse menée par le groupe de travail pédagogie et manuels scolaires du conseil scientifique de l’éducation nationale (Csen), en collaboration avec l’académie de Paris en 2018-2019.
- Gaussel Marie, Reverdy Catherine, Neurosciences et éducation : La Bataille Des Cerveaux, Dossier d’actualité veille et analyses, IFé, n°86, Septembre 2013.
- Jean Dubois, Langages, Pathologie du langage, Didier Larousse, n°5, mars 1967.
- Mareschal Denis, Butterworth Brian, Tolmi Andy, Educational Neuroscience, Wiley Blackwell, 2014.
- Masson steve, Enseigner les sciences en s’appuyant sur la neurodidactique des sciences, LRN,2007. http://labneuroeducation.org/s/Masson2007.pdf .
- Michael S.C Thomas and Daniel Ansari, Neuroscience de l’éducation, Pourquoi les neurosciences sont-elles pertinentes pour l’enseignement ? Educational Neuroscience; Development Across the Life Span, Frontiers Of developmental science, 22 juin 2020.
- Sander Emmanuel, Du cerveau à la classe, un pont toujours aussi loin ? Université de Genève “Raisons éducatives”, CAIRN.INFO : Matières à Réflexion, 2021/1N°.
- Siéroff Eric, La neuropsychologie, Approche cognitive des syndromes cliniques, Cursus, ARMAND COLIN, Octobre2004, Belgique.
- Thomas M.S.C and al, Annual Research Review: Educational Neuroscience: progress and prospects, The journal of child Psychiatry, 2019.
- Xie Liufang, Ren Maofan, Cao Bihua and Li Fuhong, Distinct brain responses to different inhibitions, Evidence from a modified Flaker Task, Scientific Reports,27 July2017.
مقال ممتاز جدا
استمروا
شكرا جزيلا