حوراء شهيد حسين
مديرية تربية ذي قار
hwrashhyd964@gmail.com
009647811645587
الملخص:-
تنتمي هذه الدراسة إلى حقل الدراسات التي عدّت النص بنية خُطاطية نحو صنع الأثر الجمالي ،ودلالته معاً بتفاعل القارئ مع النص ، فالأثر الجمالي لا يوجد في النص ،ولا عند القارئ بل في نتائج التفاعل بينهما ،والنص يُولد من جديد حينما يقرأه الآخر ،ويتفاعل معه، وعلى وفق هذا التصور انتقت الدراسة تقنية “الفراغ الباني ” بوصفه ظاهرة جمالية بلورها وثبت أصولها الألماني “فولفغانغ إيزر” في تحديده قطبي القراءة بقطب فني وهو النص ،وقطب جمالي وهو ما يحققه القارئ بتفاعله مع النص؛ لذا عمدت الدراسة إلى استثمار هذا المجس الاستراتيجي لإضاءة البياضات ،والفجوات ،والنفيّات الممتدة على جسد ديوان “عمره الماء لعارف الساعدي”، من أجل تفعيل عملية التواصل بين النص والقارئ. توزعت هذه الدراسة على ثلاثة محاور: المحور الأول: تقنيات البياض، واشتمل على : أ- التركيب البياني ، ب- التداخل النصي .المحور الثاني: الشغور واشتمل على : أ- سرد الأصوات المتعددة، ب – التلخيص . المحور الثالث :أشكال النفي ، واشتمل على: أ- نفي العنصر الثقافي ، ب- نفي العنصر الثقافي ، ج -النفي الديني.
الكلمات المفتاحية : البياضات ؛ الشغور ؛ سرد الأصوات المتعددة ؛ التلخيص؛ أشكال النفي
The aesthetic of interaction in the Diwan of “Omar Al-Water” by “Arif Al-Saadi”, reading
in the technique of the builder vacuum
Hawraa Shahid Hussain
Dhi Qar EDirectorateducation
:Abstract
This study belongs to the field of studies that enumerate the text with a linear structure towards making the aesthetic effect, and its significance together through the reader’s interaction with the text. The aesthetic effect is not found in the text, nor with the reader, but rather in the results of the interaction between them. According to this perception, the study selected the “constructive space” technique as an aesthetic phenomenon that was crystallized and its German origins proved to be the German “Wolfgang Eiser” in defining the two poles of reading with an artistic pole, which is the text, and an aesthetic pole, which is what the reader achieves through his interaction with the text; Therefore, the study intended to utilize this strategic sensor to illuminate the linens, gaps, and debris extending over the body of “Abi Al-Shamaqmaq” to activate the communication process between the text and the reader. This study was divided into three axes: (1) the techniques of albedo and included: a- graphic structure, b- intertextuality, c- symbol. (2) vacancy, and it included: a- multiple voices listing, b- summary. (3) Forms of negation, and included: A – the negation of the cultural element, b – the negation of the class criterion, C – Religious exile.
Key Words: Linens; Vacancy; Listing multiple sounds; Summarization; Forms of negation
المقدمة :
يرتبط المتكلم بالقارئ بوشائج متينة ، وذلك تبعاً للعبارات الإيحائية التي يرسلها أحدهما إلى الآخر ، وبتفاعلهما تتحقق العملية الإبلاغية في النصوص الأدبية . إنَّ الالتفات إلى الدور التفاعلي الذي يؤديه كلا من القارئ والمتكلم لحظة قراءة النص الأدبي ، كان قد اضطلع به عدداً من الدارسين وقد تفاوتت آرائهم حيال ذلك، وفي هذا الصدد يستوقفنا رأي ” ميخائيل ريفاتير ” الذي وضح ميزات اللغة الشعرية ،وكان يؤمن بوجود نواة دلالية رحيمة في كل نص أدبي ،وأنَّه يستطيع التوصل إلى معنى النص عن طريق التعارض بين الدلالات المرجعية ،والدلالات السياقية وهو بذلك أولى النص أهمية في إنتاج المعنى أكثر من القارئ ( لحمداني ، د. حميد ،2007، القراءة وتوليد المعاني تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي )
، وهكذا كانت أيضاً تلك المحاولات التي أنجزها أومبير طو إيكو” وقد عالج فيها تفاعل القارئ مع النص فكان هو الآخر يحتفظ دائما بفكرة أن النص مزود بقصدية إخبارية ، وحرص على إعطاء دوراً للقارئ ،ولكن لا يكون أبداً على حساب وحدة النص ، وتكمن جمالية التفاعل عند ” إيكو” بتعدد قراءات الأثر الأدبي بحسب حساسية القارئ الشخصية ،وثقافته ،وميوله ، وقابلية النص لتعدد القراءات هذه بقدر ما تدل على نوع من الإثراء ، فإنَّها لا تفقده- النص- مع ذلك وحدته الخاصة ، لأنَّه لا يتوقف أبداً عن أن يكون دائما هو نفسه. وهذا النوع من جمالية التفاعل يتقاطع مع ما ذهب إليه ” دريدا” الذي سمح بتعدد دلالات النص بلانهائية المعنى ، وأعطى مسافة بين الدال والمدلول تمنح حرية التفسير والتدليل ؛وذلك بوساطة التفكيك المستمر للمعنى ، فكلما تفاعل القارئ مع المدلول ،وأثبت معناه راوغ داله وتحول إلى دالٍ يحاول الإشارة إلى مدلول آخر إلى ما لا نهاية ( حمودة ، د. عبد العزيز ، 1978م ، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية )، أما “إيزر” فقد بدت أفكاره أكثر تأسيساً من ناحية تأويل المعنى ؛ لأنَّه ركز على ميكانزمات التفاعل بين النص والقارئ إلى حدٍ أنَّه لا يمكن الحديث عن ما يسمى بالأثر الأدبي إلا كنتيجة خارجة عن نطاق النص والمتلقي معا. أنَّه لا يوجد إلا في نقطة التلامس التي يُحدثَها التفاعل بينهما لحظة القراءة . ويعتمد إيزر أيضا على نقطة جوهرية في هذا التفاعل ، وهي الفراغ الذي ينشأ بين كون النص موجه إلى قارئ غير محدد بدقة ،وكون القارئ يتناول نصا لا يعرف بدقة ماهي صورته الحقيقية .غياب الحقيقة الثابتة للنصوص الأدبية هو ما يولد فراغاً فيها يعمل القراء على ملئه حسب اختلافهم في الإدراك والتأويل ، كما أنَّ ذلك الفراغ هو الذي يسمح أساسا بتوليد المعنى ( إيزر فولفغانغ ، ترجمة د. جلال الكدية ، 1992، التفاعل بين النص والقارئ ، 7).
إنَّ جوهر اهتمام البحث الحالي هو جمالية التفاعل في الإبداع الشعري ، وقد كان من الطبيعي أنْ يتجه الاهتمام الأكبر إلى تقنية الفراغ الباني بوصفه ظاهرة جمالية تدفع القارئ إلى سبر أغوار النص ،واستخراج ما يتوارى بين كلماته ،فالإبداع الشعرية حدث كلامي تفاعلي مستحكم البُعْد الدلالي للغة فيه متآزر التأليف التركيبي المبني عليه, قائم على أساس ذلك التفاعل الحاصل بين أقطاب الحركة الإبداعية في المنجز الفني الرصين, المنشئ والمتلقي والنص الفني نفسه, وهذا التفرع الثلاثي إنَّما يستلزم بالضرورة إيجاد أجواء من عملية التفاعل بين الأقطاب الثلاثة المكونة, فلا يموت أحدها في ظل حياة الآخر, ولا يحيا أحدها في ظل موت الآخر, فالعلاقة بينها علاقة تتسم بسمة الاطراد, وتتشح بالانقياد, ليتحصل في الأخير الإيمان المطلق بحقيقة كون الأثر الجمالي لا يوجد في النص ولا عند القارئ بل في نتائج التفاعل بينهما، والنص يُولد من جديد حين يقرأه الآخر ويتفاعل معه.
اعتمد ” إيزر” في بلورة مفهوم الفراغ على ما يسميه الناقد الفينوميولوجي ” رومان إنجاردن ” ( مواضع الإبهام أو أماكن اللاتحديد ) فالسمة المميزة للعمل الأدبي حسب هذا المنظور يكون عبارة عن( كيانٍ قصدي صرفٍ ، بمعنى أنَّه عمل لا هو معين بصورة نهائية ، ولا مستقلاً بذاته ، ويعتمد فعل الوعي ) ( هولب ، روبرت، ترجمة ،د. عز الدين إسماعيل ، 1994م ، نظرية التلقي مقدمة نقدية ،88 ) ، بيد أنَّ ” إيزر” نقد هذه المقولة وأخضعها للتحديد الدقيق في تشكيل نظرية كلية للتفاعل بتعريفه للفراغ بقوله 🙁 مساحة فارغة في النسق الكلي للنص يؤدي ملؤها إلى تفاعل الأنماط النصية ) ( فولفغانغ ، إيزر ، ترجمة عبد الوهاب علوب ، 1995م ، فعل القراءة نظرية في الاستجابة الجمالية ، 178) .يلجأ المبدع إلى إيجاد الفراغات في نصه بدافع جمالي يتمثل في منح المتلقي دوراً في المشاركة في العملية الإبداعية عبر عملية خاق المعنى فـ( النص لا يتضمن معنى مطلقا ونهائيا متحققا بذاته ، بل إنَّه يحتضن مجرد إمكانيات دلالية يحتاج تحقيقها إلى إسهام القارئ ) ( السيد غسان ، 2004 م ، المضمر في الخطاب الأدبي غادة السمان نموذجاً ، 71) ،غير أنَّ هذا الإسهام لا يأخذ صورة فعالية حرة ، أي أنَّ النص لا يعطي الحرية الكاملة للمتلقي في عملية انتقاء أو اختيار المسكوت عنه الذي يشغل به الفراغ ، وإنما يلزمه في عملية الاختيار بالخضوع لاشتراطاته وارغاماته ، وبهذا الصدد يصرح إيزر ( ففراغات النص تدفع القارئ إلى عملية التصور بشروط يضعها النص ) ( إيزر ، فعل القراءة ( مصدر سابق ) ، 172 ) ،وتتجسد هذه الشروط عنده في الأماكن المحددة ، إذ تعمل هذه الأماكن على تضييق مساحة الخيارات المطروحة التي قد ترد إلى ذهن المتلقي لسد وملء الفراغ.
ويقتضي المقام أنْ نذكر انقسام الدارسين في تحديد طبيعة الفراغ فمنهم يرى أنَّ مناطق الفراغ تتوزع على محورين ، الأول يحدث في المناطق المفصلية التي يتوقف فيها السرد أو القص ، والثاني يستوطن مناطق النفي ( حمودة عبد العزيز ، المرايا المحدبة ( مصدر سابق ) ، 330 )، وهناك من ذهب إلى تقسيمه على ثلاثة أنواع آخذين بعين الاعتبار المحور التركيبي للنص ،والمحور الاستبدالي ، فمن ناحية المحور التركيبي ، يتجسد الفراغ في : 1- الشغور أو الفجوة والانقطاع ، وهو المتمثل في انقطاع مسار الحكي في القصة السردية مثلاً ،إذ يصير الربط بين جزأين منفصلين ( أي ترابط جملتين بينهما إنقطاعاً من حيث الاستمرار الدلالي ) ، وحلُّ هذا التوتر بمثابة ملء للبياض .2- البياض : أو الفراغ وهو الذي يحيل على ما هو مسكوت عنه داخل النص ، ويتمثل هذا النوع من البياضات فيما يتم التفكير فيه ، لكنه لم يثبت من قبل المنشئ ، قصداً منه إلى إشراك القارئ. أما خصوصية النوع الثالث من الفراغ ، أي ذلك الذي يقع على مستوى المحور الاستبدالي فيقع فيما يسميه “إيزر ” النفي ، وقد احتل هذا النوع من الفراغ حظوة كبيره في منظور ” إيزر ” للنص التخيلي عبر ملاحظاته التي انصبت حول تأريخ الأدب، فالأدب الجيد – عنده- لابد من أنْ يتوافر على هذه النفيّات ، التي تعمل على إلغاء العناصر المألوفة الآتية من الخارج ، وإبطال مرجعتيها الواقعية ، فتدفع – من ثم – القارئ إلى المشاركة في إنتاج المعنى، وعلى النفي أنْ يتجاوز آفاق وتوقعات القراء المتعاقبين على النص ، بل أن يفندها ويعيدها من جديد ، وإلا صنف العمل ضمن خانة الكتب الرخيصة . وتأسيساً على ذلك أصبح النفي معياراً محدداً للقيمة الأدبية ، لدرجة يمكن أنْ يعمل فيها نص من النصوص على تنشيط أفعال الإدراك لدى القراء (جمالية التجاوب من الأدب والأسس والمفاهيم والإشكالات www.thagafat.com.).
وتجتمع الأنواع الثلاث من الفجوة ، والبياض ،والنفي تحت سقف المصطلح النقدي ( الفراغ الباني ) (ينظر خرماش، محمد 1998م فعل القراءة وإشكالية التلقي ، 18) الذي يتسم بعمق الدلالة ؛ لارتباطه بمعنى البناء وتحقيق المعنى ، فهو الذي يضبط فعل القراءة ، ويضمن جمالية التفاعل بين النص وقارئه ، فضلاً عن أنَّه يمنح مساحة للقارئ ،ولكنها مساحة مشروطة بحسب معطيات النص ، وأعرافه ، إذ يعيد القارئ بوساطتها حساباته مع النص في كلّ نقطة من نقاطه ، والتي يعمل النص بدوره .
المحور الأول :- تقنيات البياض : تُعد هذه التقنية محور نظرية جمالية التلقي عند “إيزر” ، وذلك ما تؤكده إشارة موجزة أوردها هولاب ف( لقد احتل البياض موقعاً رئيسياً في تأمل إيزر ، منذ مقالته AppeI Structur) (هولاب، روبرت ، ترجمة خالد التوزاني والجيلالي الكدية ،1999م نظرية التلقي : مقدمة نقدية ، ) .كما وتعتبر الوحدة التفاعلية التي تتحكم في فراغات النص ، فوجودها في النص ليس من ضمن عناصر الانقطاع إنما وجِدَتْ كبنية تواصل (بوحوت ، أ. عادل ، يناير –مارس 2014م جمالية التجاوب في الأدب الأسس والمفاهيم والإشكالات ،20) ،وقد رصدت الدراسة في استقرائها لنصوص ” عمره الماء” الشعرية شبكة من الآليات الإنتاجية لتوليد المعنى ، وتمظهرت تلك الآليات بالآتي :
1 ـــ التركيب البياني :لم يكن “الفراغ الباني” أنْ يتحقق بصورة ملحوظة في النص الشعري من دون أنْ يتغلغل تغلغلاً عميقاً داخل الشبكة النسيجية التكوينية لهذا النص ،وتساهم الإنزياحات الدلالية المكونة بفعل أبنية ،والاستعارة ،والكناية إلى خلق بياضات بين النص وقارئه تدعوه فيها فهم النص عبر التفاعل التام معه ،وردم تلك البياضات ـ،وتحديد ما أمكن من طبقات المعنى ، ويكشف تجلي البياض في هاتين البنيتين نزوع المبدع إلى اعتمادهما محاولة منه إلى تخصيب نصه وإثراءه محملاً إياه أكبر طاقة من الإيحاء بغية إبعاده عن منطقة التسطح أو التقرير أو المباشرة ، مما يعني الارتقاء به فنياً وجمالياً (عبيد، محمد صابر ، 2009م ،شفيرة أدونيس الشعرية الدالة ولعبة المعنى ،86)، وتتجلى فاعلية الاستعارة بعدها وسيلة لحل لغز النص الشعري والولوج إلى وحدات الإتصال والتفاعل؛ لأنَّ الكثافة الدلالية الناشئة بفعل عنصر التغريب والإنتاج الخاص يهبُّ النص خزيناً كبيراً من الدلالات ،والطاقة الإيحائية ،والقائمة أساساً على ثنائيتي الخفاء والكشف ،وبذا يتوجب على القارئ استثمار ذلك للإضاءة النص ودهاليزه ، ومن نماذج الاستعارة التي زينت نصوص ” عمره الماء” قول الشاعر ” عارف الساعدي ” في مطلع قصيدة ( مالم يقلهُ الرسام ) (الساعدي، عارف ، 2009 ، ديوان ” عمره الماء” ، منشورات نخيل عراقي، 2):-
رسمتُ غيماً ولم أرسمْ لهُ مطرا
لكنّه كَسَر اللوحات وانهمرا
وفزَّز الماء طيناً كان مختبئاً
في لوحتي ناطراً في صمتهِ المطرا
وكانَ في الطين حلمٌ لو مَنْحتُ لهُ
وقتاً ندياً لكانت لوحتي شجرا
إنَّ القارئ لهذه القصيدة يجد فيها صوراً استعارية منتظمة مرتبطة في سياق تشكيلي متكامل و مترابط مكونة صورة استعارية كلية تبدأ بــ( كَسَر اللوحات ) ، مروراً بــ( فزّزَ الماء) وتُختم بــ( وكان في الطين حلمٌ… ) ،فبوساطة هذه الصور تشكلت بؤر بياضيه تنحرف بالدلالة نحو مسار تتجاوز فيه سكونية الألفاظ والأفعال المتلازمة مع طبيعة الرسام وصولاً إلى الصخب والضجة التي تقوم على تقنيات مخاتلة تحفز المتلقي للتفاعل مع النص وتأويله ،فكيف لمطر مرسوم أن يكسر اللوحات ، ويفزّز الطين ، وأنى للطين أنْ يحلم . ولو رجعنا بضع خطوات إلى مطلع القصيدة وجدنا الملفوظات ( رسمتُ غيماً ) ،فالمتكلم حين يتحدث عن رسم الغيم ، وبعدها يوقف الشفرة المعجمية ،وينتقل إلى التعامل مع المعاني التصويرية للكلمات عبر حديثه عن المطر الذي أبى ألا أنْ يكون حاضراً كاسراً للوحته ، فأنه يضع مصطلحين في توتر عن طريق استعارة لفظة ( كسر ) صاهراً حدين أحدهما واقعي وهو الرسم ، والآخر خيالي وهو صولة المطر.
إنَّ الرسام في هذه الصور الإستعارية غادر دلالته المعهودة المتصلة بالهدوء، والبعيدة عن الفوضى والضجيج ليكون عالماً من التحطم ، والهلع ، والفزع ، فــ( لكنّه كسر اللوحات وانهمرا) أصبحت علامة تحيل إلى الثورة ، ومؤشراً على الحركة في السكون الظاهر . ثم يتلو هذه الصورة بأخرى بقوله: ( و فزّز الماء طيناً … ) رسم المتكلم هنا صورة غريبة أخرى امتداداً لسابقتها ، وأوجد علاقة جديدة بين الثنائي (الطين /الماء ) ، فالطين يفز مذعورا من شدة ما وقع عليه ، وهذا الانزياح الاستبدالي خلق حالة من التوتر امتد أثره ليصبغ الطين بصبغة الحالم للعوالم الخضراء المثمرة ( وكان في الطين حلمٌ …. لكانت لوحتي شجرا) ، فكأنَّ مقصدية المنتج من الملفوظات ( الغيم ، المطر، الطين ، الشجر ) تؤكد على أهمية الذات الإنسانية ، التي ترفض الركود والقنوط، فهي كالغيمة تبدأ بقطرة مطر ولا تنتهي إلا ببحر واسع من المفاهيم والأفكار ، فغيمة خالية من المطر لا يعوّل عليها … وحياة لا يلونها المطر منذوره للعطش .
ومن الصور البيانية التي تمد القارئ بحمولة دلالية ،وتخلق فراغاً يتطلب تفاعلاً لإيجاد نواة الإيحاء الدلالي هي : الصورة الكنائية من كون دلالتها الحقيقية ( لا تنتج من المعاني القاموسية أو الدلالات المألوفة للعلاقات اللغوية المستخدمة فيها ، بل مما يقع خارج هذه الدلالات ويحتل مساحة … غائبة) ( أبو ديب، كمال ،1989م ،لغة الغياب في شعر الحداثة ، ،8)، وتأتي تلك الأبنية الكنائية مفعمة بالبياضات بسبب اشتغالها على دلالتين شفافة يقصد منها المعنى الحقيقي والمباشر للألفاظ في اللغة ، ودلالة كثيفة القصد من ورائها دلالة استلزاميه مجاورة بفعل القصد والسياق ، ومن نماذج هذه التقنية قول الساعدي في قصيدة ( اقترفت العراق ) ( الساعدي ( مصدر سابق) ، 54) :-
أيقظَ النهر مرة بعد أخرى فنعاس الأنهار شيب صحارى
وإذا طال نومه فدعْ النهرَ كســـولاً وأيقــــــــظْ الأشـــــــــــــــجارا
واقترحْ بلبلاً يغني عليها وعصافيرَ نادمتها مـــــــــرارا
قد غسلنَ الصباح طفلاً خجولاً ومسحنَ النعاس عنه فَطارا
إنَّ الناظر إلى هذا النص يلمس أنَّ الخطاب موجه إلى متلقٍ حاضر، وهو ما وشت به الأفعال الكلامية ( دعْ النهر ،ايقظْ الأشجارا، اقترحْ بلبلاً) ، طالباً منه أن ينفخ الروح بالماضي الذي طاب له النوم (إذا طال نومه …) .
إن منتج النص وظف صورة الكنائية تعبر عن الدعوة إلى الحياة بعد الموت صاغها على وفق ( رؤية واعية وإحساس جمالي عال يراد منه توصيل الخطاب الشعري إلى متلقيه ) (إبراهيم ، عبد العزيز، 2006م استرداد المعنى دراسة في أدب الحداثة ،75 ) ،عبر شبكة ظليه استندت على محورين ، الأول النهر الكسول النائم ( الموت ) ، والثاني الأشجار والبلابل والعصافير فهذه العناصر مجتمعة تخرج النهار عاليا نشطاً عبر الملفوظات ( فالعصافير … بالمناقير قد سحلن النهار ، قد غسلن الصباح … مسحنَّ النعاس ) .إنَّ السياق التصويري لهذه الصورة الكنائية ينفض عنها الخصوصية ويسيجها بسياج العمومية ، فبالرجوع إلى عنوان القصيدة ( اقترفت العراق ) ، وبالنظر إلى دال (النهر ) يستدعي استرجاع الذاكرة إلى مآثر العراق وعراقة حضارة، ورفضه الخضوع والاستسلام ، وهذا ما دعى إلى لزم نفض الغبار عنه عبر أفعال توجيهية تزعزع السكون والجمود والوصول به إلى الحياة والازدهار بوساطة ممتلكاته الأخرى من الأشجار والعصافير والبلابل .
2ـــ التداخل النصي :ليس بدعاً أنْ يكون مفهوم التداخل النصي عموداً من الأعمدة التي يتأسس عليها فعل التفاعل الجمالي في منظور جماليات التلقي ، فهو يتعدى كونه مجرد آثار دينية وثقافية مبثوثة في جسد النص ،إلى اعتباره مساحة تمكن من إنتاج قراءة واعية تقوم أساساً على التفاعل بين النص وقارئه، إذ يعتقد ” إنجاردن ” أن بنية النص مؤلفة من أربع طبقات ، ومع ذلك تكون محافظة على وحدة عضويتها ،وهذه المساهمة انبثقت منها مستويات للتناص على الصياغات اللغوية والدلالة الصغرى والكبرى ( هيدجر ، سارتر، ميرلوبونتي ،دوفرين ،إنجاردن ، (د.ت ) الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية 414).إذ يأتي استثمار المبدع للتداخل النصي في عملية تكثيف النص الشعري دلاليا ، وذلك بوساطة جعل ( النص الشعري شبكة تلتقي فيها جملة من النصوص ) (بينس ، محمد ، 1985م، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية ، 254) تنتظم عل شكل شفرات توحي بدلالتها الأصلية إلى المتلقي من جهة ، وتنتج دلالات جديدة مختزلة بعد ربطها بسياق النص الشعري المتموضعة فيه من جهة أخرى ، إذ إنَّ ( النص السالف يصبح هو ذاته مدلولاً مراوغاً، لعلامة هي النص الحاضر ) ، وعلى هذا الأساس يكتسب التداخل فاعليته بوساطة إدراك المتلقي له ، ويستشعر بوجود الفراغ في النص أو أجزاء منه نتيجة ارتباط الدلالة بحضور نص أو نصوص أخرى غائبة, وبذلك يكون المتلقي قارئاً مشاركاً ومنتجاً للنص ، وتتمثل الوضعية التداخلية في الأبيات الآتية ( الساعدي ، ( مصدر سابق ) ، 5 ):
عندما مرَّ عمرهُ في الأغـــاني نبتَ الفجرُ في ضفاف اللسانِ
واشتهى الطين أنْ يغني خجولاً والفتى مرَّ في عيون الزمانِ
غازلا قمحنا البريء نشيداً وشباكاً تصيدُ طير الأماني
أيقظَ النهرُ والنعاس على الماء تدلى فلملمته اليدانِ
عمد النص الشعري هنا إلى تفكيك أواصر النص الشعري التراثي ،ومن ثم إعادة تشكيلها على وفق نظام جديد ارتأته التجربة الشعرية الحديثة ، ويتضح مستوى العلاقة بين النصين الحاضر والغائب بوفرة الرمز أولا ، وتنازل الذات عن حقها الوجودي الكامل، وذلك عبر إسناد النص إلى الغائب الذي عبر عنه في الملفوظ ( مرَّ عمرهُ ) ثانياً ، أما العلاقة الأولى نلحظ أنَّ منتج النص قد غرز في جسد خطابه مجموعه من الرموز أهمها ( الطين ، الماء ، القمح ، النهر)، وهذه العلاقة بدورها تركت مساحة فارغة دفعت القارئ إلى التفاعل معها و التحرك في اتجاه استكشافي ، فهذا الثراء الرمزي نجده يتداخل مع الشعر الصوفي الذي نما وازدهر في العصر العباسي ،والذي قام على الرمزية حتى قال أبو علي الروذباري ( علمنا هذا إشارة ) (البطاط ، دكتور رائد حميد ،2015 ،دراسات في العصر العباسي ، 21 ).
إنَّ التوظيف الصوفي في هذا النص قاد القارئ إلى التفاعل معه ، وعقد مقارنة بين الرموز المذكورة في زمانين مختلفين ، فإذا كان الشاعر الصوفي يتخذ من الرمز تعبيراً عن صميم تجربته كالفناء والبقاء ، والمحو والإثبات ، والتستر والتجلي ، والمكاشفة والمشاهدة ، يصبح من السهولة بمكان تسجيل الانحراف الدلالي والتباين القصدي لمنتج النص ، ولا سيما في ( نبت الفجر في ضفاف اللسان ، اشتهى الطين أن يغني خجولا، غازلا قمحنا البريء ، أيقظ النهر ، النعاس على الماء ) ، فقد إتشحت تلك البنيات بالطابع التصويري المجازي الذي نما وتطور على نحو درامي محققاً النظر في المستوى العميق لرمزيتها ، فالعمر ذهب بالأغاني الحماسية المتغنية بمجيء الفجر مبدداً ظلام الظلم والاستبداد ، وازدهار الأرض من جديد بالحقول والمحاصيل المروية بالأنهار الجارية ليستيقظ المرسل على واقع حزين مؤلم تطايرت منه كل تلك الأماني فالنهر نَعِسَ والطين خجِلَ والذي يعضد هذا التأويل قوله ( تصيد طير الأماني ) ، ومن ثم تتسق هذه القراءة مع رأي “إيزر” إلى أنَّ معنى النص ( من إنشاء القارئ ولكن بإرشاد من التوجيهات النصية) ( حمودة ، ( مصدر سابق ) ، 330 ) .
أما مستوى العلاقة الثاني وُجِدَ في مطلع القصيدة الذي نستشف منه بعداً تداخلياً بقانون الإمتصاص في التعبير عن الذات بضمير الغائب ( مرَّ عمره) ، فيتحدث المرسل عن نفسه وكأنّه يتحدث عن غيره ، وهذا الأسلوب عُرِف في الشعر العربي قديماً لاسيما عند ” أبي نواس ” (الحديثي ، تحقيق د. بهجت عبد الغفور، 1980م ،ديوان أبو نواس برواية الصولي ، 984 ) ، وهذا التداخل النصي يستلزم دلالة ضمنية تتجسد في تحرر منتج النص من شرنقة الأنانية إلى فضاء الموضوعية والعقلانية ، وهذا بدوره أغنى طبقة المعاني وكثف شحنات النص الدلالية في فعل الخلق والإنشاء أفضت إلى مشاركة المتلقي وتفعيل دوره القرائي.
ففي نكران المرسل لذاته إسنادا لما افضى إليه تأويل النص في مستوى العلاقة الأول المتعلق بثراء الرموز ، أن المرسل كان قد نذر عمره للآخر يبث فيه الهمة لمجابهة التحديات والمصاعب داعياً له أنْ يستثمر بيئته بما فيها من أنهار وترب خصبة ، لكنه يصاب بالقنوط ،ويمكن أن يكون الآخر غير المبالي هو سبب حزنه وإصابته باليأس وضياع سنوات عمره .
تأسيساً على ما سبق يتضح لنا أن تداخل النصوص تتيح الفرصة للقارئ الجاد للتفاعل مع النص الحاضر واستحضار النصوص المهاجرة لغرض الاستدلال على المعاني الضمنية التي تكشف جمالية النص الأدبي ، ويتوقف ذلك كله على فهم القارئ وقدرته على الكشف والتأويل ، واذا كان الشاعر ” عارف السعدي” قد اعتمد على النصوص التراثية بصورة غير مباشرة نجده في قصيدة ” هذا هو الأرض” على استحضار النصوص بشكل مباشر ( الساعدي ، ( مصدر سابق) 15):
وصحتُ خلفك يا مولاي تسمعني ( قف فوق كوفاك وامسح خدها التربا)
بؤرة التداخل النصي في هذا النص يتجسد في عجزه ( قف فوق كوفاك …) الذي يحيل إلى قول الشاعر ” محمد مهدي الجواهري ” ( قف بالمعرة وامسح خدها التربا ) ، وكان للتصريح بالنص المهاجر دوراً في انتاج الدلالة الحقيقية للنص، وهذا يسهل عملية استنطاق النص ،ويجنب القارئ من الوقوع في متاهة التأويل (السلمان ، د. عبد الخالق، 2016،م الغياب في الشعر العراقي الحديث ،88 )، ولا يمكن النظر إلى النص على عنه صيغة فاضحة تحط من القيمة الجمالية للتداخل النصي ، إذ تبقى العلاقة الدلالية بين النص الحاضر ونظيره المهاجر كامنه تحفز المتلقي للبحث عنها وكشفها .
يبدو أن الطابع الفلسفي الجامع بين النصين هو ما مهد لهذا الاستدعاء بيد أن النص الحاضر أحدث زعزعة للثوابت والقيم المركزية بفعل سلسلة من الأفعال الكلامية ابتدأها المرسل بالفعل التعبيري ( صحتُ ) ثم أعقبها بفعليين توجيهيين هما ( قفْ ، امسحْ ) ، والمقصود بزعزعة الثوابت وخلخلة المراكز هو إعطاء الهامش مكانة الأهمية مما يفضي إلى تبديل المواقع وتغيير الأدوار، فقوله ( وصحتُ يا مولاي ) ، نجد أنَّ الهامش يطلق صيحة استياء واحتجاج على مولاه ، ويبدو أنَّ المولى لا يدري ما حلَّ بأمور رعيته الأمر الذي دعا المرسل أنْ يصرخ ألما وحسرةً ،والذي يعضد هذه القراءة هو الدلالة السياقية للأفعال التوجيهية ( قف فوق كوفاك وامسح خدها التربا) ، فـ “كوفاك” هنا هي أرض الكوفة المعروفة لدى العراقيين يدفنون فيها موتاهم ، فجاء الاستصراخ بفعل كثرة الموتى والطلب بأنهاء سلسلة الموت التي أصيب بها أهل تلك الديار، ونفض غبار الألم عنهم .
لقد خيب النص الحاضر أفق توقع المتلقي أذ حلَّ الخراب في أرض العراق بصورة عامة والكوفة بصورة خاصة ،ولم يكن وقوف الشاعر وقوف اطمئنان كما وقف الجواهري بالمعرة يطمأن المعري عن أحوال الناس والشعر والأدب ، بل وقف مستصرخاً طالباً النجاة من الموت المحدق بالعراق. وإذا تتبعنا النص على وفق الموقف التواصلي للقصيدة ،فالعنوان ( هذا هو الأرض ) تشير إلى مساعي المرسل إلى الإشارة إلى شيء يريد تقريبه ذهنياً إلى المتلقي ،فضلا عن الزمكان الذي نظمت فيه القصيدة (2002 بغداد) ، نجد أنَّ النص يحيل على واقع تجري فيه أحداث معينة في إطار زماني معين ، يبين فيه الأحداث المريرة التي كان العراقيون يمرون بها في تلك الحقبة التأريخية.
المحور الثاني : الشغور : وأبرز تقنيات الشغور التي خلقت الفجوات والانقطاعات هي :
1ــ سرد الأصوات المتعددة: إنّ الأسلوب الحواري ومظاهر القص في بنية نصوص ( عمره الماء) منحه جمالية ،وقوض قدسية عقيدة الحدود بين الأجناس الأدبية وأنواعها. وفي ضوء توظيف تقنيات السرد في فضاء النص الشعري يمكننا من رصد نماذج نصية تتكأ على ” الازدواجية التلفظية ” ، والتي تتمثل بتعدد الأصوات في الملفوظ الحواري (راضي، رشيد ، 2014م ،المظاهر اللغوية للحجاج مدخل إلى الحجاجيات اللسانية ، 163)، إذ تعبر تلك الازدواجية عن ظاهرة خطابية ذات طبيعة تمثيلية مسرحية (موشلر، جاك- ريبول، آن ، ترجمة مجموعة من الأساتذة والباحثين بإشراف عز الدين المجدوب ، 2010م القاموس الموسوعي للتداولية ، 95)، فأنَّ النص ( يتألف من عدة أصوات تصدر من متكلم في آن واحد ، وتتساكن فيه على نحو متعادل ) ( راضي ( مصدر سابق ) ، 146). إنَّ وجود مجموعة من الأصوات المتفاعلة بصورة حوارية في بنية القصيدة يحدث فجوة للمتلقي تستدعي منه تدخلاً منه لردمها ،واستخلاص المعنى ، وتتجلى الازدواجية التلفظية بأبهى صورها في قصيدة ” قيل منفى” (الساعدي ( مصدر سابق ) ، 6-7) :-
قيل منفى
فقلنا احجزوه لنا
ربما سنغادر ثانية لبلاد ستحفظ أسماءنا
وقيل البلاد
فقلنا سنترك هذي البلاد التي لا تسامح أخطاءنا
وقيل النساء
فقلنا سنعشق ثانية
ويقول في مقطع آخر :
قيل منفى
فقلنا وطن
وقيل الوطن
فقلنا مناف مبعثرة وبقايا كفن
اذا سأغادر هذي البلاد
فلا تزعلوا أيها الأصدقاء
يبرز المشهد الحواري بشكل جلي في هذين المقطعين من القصيدة ، كما ظهر صوتان للراوي أحدهما غاب من السرد تجسد في الملفوظ النصي ( قيل منفى ) ، والثاني حضر في جسد النص بذات جمعية ( قلنا احجزه لنا ) ، وقد شكل المشهد شغوراً يتطلب قارئاً لملئه وتحديده ، إذ يجد القارئ نفسه أمام وضعية صوتية متداخلة ، وكأنّه في مهرجان حواري يتبارى فيه راويان ، فالراوي الغائب يبشر بوجود منفى ، والحاضر يسارع إلى حجز مقعده فيه ، ويستشرف النص المستقبل على الأمد البعيد ( ربما سنغادر ثانية لبلاد تحفظ أسماءنا) ، وهذا الاستشراف لا يأتي بجديد ؛ لأنّ من أبرز علامات ذلك المستقبل هو الهجرة إلى خارج أسوار الوطن ، فالمواطن يعيش الغربة وهو دائم البحث عن بلاد أخرى تلبي حاجاته الحياتية ، وعصر الجور وخذلان أبناء الوطن مستمر بفعل تعاقب السلطات الفاشلة .
إما في المقطع الثاني فقد نهض بوظيفة الصدمة لملء فجوة النص وخلق انسجامه ( قيل منفى ، قلنا وطن ) وبذلك كسر النص ألفة ما هو مألوف ، بتحول المكان المألوف ( الوطن ) إلى مكان معادي ، والمكان المعادي ( المنفى ) إلى مكان مألوف ، وذلك عبر صهر العنصر المألوف في بوتقة النص ، وإكسابه هوية جديدة تختلف عما كان عليه ،وهذا يتناغم مع رؤية ” فرانك شويرويجن ” ( العنصر المعروف حين يمتصه النص يفقد مرجعتيه الأصلية ، فلا تكون له دلالة إلا داخل شكله النصي نفسه . وهكذا فإنَّ ما هو عادي يصبح غير عادي باعتباره عنصراً نصياً) ( فرانك شويرويجن ، 1995 ، 75) ، وعند إضاءة الملفوظات ( وقيل الوطن ، قلنا مناف مبعثرة ، وبقايا كفن …) تعود الهيمنة للنص في كشف سره ، والرجوع القهقري للقارئ ، ودوره في إنتاج المعنى وصناعته ، وهذا يتناغم مع رؤية ” انجاردن ” في أنَّ التفاعل بين النص والقارئ هو باتجاه واحد فقط أي من النص إلى القارئ ، فالوطن صار منفى بفعل الموت الذي استشرى فيه ، ولم يعد في حوزته ما يقدمه لأبنائه سوى الأكفان فعاش من تبقى منهم الغربة بين أحضانه.
تأسيساً على ما سبق يتضح أنَّ اشتغال ساردين في بنية نصية واحدة يحدث فراغاً وفجوة للمتلقي تدعوه للتفاعل معها واستخلاص جمالية معنى النص ، ومن نماذج القصة السردية قصيدة ( الشمس في بغداد تعني حضن أمي ) ( الساعدي ( مصدر سابق) ،30) :-
قالوا رحلتَ فقلتُ كـــلا بَعُـــد الـــــعراق فصار أحلى
تتسم المعمارية البنائية للنص على الحوار التناوبي ، يُظهر فيه المرسل قدرته على وصف نفسه المنكسرة عقب مغادرتها أرض العراق ، وهو بذلك – المرسل – يبتعد عن رتابة السرد الكلاسيكي ، وفي سياق تعددية الاحتمالات المطروحة لردم الفجوة التي أحدثها الحوار ينجلي ما يلي :
ـــــــ إنَّ تحرر البرنامج السردي من ضمير المتكلم الأحادي ، وما يترتب على ذلك من ثراء في أسلبة النص ، يحمل دلالة ضمنية في نبذ الدكتاتورية وتقبل الآراء المتنوعة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً ، والإشارة إلى كون الحقيقة نسبية .
ــــــ العمل على بناء وعي جديد للتجربة الشعرية في ضوء التحولات الكبيرة التي تشهدها الفنون والعلوم المختلفة بآليات متنوعة .
ـــــــ تتجه القراءة التأويلية الثالثة في بناء التحقيق العياني إلى وظيفة دفع الملل الناشئ بفعل المنظور الأحادي السردي بوساطة كسر توقع القارئ في عملية تنويع الأصوات .
2ـــــ التلخيص :
هو المتمثل في انقطاع مسار الحكي ، في القصة السردية مثلاً ، وهو ما يُعْرَف بالفن السيميائي بتقنية المونتاج التي تقوم على (القطع واللصق) (مرسي ، أحمد كامل – وهبة، مجدي ، 1973م ،معجم الفن السيميائي ،92) ،وهذا بدوره يقوم بكسر الترتيب المنطقي الخطي أو التسلسل التتابعي للأحداث ، والتركيز على الفقرات الأشد تأثيراً في المتلقي بغية سحبه نحو (منطقة جغرافية جديدة وغير مستعمرة ، وهي مغامرة تسجل للنص خصوصيته وامتياز التفرد ) (شهاب ، أثير محمد ،2010م ،سينمائية النص الشعري الشعر العراقي أنموذجا ، 5)، وبتلخيص تلك الأحداث وإعادة صياغتها بحسب الأهمية والتأثير يتجسد فراغ شغوري يغوي القارئ والمتلقي لجذبه لمنطقة التأويل والتفاعل من أجل بناء الموضوع الجمالي، والتحقيق العياني ،ويُعد في الوقت ذاته مؤثراً لاستراتيجيات التأثير ،والثراء التقني في البناء الفني للنص (فضل، صلاح ، 1997م ، قراءة الصورة وصورة القراءة 40). وقد تجسدت تلك المعاني في قصيدة ” ليلة الهروب من بغداد” ( الساعدي ( مصدر سابق) ، 37) :
مروا على ليلك البني فاكتشفوا معنى على حجم هذا الليل ينفتحُ
معنى بأنَّ سماءً فوقنا لبستْ قميص نار تخفي تحتها شبحُ
وأنتِ يــــــــــا بغداد عـــــالقة في شعركِ النارُ والأيتام والفرحُ
أما أهاليك يا بغداد قد نسجوا من ليلهم جملاً حتى إذا نزحوا
توقفوا عند شيب الأرض وانتظروا كيف الحضارات تبكي ثم تنذبحُ
يشتغل نص ” عارف الساعدي ” على حقل دلالي منذ بداية القصيدة ، وقد تواطئ العنوان ( ليلة الهروب من بغداد ) مع متن النص على تجسيد الحقل الدلالي وهو التلخيص لينبه المتلقي إلى أحداث واقعية مرت على سماء العراق دافعاً به إلى استيعاب تلك الوقائع المؤلمة والأحداث الجسيمة ، وقد تمركز النص على ثنائية ( المركز / الهامش ) المركز بغداد التي تُركَتْ وحيدة ( مروا على ليلك) عالقة تعاني ذل الأسر وحدها ( و أنت يا بغداد عالقة) ، أما الهامش أهاليها الذين وقفوا يتفرجون على حضارتهم ما بين البكاء والذبح ( توقفوا عند شيب الأرض … تبكي ثم تنذبحُ ) ،فتلخيص كل تلك الأحداث في زمان حدده السارد منذ الوهلة الأولى بصورة حركية تجسدت في الدال ( مرّوا على ليلكِ ) ومكان ( ارض بغداد ) شكل فراغاً فكرياً لأهالي بغداد الذين فضلوا الهروب وعدم الصمود والدفاع عن إرثهم الثقافي والحضاري وتركوه عرضة للنهب والسلب ،وبذلك لخص المشهد النصي حركية الهامش بالهروب ، وسكون المركز العالق في براثن الاحتلال .
وقد خلق التخليص في بنية النص حالة من كسر التوقع ؛ لأنَّ قارئ النص توقع أنْ يكون هناك استعدادا ماديا ومعنويا للتضحية في سبيل حماية مدنهم من إي اعتداء خارجي ، لكنه فوجئ بالهروب وحيرة المدنية بعد تخلي أهلها عنها ، وهذا بدوره خلق دلالة تداولية تجسدت في فقدان المدينة لقائد محنك يحميها ويحمي أهلها من الاعتداءات الخارجية .
المحور الثالث : أشكال النفي :-
إنّ النص بوصفه نسيجاً لغوياً يقوم المبدع بإعادة توزيع نظام اللغة فيه بوساطة التركيب والتحطيم ؛ لغايات فنية وجمالية ، يحتوي على بنية أخرى من بنيات اللاتناسق تتجلى بأشكال النفي ،وهو ما أشار إليه “إيزر” بقوله:( ومع ذلك فهناك مكان آخر في النسق من حيث يلتقي النص والقارئ ، وهو الذي يُميز بوساطة مختلف نماذج النفي ، التي تنشأ خلال عملية القراءة … أما مختلف نماذج النفي يستحضر العناصر المألوفة أو المحدودة لكي تعمل على إلغائها ، ومع ذلك فإنّ ما يُلغى يبقى ظاهراً ، وبالتالي فإنّه يُحدث تعديلات في موقف القارئ اتجاه ما هو مألوف أو محدد . وبمعنى آخر فالقارئ موجه ليتبنى موقفاً يتعلق بالنص) (إيزر، فولفغانغ، ترجمة وتقديم د. حميد لحمداني ، ود. الجلالي الكديّة،1995م ،فعل القراءة ( نظرية جمالية التجاوب في الأدب ) ، 101-). إنَّ عملية استقراء النص في ديوان “أبي الشمقمق “آلت إلى رصد الأشكال الآتية :
1 ــ نفي دلالة الرمز الأسطوري : لقد شغل هذا الفراغ حضوراً واسعاً في ديوان ” عمره الماء ” وتحديداً رمزية الماء ومرادفاته، فالماء بما يمتلكه من قيم قدسية ،و إيجابية في منح معاني الحياة والارتواء، فهو المنجي نبي الله موسى( عليه السلام) من الهلاك مذ كان صغيراً، وحتى صار رسولاً نبياً ،وبتضافر تلك المعاني في اللاوعي الشعوري لدى الشعراء صار القطب الفني للنص ، وكان توظيف هذا الرمز لبيان الارتباط القديم بين الخصب والنماء ،وإرضاء الممدوح ،وكسب نواله وعطائه، وهوما يمثل السياق المرجعي للنص ،وشرطاً من شروط التواصل ،أما نصوص ” عمره الماء ” فقد أبطلت مرجعيته المألوفة وأحبطها، وتجاوز آفاق وتوقعات القراء المتعاقبين على النص ، وهو بذلك احدث فراغاً عمل على تنشيط الإدراك لدى القراء ومن تلك النصوص التي حملت تلك المعاني قصيدة ” من ذكريات الماء ” ( الساعدي ، مصدر سابق ، 18 ) :
الماء تبتكر النعاس خطاه ينأى فتضما في يدي يداه
مرآة هذا الأفق كسرها الذبول وذاب في وجه أزرق عيناه
لا الأفق يبصر وجه يوما ولا قمر تداعبه الحصى فيراه
كل النوارس سبقته وظل لي سمك حزين يقتفي ذكراه
ويقول في قصيدة ” حلم أجدادي ” ( الساعدي ( مصدر سابق ) ، 10 ) :
إذ ها هنا ماء تلون بالشجى
وهناك فجرٌ خلفه عريان
وعلى الخطى ذاتها تسير قصيدة ” اللوحة” ( الساعدي، ( مصدر سابق ، 45 ) :
البحر لملمناه في قدح
وأبعدناه عن أطفالنا
زخة أمطار
أربكها اللون المائي فتاهت وانتظرت نهراً لا يشبه الأنهار
نلمح في هذه البنيات النصية نفي للعلاقة التقليدية بين مظاهر البهجة والسرور والماء ، وقد تجاوزت أفق انتظار القارئ وتوقعه في كونه يأنس بذكر الماء في تضاعيف النص ، وتحمل النصوص دلالة مضمرة جسدها الحزن في النص الأول والثاني عبر الدوال النصية ( النعاس ، تضما ، كسرها الذبول ، ذاب في وجه ، سمك حزين ، ماء تلون بالشجى ) ، والخوف والقلق التي اتسم به النص الثالث (البحر لملمناه ، أبعدناه عن الأطفال ، أربكها ، فتاهت ) ، وبالنظر إلى الطبيعة التخيلية للنصوص الأدبية وما تتيحه من إمكانات متشعبة للاحتمال الدلالي ، وحتى ينقذ القارئ نفسه من بيداء التيه الاحتمالي نجده يتوسل بالسياق التواصلي للنصوص الشعرية ليقيض على الجمر الدلالي لهنَّ، فيتضح له أنَّهنَّ تقاطعنَ في المكان (بغداد ) وافترقنَ بالأزمان ، فالأولى عام (1997م ) والثانية عام (1998م ) ، والثالثة ( 2004)( الديوان ، مصدر سابق ) 18 ،45) ، وبذلك يشع المعنى الضمني لنفي دلالة الماء في كون النص يرسم صورة هزيلة للحكام والسلطات التي تعاقبت على العراق والتي كبلت العرافيين بشتى أنواع الهواجس والمخاوف .
2 ـــ نفي العنصر الثقافي : إنَّ التأمل في ديوان ” عمره الماء ” يجد مواطن هذا النوع من النفي قد ترسخ في قصيدة ” تفاصيل قابلة للضياع ” ، فهي في مجملها تحاكي المستوى الثقافي الذي آل إليه الشعب بطبقته الفقيرة، والتي حمل المرسل على عاتقه حمل همومها وبث شكواها ، وأمانيها الضائعة ، وأحلامها المستباحة ، وحقوقها المنتهكة ، ونحن في هذا الصدد سنختار الأبيات التي تجسد هذا الصراع ، وقدرة الباث على تشكيل سلسلة مترابطة اشتقت النص لكنها ليست مطابقة لما هو معتاد ( الساعدي ، ( مصدر سابق ) 21- 23 ) :
بدءاً سأوقظ هذه الشمس في الليل فــأحرقوا نومكم ثمَّ اتبعوا ظلي
ولملموا كـــــــــــلَّ أطفال الصباح فــــــــقد مـــــــــرَّ الزمان وتاهـــوا كلهم قبلي
والآن لمـلم هذا الوقت صبيته وظل يبحثُ في الغابات عن أهلي
عن دمعة تركت في الريح أغنية قد بعثرت شعرها رملاً على رملِ
يمتد صوت ويعلو الصوت ثانية من سوف يحملُ سرَّ الفجر في الليل
من يلم البساتين التي انتهكت وأسلم النمل خــــدَّ التــــين للنــــمـــل
وأي حلم غفت في غزله امرأة والحلم لـــمْ يزل فـــي أول الغــــــــــزل
ومن لصحراء هذا الموت قلت أنا ولــــــــــــــمْ أتــــــــــــــم كلامي بادرت خيلي
أنا مدينة هذا البوح يسكننــــــــــي عطر الكلام و شيء من أبي جهل
نجد المرسل في هذه الأبيات منذ الوهلة الأولى جعل من نفسه حاملاً لهموم أبناء جلدته سارداً أشجانهم ، لكن النص اتجه باتجاه معاكس في ختامه ، وانزاح عن أفق توقع القارئ والمعايير الخطابية المتداولة ، وهذا النفي أو الخرق تجسد في البيت الأخير ( أنا مدينة هذا البوح يسكنني … وشيء من أبي جهل ) ، فتقمص الشاعر شيئا من شخصية ( أبي جهل ) بوصفه عنصراً من عناصر السلطة والثراء والنفوذ في المجتمع الجاهلي ، واستنبطن الاعتقاد بالمذهب الرجعي للأنظمة الاستبدادية والعقليات الصنمية المؤمنة بالتغطرس والتشبث بالقديم مما ورث من الأسلاف ، وتقييد الحريات . كما يحمل النص أعلاه دلالة مضمرة تتجسد بحب السلطة والقبض على مقاليد الحكم .
ويمكن قراءة هذا النفي بدلالة عكسية إن نُظِرَ إليه من زاوية أسلوب الصدمة في عملية التغيير الثقافي والمجتمعي ؛ لأنَّ دعوته إلى تقمص تلك الشخصية الثقافية المتنفذّة هو من أساليب إشعال شرارة الوعي ،و حركة الصراع الإنساني وامتصاص حالة السكون والجمود والاتكاء على الآخر التي تسمم بها أبناء المجتمع ، وبث روح الثورة فيهم وتذكريهم بأسلافهم كيف حققوا أمانيهم، واستطاعوا تحقيق أحلامهم، والقضاء على الشرك واستعباد الفقراء .
3ــــ النفي الديني : وجدت نصوص ” عمره الماء ” من مرجعيات الموروث الديني ضالتها في تسليط الضوء على مشكلات الفرد في البيئة العراقية، ممتصاً في توظيفه وعي الفرد العراقي وفهمه لمشكلاته الواقعية ، ومن عناصر المخزون الديني قصة الطوفان وسفينة نبي الله “نوح” ( عليه السلام ) ، وابنه “ناثان” بوصفها محطة من محطات الصراع بين الحق والباطل ، وبها نجى الأب وهلك الابن ،وقد امتصت قصيدة “الطوفان” هذه القصة لكنها تناولتها من زاوية مغايرة حملت الأب مسؤولية هلاك الابن ،وتنصله من واجباته الأبوية ،وشدة قسوته وهو يرى ابنه تأكله ألسنة الأمواج ( الساعدي ( مصدر سابق ) ، 60 -64) :
ناديته وخيوط الصوت ترتفـــــــــعُ هل في السفينةِ يا مولاي متسعُ
ناديتهم كلهم هل في سفينتكـــــــم كأنَّهم سمــــعوا صوتي وما سمعوا
ورحتُ أسألهُ يــــــا شيخ قسمة مـــن نـجوتَ وحدك والباقون قد وقعوا
وهل سترتاح هل في العمر طعم ندى وأنــــت وحدك والصحراء تجتمــــــــعُ
وكيف تبدأ هـــــــــذا الكون ثانية وقــــــــــــد تركتَ الفتى والموج يصطرعُ
أنــــــــا صغيرك اقنعني وخذ بيدي أم أنت بالموت والطــــــــــــوفان مقتــــــــنع
الموت يـــــــــأكل أحداقي وتنظرني كيف استرحت وعيني ملؤها هلـــــــــــــــــــعُ
وهـــــــــــــل ستذكر قبل الموت كيف دنا عيني تضيق وعين الموت تتســـــــــــــــــــعُ
وهل تنام وفي عينيـــــــــك نابتة عيـــــــــــــــــــون طفلك والألعاب والمتــــــــــــعُ
ويستمر الشاعر بها المسار من المحاكاة العاطفية الشجية من قبل الابن المغلوب على أمره متناسياً دور الأب الذي ضج مستصرخا إياه ليصعد للسفينة وينجو من الغرق إلى أنْ يقول :
فاصنع سفينتك الأخرى وخذ بيدي فأنني الآن بالطوفان مقتنعُ
قلب هذا النص وظائف الرموز السيميائية الثلاثة وهي الطوفان ، النبي ، الابن العاق ، والدلالات الجديدة للرموز المذكورة تولدت بفعل شبكة العلاقات الجديدة في بنية النص ، اذ تحولت هذه الرموز السيميائية ذات المرجعية الدينية في سياقها الجديد إلى أب قاسٍ غير مبال بمصير ابنه الذي اعتلاه الماء حتى فقد حياته . وفي هذا النتوء الدلالي تحديداً تكونت منطقة الانفكاك بين النص والقارئ مما يستدعي نشاطاً تفاعلياً من القارئ لوصلها . إنَّ استدعاء هذه الرموز المألوفة من قبل النص عمل على كسر أفق انتظار المتلقي ، مشكلة منطقة فتق بينهما ، ومن ثم لابد من رتق هذا الفتق . أما القراءات التي تسعى لكشف المضمر ، وإزالة المبهم فهي :
ـــــــــ الترويج لفكرة ضرورة تحمل الآباء مسؤولية كل القرارات الفاشلة التي يتخذها الأبناء على الرغم من الإصرار والتعنت الذي سيواجهونه منهم ؛لأنهم عاجلا أو آجلا سيكتشفون خطأ تلك القرارات ومما يعضد ذلك البيت الأخير ( فاصنع سفينتك الأخرى …. فأني الآن بالطوفان مقتنع ).
ــــــــ من الدلالات الضمنية لهذا النفي شن حرب نفسية في نفس كل ابن لا يطيع أباه وتحذيره من سوء عاقبة قرار لم يحط خبرا بكل جوانبه ، إذ يبقى الأب اكثر خبرة وفهما لجوانب الحياة ومشكلاتها .
الخاتمة:
قدتنا رحلة التفاعل في نصوص ديوان ” عمره الماء ” للشاعر العراقي “أ .د. عارف الساعدي” إلى جملة من النتائج كان أهمها : –
1ــــــ شكل الفراغ معلماً بارزاً في ديوان ” عمره الماء ” ابتغى الشاعر بوساطته تعضيد نصه بطاقة إيحائية تسهم إسهاماً فعالاً في تخصيب جماليته وفتن المتلقي بالتفاعل معه وكشف مقاصده .
2ــ نُظِمَ النص بطريقة تبتعد عمّا هو مألوف ومتعارف ، خافياً بين طياته عناصر لم يُرد الإفصاح عنها بشكل مباشر أما لرفضها ،وأما قصد إلى ترميزها ؛لتُسند البنية الظاهرة للنص دلالياً مما ترك فجوات أتاحت هي الأخرة لعملية تفاعل القارئ مع النص ،وإظهار الجانب الجمالي فيها مستعيناً بالإمكانيات التوليفية في تأطير تدخلاته التأويلية .
3ــــــ إنَّ خوض مغامرة قراءة النصوص ،واستخراج المعنى يحتاج تماهياً بين النص وقارئه ،فكلما تغلغل القارئ عميقاً في النص ،وغاص فيه ذهاباً وإياباً متسلحاً بثقافة علمية ،ومعرفية رصينة نجح في صنع موضوعه الجمالي.
4ـــــ تجسدت تقنية الفراغ بعدها أحدى تقنيات جمالية التلقي ،وعنصراً فاعلاً في تحقيق التفاعل الإيجابي، والمتكافئ بين النص والقارئ في جملة من الاستراتيجيات أهمها البياضات ، والشغور ، وأشكال النفي.
5ــــ وجدت الدراسة أن الشاعر استثمر خزينه الثقافي والمعرفي وأسقطه على جسد ديوانه ليضمن مشاركة أكبر قدر من المتلقين للبحث عن الشغور الذي يحدثه ومن ثم ردمه .
6ـــــ اشتملت أشكال النفي على مرجعيات أسطورية، وثقافية ،ودينية.
مصادر البحث:
ــ إبراهيم، عبد العزيز 2006،،استرداد المعنى دراسة في أدب الحداثة ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد.
ــأ بو ديب، كمال، 1989م، لغة الغياب في شعر الحداثة ، مجلة أقلام ،ع5 .
ـــإيزر، فولفغانغ ، فعل القراءة 1995م. ( نظرية جمالية التجاوب في الأدب ) ترجمة وتقديم د. حميد لحمداني ود. الجلالي الكديّة ، منشورات مكتبة الناهل ومطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء .
ـــإ يزر، فولفغانغ ، ترجمة عبد الوهاب علوب ،مصر ، 2000م ،فعل القراءة نظرية في الاستجابة الجمالية ،المجلس الأعلى للثقافة .
ـــإيزر، فولفغانغ، 1992م. التفاعل بين النص والقارئ ، ترجمة د. الجلالي الكدية ، مجلة دراسات سال . ع 7.
ــ بوحوت ، أ. عادل, مارس 2014م جمالية التجاوب في الأدب الأسس والمفاهيم والإشكالات ، مجلة عالم الفكر ، ع3، مجلد 42 ، الكويت .
ــ بينس، محمد ، 1985م، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية ، دار التنوير، بيروت ط2 .
ــ جمالية التجاوب من الأدب والأسس والمفاهيم والإشكالات www.thagafat.com..
ــ حمودة ، د. عبد العزيز ، يناير ، 1978،المرايا المحدبة ، من البنيوية إلى التفكيكية ، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،الكويت بإشراف أحمد مشاري العدواني.
ــ خرماش ، محمد ،1998م ،فعل القراءة وإشكالية التلقي ، مجلة علامات ، ع 10.
راضي، رشيد، 2014م، المظاهر اللغوية للحجاج مدخل إلى الحجاجيات اللسانية ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ،ط1 .
ــ الساعدي، عارف ،2009 م .ديوان ( عمره الماء ) ، منشورات نخيل عراقي .
ــ السيد ، غسان 2004م المضمر في الخطاب الأدبي غادة السمان نموذجا ، مجلة الموقف الأدبي ،ع398.
ــ شهاب، أثير محمد 2010م ،سينمائية النص الشعري الشعر العراقي أنموذجا ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد .
ــ عبيد ، محمد، 2009م، صابر شفرة أدونيس الشعرية الدالة ولعبة المعنى ، دار العربية للعلوم ، بيروت .
ــ فضل، 1997م. صلاح قراءة الصورة وصورة القراءة ، دار الشروق ، عمان .
ــلحمداني ، د. حميد 2007م ، القراءة وتوليد الدلالة تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي ، ،المركز الثقافي العربي ،بيروت – لبنان ، ط2 .
ــ مرسي، أحمد كامل- وهبة، مجدي، 1973م، معجم الفن السيميائي ، الهيأة المصرية العامة للكتب ، القاهرة.
ــ موشلر، جاك- ريبول، آن ترجمة مجموعة من الأساتذة والباحثين بإشراف عز الدين المجدوب ، 2010م، القاموس الموسوعي للتداولية، مراجعة خالد ميلاد ،دار سيناترا ،تونس ،السحب الثاني.
ــ هولاب، روبرت ، 1999م. نظرية التلقي : مقدمة نقدية ، ترجمة خالد التوزاني والجيلالي الكدية ،منشورات علامات ،ط1 .
ــ هولب، روبرت ، ترجمة د. عزالدين إسماعيل، 1994م ،نظرية التلقي مقدمة نقدية ، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة 97 ،ط1.
ــ هيدجر ، سارتر، ميرلوبونتي ،دوفرين ،إنجاردن ، ( د. ت)الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية ، ( د. ط )