الدكتورة سميرة شمعاوي
أستاذة باحثة بمركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط -المغرب–
chemaouisamira@gmail.com
00212613221582
الملخص
أنجز المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي دراسة تضمنت إحصائيات عن الصحة النفسية والعقلية في المغرب، كشف من خلالها أن 48.90 من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية، أو سبق أن عانوا من تلك الاضطرابات، ويأتي الاكتئاب على رأس اللائحة ب 26% تليه اضطرابات القلق ب 9%ثم الاضطرابات الذهنية بنسبة 5.6%والفصام بنسبة 1%. ينضاف إلى ذلك تزايد حالات الانتحار في صفوف جميع الفئات. كل هذه الأرقام تؤشر على وضع نفسي صعب في المجتمع المغربي وعلى رعاية صحية ناقصة، لأن عدد الأطباء النفسيين لايتجاوز454، وعدد الأسرة الاستشفائية الخاصة بهذه الفئة من المرضى تصل إلى 2431 سريرا يدفعنا لطرح التساؤلات التالية:
فماهي الأسباب التي جعلت، تقريبا نصف المغاربة، عانوا أو يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية؟ ومدى مساهمة جائحة كورونا في تعميق الأزمة الصحية العقلية والنفسية للمغاربة؟
نفترض أن جائحة كورونا عمقت الأزمات النفسية والعقلية للمغاربة لأنها خلقت وضعا اجتماعيا واقتصاديا معقدا: فعلى المستوى الاقتصادي عرت الجائحة الوضع الاقتصادي لمعظم المغاربة الذين يعانون أصلا من أزمات سابقة متمثلة في الهجرة من القرى إلى المدن، مشاكل الجفاف، مشاكل الأمية، وبلغت معدلات الفقر ذروتها عند 6.4% في عام 2020…. وتفاقمت أزمة البطالة بشكل كبير خلال فترة الوباء، بحيث فقد 432.000 شخص عملهم، وشملت البطالة حتى الفئات المتوسطة التي كانت تساهم بشكل كبير في دعم الفئات الفقيرة.
على المستوى الاجتماعي كثرت مظاهر العنف في الأوساط العائلية وخاصة العنف ضد النساء بحيث تعرضت 7.600.000 امرأة للعنف خلال 2019. وتجدر الإشارة إلى أن الرقم قد يكون أكبر من ذلك بسبب عجز بعض النساء عن فضح العنف الممارس ضدهن. ونعرف أن العنف الممارس ضد النساء يؤثر على العلاقة مع الأبناء الذين يتحولون إلى أشخاص معنفين من طرف الأب أو من طرف الأم، وقد يتحولون بموجب ذلك إلى أدوات لتصفية الحسابات بين الزوجين. وتفاقم العنف داخل الأسر ليس جديدا ولكن الجديد هو الحدة التي ظهر بها والتي تداخلت معها مشاكل أخرى من قبيل مشاكل المخدرات، خاصة لدى الشباب والمراهقين الذين عادة ما يتعاطون للمخدرات خارج بيوتهم، ولكن فترة الحجر الصحي فرضت عليهم التزام البيوت مما ولد لديهم مشاعر التذمر والإحساس بالحصار …
وتتوخى هذه الدراسة التعمق في هذه الأسباب وغيرها بالرجوع إلى الإحصائيات المتوفرة وكذا تقديم تفسيرات نفسية اجتماعية لعملية التنشئة الاجتماعية للأطفال التي تؤدي إلى ظهور شخصيات مضطربة، وتكون الظروف الاقتصادية والاجتماعية بمثابة مثيرات لبنيات نفسية هشة، وسنركز على التفاعلات داخل الأسر التي تأزمت بشكل كبير أثناء فترة الجائحة، والتي كانت مهيأة سلفا للتأثر بها بسبب ضعف الروابط العاطفية العائلية.
الكلمات المفتاحية: الصحة النفسية والعقلية،جائحة كورونا، العنف الأسري، الشباب والمراهقون، الإدمان.
The mentaland psychological health situation in Morocco
The causesand its relationship to the Corona pandemic
Dr. Chemaoui Samira
ResearchProfessor at the Center for Educational Guidance and Planning.Rabat-Morocco-
Abstract:
the economic level, the pandemic exposed the economic situation of most Moroccans who were already suffering from previous crises representinimmigrationon from villages to cities, illiteracy problems, poverty, and the unemployment crisis.. . In 2020, 432000 Moroccans lost their jobs due to the Corona pandemic; even middle classes included, who contributed greatly to supporting the poor groups.
On the social level, violence against women and children has increased. So that seven and a half million women were exposed to violence.
And we know that violence against women affects the relationship and also the children become vulnerable to violence on the part of the mother and father.
This study aims to in-depth into the causes leading to mental and psychological illness and the impact of the corona pandemic through a psychological et social analysis of socialization.
Keywords: psychological and mental health, Coronapandemic, domestic violence, Youth and teens, addiction.
مقدمة:
أنجز المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي دراسة تضمنت إحصائيات عن الصحة النفسية والعقلية في المغرب، كشف من خلالها أن 48.90 من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية، أو سبق أن عانوا من تلك الاضطرابات، ويأتي الاكتئاب على رأس اللائحة ب 26% تليهاضطرابات القلق ب 9% ثم الاضطرابات الذهنية بنسبة 5.6% والفصام بنسبة 1%،إضافة إلى ارتفاع عدد حالات الانتحار، إذ سجل المغرب 7,2 حالة انتحار من بين 100000 نسمةسنة 2019. وبدا أن بعض المدن ظهرت فيها حالات الانتحار أكثر من غيرها مثل مدينة شفشاون التي أطلق عليها اسم “عاصمة الانتحار” بسبب كثرة المنتحرين فيها خلال السنوات الأخيرة. وقد فاقم وباء كورونا من تلك الحالات بحيث ارتفعت أعداد المنتحرين جراء الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها الجائحة.
تفاقمت الاضطرابات العقلية والنفسية بسبب قلة الرعاية الصحية للأطفال والمراهقين والراشدين المصابين بتلك الاضطرابات. فعلى سبيل المثال، يوجد في المغرب 400 ألف شخص يعانون من التوحد ضمنهم أطفال ومراهقون وراشدون، وهم يفتقرون للرعاية الصحية الضرورية: فعدد الأسرة الاستشفائية الخاصة بهذه الفئة من المرضى تصل إلى 2431 سريرا فقط، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين454 طبيبا، أما الأخصائيون النفسيون فعددهم أقل بكثير وبعضهم يشتغلون في عيادات خاصة ويطلبون أثمنة تفوق القدرة المادية للمصابين ولعائلاتهم، مما يدفعهم إلىاللجوء إلى الأساليب العلاجية التقليدية مثل الأضرحة والأولياء والمعالجين التقليديين…
لاشك أن وباء كورونا قد عمق مأساة هؤلاء المرضى العقليين والنفسيين بالمغرب، هؤلاء وغيرهم-الذين كانوا يعالجون بالمستشفيات رغم قلة الأطر الطبية وقلة الإمكانيات- لم يجدوا مكانا لهم بسبب امتلاء أسرة المستشفيات بحالات كورونا التي أعطيت لها الأولوية باعتبار خطورة الوباء.
مشكلة الدراسة:
تؤشر هذه الأرقامعلى وضععقلي ونفسي صعب في المجتمع المغربي وعلى رعاية صحية ناقصة وهو ما يدفعنا لطرح التساؤلات التالية:
ماهي العوامل التي جعلت، تقريبا نصف المغاربة، عانوا أو يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية؟ ومدى مساهمة جائحة كورونا في تعميق الأزمة الصحية العقلية والنفسية للمغاربة؟
فرضيات الدراسة:
-نفترض وجود أسباب عديدة لظهور الاضطرابات العقلية والنفسية للمغاربة أهمهاالمشاكل الاقتصادية، التحولات الاجتماعية والقيمية، التدخل التكنولوجي، التعاطي للمخدرات، العلاقة مع الدين.
-نفترض أن جائحة كورونا عمقت الأزمات النفسية والعقلية للمغاربة لأنها خلقت وضعا اجتماعيا واقتصاديا معقدا.
أهداف الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الأسباب التي تؤدي إلى الاضطرابات العقلية والنفسية لدى المغاربة، وهي أسباب متعددة وبنيوية، تؤثر على مناحي عدة من حياة المواطنين، وتعمل على إنهاك العائلات ماديا ومعنويا بالنظر إلى قلة الرعاية الصحية، وتعيش الأسر عذابا حقيقيا في ظل العوز من جهة وقلة الدعم من جهة ثانية.
تتوخى هذه الدراسة التعمق في هذه الأسباب وغيرها بالرجوع إلى الإحصائيات المتوفرة وكذا تقديم تفسيرات نفسية اجتماعية لعملية التنشئة الاجتماعية للأطفال التي تؤدي إلى ظهور شخصيات مضطربة، وتكون الظروف الاقتصادية والاجتماعية بمثابة مثيرات لبنيات نفسية هشة، وسنركز على التفاعلات داخل الأسر التي تأزمت بشكل كبير أثناء فترة الجائحة.
مفاهيم الدراسة:
جائحة فيروس كورونا: هي جائحة ظهرت بسبب انتشار فيروس كورونا الذي اكتشف في مدينة وهان الصينية سنة 2019، وانتشر في جميع أنحاء العالم بكيفية سريعة، الشيء الذي دفع منظمة الصحة العالمية إعلانه جائحة عالمية في مارس 2020. وكانت له تأثيرات قوية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية…لازال العالم يعاني منها حتى اليوم.
العنف الأسري: هو مجموعة من السلوكات الموسومة بالعنف بمختلف أشكاله، سواء الجسدي أو النفسي أو الجنسي، وهي تؤثر سلبا على العلاقات الأسرية وتخلق أجواء يسودها التذمر والقهر. ويحرم خلالها الأبناء من الأمان، الذي يشكل عاملا مهما لنموهم بشكل سليم.
المراهقون: هم الأفراد الذين يعيشون مرحلة المراهقة، التي تتميز بوجود فترتين (وهذا فيه اختلاف وجهات نظر الباحثين)، فترة أولى تبدأ مع البلوغ (تقريبا 12 أو 13 سنة) وتتميز ببداية النشاط الجنسي والتحولات البيولوجية والفسيولوجية وتتجسد سلوكيا بقوة الاندفاع وعدم الانصياع لأوامر الراشدين… ومرحلة ثانية تبدأ تقريبا في 16 سنة، ويعرف خلالها نضجا فكريا وتحكما أكبر في انفعالاته لأن هاجسه هو التقرب من الراشد وتسهيل عملية اندماجه في الجماعة التي ينتمي إليها.
الإدمان: يظهر الإدمان عندما يحس الفرد برغبة في الحصول على مادة مخدرة أو أي وسيلة يستعصي عليه التخلي عنها، ويتولد الإدمان على التدخين أو على المخدرات أو على الكحول بفعل المواد المشكلة لها والاحساس الذي تحدثه لدى المتعاطي لها. ويمكن التركيز على عامل اللذة التي يستشعرها المدمن بشكل أكبر خاصة عندما نتحدث على الإدمان على الجنس أو الإدمان على الأنترنيت الذي أصبح يندرج ضمن الاضطرابات النفسية مثله مثل الإدمان على المخدرات.
الاضطراب العقلي: تعرف منظمة الصحة العالمية الاضطراب العقلي بكونه”اضطراب، يتميز على المستوى الاكلينيكي،بضعف كبير يشمل الجانب المعرفي، ويشمل أيضا تنظيمالعواطف والسلوكات لدى الفرد. ويرافق ذلك حساس بالضيق أو العجز الوظيفي في مجالات عدة “(الحمادي، 2006).
الاضطرابالنفسي: هو اضطراب يحدث خللا في سلوك الفرد وفي حياته النفسية. والاضطراب النفسي يتجسد في الاختلالات العلائقية الغير الملائمة التي تستدعي قلق المحيط.
حسب منظمة الصحة العالمية، لا يوجد فرق بين الاضطراب العقلي والاضطراب النفسي ذلك أن جميع المجالات التي يطالها الاعتلال تتأثر ببعضها البعض، إذ لا يمكن الحديث عن خلل في الجانب المعرفي دون الحديث عن الجانب النفسي. ولكن لابد من الإشارة إلى أن الاختلاف في التسميات راجع إلى اختلاف المقاربات، فالمقاربة العضوية تفسر تلك الاضطرابات بوجود خلل عضوي –عصبي أو وراثي، والمقاربة التحليل- نفسية تفسر المرض بوجود أزمات داخلية مكبوتة ترجع إلى المراحل الأولى من حياة الإنسان، أما المقاربة الاجتماعية فترجع المرض إلى اضطراب في التواصل البيشخصي والتفاعلات بين أفراد المجموعة. وهذا الاختلاف ير جع إلى تعقد المرض النفسي والعقلي، الشيء الذي يستلزم زوايا متعددة للفهم والعلاج. وتعددت التصنيفات التي تساعد الأطباء العقليين على تشخيص الاضطرابات، ويقدم التصنيف الدولي الأخير (حمادي، 2021) للاضطرابات العقلية والنفسية (11) تفاصيل أكثر مقارنة مع التصنيف السابق (10)، ونعرض لبعضها فقط:الاضطرابات العقلية، السلوكية أو اضطرابات النماء العصبية، وتحتوي:اضطرابات النماء العصبية،اضطرابات الكلام أو اللغة النمائية،اضطراب طيف التوحد،اضطراب التعلم النمائي،اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة،اضطراب العرة أو عرات أولية،متلازمة النماء العصبي الثانوية،الفصام والاضطرابات الذهانية الأولية،الفصام الوجداني، الاضطراب الذهاني الوجيز،الاضطراب التوهمي،كاتاتنا،اضطرابات المزاج،الاضطرابات الاكتئابية،اضطرابات عقلية أو سلوكية مرتبطة بالحمل أو الولادة أو النفاس دون أعراض ذهانية محددة،اضطراب الوسواس القهري أو الاضطرابات ذات الصلة المحدثة بالمواد،الاضطرابات الناجمة عن استعمال المواد والسلوكيات الإدمانية…
إذا أخذنا بعين الاعتبار التصنيف الدولي الأخير الذي يدرج تفاصيل أكثر عن الاضطرابات، يمكن القول إن المعطيات الإحصائية السابقة قد لاتعبر بدقة عن الوضعية الصحية العقلية والنفسية، خاصة إذا أدرجنا الاضطرابات المرتبطة بالتعاطي للمخدرات وسط الشباب المغربي ، الذي تأزمت نفسية العديد منهم بسبب فقدان الأمل في حياة كريمة بسبب أزمة البطالة التي تطال جميع الفئات بما فيها بطاقة الخريجين من الجامعات والحاصلين على الدبلومات العليا، إضافة إلى عوامل أخرى نعرضها كالتالي:
العوامل المساهمة في تعميق الأزمة العقلية والنفسية للمغاربة وأثر الجائحة:
- العامل الاقتصادي:
بلغت معدلات الفقر ذروتها عند 6.4% في عام 2020 وتفاقمت أزمة البطالة بشكل كبير خلال فترة الوباء، بحيث فقد 432.000 شخص عملهم، وعرت الجائحة الوضع الاقتصادي لمعظم المغاربة الذين يعانون أصلا من أزمات سابقة متمثلة في الهجرة من القرى إلى المدن، مشاكل الجفاف، افتقار معظم البوادي للمرافق الحيوية (المدارس، المستشفيات…)، الشيء الذي يدفع الساكنة إلى مغادرة القرى والاستقرار على هوامش المدن في مدن الصفيح (هذه الأخيرة لم تندثر رغم الجهود التي بذلتها الدولة للقضاء عليها، إذ لازالت حاضرة في بعض المدن كمدينة الدار البيضاء…). ومن القطاعات التي تأثرت بشكل كبير بالجائحة قطاع الفلاحة وقطاع السياحة…ولا بد من الإشارة إلى أن الإحصاء شمل فقط الفئات النشطة التي تشتغل في قطاعات مهيكلة، ولكن العدد هو أكبر من ذلك بسبب وجود قطاعات غير مهيكلة. وشملت البطالة أيضا الفئات المتوسطة التي كانت تساهم بشكل كبير في الدعم المالي للفئات الفقيرة، وأصبحت تعيش بدورها حالة فقر أثر عليها بشكل عميق لأنها لم تعتد على المستوى المعيشي المتدني ولم تكن مهيأة لهذا الوضع. ولايختلف وضع هذه الطبقة فيالمغرب عن نظيرتها في العالم، بحيث يشير تقرير نشره مركزPEW مستندا فيه على معطيات للبنك الدوليأن “الجائحة قد أعاقت تطور الطبقة الوسطى، ورفعت بشكل حاد الفقر خلال سنة 2020”.
انعكس تدني الوضع الاقتصادي للطبقة الوسطى على الفئات الفقيرة، التي تضررت بشكل كبير أثناء الجائحة. وقد اتخذت لجنة اليقظة الاقتصادية تدابير عديدة للتخفيف من أثر كوفيد 19 والمتمثلةفي تقديم دعم مالي للأسر الفقيرة التي لا تتوفر على دخل قار أثناء فترة الحجر الصحي، التي عاشت خلالها الأسر، أوج أزمتها الاقتصادية. واتخذت اللجنة أيضا إجراءات لإنقاذ المقاولين الذاتيين، بحيث منحتهم قروضا بنكية تسهيلية لتغطية النفقات الضرورية التي لا يمكن تأجيلها ومع ذلك، فقد توقفت 113000 شركة عن العمل،وظلت تلك الإجراءات محدودة الأثر بسبب وضع اقتصادي هش تعاني منه فئات عريضة من المجتمع المغربي حتى قبل الجائحة.
- العوامل الاجتماعية:
كان للوضع الاقتصادي تأثير على العلاقات الاجتماعية، وتجلى ذلك في ارتفاع وتيرة العنف في الأوساط العائلية، وخاصة العنف ضد النساء بحيث تعرضت 7.600.000 مليون امرأة للعنف خلال 2019. وتجدر الإشارة إلى أن الرقم قد يكون أكبر من ذلك بسبب عجز بعض النساء عن فضح العنف الممارس ضدهن. ويمكن تفسير العنف الذي ارتفع خلال فترة الحجر الصحي بالعديد من الأسباب منها عدم تعود مجموعة من الأسر المغربية على التواجد مجتمعة طيلة اليوم بالبيت، إذ غالبا ما نجد الآباء يذهبون- بعد العمل- للمقاهي والشباب-بعد الدراسة- يجتمعون مع أقرانهم خارج البيت، ولكن فترة الحجر الصحي أرغمت الجميع على التواجد داخل البيت، والوضع يزداد تعقيدا إذا أضفنا عنصرا آخر للتفسير، وهو مرتبط بشروط السكن: فقد كشفت الدراسة الإحصائية التي قامت بها المندوبية السامية للإحصاء أنه في سنة 2019، فقط27% من سكان المدن يتوفرون على غرفتين ، و43.6% يتوفرون على ثلاث غرف. وفي المجال القروي، يتوفر 24.7% على غرفتين، و37.1% يتوفرون على ثلاث غرف. أما الذين يتجاوزون 5 غرف فأكثر، فإنهم لم يتجاوزوا 8.7% في المدن و11.4% في القرى. وللحيز المكاني الضيق تأثير على الوضع النفسي أيضا، لأنه لا يساعد على الاسترخاء ينضاف إلى ذلك أن من عادات معظم المغاربة أن يحتفظوا بغرفة للضيوف غالبا ما تكون أكثر الغرف مساحة ويحرم الكبار والصغار من الاستماع بها، والنتيجة هي تواجد معظم الأفراد في مكان ضيق يسهل حدوث الصراعات ويقوي المشاحنات.والتواجد داخل المنزل له دلالة أعمق في مجال علم النفس، فمن الناحية الظاهراتية، لا ينحصر فعل السكن habiter في مجرد احتلال مساحة والقيام بفعل، ولكنه يحيل إلى فكرة الحضور في العالم… ومن هنا فإن مفهوم السكن ومفهوم الكينونة مترابطين” (San Martin, 2020)فالزوجة في المجتمع المغربي- تكون في الغالب- مسؤولة عن تأثيث البيت وتنظيمه، وهذا يجعلها تتعامل مع البيت كأنه ملكا لها، ويظهر ذلك من خلال إعطائها الأوامر للأبناء بالحفاظ على النظام والتواجد في مساحة معينة…وخاصة إذا كانت الأم تعاني من الوسواس القهري الذي يجعلها مبالغة في النظافة والتنظيم… إلى درجة تزعج الآخرين.
ونعرف أنه خلال فترة الحجر الصحي، وجد الكل نفسه في مساحة واحدة مشتركة دون أن تكون هناك إمكانية لمساحة حميمية، و”غياب هذه المساحة والتعرض المستمر لنظرات الآخرين هو منبع تدمير الهوية” (San Martin, 2020, 100)، وهذا مايفسر عمق ارتفاع درجة العنف الأسري خلال فترة الجحر الصحي، لأن درجات القلق ارتفعت بشكل كبير، وهو قلق له جذور تاريخية ترجع للتنشئة الاجتماعية وأخرى ترتبط بالمستقبل الغامض وترتبط أيضا بشبح الموت المهيمن خلال الجائحة، الذي أصبح محيطا بالأفراد، وخاصة أنهم بدأوا يفقدون أفرادا من أسرهم أو من جيرانهم أومن أصدقائهم… أثناء الجائحة، وتحاصرهم صور الموت بالوباء المنقولة عبر القنوات التلفازية ووسائل التواصل والأعداد الهائلة من الموتى عبر العالم.وهذا الاجتياح المستمر للموت هو الذي يعمق قلق الموت، كما أن موت الآخرين يخلق الوعي باقتراب موعد موت الذات، وهذا بالضبط ما يخيف في الجائحة إذ يتوقع الشخص الموت في كل لحظة.
ولاشك أن معاناة الأطفال والمراهقين كانت أكثر حدة بالنظر إلى المرحلة العمرية التي يجتازونها، والتي تتميز بحب الحياة واللهو والتواجد مع الأقران… غير أن الجائحة فرضت تغيير أسلوب الحياة لديهم بطريقةمفاجئة ينضاف إلى ذلك تزايد الضغط الأسري -الناتج عن الأزمة الاقتصادية وأيضا عن المشاكل العلائقية-فظهرت حالات اكتئاب كثيرة لم تتم معالجها -بسبب انشغال القطاع الصحي بحالات كورونا، وتم تأجيل علاج كل الأمراض الأخرى، بما فيها الاضطرابات النفسية والعقلية-ما أدى إلى حالات الانتحار.
وضمن المشاكل الاجتماعية، نجد حالات الطلاق التي انتشرت بشكل كبير في المجتمع المغربي، بحيث تضاعفت هذه الحالات ثلاث مرات بين 2019 و2022. ففي 2021، بلغت حالات الطلاق 20 ألفا و655 حالة طلاق. ويرتبط ارتفاع حالات الطلاق بعوامل كثيرة منها ما هو اقتصادي راجع إلى فقدان العديد من الأفراد لمورد رزق جعل الأسر تتأثر بشكل مباشر بهذه الوضعية، ومنها ما هو مرتبط بالاحتكاك اليومي للزوجين والأبناء، الشيء الذي لم يعتادوا عليه قبل الجائحة، وهنا نشير إلى بعض العادات والطقوس التي كانت موجودة ولكنها لم تكنبارزة بشكل كبير من قبيل الطقوس الوسواسية التي تشكل أحد أعراض الوسواس القهري، الذي يتسم بوجود “وساوس أو أفعال قهرية مستمرة أو الاثنين معا… ويجب أن تكون الوساوس والأفعال القهرية مضيعة للوقت (تستغرق أكثر من ساعة) وتؤدي إلى ضائقة كبيرة أو ضعف كبير في الشخصية أو العلاقات العائلية أو الاجتماعية أو التعليمية أو المهنية…” (الحمادي، 2021). والتركيز على هذا الاضطراب راجع إلى أن الاحصائيات لم تتحدث عنه، في حين ينتشر في الأوساط المغربية بشكل مهم، ويصل عدد قليل من هذه الحالات إلى المستشفيات لأن الوسواسي القهري لا يعتبر نفسه مريضا وغالبا ما يخجل من البوح بالأفكار التي تسيطر عليه، غير أن وباء كورونا كشف هذه الحالات بحيث أن العديد من الناس سيطر عليهم وسواس الفيروس، الذي تجلى في المبالغة في عملية التنظيف ووضع الكمامات والتعقيم…، وعانت الأسر بشكل روتيني من هذه السلوكات، ولكن المعاناة الحقيقية ظهرت لدى الأسر التي تضم أفرادا يعانون من اضطراب الوسواس القهري، إذ تميز تعاملهم مع الوباء بنوع من المبالغة أثر بشكل سلبي على العلاقات الأسرية، وقد يكون أحد أسباب العنف أوالطلاق أو ظهور الاضطراب النفسي.
ومن التأثيرات السلبية لكورونا، تسجيل حالات كثيرة للانتحار سنة 2020، فاقت في إحدى الأشهر وفيات فيروس كورونا، ومن بين المنتحرين نجد الشباب، “فمن بين 301 شخص انتحروا خلال النصف الأول من السنة، انتحر 31 طفلا قاصرا وأصغر منتحر لايتجاوز عمره 8 سنوات، و16 منتحرا من الطلبة”(الفلوس، 2020).هذه الأرقام متحفظ عليها في ظل نقص المعلومات الرسمية عن ظاهرة الانتحار في المجتمع المغربي، خاصة وأن منظمة الصحة العالمية صنفت المغرب كثاني بلد من حيث عدد المنتحرين في العالم العربي، والإعلان عن الحالات عبر وسائل التواصل والجرائد يؤكد خطورة الظاهرة، التي لانشك في علاقتها باضطرابات نفسية وعقلية تم إهمالها.
- العوامل التربوية المدرسية:
أثناء فترة الحجر الصحي، اعتمدت المنظومة التربوية في المغرب -كما في دول أخرى- أسلوب التعليم عن بعد كحل للحصص الحضورية، وكانت هذه التجربة جديدة على مجموعة من رجال ونساء التعليم ولم يتم التهييء لها بشكل كاف. وكانت تأثيراتها التعليمية عميقة لأن معظم الأطفال ينتمون إلى أسر فقيرة لا تستطيع توفير مستلزمات التعليم عن بعد (الحاسوب، الربط بالشبكة العنكبوتية…) إلى درجة أن “احتمال التخلي عن متابعة الدراسة عن بعد كان بنسبة 86.2% لدى التلاميذ المنتمين لفئة 20 % من الأسر الأقل يسرا “. وهذا يعني أن التعليم عن بعد لم يستجب لحاجيات المتعلمين، إضافة إلى غياب التفاعل الحقيقي مع المدرس ومع الأقران لأن القسم ليس فقط فضاءللتعلم والتعليم ولكنه فضاء للتنشئة الاجتماعية يسمح للطفل وللمراهق بأن يكتسب آليات للاندماج المدرسي عبر ربط علاقات مع الأتراب وتعلم القيم والمعايير وتبني مواقف ….و التأثيرات النفسية للجائحة على التلاميذ ثابتة من خلال مجموعة من الدراسات منها دراسة(اخليفي، أودوروش، هامل، 2021) شملت 300 تلميذا في المرحلة الإعدادية وينتمون إلى منطقتين مختلفتين (الرباط في الغرب وجرادة في الشرق)أثناء الجائحة، توصلت إلى وجود تأثيراتنفسية على التلاميذ وعلى الأساتذة:
بالنسبة للتلاميذ، ظهرت اضطرابات نفسية مثل القلق، فقد بلغت نسبة المتعلمين الذين يشعرون بالقلق أثناء الجائحة 18,30% من أفراد العينة، وعبر 17,7% من التلاميذ عن إحساسهم بالكآبة. ورغم أن القلق هو إحساس قد يكون طبيعيا خلال المرحلة الأولى من المراهقة، إذ يحس المراهق بخوف غير مبرر، يدفعه أحيانا إلى الانعزال والانطواء حول الذات، غير أن مظاهر القلق خلال الجائحة هي أكثر عمقا لأن الحصار الذي يعيشه المراهق يزيد من مأساته ويحرمه من أجواء المرح الذي كان عادة يعيشها مع أصدقائه قبل الجائحة بطريقة مباشرة. والخوف من الامتحانات ازداد في غياب تحصيل دراسي منتظم وفاعل، وخاصة لدى التلاميذ المطالبين باجتياز الامتحانات الاشهادية لأنهميقارنون بين مكتسباتهم من التعليم عن بعد وبين صعوبة الامتحانات المقبلين عليها فيحتملون عدم قدرتهم على رفع التحدي ومن تم يزداد خوفهم من تلك الامتحانات، التي كانت حتى قبل الوباء، مثار خوف وقلق. ويزيد الضغط الأسري من معاناة الأبناء، بحيث أن معظمهم يطالب أبناءهم بمعدلات مرتفعة خاصة في الباكلوريا، لأن من شأن تلك المعدلات أن تساعدهم على ولوج المدارس والمعاهد العليا والكليات ذات الاستقطاب المحدود.
إن الحالات النفسية للأطفال والمراهقين المغاربة أثناء الجائحة لا تختلف عن حالات أطفال ومراهقي العالم، فقد أشارت الدراسة التي قامت بها منظمة اليونيسف، “أن 5 ̷1 من الشباب بين 15 و24 سنة عانوا من الاكتئاب والإهمال… وأن 7̷1 من الأطفال تأثر بالحجر الصحي، ويوجد أكثر من مليار و600 مليون طفل يرون بأن تربيتهم تأثرت بشكل سلبي… وهم متخوفون من المستقبل”.
عانى المدرسون بدورهم من الوضع الوبائي على غرار باقي الفئات، فانطلاقا من دراسة شملت 100 مدرسا يدرسون في المرحلة الإعدادية، تبين أن نسبة منهم تعاني من اضطرابات نفسية أثناء فترة الجائحة: فقد عبر 5% من المدرسين عن إحساسهم بالقلق بشكل دائم أثناء جائحة كورونا، وعبر 20 % عن إحساسهم بهذا العرض أحيانا، وعبر 39% عن إحساسهم بالقلق بشكل نادر. ورغم أن نسبة المدرسين الذين عانوا من القلق تبدو قليلة مقارنة مع باقي النسب، ولكن الاحتمال الوارد هو وجود صعوبة في معرفة هل الإحساس بالقلق ظهر مع كورونا أو قبلها. وبالتالي، قد تكون النسب أكثر من ذلك، لأن فئة المدرسين عانت من نفس الوضع الوبائي الخاضع للحجر الصحي، ومجالها المهني انحصر في التواصل عن بعد مع التلاميذ. وتوجد إكراهات كثيرة صاحبت هذا الشكل التعليمي: فمعظم التلاميذ لا يتابعون الدروس عن بعد، وكانت استفادتهم من تلك الدروس متوسطة، إذ أكد 57% من المدرسين أن استفادة التلاميذ من المحتوى الدراسي كانت متوسطة، وأكد 35% أن الاستفادة كانت ضعيفة، هذا الوضع سيعمق مشكلةنقص التعلمات الموجودة عند التلاميذ حتى قبل الجائحة، والتي كشف عنها التقرير الوطني للبرنامج الدولي PISA 2018، حيث توصل إلى أن”73% من التلاميذ الذين شملهم البحث لا يتوفرون على الحد الأدنى من الكفاءات لفهم النصوص المكتوبة، و76%لا يفهمون الرياضيات، و69%لا يفهمون العلوم”
ويظهر تقرير للمندوبية السامية للتخطيط بشراكة مع اليونيسف أن “46.5% من تلاميذ المرحلة الابتدائية انقطعوا عن متابعة الدروس عن بعد في حين واصل 26% فقط متابعة تلك الدروس”.
تكشف النسبة الأولى عن صعوبة في متابعة الدروس عن بعد في ظل غياب الشروط المساعدة على ذلك مثل تغطية الأنترنيت وامتلاك التلاميذ للحواسيب….، إضافة إلى مشكل آخرهوغياب ثقافة مرتبطة باستعمال الأنترنيت في التحصيل الدراسي: فقد تعامل بعض التلاميذ مع الأنترنيت كمجال للتسلية وعانى بعض المدرسين من الشغب الافتراضي مثل قبيل إغلاق ميكروفون الأستاذ…إضافة إلى تعزيز مسألة الإدمان على الأنترنيت إذ وجد بعض التلاميذ الفرصة للتسلية في المجالات التي تمتعهم متحايلين على الآباء الذين يعتقدون أن أبناءهم يستعملون الأنترنيت للدراسة عن بعد.
- ارتفاع الإدمان على الأنترنيت أثناء الجائحة:
أثناء فترة الحجر الصحي، وجدت الأسر نفسها محصورة بين جدران البيت، فلجأ أفرادها إلى التسلية باستعمال هواتفهم النقالة، التي تحولت إلى مؤنس للكل خاصة في ظل ظهور حالات العنف الناتجة إما عن التوقف عن العمل أو عدم التفاهم مع أفراد الأسرة أو الخوف من التعاطي للخمر أو للمخدرات داخل المنزل: فالمعروف أن مجموعة من الأفراد-سواء منهم الأطفال أو المراهقين أو الراشدين-يرفضون التعاطي لتلك المواد داخل المنزل إما خوفا أو تجنبا للتأثير السلبي على باقي الأفراد أو حفاظا على طابع الكتمان، مما رفع من حالات العنف داخل الأسر.
وقد كشف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عن معلومات استقاها من استمارة وزعت على 102من المراهقين تتراوح أعمارهم بين 13 و19 سنة تم الالتقاء بهم في الفضاءات العمومية بمدينة الدار البيضاء وعيادة خاصة لأحد الأطباء، أسفر الرصد عن النتائج التالية:
93.1% يستعملون شبكات التواصل الاجتماعي و89.2 يشاهدون الأفلام عبر الأنترنيت و43.1 يستعملون ألعاب الأنترنيت و7.8% يعتمدون ألعاب الرهان، 8% من المراهقين هم مدمنون.
وإذا كانت هذه الدراسة قد شملت عينة صغيرة من المراهقين، فإنها تبقى ممثلة لمجتمع المراهقين الذين أصبح إدمانهم على الأنترنيت يقلق مجموعة من الأسر المغربية التي تجهل كيفية التعامل معذلك الإدمان. والحقيقة أن موضوع الإدمان لا يشمل فقط الأبناء ولكن يشمل الآباء أيضا: فلطالما تواجهك – في الساحات العمومية-صور لأمهات منشغلات عن أبنائهن الصغار بالهاتف النقال رغم تمسك الطفل بهن في إشارة إلى الاعتناء به. غير أن الشباب يتعرضون للتوبيخ بسبب مبالغتهم في التعاطي للأنترنيت وإهمالهم للواجبات المنزلية، في حين لا يحاسب الراشدون أنفسهم على ذلك بحجة أن الشباب يحتاج أكثر إلى كل قواه العقلية والجسدية للاستمرار في التحصيل الدراسي.
وخلال الجائحة، ازداد الاقبال على الأنترنيت الذي أصبح ملاذا للشباب المحاصرين أثناء فترة الحجر الصحي، وقد أثبتت الدراسات تفاقم الوضع الصحي النفسي عند الشباب في العالم، ولا يستثنى الشباب المغربي من ذلك خاصة وأن عددا كبيرا منهم يتعاطى للتدخين وللمواد المخدرة والكحول، فيكون التعويض بالإدمان على الأنترنيت.
- عوامل مرتبطة بالتدخين والتعاطي للكحول والمواد المخدرة:
يتضمن تقرير للمندوبية السامية للتخطيط صادر سنة 2022 معطيات حول التدخين في المغرب، استقاها من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، صنف المدخنين -بكيفية مستمرة أو مؤقتة-حسب الجهات، وتأتي جهة الداخلة-واد الذهب على رأس الجهات بنسبة 16.4%، وترتب جهة درعة -تافيلالت في أسفل الترتيب ب 6%.
وأكد تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وجود أكثر من 6 مليون من المدخنين (500 ألف أقل من 18 سنة) وحوالي18.500 شخص يتعاطَون للمخدرات عن طريق الحُقنوأكثرمن 9% من القاصرين في الوسط التعليمي استهلكوا مرة واحدة على الأقل مخدر القنب الهندي…
وأغلبية المتعاطين للتدخين وللمخدرات هم من المراهقين والشباب، الذينتتزامن مراحل تطورهم مع الرغبة في خوض غمار التجارب وبحب استطلاع كبير يدفعهم إلى تجريب تلك المواد، التي لاتلبث أن تتحول مع مرور الوقت إلى إدمان يصعب التخلص منه، وغالبا ما يلعب الأصدقاء دورا كبيرا في التشجيع على ذلك، لأن العلاقة الحميمية معهم -خاصة خلال مرحلة المراهقة-تعطي الانطباع للمراهق بأن أصدقاءه هم سنده الحقيقي في ظل عدم التفاهم بينه وبين الأسرة، والناتج عن رفض المراهق لكل الأوامر والنواهي الصادرة عن الراشدين.
ومن الأمور التي شجعت الأطفال والمراهقين على التعاطي للمخدرات في المجتمع المغربي هو سهولة الحصول على المواد المخدرة بحيث تجد جماعات من مروجي المخدرات يتربصون بالتلاميذ أمام أبواب المؤسسات التعليمية، وأحيانا يشغلون تلاميذ متمدرسين ليسهلوا استقطاب زملائهم. ورغم البرامج التي تضعها الدولة لمحاربة انتشار المخدرات، فإن ذلك لم يحل دون انتشارها في صفوف الشباب بصفة خاصة. ومن التأثيرات السلبية لهذه الظاهرة هناك الإدمان التي يجعل الشاب عاجزا عن التخلي عن المخدر، فيبحث عن كل الأساليب التي يستطيع بموجبها الحصول على المواد المخدرة، فيلجأ إلى السرقة أو القتل وحتى قتل أحد الأبوين أو أحد الأقرباء، كما يلجأ إلى الاغتصاب سواء اغتصاب الفتيات أو الفتيان أو زنا المحارم، الذي يكثر في المجتمع المغربي ولكن يتم التستر عليه تحت غطاء “ستر الفضيحة”.
تبدو مآسي التعاطي للمخدرات واضحة للعيان أمام تزايد حالات الأطفال والمراهقين المشردين خاصة في المدن الكبرى-وكثرت هذه الحالات خلال الجائحة- حيث تخلت بعض الأسر عن مسؤولياتها الأسرية في ظل ضغط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وترك الأطفال لحال سبيلهم يواجهون الحرمان والتنمر والاغتصاب…ومعظم هؤلاء الأطفال يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية، ويشكلون خطرا على سلامة الآخرين لأنهم يعترضون سبيلهم ويعتدون عليهم تحت تأثير المخدرات التي يدمنون عليها. ورغم أن بعضهم يذهب إلى الاصلاحيات والسجون، فإن إدمانهم على المخدرات يظل مستمرا بسبب سهولة الحصول على المواد المخدرة داخل السجن.
النتائج
حاولنا من خلال هذه الدراسة أن نبينتأثير مجموعة من العوامل على ظهور الاضطرابات العقلية والنفسية عند المغاربة، كالعامل الاقتصادي والاجتماعي والتربوي وتناول المخدرات…ويرى مجموعة من الباحثين أن التفاعل بين الشخص والبيئة التي ينتمي إليها هو الذي يتحكم في تشكيل الشخصية، وهذا يعني أن العوامل السالفة الذكر تؤثر في بنية الشخصية، فنكون أمام إما شخصيات “متزنة” أو شخصيات “مضطربة”، وهذا ما أثبته الدراسات التي أنجزت خلال جائحة كورونا، بحيث اتضحت أهمية الضغوطات التي مارستها مجموعة من العوامل على حياة الإنسان، ليس فقط في تأجيج الحالات النفسية للأشخاص الذين يعانون مسبقا من اضطرابات عقلية ونفسية، ولكن بالكشف عن حالات كانت كامنة فجرتها الجائحة كحالات القلق المرضي والوسواس القهري وتعميق الخوف من الآخر، الذي تحول أثناء الجائحة إلى عدو مؤذ: فالاقتراب منه يعني العدوى والموت.
لا يمكن إنكار تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعاطي للمخدرات… في ظهور الاضطرابات العقلية والنفسية، ولكن جائحة كورونا عمقت ذلك التأثير لأنها رفعت من نسب الفقر في العالم وفقدان فرص العمل والحرمان من مورد زرق… وكلها تعني العدم أي الحرمان من كل ما يلبي الحاجيات الأساسية للأفراد، أضف إلى ذلك شبح الموت الذي يخيم على الجميع، والذي سيظل حاضرا زمنا طويلا خاصة لدى الأطفال والمراهقين الذين حرموا من استمتاعهم بالحياة أو الذين فقدوا أقربائهم أو أصدقائهم أثناء الجائحة.
وفي هذا السياق، أثبتت بعض الدراسات أن الإصابة بكوفيد 19 تحدث تأثيرات عصبية -نفسية، وتظهر لدى الأشخاص اضطرابات القلق التي يمكن أن تصل إلى 37%، واضطرابات قلق ما بعد الصدمة التي يمكن أن تصل إلى 44% عند الأشخاص الذين ولجوا المستشفيات للعلاج من كوفيد19 (Etinzon&El-
Hage, 2021).
وتوجد علاقة مباشرة بين تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي وبين تدهور الوضع الصحي العقلي والنفسي لدى المغاربة. وهي علاقة اكتشفت عبر دراسات عديدة أنجزت في دول عديدة، لكن الفرق بين الدول النامية والدول المتقدمة يتجلى في قدرة هذه الأخيرة على احتواء الحالات المضطربة أثناء الجائحة باستقبالها في المستشفيات وتقديم الخدمات العلاجية لها، في حين غابت هذه الرعاية في المجتمع المغربي بفعل التفرغ لحالات كوفيد 19 مما فاقم وضع المرضى العقليين والنفسيين.
التوصيات
1 ـ ضرورة إدماج مجزوءات للتكوين في موضوع الصحة النفسية والعقلية في مراكز تكوين المدرسين لمساعدتهم على رصد الحالات بشكل مبكر قصد توجيهها للأخصائيين،
2-تكوين أخصائيين نفسيين مدرسيين يساهمون في رصد الحالات التي تعاني من اضطرابات عقلية ونفسية ومعالجتها،
3-إعطاء الجهات الصحية المعنية الأولوية للاضطرابات العقلية والنفسية في مجتمعاتنا العربية نظرا لانعكاساتها السلبية على الأسر التي تعاني صعوبات كثيرة من جراء الضغط المادي والمعنوي الذي تعيشه،
4ـ. الزيادة في عدد الأطر الطبية المتخصصة في الاضطرابات النفسية والعقلية والرفع من مراكز محاربة الإدمان إذ يلاحظ أن العديد من الشباب تضطرب حالاتهم العقلية بسبب تعاطيهم للمخدرات،
5-إعداد دورات تكوينية للآباء يتعلمون خلالها كيفية التعامل معأبنائهم، لأن العديد من الاضطرابات النفسية هي نتاج تراكمات لتجارب سلبية يمر منها الفرد خلال الطفولة، فتتكون شخصية ذات نفسية هشة تعاني من عدم تقدير الذات ومن غياب الثقة في النفس،
6-أثناء الاقبال على الزواج، يطلب من الأزواج وثائق طبية تتبث صحتهم النفسية والعقلية، استباقا لمشاكل قد تنعكس سلبا على الأبناء، وفي المغرب، أصبت شهادة الصحة الجسمية ضرورية، ولكن لابد من شهادة تثبت الصحة العقلية والنفسية للزوجين.
المراجع
1-المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. (2 نونبر 2022) دراسة حول الصحة العقلية على الصعيد الوطني.
2-Taux de mortalité par suicide (pour 100000 hab) –MoroccoData, in site : donnees.banquemondiale.org.
3-OMS. Troubles mentaux. Site. Who.int
4-د. الحمادي، أنور. (2006). ا لاضطرابات العقلية والسلوكية في التصنيف الدولي للأمراض-11. الطبعة الحادية عشر.
5-Haut-Commissariat du Plan (2022). Les indicateurs sociaux du Maroc. (p23)
6-PEW Research Center.(2020) The COVID-19 downturn curbed growth in the global middle class, increased poverty sharply. In site/pewresearch.org 17 Mars 2021.
7-وزارة الاقتصاد والمالية. صندوق الضمان المركزي يطلق “ضمان المقاولين الذاتيين كوفيد 2019 في موقع: Finances.gov.ma
8-Haut-Commissariat du Plan) 2022. ( Les indicateurs sociaux du Maroc. (p266-269)
9-Evangelina San Martin .(2020). La dimension spatiale de la violence conjugale. Hall Open Science. (p99)
10- Ibid (p100).
11-مراد،كراخي.(2022) الطلاق بالمغرب. وزارة العدل تكشف التفاصيل. 13-09-2022 snrtnews.com (تم الاطلاع عليه يوم 11-1-2023 على الساعة10 و47 دقيقة).
12-د. أنور، الحمادي. (2021). الاضطرابات العقلية والسلوكية في التصنيف الدولي للأمراض-11. الطبعة الحادية عشر.
13-فؤاد، الفلوس. (2020). المغرب…ضحايا الانتحار أكبر من ضحايا كورونا وباحثون يحذرون. في موقع Site skynewsarabia.com consulté le 5-1-2023.
14-المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. التقرير السنوي 2020 (ص53).
15- UNICEF. Les effets néfastes de la COVID-19 sur la santé mentale des enfants et des jeunes ne seraient que la « partie émergée de l’iceberg ». New York. 04 Octobre 2021.
16-يحيى اخليفي، علي هامل، إسماعيل أودوروش.(2021). العلاقة التربوية والنفسية بين المدرس والمتعلم في ظل التعليم عن بعد خلال جائحة كورونا. مركز التوجيه والتخطيط التربوي. (بحث غير منشور)
17-تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين 2018.
18-تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي 2020 (ص45)
19-تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. (2021). مواجهة السلوكات الإدمانية: واقع الحال والتوصيات. رئيس اللجنة عبد الحي بسة. أنجز التقرير في 29 دجنبر 2021 أي في أوج أزمة كوفيد.
20- Etinzon, Sara& El-Hage Wissam. (2021). Conséquences psychiques du Covid 19, Trois troubles principaux. La revue du praticien Médecine générale.
مقال رائع يعكس حقيقة الوضع الصحي العقلي والنفسي بالمغرب.
شكرا جزيلا