نوفمبر 22, 2024 1:41 م
5

الدكتور عمر عبدالله العنبر

أستاذ مشارك

قسم اللغة العربية وآدابها/ كلية الآداب

 جامعة الإسراء / الأردن

omar.al-anbar@iu.edu.jo

omaralanbar@yahoo.com

00962777774247

الدكتور خالد عبدالله العنبر

أستاذ مساعد

قسم اللغات/ الجامعة الأردنية/ فرع العقبة/ الأردن

khaled_alanbr@hotmail.com

00962777499362

الملخص

يُعدُّ المنهج الاجتماعي أحد أبرز المناهج النقدية في الساحة النقدية العربية؛ بسبب أدواتها المنهجية التحليلية التي تكشف تجليات النصوص الأدبية، ويقدم مفاهيم وأدوات تساعد فهمٍ عميق لخصوصية المجتمعات العربية ولكل منهج من المناهج النقدية إشكالياته، ويمكن للناقد أنْ يحدد الإشكاليات ليتجاوزها، وانطلاقاً من أنَّ الروايات والنصوص الأدبية يتم اختيار المنهج الذي يناسب تحليلها من خلال دراستها وبحثها وتحديد متطلبات تحليلها، ويظهر أنّ المنهج الاجتماعي الأنسب لتحليل رواية حضرة المحترم للروائي نجيب محفوظ، وتشكل هذه الرواية تعبيراً منظماً عن رؤية المجتمع وأحلامه وآماله وطموحاته، وللمنهج الاجتماعي إشكاليات يعرضها البحث ليتجاوزها، يهدف هذا البحث إلى الكشف عن خصوصية العلاقة بين النصوص الأدبية العربية والمجتمع العربي، وتتعدد تحولات المنهج الاجتماعي انطلاقاً من محاولات (ماركس، وفريدريك انجلز، ولوسيان غولدمن، وجورج لوكاتش) الذين كان لهم أكبر الأثر في تطور أدوات المنهج الاجتماعي.

الكلمات المفتاحية: المنهج الاجتماعي، الرواية العربية، رواية حضرة المحترم، المناهج النقدية الأدبية.

 

Social approach between concepts and problems

Analysis of the story of the Honorable as a model

Dr. Omar Abdullah Al-Amber

Co-professor

Department of Arabic Language and Literature/College of Arts/Al-Isra University/Jordan

 

Dr. Khaled Abdullah Al-Anbar

Assistant Professor

Department of Languages / University of Jordan / Aqaba Branch / Jordan

 

 

Abstract:

The social curriculum is one of the most influential external critical approaches to Arab literary criticism. Because it reveals the peculiarity of the relationship between Arab literary texts and Arab society, and various transformations of the social curriculum stem from the attempts of (Marx, Frederick Engels, Lucian Goldman, and George Lukac) who had the greatest impact on the development of the social approach, and this research applies the social approach to the novel “Honorable One.” “To Najeeb Mahfouz.

Keywords: Investment in human capital, Economic growth, Education expenditure, Autoregressive distributed lag.

التمهيد

يقسم هذا البحث إلى ثلاثة مباحث أولها مفاهيم المنهج الاجتماعي وأعلامه، وثانيها يوضح إجراءات المنهج الاجتماعي وخصائصه وإشكالياته، وثالثها تحليل رواية حضرة المحترم وفق المنهج الاجتماعي، ويعد المنهج الاجتماعي الأنسب لتحليل رواية حضرة المحترم ويمكن صياغة مشكلته في التساؤلات الآتية:

  • ما أهم مفاهيم المنهج الاجتماعي وإشكالياته؟
  • من هم أعلام المنهج الاجتماعي؟
  • ما الاستراتيجيات المناسبة لتطبيق المنهج الاجتماعي على رواية حضرة المحترم؟

فرضيات البحث:

  • إنَّ المنهج الاجتماعي يقدم مفاهيم وأدوات يمكن الإفادة منها في تحليل النصوص الأدبية العربية ولا سيما الروائية منها.
  • إنَّ للمنهج الاجتماعي إشكاليات يمكن معرفتها وتجاوزها.
  • تطبيق المنهج على رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ ناتج عمّا تتضمنه من مضامين اجتماعية.

أهمية البحث:

تصدر الأهمية العلمية لهذا البحث من المفاهيم والأدوات التي يعتمد عليها المنهج في التطبيق وتعدّ عملاً أدبياً يتمتع من المضامين الاجتماعية التي تعكس الواقع الاجتماعي بكل ما يحمله من إشكاليات رواية حضرة المحترم، ووعي إشكالية المنهج الاجتماعي وتجاوزها.

منهجية الدراسة:

  • منهجية التحليل: يستخدم البحث المنهجية التحليلية للمنهج الاجتماعي بوصفه من أبرز المناهج النقدية الأدبية التحليلية.
  • مصادر البيانات: تتوفر مصادر البيانات لهذا البحث في المصادر والمراجع المتعلقة بالمنهج الاجتماعي، إضافة إلى الكتب النقدية التي تصدت لتحليل رواية حضرة المحترم.
  • حدود البحث: تتشكل حدود البحث في المنهج الاجتماعي بين مفاهيمه وإشكالياته، وتطبيقه على رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ.

 

الدراسات السابقة

  • نور الهدى، جلاب، (2015) المنهج الاجتماعي في النقد (نشأته وخصائصه)، جلاب نور الهدى، مجلة مركز دراسات الكوفة: مجلة فصلية محكمة، العدد (38)
  • شعلان، عبد الوهاب (2017) المنهج الاجتماعي وتحولاته من سلطة الأيدلوجيا إلى فضاء النص، عالم؟ لكتب الحديثة، الأردن، ط(1).
  • ماضي، شكري (2013) في نظرية الأدب، شكري عزيز ماضي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، ط(4).
  • ميرت، إتريك (1992)، مناهج النقد الأدبي، ترجمة: الظاهر أحمد مكي، مكتبة الأدب، القاهرة.
  • المنهج الاجتماعي في النقد العربي معاصر، نعيمة بولكعبيات، إشراف: عبد الله العشي، أطروحة دكتوراه في النقد الأدبي المعاصر: جامعة بائتة، الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، 2015م.
  • فضيلة، قندوز (2017) مفهوم النص في النقد الأدبي المعاصر، جامعة أبي بكر بلقايد تلسان: الجزائر، 2017م.
  • ميرت، إترك (2008) النقد الأدبي، ترجمة. الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب، القاهرة، 1991.
  • محفوظ، نجيب (2008) رواية حضرة المحترم، دار الشروق: مصر، ط3.
  • قسمية، منال (2017) المناهج النقدية الأدبية (قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد الحمداني)، منال بن قسمية، إشراف: بوزيد رحمون، جامعة محمد بوضيف.

المبحث الأول: مفاهيم المنهج الاجتماعي وأعلامه

يعتمد المنهج الاجتماعي على ربط الأعمال الأدبيّة بواقعها الاجتماعي لإظهار المضامين الاجتماعية التي تصدر عنها وينظر نقاد المنهج الاجتماعي للأعمال الأدبية على أنها مرايا لتصوير الواقع انطلاقاً من موقف المبدع وزاوية رؤيته.

يسعى المنهج الاجتماعي: “إلى تحليل الظواهر الاجتماعية وربط الأدب بالمجتمع، ولقد كان للماركسيين والفلسفة الوضعية والوجودية إسهامات كبيرة في تطور المنهج، فهو صيرورة دائمة للنظر إلى الإبداع الأدبي على أساس مجموعة من الظواهر السياسية والثقافية والتاريخية” (بن قسيمة، 2017، 58).

ونستطيع وصف العلاقة بين الأدب والمجتمع بأنَّها علاقة راسخة إذْ يمثل الأدب صوت المجتمع وصورته، إذْ تطلق المنهج الاجتماعي: “في دراسته  للأدب من قناعات راسخة بأنَّ الأدب تعبير عن المجتمع، وأنَّه لا يوجد أدب دون وجود مجتمع ينبثق منه، وأنَّ الأديب ابن مجتمعه يتأثر بما يتأثر به أفراد المجتمع من مؤثرات سلبية، واقتصادية، وفكرية وينعكس على صفحة إبداعه ما يسود مجتمعه من عادات وتقاليد وعقائد ونظم ومبادئ وأفكار، وهو يعبر عن هموم مجتمعه وآماله مثلما يعبر عن تجاربه وأحاسيسه، ولا يتوقف عند حدود تصوير الواقع كما هو بل يعبر عن رؤيته لإعادة تشكيل الواقع وصياغته” (بولكعيبات، 2015، 7). فالعلاقات الأدبية الاجتماعية توصف أنها تأثر وتأثير، فالأدب يصدر عن ثقافة مجتمع، ويعكس قضاياه، وأزماته.

وللمجتمعات العربية قضايا خاصة تميزها عن بقية المجتمعات من خلال الموقع، والموقف وزاوية الرؤية، التي تعكس واقعها وتطلعاتها، وربما يقدم لنا الأدب رسائل اجتماعية تُساعد في تقدم المجتمع، وتوضح مواطن الإشكاليات والتحديات، فالأدب يمثل مرآة  تصور المجتمع.

وأمَّا آليات المنهج الاجتماعي فتقوم على: “الكشف عن الأبعاد الحقيقية للواقع في الأعمال الأدبية، وقد ظهر هذا المنهج عند الغرب أولاً ثم تأثر به العرب، ويتجلى ذلك من خلال أعمالهم الأدبية النشرية والشعرية، كما ينبغي التنبيه إلى أنَّ القول بهذه العلاقة بين الأدب والمجتمع لا يلغي خصوصية النص، واستقلاله النسبي عن إطاره الاجتماعي، إذْ يوجد أدب عظيم له علاقة ضئيلة بالمجتمع أو ليس له علاقة على الإطلاق، فليس الأدب الاجتماعي سوى أحد أنواع الأدب وليست له أهمية أساسية ما لم يتمسك بالنظرة القائلة: الأدب قبل كل شيء محاكاة للحياة كما هي وللحياة الاجتماعية بشكل خاص” (نور الهدى، 2015، 274). ويتم قياس نسبة إبداع الأعمال الأدبية من منظور المنهج الاجتماعي في ضوء صهر الذاتي بالوعي الجماعي ممّا يحقق توظيف التجارب الواقعية في استطلاع المستقبل ورسم معامله، وهذا الوعي هو القادر على تشكيل رؤية العالم.

ويمكن تقديم المنهج الاجتماعي بوصفه أحد أبرز المناهج السياقية في النقد الأدبي من خلال جهود أعلامه:

أولاً: “كارل ماركس Karl. Marx (1983 – 1818): مؤسس الفلسفة الماركسية المادية التي: “أصبحت على يديه النظرية الاجتماعية نظرية متكاملة، ورؤية فلسفية للأدب والتطور الاجتماعي” (سلمى، 2017، 67). وربما تختلف مسميات المنهج الاجتماعي باختلاف منظريه وأعلامه، ومن أسماء المنهج الاجتماعي: المنهج الواقعي، المنهج الماركسي، المنهج المادي التاريخي، المنهج الأيويولجي، النقد الجماهيري… (نور الهدى، 2015، 261).

والملاحظ أنَّ نشأة المنهج الاجتماعي ماركسية تنظر للمجتمع من خلال طبقاته التي تقارب الرؤية الاجتماعية للأدب، إذْ تؤدي إلى مناهج ذات علاقة بالمجتمع من خلال فلسفة يعتمدها أعلام البنيوية، وتلاحظ البدايات الغربية للمنهج الاجتماعي، إذْ تحدد بدايته الأولى من خلال الثورة الماركسية، وتسعى الماركسية إلى: “تفسير الأدب بالعلاقات الاجتماعية، وصراع الطبقات محتم ومبرمج من أجل نظرية للبنى الفوقية: أيِّ إعادة التفكير في الأدب والثقافة، كما هي الحال بالنسبة إلى القانون، والسياسة، والأفكار، والأيديولوجيا، وعدّهما نتائج وأدوات سلطة في المقام الأخير اقتصادية – اجتماعية (بييرباربيريس، 155).

فتقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية يعني أنَّ الأدب يمثل طبقة اجتماعية معينة، ويظهر علاقات الطبقة الاجتماعية التي يمثلها الأدب مع طبقات اجتماعية أخرى، فالماركسية تظهر أنَّ: الأدب يسير وفق القوانين الاجتماعية الطبقية، ويظهر أثر المنهج الاجتماعي بالماركسية من خلال مسميات أهمها: “النقد الواقعي أو الاجتماعي أو الماركسي واحياناً اليساري، وجميعها تشير إلى النقد الذي ينظر إلى الأدب على أنَّه نتاج طبيعي للسياق الواقعي، والفكري، ويتعامل معه من منطلقات ومفاهيم، يستمدها غالباً من الفكر الماركسي… (بييرباربيريس، 155).

ويتطور الفكر الماركسي على يدّ كلود دوشيه (Claude Duchet) الذي يتجاوز الرؤية الاجتماعية العامة إلى رؤية جديدة يمثله: “(مجتمع الرواي) الذي يتحدث عنه كلود دوشيه، وهو مجتمع ينتجه النص ولا يعكس النزعة العلمية وجدلها، بل يمثل رؤية اجتماعية الساذجة والمبسطة ليدرس نصا قوامه الآثار un texte d’effets يسمى النص أو يضمر وقائع يجب تحديد هويتها” (بييرباريريس، 155)، فالنصوص الأدبية لها مجتمعاتها الخاصة التي تتبع من أحداثها ومجرياتها.

ثانياً: فريدرك أنجلز Fridirich. Engels (1929 – 1892): “اتضحت معه ملامح المنهج الاجتماعي، إذ دعا في رسالته، وأعماله التراجيدية إلى ضرورة تعدد وجهات النظر المتناقضة في الرواية عند تصوير الوسط الاجتماعي بين الطبقتين الارستقراطية، والبروليتارية” (سلمى، 2017، 67). وهذا يدل على تأثير الماركسية الكبير في سيرة المنهج الاجتماعي، وأن (فريدريك أنجلز) الذي لا تختلف رؤيته عن الماركسية، إذ يظهر التوافق في رؤية الأعمال الأدبية من خلال الطبقات الاجتماعية، وتقسيمها إلى ارستقراطية (علية المجتمع) وبروليتارية (الطبقة المتدنية من المجتمع) وربما يؤكد تعدد أعلام المنهج الاجتماعي، وموارد حيوية المنهج الاجتماعية وفاعليته.

ثالثاً: غولدمان Lucien. Godman (1913 – 1970): “رائد البنيوية التكوينية، وهي امتداد لهذا النهج، إذ أصبحت دراسة الواقع تمكن الباحث من اكتشاف طموحات الإنسان، وأفكاره، ومشاعره في معرفته بذاته ومجتمعه (سلمى، 2017، 67).

وأما (لوسيان غولدمن) فهو مطور المنهج البنيوي اللغوي الذي أغلق النصوص الأدبية على الجوانب الداخلية، فوصلت البنيوية إلى أزمة كادت أنْ تنهي مسيرتها، فجاء (لوسيان جولدمن) ذو التوجهات الماركسية وقدَّم منهجاً بنائياً اجتماعياً (تكوينياً) يعيد إنتاج البنيوية من خلال فتح آفاق البنائية على المجتمع من خلال خمسة أبعاد: أولها (الفهم)، ويقصد به بيان تجليات: “البنية الداخلية للعمل الأدبي” (شعلان، 2017، 59 – 65) فغولدمن زاوج بين الجانبين الداخلي والخارجي في دراسة النصوص الأدبية، ويضيف (جولدمن) عنصرين جديدين إلى الفهم والتفسير، وهما التماسك والانسجام، إذْ لا: “يمكن تحديد دلالة النص إلا بوضعه في إطار كلي منسجم” (شعلان، 2017، 59 – 65)، والطبقة الاجتماعية يمكنها: “الكشف عن الرؤيا للعالم بوصفها وسيطاً بين العمل الأدبي والواقع (شعلان، 2017، 59 – 65). فالبنيوية الاجتماعية (التكوينية) تقدم أدوات أهمها: (الفهم، التفسير، التماسك، الانسجام، رؤية العالم)، إذ تشكل هذه الأدوات منطلقات يعتمد عليها المنهج الاجتماعي في دراسة النصوص الأدبية وبإظهار أبعادها وبيان رؤيتها للواقع والعالم.

رابعاً: جورج لوكاتش J. Luchacs (1885 – 1971): “فيلسوف الواقعية الأكبر في النصف الثاني من القرن العشرين طور نظرية الانعكاس في النظرية الماركسية” (سلمى، 2017، 67). إذ تستند نظرية الانعكاس إلى الفلسفة الواقعية المادية: في تفسيرها الأدب، نشأة، وماهية، ووظيفة، وهذه الفلسفة التي ترى أنَّ الوجود الاجتماعي أسبق في الظهور من وجود الوعي، وتفترض إنَّ أشكال الوجود الاجتماعي هي التي تحدد أشكال الوعي” (ماضي، 83) فالأدب مرآة تنعكس المجتمعات من خلالها، والمنهج الاجتماعي هو وسيلة التواصل بين الأدب والحياة إذ يملك البيان عن مدى الترابط بين الذاتي والجماعي في صياغة الرؤية الاستشراقية.

وتؤكد نظرية الانعكاس أنَّ البنية العليا والدنيا للأدب تمثل: “جزءًا من المذهب الفكري لكل طبقة من طبقات المجتمع، ويبيّن دور كل قوة من القوى الاجتماعية التي لها دور إيجابي في المجتمع، فالمنهج الاجتماعي يدرس تأثر الجماعة في القيمة الجمالية، ويعلي من قيمة الكاتب” (قسمية، 13).

فالبنية العليا والدنيا من منطلقات نظرية الانعكاس التي تقسم المجتمع إلى طبقات، فالمجتمع ينعكس في الأدب من خلال تأثير القيمة الجمالية للأدب، وتأتي منطلقات النقد الاجتماعي على النحو الآتي:

  1. التعامل مع الأدب بوصفه نظاماً اجتماعياً، وليس مجرد نسق تعبيري قائم بذاته كما يذهب البنيويون.
  2. يظهر جدلية علاقة التأثر والتأثير بين العمل الأدبي، والواقع الاجتماعي، والحضاري وليس مجرد انعكاس كما تذهب الماركسية.
  3. إقامة توازن بين الذاتي والموضوعي في النظر إلى الظاهرة الأدبية” (سواعدي، 2015، 13). فنظرية الانعكاس تبيّن العلاقة بين المجتمع والنصوص الأدبية.

ويلاحظ أنّ لكل علم من أعلام المنهج الاجتماعي رؤيته ومنهجه الخاص في دراسة الأدب، ويمكن أن يقدم المنهج الاجتماعي الأدب من خلال ثلاثة مجتمعات” (مكي، 117 – 118)، على النحو الآتي:

أولاً: المجتمع الواقعي، إن ظهر الكاتب، وأنتج عمله.

ثانياً: المجتمع الذي ينعكس مثالياً في نطاق العمل نفسه.

وأخيراً: قد يكون عبارة عن أدب العادات، سياسياً أو هاجياً، أو أخلاقياً، أو خطة إصلاح اجتماعي.

فمفاهيم المنهج الاجتماعي شهدت تطوراً وتنوعاً ممّا يجعل تطبيقه على النصوص الأدبية، ولاسيما الروائية يشكل نهجاً فريداً إذْ يستخدم مبادئ علم الاجتماع، ويوظفها في تحليل الأدب.

المبحث الثاني: إجراءات المنهج الاجتماعي وخصائصه وإشكالياته

إنَّ إجراءات المنهج الاجتماعي تقوم على التفاعل بين أدوات المنهج الاجتماعي، والنصوص الأدبية، فالمنهج الاجتماعي: “صياغة تعبيرية سوسيولوجية للعلاقات الاجتماعية المتفاعلة والمتداخلة” (العشي، 2015، 37). فموقف الأديب: “يشترك مع أفراد طبقته الاجتماعية في التجربة التي يعبر عنها، ويشاركه فيها أفراد آخرون، ومحتوى عمله ينهض على ملاحظة التصرف الإنساني، والعمل نفسه ينعكس في ضمير القراء الاجتماعي” (فضيلة، 2017، 29، مكي، 1991، 120).

فالتحولات الاجتماعية تعيد إنتاج الموقف، والموقع، وزاوية الرؤية للنصوص الأدبية انطلاقاً من وجهة طبقة اجتماعية محددة، والنصوص الأدبية تمثل اجتهادات فردية ناجحة تظهر علاقتها بالمجتمع، وأساس التفاعل الاجتماعي اللغة، ومن أهم منطلقات المنهج الاجتماعي:

  1. تتكون الحياة الاجتماعية من بنيتين: بنية دنيا، وبنية عليا، ويقصد بالبنية العليا النظام السياسي والثقافي، وهذه البنية عادة نتاج البنية الدنيا في المجتمع، وهي تحدد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في المجتمع.
  2. إن: “الأدب ينتمي إلى البنية العليا التي تمثل جزءًا من المذهب الفكري لكل طبقة من طبقات المجتمع، وتعد قوة من القوى الاجتماعية التي لها دور إيجابي في المجتمع.
  3. ربط الأدب بالمجتمع والنظر إليه على أنَّه لسان المجتمع، فالأدب صورة العصر، والمجتمع، والأعمال الأدبية، وثائق تاريخية واجتماعية” (سواعدي، 2015، 13)
  4. يفهم الأدب فهماً مادياً فكل ظاهرة من ظواهره هي ظاهرة مادية تحتها ظروف اقتصادية تدفع إلى الكفاح من أجل الحياة.
  5. المنهج الاجتماعي يدرس تأثير الجماعة في القيمة الجمالية، ويعلي من قيمة الكاتب، ويرى عمله شق جيداً من أعراف المجتمع.

فالأديب يوظف اللغة لتقديم منظومته الاجتماعية، وهذا يعني:” أنَّ العلاقة بين الأديب والواقع الاجتماعي ليست علاقة من جانب واحد بل هي علاقة جدلية، فالأديب يصور الحياة الاجتماعية في بيئته، والأدب هو ثمرة إعادة بناء عناصر الواقع بلغة جديدة هي لغة التعبير” (نور الهدى، 2015، 259)، ولاشك في أنَّ النصوص الأدبية تخاطب المجتمعات التي تتنوع قضاياها ومنطلقاتها، فبعض النصوص الأدبية تخاطب فئة خاصة من المجتمعات، وبعض النصوص تخاطب جميع فئات المجتمع، وأمَّا عن خصائص المنهج الاجتماعي فهي” (نور الهدى، 2015، 272):

  • لا يعلمنا النقد الاجتماعي قراءة النصوص فقط بل يعيننا، ويفتح أعيننا على قراءة حياتنا، وعلاقاتنا بالعالم من حولنا.
  • لم يعد في خضم هذا المنهج المعنى هو الموجود فقط أو المحصور في النصوص، وإنما جعل مكاناً للقارئ من خلال إبراز ذاته الاجتماعية.
  • هو منهج محفوظ النص من التلاشي، والتحول إلى مجرد إضافة لسلطة معرفية أخرى.
  • القراءة النقدية الاجتماعية قراءة للمسيرة، والتقدم بوصفها حاملة التغييرات الإيجابية.

وتصدر خصائص المنهج الاجتماعي عن علاقات الأدب بالمجتمع: “فالمنهج الاجتماعي يشترك في تحقيق مبدأ التواصل مع المنظومة الحياتية التكاملية فيبقى دائماً هو التعبير الأسمى عن المجتمع والحافظ الأمين لتحركاته، وترصداته لذلك جاء من أجل إبانة العلاقة الجوهرية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي” (بن قسمية، 2017، 58).

والمجتمعات تتغير من عصر إلى عصر، فيجب على الأدب مواكبة التغيرات الاجتماعية ليكون معبراً عن صوت المجتمعات ولاسيما العربية التي تعيش أزمات تشكل خصوصية المجتمعات العربية، فلا بد من أنْ يمثل الأدب المرجعية التي تمثل المجتمعات العربية، فالأدب ربما يمثل حافزاً للإنسان ليبوح بقضاياه وإشكالياته من خلال الجنس الأدبية المناسب، وربما يشكل الأدب طريقة لتقديم الصراع المجتمعي:” وأمَّا المنطلقات الأساسية التي قام عليها النقد السوسيولوجي فهي بإيجاز” (سواعدي، 2015، 13):

  1. التعامل مع الأدب بوصفه نظاماً اجتماعياً، وليس مجرد نسق تعبيري قائم بذاته كما يذهب البنيويون.
  2. جدلية علاقة التأثر والتأثير بين العمل الأدبي، والواقع الاجتماعي، والحضاري، وليس مجرد انعكاس كما تذهب الماركسية.
  3. إقامة توازن بين الذاتي والموضوعي في النظر إلى الدافعية الأدبية” (سواعدي، 2015، 13).

فالتوازن بين الذاتي والموضوعي يعني أنَّ الأدب يؤثر ويتأثر بالواقع الاجتماعي، وربما يوصف نظام الأدب بأنَّه جزء من الأنظمة الاجتماعية.

وأمَّا أهم إشكاليات المنهج الاجتماعي فهي:

  • اتهام المناهج الخارجية (السياقية) ببعدها عن النصوص الأدبية، وملاحظة تقارب المناهج الداخلية من النصوص الأدبية، ويرجع سبب هذه المواقف السلبية اعتبار مقاربات المناهج السياقية خارجة عن النص الأدبي إلى علوم مثل: علم الاجتماع أو علم النفس أو السياسية أو الاقتصاد، فلا بدَّ من توظيف المنهج المناسب لخدمة النص الأدبي من أجل توضيح المعاني القابعة خلف كلماته، ولكن المنهج البنيوي التكويني تغلب عليه هذه الإشكالية من خلال دمجه العناصر الداخلية بالخارجية: “وهذا أكبر دليل على أنَّ النص الأدبي أصبح سلعة تباع وتشتري، وليس فناً يصل إلى ذوي الذوق الفني والجمالي، وهذا راجع إلى التقسيمات الاجتماعية التي كانت في المجتمع” (فضيلة، 2017، 30).
  • يركز المنهج الاجتماعي على النصوص الأدبية النثرية: “كالقصص والمسرحيات، ويركز الناقد على شخصية البطل” (بن قسمية، 13). وربما يمثل هذا التركيز مأخذاً على المنهج الاجتماعي، إذْ تهتم بعض المنهجيات الاجتماعية بالطبقة الاجتماعية فلكل علم من أعلام المنهج الاجتماعي فلسفته في تطوير المنهج الاجتماعي، إذ لا يمكن أنْ يحسم معنى النص الأدبي من خلال دراسة علاقاته الاجتماعية، فالظواهر الأدبية أشد تعقيداً وتشابكاً، فلا: “لا يمكن أنْ تحسم بالولاء لسلطة النص أو سلطة القراءة فقط، فالظاهر الأدبية محكومة بمجموعة كبيرة من السلطات والقوى التي تتحكم في إنتاجها وانتشارها” (الزبيدي، 1999، 51).
  • إنَّ من جوانب القصور في المنهج الاجتماعي عدم قدرته على: الكشف عن الخواص النوعية للأعمال الأدبية، أنَّه يكتفي برصد الظواهر، ولا يتعمق في تفسيرها” (سواعدي، 2015، 13). وسيطرة الجوانب المادية في هذا المنهج ممّا عجل بزوال حرية الأديب.

المبحث الثالث – تحليل رواية حضرة المحترم وفق المنهج الاجتماعي

– غلاف الرواية:

إنَّ غلاف رواية (حضرة المحترم) يظهر أول معلمٍ من الرواية الاجتماعية من خلال كتابة اسم (نجيب) بخط كبير ذهبي اللون هو أكبر الخطوط على غلاف الرواية، وجاء عنوان الرواية بخط أبيض صغير الحجم مقارنة بحجم اسم (نجيب محفوظ) في أعلى الرواية وذلك، لأنَّ اسم نجيب محفوظ الأبرز عربياً في حقل الرواية لما له من أثر اجتماعي وتسويقي على القارئ، ويظهر في أدنى الغلاف يرتدي طربوشاً أحمر ووجه ملون بلون زيتي، وربما يدُّل الطربوش على شخصية الموظف الحكومي الذي يتميز بلبس الطربوش وهذه دلالة اجتماعية، فشخصية الرواية الرئيسية (عثمان بيومي) موظف حكومي، وكانت الوظيفة الحكومية أفضل الوظائف وقتها، وصدرت الرواية عن دار الشروق في طبعتها الثالثة في سنة.

– البنية الاجتماعية الثانية (بداية الرواية):

بدأت الرواية بلا أرقام أو أبواب أو فصول وكانت البداية بحدث دخول الموظفين الجدد على حضرة المحترم – وهو لقب للمدير العام- ومنهم الشخصية الرئيسية في الرواية الذي نظر إلى المؤهلات العلمية للمعينين في الوظيفة الحكومية فكلهم من حملة البكلوريا، إلا اثنين من حملة الشهادة المتوسطة، وطلب منهم المدير العام – حضرة المحترم- تحقيق الاجتهاد والاستقامة في العمل، ونظر حضرة المحترم إلى الشخصية الرئيسية – التي لم يُذكر اسمها – وقال له : لَمِ لم تكمل تعليمك مع أنَّ معدلك في البكالوريا (ممتاز) فصمت مع أنه يعلم الجواب.

ثانياً: يبدأ الفصل الثاني برقم (2) وهو استلام عثمان بيومي الفعلي للوظيفة في الأرشيف، ويكشف عن اسم الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي: (عثمان بيومي)، إذْ قدمه صاحب السعادة – سكرتير المدير العام – إلى رئيسه الجديد في الوظيفة (سعفان افندي بسيوني)، الذي قال له: أهلاً … أهلاً… الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين، استقبال ثم توديع…” (محفوظ، 2008، 8)، وهناك طريق السعادة، وأما الساقطون في وسط الطريق فلا حصر لهم، إنَّ النظام الفلكي لا يطبق على البشر ولا سيّما الموظفون… والزمن يسكن بين يديه كطفل وديع ولكن لا يمكن التنبؤ بعده، إنَّه يشتعل، هذا كل ما هنالك، ويخيل إليه أنَّ النار المتقدة في صدره هي التي تضئ النجوم في أفلاكها. ونحن أسرار لا يطلع على خباياها إلا خالقها، ويظهر أنَّ (سعفان افندي بسيوني) يقدم تفسيراً اجتماعياً للحياة من خلال رؤيته أنَّ الحياة استقبال ووداع، والساقطون على الطريق لا حصر لهم، وهكذا يمثل تفسير (سعفان افندي بسيوني) قيمة الواقعية الاجتماعية وتفسيره للحياة.

 

 

-البنية الاجتماعية الثالثة:

تبدأ بحديثه عن أسرته الفقيرة، إذ كان والده سائق كارو (كارو) وأما والدته فكانت: “عاملة كادحة، تكدّ بصبر النمل، ودأبه سعياً وراء القرش، وتسند به زوجها، وترمم عشها من خلال عملها: دلالة… ماشطة… خاطبة، ماتت أمه، وهي تعمل” (محفوظ، 2008، 11) وكل هذه أعمال تمارسها لتقدر حقها.

وماذا كان بالأمس؟ أراد أبوه أنْ يجعل منه سواق (كارو) مثله؛ ولكن شيخ الكتاب، قال له:

  • يا عم بيومي توكل على الله، وأدخل الولد المدرسة الابتدائية…

فذهل الرجل، وتساءل:

  • ألم يحفظ من القرآن ما يقيم به الصلاة؟

فقال الشيخ:

  • الولد ذكي وعاقل، وربما رأيته يوماً من رجال الحكومة، وقهقه عم بيومي غير مصدق، فقال الشيخ:
  • عليك بمدارس الأوقاف فربما قبل بالمجان.

وتردد عم بيومي زمناً ثم تمت المعجزة، ونجح عثمان في المدرسة نجاحاً مذهلاً حتى حصل على الابتدائية، تميز عن أقرانه الحفاة من أبناء الحارة، ورأى بعينيه الحادتين أول شرارة مقدسة تنطلق من فؤاده النابض، وأيقن أنَّ الله يبارك خطاه، ويفتح له أبواب اللانهاية، والتحق بالمدرسة الثانوية بالمجان كذلك فحقق من النجاح ما لم يصدقه أحد في حارة الحسيني، ومرض عم بيومي مرض الوفاة، وابنه في السنة الثانية، فندم الرجل على ما “فعله” بابنه، وقال له:

  • ها أنا ذا أتركك تلميذاً لا حول له، فمن يسوق الكارو؟ ومن يحفظ البيت؟

وفاضت روح الرجل، وهو حزين، وضاعفت الأم نشاطها مؤملة أنْ يجعل الله من ابنها كبيراً من الأكابر، أليس الله بقادر على كل شيء! ولولا وفاة الأم بغير توقع لأكمل عثمان تعليمه في المدارس العليا، وقد اشتدت لذلك حسرته، وضاعف من حدتها اكتمال وعيه بطموحه وبأحلامه المقدسة. ومقدسة عنده أيضاّ ذكرى والديه” (محفوظ، 2008، 12). فالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها (عثمان بيومي) هي الدنيا من المجتمع وذلك وفق تصنيف المنهج الاجتماعي.

فالإشكاليات الاجتماعية التي يمرّ بها (عثمان بيومي) من وفاة والده، ووالدته، ولا أخوة لديه، والوحدة التي يعيشها، لم تمنعه من أنْ تكون لديه حياة منظمة يراجعها يومياً، وضع شعاراً للعمل، والحياة يراجعه يومياً وهو شعار اجتماعي للعمل والحياة:

  1. القيام بالواجب بدقة وأمانة.
  2. دراسة اللائحة المالية لوظيفته التي يشار إليها كأنها كتاب مقدس.
  3. الدرس للحصول على شهادة عليا ضمن الطلبة الذين يعملون من منازلهم، وذلك لتحقيق التقدم الوظيفي.
  4. دراسة خاصة للغتين الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى العربية.
  5. التزود بالثقافة العامة، ولا سيما الثقافة المقيدة للموظف.
  6. الإعلان بكل وسيلة مهذبة عن تديني، وخلقي، واجتهادي في عملي.
  7. العمل على كسب ثقة الرؤساء، ومحبتهم.
  8. الاستفادة من الفرص المفيدة مع الاحتفاظ بالكرامة مثل مساعدة أدبية تقدم لذى شأن، صداقة مفيدة، زواج موفق من شأنه تمهيد الطريق للتقدم”(محفوظ، 2008، 12). وذلك كله من أجل تحقيق مكانة وظيفية اجتماعية.

ويلاحظ أنَّ هذه الشعارات الاجتماعية تمثل ضمان التفوق الاجتماعي، ويؤكد في نهاية هذه البنية أنّ طريقه في هذه الحياة: “بداية لا بأس بها، وطريقَ بلا نهاية…” (محفوظ، 2008، 14).

-البنية الاجتماعية الرابعة:

تبدأ بحبه لفتاة اسمها (سيدة) تسكن حارتهم، وكانت زميلته في الكتاب وسعدت سعادة غامرة، لأنَّه أصبح موظفاً في الحكومة – أفندي- وعاطفة الحب متبادلة بينهما، ويشعران بسعادة بحبهما، ولكن عثمان بيومي يشعر أنه ما زال صغيراً على الزواج، فالطموحات ما تزال أمامه عريضة مع أنَّه يحبها، ومازال ينقصه مزيد من التعليم، ويقول لسيدة (فتاة أحبها عثمان) أنْ أربعة أعوام تلزمه ليكمل تعليمه، وهو يدرك لهفتها على كلمة يطيب بها الفؤاد ويسعد، ويعلم أنَّ سعادته لن تقل عن سعادتها بحال إنْ لم تزد، إنه هذه الفتاة كما تحبه ولا غنى له عنها، ولكنْ يخاف، فعليه أنْ يفكر ألف مرة، وليراجع ورقة العمل المريرة، ليتأمل طويلاً الحياة التي تقف أمامه مرحبة ومتحدية معاً” (محفوظ، 2008، 16). ويظهر في الرواية صراع اجتماعي بين رغبة عثمان بيومي في التفوق واستكمال دراسته وحاجته للزواج، ويظهر أن تفسيره وفهم الاجتماعي يقوده إلى تفصيل مزيد من التفوق الوظيفي على حاجته.

ويختم هذا البنية قائلاً:” تجربة الحياة عظيمة جليلة، ولكنها مرهقة” (محفوظ، 2008، 17). فيجتمع عنده الفقر والنظرة الاجتماعية المتشائمة، وهذه الرؤية للعلم تحقق الانسجام والتماسك في الحدثين الروائي والاجتماعي.

البنية الاجتماعية الخامسة:

يزور (عثمان بيومي) المقبرة ليقرأ الفاتحة على القبرين الضائعين لوالده، ووالدته بسبب كثرة القبور، وأخذ يتذكر لحظات موت والده ووالدته: “الملمات بلا معنى ولا سبب، ووجد ذات مساء ميتاً، إذْ يجلس على الفروة فلم يدر أحد كيف حضره الموت؟ ولا كيف تلقاه هو؟ وأما أمه فكانت مينتها أدعى للدهشة، كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست، وراحت تصرخ من شدة الألم، وجاءت سيارة الإسعاف فحملتها إلى قصر العيني – اسم الشخص – وتقرر إجراء جراحة في الأعور قتلت في أثنائها” (محفوظ، 2008، 18 – 19).

فالفقر والبؤس اللذين كانا في حياته إذ ضاع قبر والديه، وتذكر الوظيفة الجديدة التي تمثل نقلة نوعية في حياته، ويؤكد أنَّ العمل في الحكومية واجب مقدس يستطيع من خلاله تحقيق ذاته وطموحاته، وقبل مغادرته المقبرة طلب من والدته أنْ تدعو له، وتظهر في هذه البنية الاجتماعية علاقة التأثر بالماضي القاسي الذي عاشه عثمان بيومي.

وفي البنية الاجتماعية السادسة:

يتابع (عثمان بيومي) تعليمه المنزلي بجدّ واجتهاد حتى يصل إلى مرحلة عدم نوم الليل إلا اقله بسبب حبه للعلم، ولم يقف عند هذا بل حاول أن يكتب الشعر إذ يظهر أن الشعر كان وما زال خير وسيلة للتقرب من الكبراء، والتألق في الحفلات الرسمية، وإنِّه لخسران فادح أنْ يفشل في نظمه؛ ولكنَّه على أيِّ حال خير طريق لإتقان النثر، والخطابة لا تقل عن الشعر في النجاح المنشود، والأسلوب الجزل مطلوب، قلبه يحدثه بذلك” (محفوظ، 2008، 18 – 19).

ولا شك في أنَّ عثمان بيومي يحاول جمع أسباب النجاح الاجتماعي مثل محاولة إتقان عدد من اللغات ومحاولة كتابة الشعر وحفظ التعليمات والأنظمة والقوانين.

ويواصل (عثمان بيومي) البحث بأسلوب جاد وفعال عن كل وسائل النجاح الاجتماعي، ويحاول أنْ يتقن لغتين الإنجليزية، والفرنسية، وحفظ التعليمات، والقوانين، والأنظمة.

وهناك جانب آخر من حياة (عثمان بيومي) تمثل في حبه لسيدة التي تُعدُ شطراً جميلاً من حياته يمنعه عنها الطموح، ولكنَّه انساق مع أحد زملائه في طريق البغاء مع باغيتين من البغايا، وأعقب هذه الفعلة الندم، الدائم، والصلاة.

وكان سياسة عثمان بيومي التقرب والإذعان إلى كل أوامر مديره (سعفان بسيوني) وأصبح يضاعف جهوده في التقرب إليه؛ لأنَّه الموظف الوحيد في المحفوظات الذي يحمل شهادة البكالوريا خوفاً من غيرته منه، ويتفق (عثمان بيومي) مع سعفان بسيوني في الآراء السياسية المعارضة للنظام السياسي المصري مع أنَّه ليس معارضاً، ولكن هذه الاتفاق سرَّ (سعفان بسيوني) سروراً شديداً.

-البنية الاجتماعية السابعة:

تتوطد العلاقة في البنية الاجتماعية السابعة بين سعفان بسيوني وعثمان بيومي إذْ يدعوه لتناول العشاء في بيته، وهذه من ملامح تطور العلاقة الاجتماعية بينهما، واستماع الغناء من حفل زفاف في قرب شرفة منزل عثمان بيومي، ويؤمن سعفان بسيوني بأن الادخار وسيلة مهمة من وسائل جهاده الطويل، وشعيره من شعائر دينه، وأمان ضد الخوف في عالم مخيف، ولكن لا بّد ممّا ليس من بدّ، وسيرد الدعوة بأحسن منها، وسيتم ذلك في مطعم لا في حجرته المكتظة بالكتب” (محفوظ، 2008، 26).

ويظهر أنَّ شخصية (سعفان بيومي) تميل إلى الخبرة الاجتماعية، وتمتلك ثوابت سياسية، وتمتلك رؤية واضحة ومحددة للعالم وتشير هذه العزيمة إلى علاقة راسخة مع عثمان بيومي.

ثامناً: (دعوة سعفان بسيوني من قبل عثمان بيومي إلى مطعم فاخر)، وجاءت هذه الدعوة إلى مطعم فاخر اسمه (الكاشف) من أجل رد الدعوة الأولى: وذلك قبل مضي الشهر، إذْ دعا الرجل للعشاء في مطعم الكاشف، تناولا سمكا شهياً وحليا بمهلبية، وكان الكهل (سعفان بسيوني) من السعادة في غاية وخيل إليه أنه يتوقع نزول ملاك السعادة والرحمة (محفوظ، 2008، 26).

وهذه الدعوة فتحت عليه باباً للزواج، إذْ أراد (سعفان بسيوني) أنْ يزوج ابنته التي أكملت الابتدائية لعثمان بيومي لولا أنْ استدرك ذلك بكذبة قائلاً: “في عنقي صغار وأرامل، ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور في ساقية” (محفوظ، 2008، 28).

وبعد هذه الكذبة التي تحول بين زواج (عثمان بيومي) من ابنة (سعفان بسيوني) تلاشت البهجة من الجلسة، وسيطر الحزن على الجلسة، وأصابت حالة الحزن كليهما، واستمرت حالة الحزن الأسى مع (عثمان بيومي) ووصل إلى نتيجة تريحه في النهاية هي: “حتى أخطاء الإنسان يجب أنْ تكون مقدسة” (محفوظ، 2008، 28).

-البنية الاجتماعية التاسعة:

(أم حسني تجدُ لعثمان بيومي عروساً) وتبدأ (أم حسني) جارة عثمان بيومي التي يشبه شكلها شكل والدته المتوفية، بتنبيهه إلى عريس جاء يخطب الفتاة التي يحبها (سيدة): “فاجتاحه حزن وذهول كأنَ ذلك لم يكن متوقعاً” (محفوظ، 2008، 29). وأشار إلى أنّه يعلم أنَّ زواج سيدة: “آت لا ريب فيه، لا يحاول دفعه، ولا أمل له في منعه كالموت” (محفوظ، 2008، 29). وهذا يّدل على إجراء عثمان بيومي على تحقيقه مكانة اجتماعية وتأجيل الزواج بسبب سيطرة الطموح عليه.

واقترحت (أم حسني) عليه حلاً سريعاً في الذهاب وخطبة (سيدة) له؛ ولكنَّه رفض لشدة تعلقها، واستمرت حالة الحزن، وذهب يمشي لعله يخفف ما يشعر به من ألم، وينهي هذه البنية، بقوله: “يا للخسارة يا سيدة” (محفوظ، 2008، 31). فالطلب الاجتماعي وهو الزواج يغيب عن ذهن (عثمان بيومي) ولكن جارته (أم حسني) تحاول تذكيره بهذا دائماً، ولكن الطموحات الاجتماعية أقوى وتنتصر دائماً على رغبته في الزواج.

 

 

-البنية الاجتماعية العاشرة:

يظهر في البينة الاجتماعية العشارة التميز الاجتماعي والوظيفي عند عثمان بيومي، ويرجع سبب هذا التميز إلى تطبيقه شعار العمل والحياة المذكور آنفاً لديه.

(تميز عثمان) بيومي في عمله، إذْ يشهد (سعفان بسيوني) بجدارة (عثمان بيومي) الذي يعمل عمله، ويقوم بعمل المتأخرين، ويكون أول المصلين وإمامهم، وهذا كان يتعرض معاقرته للنبيذ في بعض ليالي الشتاء الباردة، والحجرة التي يسكنها كانت قذرة باردة لا حب فيها، ومع نهاية هذه البنية تزف سيدة لعريسها، وبعدها تصيبه حالة من الصراخ والجنون والضحك ويشعر بوحدة غريبة، وفي ليلة زواج سيدة لم يستطع أنْ يذاكر، لأنه لم يتوقع أن يكون مخطئاً في تفصيل التميز الاجتماعي والوظيفي على حبه لسيدة.

البنية الاجتماعية الحادية عشرة:

يأتي الفصل الحادي عشر بكتاب رسمي يرسله (عثمان بيومي) إلى حضرة المحترم يبلغه بحصوله على (ليسانس حقوق) من منازله استكمالاً لمتطلبات الموظف، وسيعرض هذا الكتاب الرسمي على كثرٍ من موظفي المؤسسة ليعلم به الجميع، ويشيرُ عثمان بيومي إلى أنَّه أصبح يمتلك سلاح العلم، وتغيب عنه أسلحته أو الأسرة الكبيرة أو الانتماء الحزبي.

ويرشحه (سعفان بسيوني) للحصول على الدرجة السابعة بعد أنْ شغرت الدرجة، وذلك بعد سنوات سبعٍ من تعينه في الوظيفة الحكومية، وانتظر الدرجة طويلاً، وأثناء العمل على الدرجة كلفه (سعفان بسيوني) سراً بالعمل مع فريق إعداد الموازنة الذي يضم المدير العام، ومدراء الأقسام، وتقرب لمدير الإدارة، واسمه حمزة السيوفي الذي كتب عنه بيانات الموازنة، ثم قدم له ملاحظات على بيانات الموازنة، وأظهر عثمان بيومي قدرات متميزة من حفظ الأنظمة، والقوانين، وتطبيقها على الموازنة، ويزف عليه (حمزة السيوفي) مدير الإدارة خبر ترقيته إلى الدرجة السابعة.

واستطاع عثمان بيومي أنْ يكسب ثقة حمزة السيوفي- مدير الإدارة – بسرعة إذْ اكتشف أنَّ (عثمان بيومي) يتقن اللغة الإنجليزية، والترجمة إضافة إلى إتقانه كتابة بيان الموازنة الذي قرأه (حمزة السيوفي) على مدير الإدارة، وبعدها صدر قرار بنقل عثمان بيومي من المحفوظات إلى إدارة الميزانية.

-البنية الاجتماعية الثانية عشرة:

(علاقته بقدرية) تبدأ هذه البنية بمشهد وداعي بين (عثمان بيومي) و(سعفان بسيوني) لتركه المحفوظات، وانتقاله إلى الموازنة، وتظهر علامات حبّ الادخار على (عثمان بيومي)؛ فالمال هو مفتاح الأحلام، ومهر العروس، ويظهر أنَّ الزواج من امرأة من أسرة مرموقة هو سبيل للوصول إلى منصب، فهذا ما فعل المدير العام، والوكيل الأول للإدارة، فالزواج سبيل للوصول إلى المناصب التي تتقاسمها العائلات الكبيرة، وطريق الوصول إلى المنصب لا يحتاج إلى مظاهرات أو أحزاب بل زواج من عائلة كبيرة، تُسهم في صنع القرار السياسي، وتنسب بوضعه في مكان مرموق، و(عثمان بيومي) يتخذ كل الأسلحة من أجل التقدم الوظيفي. فالمجتمع الروائي يقارب الواقع ورؤية العالم عند عثمان بيومي إذ يبدأ أو ينتهي من خلال الوطنية الحكومية التي تمثل كل حياته.

وفي هذه الأثناء اعتاد (عثمان بيومي) أنْ يقوم بزيارة لقدرية، وهي امرأة تمارس البغاء منذ سنوات، وتعرفُ عليها من خلال صديقه الموظف في قسم المحفوظات، وتمثل قدرية هروباً مقبولاً من علاقته بسيدة التي انتهت بزواج سيدة من شخص آخر، وكان عثمان بيومي حريصاً كل الحرص على سرية علاقته بقدرية حفاظاً على سمعته، واستقامته في الوظيفة، و لاشك أنَّ علاقته بقدرية استمرت سنوات طويلة.

-البنية الاجتماعية الثالثة عشرة:

(الترجمة) أعلنت الوزارة – التي يعمل بها- أنها بحاجة لمترجم، فقدم للإعلان (عثمان بيومي) فتم تعينه مترجماً في مكتب (حمزة السيوفي) إضافة إلى عمله في دائرة الموازنة، ووظيفة المترجم راتبها ضخم مقارنة براتب (عثمان بيومي)؛ ولكنَّها تخرجه من الكادر العام بحسب القوانين وخروجه من الكادر العام أكبر مشكلة يمكن أنْ تواجه عثمان بيومي؛ لأنَّ كل طموح حياته يكمن في الوظيفة الحكومية، واقترح حلاً لهذه الإشكالية بأنْ توكل إليه مهمة الترجمة مقابل ترقيته للدرجة السادسة فأجاب حمزة السيوفي أنَّ هذا القرار يحتاج إلى استشارة الإدارة القانونية، وهذا الحل يوفر مبلغاً للميزانية:

“وتقررت ترقيته إلى الدرجة السادسة بمرتب قدره خمسة وعشرون جنيها، وعلى الرغم من تضحيته بعشرة جنيهات، فإنَّه فاز بترقية ما كان يبلغها قبل سنوات وسنوات، فضلاً عن الأهمية التي اختص بها بعمله المزدوج، وتمتع بسعادة قصيرة كالعادة، ولم يعرف السعادة إلا خطفاً مثل لقاءات الطريق العابرة، وعاد يقيس الطريق الطويلة ويئن تحت وطأة لا نهائيتها، ما جدوى الدرجة السادسة؟ وهو يوشك أنْ يلج مرحلة جديدة من العمر! وقبله سعفان بسيوني” (محفوظ، 2008، 45).

فتقدمه في السن يقتل من فرص زواجه ويحول بينه وبين المنجز الذي يحلم به، وكان عثمان بيومي طموحاً، ويحلم أنْ يكون مديراً عاماً، ويغلب عليه الجدّ في حياته والعمل الدائم الدؤوب، وسمع أنَّ ابن مدير دائرة حمزة السيوفي يعاني من ضعف في اللغات، فذهب إليه وأعطاه دروساً بلا مقابل مالي من والده، وتعمقت العلاقة بين حمزة السيوفي وعثمان بيومي، إذْ أصبح يتردد على بيته من أجل إعطاء ابنه دروس اللغات.

ويوجه (عثمان بيومي) فكرة الزواج لخدمة مصلحته فيبحث بأنَّ عن زوجة أثناء تدريس ابن حمزة السيوفي؛ لعله يتزوج إحدى بنات حمزة السيوفي، ولكنَّه يفاجئ بأنَّ حمزة السيوفي لا توجد لديه بنات، فكل همه أنْ يتزوج بفتاة من عائلة تحقق له الطموح الوظيفي، فزواجه من امرأة تمثله في المستوى الاجتماعي لا يشكل إلا مزيداً من الفقر فتفسير الزواج ينبع من رؤيته للعالم والتركيز على الوظيفة الحكومية.

-البنية الاجتماعية الرابعة عشرة:

(أم حسني كعادتها تعرض عليه عروساً جديدة) وتأتي أم حسني لتطمئن على عثمان بيومي، وتعرض عليه عروساً في منتصف العمر، وأرملة تمتلك بيتاً، وضربت أم حسني موعداً ليراها؛ ولكنه أعجب بها إعجاباً غريزياً، وتحدث معها في بيت (أم حسني) حديثاً مختصراً ثم انتظر خروجها، وشعر أنها مثل: قدرية صيداً سهلاً، وطلب منها الذهاب معه إلى غرفته؛ ولكنَّها رفضت مسرعة.

-البنية الاجتماعية الخامسة عشر:

(لاحظ عثمان بيومي) أنَّ رصيده المالي يزيد، ودخله يتحسن، ويستحق علاوة، ويعجب المدير العام بترجمته مع أنه لا يعرف اسمه فيقول عنه المترجم المعنوي، ومازال عثمان بيومي قلقاً على مستقبله، وما يقلقه طموحه الذي يجمح به لتجاوز الدرجة الوظيفية السادسة نحو الأولى، وهو يخاف أنْ يمضي العمر قبل الوصول إلى غايته.

وتأتي (أم حسني) لعثمان بيومي، وتطب منه أنْ يلقي السلام على سيدة وأمها – حبيبته الأولى التي تزوجت -ويدخل، ويسلم ويعلم أنّ (سيدة) تغيرت نحو الأسواء فأصبحت تتمتع بنوع من البلادة والبدانة، وكأنها (قدرية)، وذهب بريق عينيها، وهما ينظران إليه، فسلم، وجلس قليلاً ثم ذهب، ربما عَلِمَ بعد هذا السلام أنّ (سيدة) لم تعدْ هي نفسها التي أحبها، فالحياة الاجتماعية تتحول والمجتمع يتغير وهو ثابت على أحلامه وطموحاته.

وبعدها يلتقي (عثمان بيومي) بسعفان بسيوني ليودعه بعد وصوله إلى سن التقاعد، إذْ جاء من باب المجاملة، ولو تَرِكَ الأمر إليه لما جاء لتوديعه، ويشعر (عثمان بيومي) بحالة من الجحود لأفضال (سعفان بيومي) عليه، ويظن أنَّ هذا هو اللقاء الأخير مع سعفان بيومي، وتمت ترقية (عثمان بيومي) إلى الدرجة الخامسة في الشهر نفسه، واحتل مكان (سعفان بيومي) رئيساً للمحفوظات، وهذا تقدم متميز في الوظيفة الحكومية.

-البنية الاجتماعية السادسة عشرة:

(المنصب الجديد مدير المحفوظات) يُفْتَحُ هذا المنصب باب المدير العام صاحب السعادة، إذْ يُعْرِضُ مدير المحفوظات على المدير العام الخطابات المهمة يومياً، ويبدأ بالدخول على مكتب صاحب السعادة ووصفه مكتبه وهيئته وهيبته، وبدأ حمزة السيوفي – مدير الإدارة – يتراجع في حياته؛ لأنَّه بدا ينسج شباكه حول المدير العام، وأضحى (عثمان بيومي) يشعر بشدة حبه للسلطة أكثر من أي شيء آخر، وجاءت الفرص  ليكسب حب المدير العام الذي حصل على نيشان النيل فكتب عثمان بيومي مقالة في مدح (بهجت نور) المدير العام، وبدأ يحدث عثمان بيومي نفسه بالزواج فهو محتاج لأنيس. ويمكن أن يلاحظ عدم التوازن في شخصية عثمان بيومي فالعمل هو أساس حياته، ويغفل الزواج علماً أن الزواج حاجة اجتماعية أساسية وأما أساليبه الاجتماعية فهي واحدة لم تتغير إذْ لا يدع فرص في التقرب للمسؤولين مهما كانت.

-البينة الاجتماعية السابعة عشرة:

(يدعو أم حسني لتبحث له عن عروس) إذْ يبحث عن عروس من أسرة كريمة، وتكون من بنات الأعيان أو كبار الموظفين أو أصحاب السلطة، ولم تعثر أم حسني على المواصفات المطلوبة لعروس (عثمان بيومي) المرجوة، واستعانة بخاطب في الحلمية من أجل تحقيق مواصفات العروس، وفي أثناء ذلك مرض مدير الإدارة (حمزة السيوفي)، وذهب إليه عثمان بيومي لزيارته تكفل في أنْ يتم عمله في الموازنة كما علمه بإخلاص، ويتطلب علم الموازنة الذي يقوم بها عثمان بيومي نيابة عن (حمزة السويفي) لقاءات مع صاحب السعادة الذي ألِفَ عثمان بيومي، وأصبحت الجلسات بينهما تمتد لساعات، واقترح صاحب السعادة رفع درجة مدير المحفوظات إلى الرابعة.

-البنية الاجتماعية الثامنة عشرة:

(موت سعفان بسيوني) صدفة، ودون سابق ترتيب يأتي سعفان بسيوني ليطلب من عثمان بيومي ثلاثة جنيهات للعلاج؛ ولكنه عثمان بيومي يدعي أنه لا يملك هذه الجنيهات مع أنه يمتلك؛ لأنَّه بخيل، وبعد أيام مات (سعفان بسيوني)، وهذا يدّل على فهم مادي للمجتمع وتغليبه المصلحة الذاتية على الجوانب الإنسانية.

-البنية الاجتماعية التاسعة عشرة:

(أم حسني تَجدُ عروساً تعمل ناظرة لعثمان بيومي) لقد اختارت (أم حسني) ناظرة مدرسة مضى من عمرها خمسة وثلاثون سنة، ولم تتزوج سابقاً؛ ولن تكلفه في زواجها مليماً واحداً؛ ولكنَّه متردد وكأنَّه لا يحب الزواج.

-البنية الاجتماعية العشرون:

(موظفة جديدة جميلة في المحفوظات اسمها أنيسة إبراهيم) دخلت على عثمان بيومي في المحفوظات، ولاحظ جمالها، وعرف أنها الموظفة الجديدة فسألها عن مؤهلها العلمي، فقالت البكالوريا علمي فسألها: لماذا لم تكملي تعليمك فقالت ظروف منعتني من تكملة تعليمي، وحولها لقسم الوارد من المحفوظات.

ودار حديث عنك مع بعض الزملاء، تساءلنا بحيرة كيف تعيش؟ قلنا إنك لا تظهر في طريق أو مقهى أو حفل، فأين تقضى وقتك؟ وقالوا إنَّه غير متزوج، فلماذا يعيش؟ وقالوا: إنَّه لا يهتم لشيء مما يهتم به الناس، فماذا يهمه حقاً في الدنيا؟! (محفوظ، 2008، 73).

وبدأ عثمان بيومي يلحظ الشيب يغزو رأسه؛ وأنَّه قد كبر في السن.

 

-البنية الاجتماعية الحادية والعشرون:

(حوار مع حمز السيوفي، ولقاء أول مع الناظرة أصيلة هانم في بيت أم حسني) يدخل عثمان بيومي في حوار مع حمزة السيوفي في حوار عن السعادة، ويرى حمزة السيوفي أنَّ السعادة غاية الإنسان، وأمَّا عثمان بيومي فيرى أنَّ غاية الإنسان تكمن في الطريق المقدس، وهو طريق المجد، وأثناء الحوار قال حمزة السويف لعثمان بيومي أذَّ صاحب السعادة سينقل فخفق قلبه وأصابه الجزع؛ لأنَّ كسب ثقة صاحب السعادة أخذ زمناً طويلاً من عمر عثمان بيومي.

ويلتقي عثمان بيومي بأصيلة هانم ناظرة المدرسة في بيت أم حسني لقاء تعارف من أجل الزواج، وتعاوده أثناء اللقاء صورة قديرة الباغية التي تشبه في مخيلته صورة أصيلة هانم الناظرة، وبدأت أصيلة تطلب منه أنْ يساعدها في تحصيل قطعت أرض لها نزعت ملكيتها لتتواصل العلاقة، ولكن عثمان بيومي استأذن وقام قبل أنْ يتم قهوته، وقبل أنْ تقول أم حسني المثل الشعبي الذي تحفظه.

-البنية الاجتماعية الثانية والعشرون:

(هدية من أنيسة رمضان) تدخل أنيسة رمضان إلى حجرة عثمان بيومي لتقدم له هدية بمناسبة عيد ميلاده، ورأى منها ما يشجعه على التقدم بمزيد من التقارب في العلاقة، وأمّا الموظفة الجديدة في المحفوظات أنيسة رمضان فبدأت تطوير علاقته.

-البنية الاجتماعية الثالثة والعشرون:

(اللقاء الأول بأنسية رمضان خارج دائرة المحفوظات) كان عثمان بيومي يسعى إلى ديمومة العلاقة بأنسية رمضان، ويرفض اللقاء بها إلا في الأماكن التي لا ترقبها العيون حفاظاً على استقامته، وسمعته الطيبة في دائرة المحفوظات، وللقاء كان في حديقة بعيدة ويصف عثمان بيومي اللقاء بأنَّه جميلٌ وفاتنٌ، وصرحت (أنيسة رمضان) بإعجابها الشديد بعثمان بيومي، ولكنَّه لم يطلب يدها للزواج مع أنَّها تعدُّ فرصة مميزة بالنسبة له؛ لانَّ ملامح الشيب بدأت تجبهه.

-البنية الاجتماعية الرابعة والعشرون:

(الناظرة أصلية حجازي هانم تطلب رؤيته من أجل الأرض التي أخذت الحكومة مليكتها منها) وبدأ بأسلوب غير متوقع، وجريء ينظر إلى الناظرة أصيلة. ولكنَّه إعجاب بلا زواج، لأنّ فكرة الزواج غير واردة بالنسبة لعثمان بيومي – مع أنها لا تبدو مستحيلة في كل أحداث الرواية السابقة-وهو يؤكد إعجابه بها؛ ولكنه أعزب أبدي. وهذا التغير؛ لأنه يعلم أنَّ أصيلة جمزاوي لا تناسبه.

-البنية الاجتماعية الخامسة والعشرون:

(الشعر الأبيض يغزو عثمان بيومي) يلاحظ أثر مرور الزمن على شعره، وهذا بالنسبة إليه بلوغ للأجل المحتم، ويوكد أنَّ قدرية التي تحترف مهنة البغاء ماتزال رفيقة العمر، وعلاقته (بأنيسة رمضان) الجديدة في المحفوظات تتوطد، وعلاقة متقطعة من خلال لقاءات عابرة مع أصلية حجازي الناظرة لتطمئن على قطعة أرضها التي استملكتها الحكومة، ويلاحظ أنّه لا يميل إلى أصيلة حجازي؛ ولكنَّه يميل إلى أنسية رمضان.

-البنية الاجتماعية السادسة والعشرون:

(أصيلة حجازي ناظرة المدرسة تزور عثمان بيومي في شقته) وَجَدَ عثمان بيومي أصيلة حجازي ناظرة المدرسة بلا موعد سابق على باب مكتبه، ورحب بها ثم لعنها في داخله، ولم يكن عثمان بيومي يحب أنْ تزوره؛ لأنه رمز للاستقامة في وظيفته، وبعدها وبلا موعد سابق تأتي إلى شقة عثمان بيومي بحجة أنَّها لم تجد أم حسني الخطابة، وعندما دخلت شقته تمكن منها، وربما تكثر الانجرافات في حياة (عثمان بيومي) ويعود ذلك إلى عدم زواجه.

-البنية الاجتماعية السابعة والعشرون:

(حبُ عثمان بيومي لأنسية رمضان موظفة المحفوظات) يعترفُ عثمان بيومي لأول مرة أنَّ حبه لأنسية رمضان أقوى حب يعصف به إذْ تفوق على حبه لسيدة، ولكنَّ عثمان بيومي قرر ألاّ يتزوج إلا إذا أصبح صاحب السعادة، (المدير العام) وهذا حلم جديد لعثمان بيومي، وإذا تزوج الآن فلا شيء غير المتاعب والهوم والفقر، ويأتي أحد الموظفين ليقول لعثمان بيومي إني أحب (أنيسة رمضان)، وأعلم ما بينكما من لقاءات خارج الوظيفة، ويخاف (عثمان بيومي) على مركزه كمدير للمحفوظات.

-البنية الاجتماعية الثامنة والعشرون:

(عثمان بيومي يلتقي بأنسية خارج الوظيفة) طَلَبَ (عثمان بيومي) لقاء أنيسة خارج الوظيفة، وعنده حب شديد لأنيسة وخوف شديد من زواجه بأنيسة، و لاشك أنَّ شخصية (عثمان بيومي) تحمل في طياتها الخوف والشجاعة، القوة والضعف، والحب والخداع حتي أضحى (عثمان بيومي) نفسه لا يعرف نفسه.

– البنية الاجتماعية التاسعة والعشرون:

(خطبة أنيسة رمضان) بدأت البنية التاسعة والعشرون بخبر خطبة (أنيسة رمضان) على (حسين جمال الذاب) الذي طُلَبَ من عثمان بيومي أنْ يفتح له طريق الزواج بها، ويقول بعد هذا الخبر الصعب: “استطيع الآن أنْ أحزن على الحب الضائع ببال رائق لا تعكره المخاوف، وأستطيع أنْ أنهل من العذاب حتى استنفذه وأتحرر منه، وإني بذلك لخبير”(محفوظ، 2008، 102).

علماً أنَّ (أنيسة رمضان) كانت تحب عثمان بيومي حباً صادقاً؛ ولكنَّ طموحه للقب صاحب السعاد، وخوفه من الزواج، وتبعاته من فقر وعيال حالا دون زواجه من أنيسة رمضان.

ويصاب حمزة السيوفي – وكيل الإدارة الثاني-  بأزمة صحية شديدة تمنعه من الدوام في الوظيفة، وتقارير الطبيب تؤكد أنَّ حمزة السيفي لن يعود إلى الوظيفة ثانية، ويدرك الآن (عثمان بيومي) أنِّهم يتساقطون واحداً تلوا الآخر، وأحيل (حمزة السيوفي) إلى التقاعد وجاء عثمان بيومي بدلاً له في منصب وكيل الإدارة الثاني، وكل الموظفين يشهدون باستقامة، وقدرة، وكفاءة عثمان بيومي، وتمت ترقيته إلى الدرجة الثالثة، ولكنه أقرب المقربين لصاحب السعادة، وأمَّا الوكيل الأول واسمه (بهجت نور) فهو باتفاق المدير العام، وعثمان بيومي جاهل وضعيف.

وأما علاقته بقدرية التي تمتهن البغاء فهي مستمرة لم تنقطع، والوحيدة التي تقد على إخراجه من وحدته، وأصبحت هذه العلاقة السرية جزءاً أساسياً من حياته.

البنية الاجتماعية الثلاثون

(مرض، وعرج، وخرف يصيب جارته الخاطبة أم حسني) لقد ظهرت علامات كبر السن على (أم حسني) الخطابة التي اعتزلت مهمتها، ويلاحظ أنَّ حارته الفقرية تتغير وتتطور يدخلها الماء والكهرباء والراديو حتى ملابس أهل الحارة بدأت بالتغير، وهو ما يزال في الدرجة الثالثة، وهو ينظر للوظيفة بأنها: “الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدمة كالمعبد، والموظف أقدم موظف في تاريخ الحضارة، إنْ يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محارباً أو سياسياً أو تاجراً أو رجل صناعة أو بحاراً، فهو في مصر الموظف، وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ” (محفوظ، 2008، 108).

فهو يقدس الوظيفة التي تمثل أمله وطموح؛ لأنَّه قصر حياته عليها، وتحدث مفاجأة جديدة هي موت الوكيل الأول (إسماعيل فائق) الذي يعد الحساب الختامي للموازنة، وتوقع (عثمان بيومي) أنْ يتقدم في منصبه؛ ولكنه فوجئ بتعيين مدير إدارة جديد من وزارة المواصلات فخابت جميع توقعاته.

البنية الاجتماعية الحادية والثلاثون:

(شمت الموظفون بعثمان بيومي بعد تعيين مديرٍ جديد عليه مع أنه يستحق هذا المنصب) سادت حالة من الشماتة بين موظفي المؤسسة لتعينه مديراً جديداً، واعتذر منه صاحب السعادة؛ لأنه لم يستطع مساعدته في الحصول على الوظيفة الشاغرة، علماً أنه خير مَنْ يستحقها، والمدير الجديد المعين، واسمه (عبدالله وجدي) في الأربعين من العمر، وسيبقى مديراً عليه إلى أنْ يحال (عثمان بيومي) إلى التقاعد، وهذه تحطيم كلي وشاملٌ لجميع أحلامه، وبدأ يستعرض مسيرة حياته التي ضاعت منها ولا سيما المدة الزمنية الصالحة للحب والزواج، وقد أفنى عمره في خدمة المؤسسة؛ ولكن لا نتيجة، وما: أشد حاجته إلى شريكة، وعاطفة صادقة، إلى مشاركة أمينة، إلى دفء البيت، إلى الذرية، إلى علاقة إنسانية، وإلى قلب ويد ولسان، إلى ملجأ من العذاب، إلى درع ضد الموت، إلى منفذ من الضياع، إلى محراب مناسب للإيمان، إلى محطة راحة من الأحلام الخرقاء، إلى هدنة مع الحرص والحرمان والوحشة” (محفوظ، 2008، 113).  فالإحساس بالوحدة والاختلاف عن المجتمع يجعله يشعر بخيبة الأمل والحسرة على ما فاته.

وبدأ يبحث عن عروس فلم يجد إلا موظفة تصغره بالسن واسمها (إحسان إبراهيم) فسألها أهي مخطوبة؟ فأجابت: نعم، وقال لها: لا أجد في أصابعك خاتماً؟ قالت: أنا في حكم المخطوبة، فطلب، من الموظفة (إحسان إبراهيم) أنْ تجد له عروساً، وقال لها:

  • هل أطمع في أن تدليني على عروس؟

فتفكرت في ارتباك، ثم قالت في حذر:

  • جميع من أعرف من قريبات، وصديقات يقاربنني في السن فهن لا يلقن بك!
  • يا لها من ترجمة مهذبة لـ “لا تليق بهن”، وتمادى من شدة يأسه” (محفوظ، 2008، 114)، وربما ما وصل به إلى هذه النقطة من الضعف الاجتماعي عدم تفكيره بالزواج في سن مبكرة.

ويلاحظ شغفه، وبحثه عن زوجة حتى وصل إلى مغازلت النساء في الطرقات والحفلات، ولا زوجة في الأفق والسبب واحد وهو تقدمه في السن، وكان كثيراً يعود إلى قدرية التي تمارس البغاء، وطلب عثمان بيومي من قدرية الزواج، وتم ذلك في صباح اليوم التالي، وهذا يدّل على تحول جذري في شخصية عثمان بيومي بعدما وصل إلى سن كبير، إذ يحاول الزواج دون فائدة.

الثاني الثلاثون: ذهلت قدرية ليتزوجها من عثمان بيومي الذي تزوجها في الحال وقد كان سكراناً عند عقد قرانه بها والشاهدين هما القوادين اللذين يعملان عند قدرية، ولابد من أنْ يعترف بجنونه ووصف قدرية:

“ولعله من الإنصاف أنْ يعترف -بأنَّه مجنون – كهلة نصف سوداء في ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش، هكذا تحققت الأمنية التي تاق إلى تحقيقها بجنون، فأصبح زوجاً، كما أصبحت قدرية – رفيقة شبابه – زوجه له، ترى ماذا فعل بنفسه؟! وقال: على أن أبدأ حياة جديدة … (محفوظ، 2008، 119).

واستأجر شقة جديدة في منطقة جيدة، وأثثها أثاثاً مقبولاً، وطلب من قدرية الحجاب وغير سياسته في التعامل مع النقود، وأصبح يميل للاستمتاع بطيبات الحياة، وعاش مع قدرية حياة نظيفة مرتبة، وتعدل وضعه الديني حتى اشترى مقبرة له ليحفظ عظمه من الضياع كما حصل مع والده ووالدته، ويبدو عليه الاطمئنان وشيء من السعادة بما حققه مع معرفة (عثمان بيومي) بأنَّ قدرية ليست الزوجة المناسبة له.

البنية الاجتماعية الثانية والثلاثون:

(الترقية إلى المدير الإداري) ويصبح عثمان بيومي المدير الإداري بعد ترقية (بهجت نور)، إلى رتبة المدير العام، إذ أصبح المدير العام وزيراً، وعثمان بيومي أكثر خبرة إدارية من المدير العام (بهجت نور)، وقرر في وظيفته الجديدة التعاون التام، وتغطية ضعف بهجت نور.

وحياة (عثمان بيومي) لم تعدْ كما كانت فقدرية تفرط في شرب الخمر، ولا أمل لها في ولد أو بنت نجتبيه، وحاورها حتى ذهب إلى مصحة نفسية عصبية لمعالجة إدمان شرب الخمر، وتم تعافيها تماماً، وازدادت بدانة على بداتتها فأصبحت في حال يرثى لها، وبدأ يفكر عثمان بيومي في تغير حياته الأسرية والملاحظ أن زوجة بقدرية هو معادلة علاج خطأ مخطأ وغسان بيومي هو المتضرر من هذه الأخطاء.

البنية الاجتماعية الثالثة والثلاثون:

يُحسُ عثمان بيومي بالروتين في وظيفته اليومية، وزوجته قدرية عادت لشرب الخمر، وتعاطي الأفيون، وفي عماله كمدير إداري أصبح عثمان بيومي يبحث عن سكرتيرة، فطلب من مدير المستخدمين تعيين أي سكرتيرة، فاختار مدير المستخدمين (راضية عبد الخالق) الحاصلة على ليسانس آداب من قسم التاريخ لتكون سكرتيرة للمدير الإداري عثمان بيومي، ومع مرور الوقت أزادت تعلق عثمان بيومي (براضية عبد الخالق) سكرتيرته، وعلاقته بها تسير في طريق غير معروف.

البنية الاجتماعية الرابعة والثلاثون:

(علامات الكبر تلاحق عثمان بيومي) والمدير العام ثابت في مكانه، ولا معجزات: “أين تقع المعجزة هذه المرة؟! وها هو ذا لم يبق من السواد في رأسه إلا شعيرات معدودات، وقد ضعف بصره فاستعان بنظارة، وفقد جهازه الهضمي نشاطه المعهود فعرف العقاقير لأول مرة في حياته، وعلاوة احديداب لطول انكبابه على المكاتب ولعدم مزاولته أي نوع من أنواع الرياضة. وكان يقول لنفسه”: (محفوظ، 2008، 133).

ويزداد تعلقها يوماً بعد يوم براضة عبد الخالق سكرتيرته التي يقضي معها ساعة كل يوم لعرض البريد، وبدأ الغرل بينهما دون مقدمات، وبدأ يصارحها (عثمان بيومي) بكبر سنه، وأنه متزوج وصارحها بحبه لها، وباركت هذا الحب، وذهب يُطْلُبُ يد (راضية عبد الخالق) من عمتها التي طلبت تطليق زوجته الأولى فرفض؛ لأنها مريضة، وثم تفاهم مع عمتها، وبعد مضي شهر تزوج (عثمان بيومي) سكرتيرته راضية عبد الخالق وأمسى يعيش في بيت عمتها يأتيها بعد الدوام في الوظيفة إلى منتصف الليل ثم يعود إلى بيته مع زوجته قديرة، ويصف (عثمان بيومي) الحياة بأنها: “إن الحياة لم تخلق إلا لتكون مسرحاً للعجائب تحت العناية الإلهية” (محفوظ، 2008، 139). فرؤيته للعالم تتحول دائماً فالمجتمع متغير منقوع.

البنية الاجتماعية الخامسة والثلاثون:

(عثمان بيومي يهتم بملابسه وصحته) حثت راضية عبد الخالق (عثمان بيومي) بالاهتمام بملابس وصحته وحالة قدرية – زوجته الأولى- النفسية والصحية تتدهور، وإذ لا يصارحها بزواج (براضية عبد الخالق) سكرتيرته، ويحثّ تغير وظيفي إذ يعين الوكيل الأول وكيلاً خارجياً، ويذهب عثمان بيومي لتهنئته، ويتمنى أنْ يحل في منصبه، ولكن هناك:

“اعتداء على النظام أستحقها عمل دنئ فيه اعتداء صارخ على النظام الأخلاقي للدولة” (محفوظ، 2008، 144). من خلال الواسطة التي تعين من لا يستحق في منصب المسؤولية الوظيفية للدولة، ويُشيرُ لراضية عبد الخالق بضرورة إعلان زواجهما، ومصرحة زوجته قدرية بزواجه.

البنية الاجتماعية السادسة والثلاثون:

(مرض يقعد عثمان بيومي لمدة شهر) أراد عثمان بيومي أنْ يبلغ زوجته قدرية بزواج من راضية عبد الخالق، ولكنه أحس بثقل في صدر وشحوب في وجهه، واستدعوا له الطبيب، وأمره بالجلوس في البيت لمدة شهر حفاظاً على صحته، وفي مرضه تذكر مرض (حمزة السيوفي) و(سعفان بسيومي) وكيف كان الموظفون يهرعون إليهم؟ وهذا ما حصل معه فعلاً فقد جاءه الموظفون لزيارته، وجاءت زوجته الأولى قدرية لتزوره في بيت زوجته الثانية (راضية عبد الخالق)، وكانت حكيمة لطيفة على غير عادتها، وتمت له السعادة، والولد، والدرجة الوظيفية، وغادرت. وهذا كسر توقع للبنية الاجتماعية التي رسمتها الرواية لشخصية (قدرية).

البنية الاجتماعية السابعة والثلاثون:

(زيارات الموظفين لعثمان بيومي في بيته) وتتحول غرفة نوم عثمان بيومي دون سابقة إنذار إلى صالة استقبال للموظفين، والسعاة، والفرشين؛ ولكن لم يزه وكيل الوزارة وعذره ضعيف، وغير مقبول، ويحس عثمان بيومي بقرب شفاءه؛ فيقوم من سريره بعد طول رقاد ليستمع إلى حديث يجري بين زوجته راضية وعمتها التي تصف زواجها من عثمان بيومي بأنه (طمع، وجريمة).

وبعد استماعه الحوار عاد إلى سريره، ودخل في أزمة جديدة، وسرعان ما شفي منها، ولكنَّ لم يعد يعرفُ متى سيقوم مجدداً، وزاره لأول مرة بهجت نور الوكيل الأول للوزرة، وابتسم الرجل، والآخر يرنو إليه بإعياء وذهول، ثم قال:

  • صدر اليوم قرار ترقيتك إلى وظيفة المدير العام.

واستمر ينظر إليه، ولكن ببلاهة، فقال الرجل:

  • انتصر الحق، والعدل، ولو بعد حين.

وذهب الرجل مخالفاً وراءه فردوساً من المشاعر، كأنما كان رسول رحمة من الغيب، وتلقى التهاني من راضية وعمتها وهو مغمض العينين. وعادوه شعور بفقدان الثقة في المكان. وسمعها، وهي تقول:

كم أنني سعيدة.

وتذوق في هدوء نجاحه، إنه صاحب السعادة، مالك الحجرة الزرقاء، مرجع الفتاوى والأوامر الإدارية، وملهم التوجيهات الرشيدة للإدارة الحكيمة وقضاء مصالح العباد، وعبد من عباد الله القادرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال لنفسه (محفوظ، 2008، 154):

وتمضِ الأيام وهو مريض بعيد عن الحياة، وينقل إلى المستشفى ليخفف الأحمال عن زوجته راضية، ويستمر مرضه، ولن يعد يهتم بحلمية إنجاب الذرية والعودة إلى مكتب المدير العام: وما يحز في نفسه أنَّ كل شيء يمضي سبيله دون مبالاة به.

التعيين والترقي والإحالة إلى المعاش، الحب والزواج وحتى الطلاق، صراعات السياسة وشعارتها المحمومة، تعاقب الليل والنهار.

وها هي ذي نداءات الباعة تنذر باقتراب الشتاء، ولعله من محاسن الصدف أنّ القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس (محفوظ، 2008، 156).

فعثمان بيومي نموذج اجتماعي حقيقي للمصري الملتزم بطموحات الوظيفة، وأما رواية حضرة المحترم انعكاس للعلاقات الاجتماعية، والطموحات التي تمثل المجتمع المصري بل تمثل طبقة من المجتمع المصري، وهي طبقة الموظفين، ومن أهم القضايا التي يمكن أن نشير إليها في الرواية وفق المنهج الاجتماعي:

أولاً: (تحديد الطبقة الاجتماعية) التي تناولتها الرواية: وهي طبقة الموظفين المصريين الذين يعملون في الوظيفة الحكومية، وتحديداً الموظف الطموح الذي يسعى للوصول إلى رتبة إدارية أعلى، وتدور أغلب أحداث الرواية حول شخصية (عثمان بيومي)، ويبذل كل شيء للوصول لما أراده من تقدم في الوظيفة الحكومية، فالطبقة الاجتماعية ثابتة في الرواية، وهذا يدل على وضوح الرؤية الاجتماعية للرواية وما تمثله.

ثانياً: الحارة المصرية التي تمثل الطبقة الكادحة متجسدة في شخصية (عثمان بيومي) وهو جزء من الحارة، إذْ يمثل جميع قضايا هذه الطبقة الاجتماعية وإشكالياتها وتطورها.

ثالثاً: نهاية أحداث الرواية سوداوية تصدر عن مرض وخوف يعانيه عثمان بيومي مع تحقيق طموحه الإداري في الوصول إلى منصب المدير العام؛ ولكنه لم يستطيع بسبب المرض أن يلتحق بوظيفته الجديدة.

رابعاً: شخصيات رواية حضرة المحترم تظهر أنماط الشخصية الاجتماعية؛ لأنها تعكس ثنائية الخير والشر.

خامساً: الواقعية من أهم عناصر المنهج الاجتماعي، فالرواية تقدم الدافعية الاجتماعية لشخصيات الاجتماعية بامتياز فكل شخصيات الرواية تمثل الواقعية، وأحداث الرواية تمثل الواقع الاجتماعي وتسهم تحولات شخصية عثمان بيومي في تعديل أهدافها من خلال العمل الدائم لتحقيق المستقبل الذي يطمح إليهِ إذ تتمحور أهدافه على نفسه وأحلامه.

سادساً: البنية المهنية على الرواية طموح بيومي في الوصول إلى مدير عام من خلال العمل الدائم، وقد اعتمد في مسيرته على إرادة الانتصار وحتمية تحقيق الهدف في بلوغ أعلى المراتب الحكومية، وقد جسد طموح بيومي الذاتي الهم الجماعي للطبقة الكادحة في سعيها لتحقيق أهدافها وشق طريقها في الوظائف الحكومية على الرغم من شدة المعاناة.

سابعاً: إن رواية حضرة المحترم ترتبط ارتباط وثيقاً بحياة الناس في الطبقة الكادحة، ولكن نهاية شخصية عثمان بيومي الهزيمة بسبب اختزال طموحه في الجانب الإداري، وربما لا تستحق شخصية (عثمان بيومي) تعاطفاً اجتماعياً، لأنها ترى في المنصب الإداري الوظيفي وسيلة تحقيق السعادة.

ثامناً: تمثل رواية حضرة المحترم الحركة الاجتماعية الدائمة المتطورة التي للنشاط المتطور للقوى الاجتماعية المتناقضة.

الخاتمة

البحث بعنوان (المنهج الاجتماعي بين المفاهيم والإشكاليات تحليل رواية حضرة المحترم أنموذجاً) وقد تناول هذا البحث ثلاثة مباحث، وبعد الانتهاء توصل البحث إلى النتائج الآتية:

1-يظهر أن المنهج الاجتماعي يمثل العديد من التحولات والتطورات النقدية انطلاقاً من: (ماركس، فريد ريك انجلو، ولوسيمان غولدمن، وجورج لوكانتش) ليقدم كلٌ منهم أدوات جديدة تخدم النصوص الأدبية ولاسيما الروائية منها.

2- تقسيم المجتمع إلى طبقات، وقد اعتمدت الرواية على جملة من الإستراتيجيات منها: الفهم والتفسير والتماسك والانسجام، وتحديد رؤية العالم، والبحث عن علاقات التأثير والتأثر بين الأدب والمجتمع والتوازن بين الذاتي والموضوعي والبحث عن خصوصية المجتمعات من أهم الأدوات التي تم عرضها وتطبيقها في هذا البحث على رواية حضرة المحترم.

3- وتبيّن أنّ هذه الرواية ترتبط بحركة المجتمع المصري ولا سيما الطبقة الكادحة منه، إذ تشكل رؤية للعالم من خلال الوظيفة الحكومية التي جسدتها شخصية (غسان بيومي) فالحارة المصرية وإشكالياتها وتجلياتها حاضرة في رواية حضرة المحترم التي تمثل نموذجاً روائياً يظهر خصوصية الرواية العربية التي تعبر عن صورة المجتمعات العربية.

التوصيات: بناءً على النتائج التي تم التوصل إليها توصي الدراسة الآتي:

  • التوسع في تحليل الرواية العربية بوصفها أنموذجاً يمثل خصوصية المجتمعات العربية بإشكالياتها وتجلياتها وتجاربها النوعية التي تكشف تفردها.
  • دراسة الرواية العربية من خلال الجهود النقدية المنهجية المتمثلة بالمناهج النقدية من خلال المطالب المنهجية للنصوص الأدبية للمنهج المناسب لمضامينها.
  • العناية بأدب نجيب محفوظ بوصفه أنموذجاً يصلح للتطبيقات النقدية المنهجية، إذْ يمكن الكشف عن مزيد من الإبداعات الأدبية من خلال المناهج النقدية.

قائمة المصادر والمراجع

أولاً- المراجع بالعربية

  • بن قسمية، منال (2017)، المناهج النقدية الأدبية (قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد الحمداني)، إشراف: بوزيد رحمون، جامعة محمد بوضيف.
  • بولكعبيات، نعيمة (2015)، المنهج الاجتماعي في النقد العربي معاصر، إشراف: عبد الله العشي، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في النقد الأدبي المعاصر: جامعة بائتة، الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية.
  • بييرباربيريس، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي (النقد الاجتماعي)، ترجمة: رضوان ظاظا، مراجعة: المنصف الشفوفي، عالم المعرفة: الكويت، العدد221.
  • تريك اندرسون ميرت، مناهد النقد الأدبي، ترجمة: الظاهر أحمد مكي، مكتبة الأدب، القاهرة.
  • خرشوش، خيرة (2014)، آليات البنيوية التكوينية من خلال كتاب ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب لمحمد بنيس، ومنال زناتي رسالة ماجستير في جامعة الجيلالي بو نعامة بخمس مليانة.
  • الزبيدي، مرشد (1999)، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق( دراسة الجهود النقدية المنشورة في الصحافة العربية بين 1985- 1990)، منشورات اتحاد الكتاب العرب: سوريا.
  • سلمى، ابن أحمد (2017)، التجربة النقدية عند وجدان الصايغ، إشراف: طيبي حرة، رسالة ماجستير، جامعة أبو بكر بلقايد: الجمهورية الجزائرية الديموقراطية.
  • سواعدي، مريم (2015)، قراءة واصفة في المشروع النقدي لعبد المالك مرتاض، إشراف: توازن عبد القادر، رسالة ماجستير، جامعة حسيبة علي الشلف، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.
  • شعلان، عبد الوهاب، (2017)، المنهج الاجتماعي وتحولاته من سلطة الأيدلوجيا إلى فضاء النص، علم لكتب الحديثة، الأردن، ط(1).
  • فضيلة، قندوز (1991)، مفهوم النص في النقد الأدبي المعاصر، رسالة ماجستير، إشراف محمد ملياني، جامعة أبي بكر بلقايد تلسان: الجزائر، 2017م، ص 29، نقلاً عن: إتريك أدرسون إموت: النقد الأدبي، ت. الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب، القاهرة.
  • فضيلة، قندوز (2017)، مفهوم النص في النقد الأدبي المعاصر، رسالة ماجستير، إشراف: محمد ملياني، جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان: الجزائر.
  • في نظرية الأدب، شكري عزيز ماضي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، ط(4)، ص 83
  • محفوظ، نجيب (200)، رواية حضرة المحترم، دار الشروق: مصر، ط3.
  • نور الهدى، جلاب (2015)، المنهج الاجتماعي في النقد (نشأته وخصائص)، مجلة مركز دراسات الكوفة: مجلة فصلية محكمة، العدد (38).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *