د. رشيدة الزاوي
المركز الجهوي لمهن التربية و التكوين ، الرباط ، المغرب .
00212661180642
1 مصادر المعلومات بين سياق النشأة وتحديات التطور:
لا شك أن العلاقة بين الإنسان و المعلومة هي علاقة قديمة قدم تواجده في هذا الكون، حتى إنها أضحت روحية ووجدانية، حفزته على التفنن في اختراع حواملها و صورها وأساليبها، سعيا منه إلى حفظ منتوجه الفكري ( الشفوي والمكتوب)، وميراثه الثقافي والمعيشي من الاندثار والتلاشي وجعله ميراثا تتناقله الأجيال و تمحصه بالقراءة والتفسير وربط الأنواع بالسياقات الزمانية والمكانية. ولا جدال أيضا أن المعلومة المكتوبة قطعت أشواطا في الظهور والتطور من أجل حفظ ذاكرة الأشخاص والأمم وخبراتهم وتجاربهم، فقبل التاريخ المدون كانت المحاولات الأولى عبر الأوعية البدائية كالرسوم والرموز التي امتلأت بها الكهوف وجدران المعابد والنصب التذكارية،أو سجلت على ” عظام الحيوانات وجلودها أو على الألواح الطينية وجرائد النخل وورق البردي، دون إغفال الحجارة والأشجار وشواهد القبور كما هو الشأن في الكتابة المسمارية التي انتشرت في بلاد الرافدين والهيروغليفية المعروفة بمصر، والتي احتوت الكثير من الأخبار عن أحداث تاريخية وشرائع وعادات وطقوس لشخصيات وازنة خاصة منها الملكية قبل الموت وبعده ” (صوفي 1988 ،ص43)والتي تطورت إلى مقاطع من أبجديات اخترعها الفينيقيون وكان لهم الفضل في وصولها إلى اليونان والإغريق. هذا إلى جانب “العرب الذين عرفوها – وإن بشكل نادر- أثناء كتابة العقود والمواثيق والرسائل، إضافة إلى أستار الكعبة التي دونت عليها النماذج الشعرية الراقية المكتوبة بماء الذهب، بالرغم من أنها لم تكن مألوفة كثيرا في محيطهم وخاصة في بواديهم بسبب عوامل الترحال والاشتغال بالتجارة” ( فروخ ، 1992 ، ص38).
والحديث عن الكتابة لا ينفصل عن قطبين متصلين بها هما الخط وصناعة الكتاب، فهما أساس وعماد الحضارة الإنسانية، إذ في صدر الإسلام اتخذت الكتابة دورا مهما في تدبير الأمور السياسية والدينية والثقافية وكذا الاقتصادية وتطورت بعد ذلك مع الخلافات الحاكمة لتصبح حرفة تستدعي توفر عناصر ومهارات الإتقان والتفنن الإبداعي من خلال الزخارف الإسلامية التي ابتعدت بالتدريج عن الرسوم الحيوانية والبشرية لدرجة أنهما (الكتابة والخط) أصبحا علمين يدرسان في مجموعة من المدارس المهتمة كالمدرسة العراقية والمصرية والتركية والفارسية. وقد نبه ابن خلدون إلى دورهما الكبير حيث قال: ” الخط هو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية إذ إن الكتابة من خواص الإنسان فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضى الحاجات ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم” (ابن خلدون ،8200 ،ص 201)
ومع انتشار صناعة الورق ببغداد و ظهور حرفة الوراقة والوراقين الذين انكبوا على نسخ المخطوطات يدويا وبيعها، ظهرت أنواع من الكتب والحرف المتصلة بها حيث وجدنا على سبيل المثال: العمال المشرفين والحراس والمناولين والمترجمين والعلماء، كما وجدنا الكتب المتصلة بالجانب الديني والتي توفرت بغزارة من خلال عمليات الوقف والنسخ بالمساجد الكبرى كجامع الأزهر بمصر والأقصى بالقدس والقرويين بفاس والمسجد الأعظم بتطوان ويوسف بن تاشفين بمراكش، ” وأخرى تعليمية توفرت بالمدينة الظاهرية بدمشق والمستنصرية ببغداد وثالثة طبية كانت تابعة للبيمارستانات كما هو الحال ببيمارستان النوري بدمشق والمنصوري وقلاوون بمصر” ( جرجس ، وبديع ، 1998، ص112)ونوع آخر عام حضر بقوة في كل “من مكتبة بيت الحكمة ببغداد ودار العلم بمصر ومكتبة قرطبة بالأندلس.” (عبايدة ، 2005،ص96).
وبوصولنا إلى عصر النهضة حيث ظهرت الآلة الطابعة على يد الألماني غوتنبورغ خلال القرن 18م، ظهر الكتاب بمواصفاته الآنية التي شملت فهرسا بأهم المحاور والأبواب والفصول إضافة إلى الكشاف والإيضاحات، وهذا ما جعل لصناعة الكتاب ومهنه وظائف جديدة تهتم بطرق تنظيم المحتويات وخدماتها الساعية إلى تحقيق الجودة والرضى عن المنتوج شكلا ومضمونا، عن طريق الارتقاء بالمهارات الفنية والتقنية المتخصصة وتحقيق مجموعة من الوظائف التي يمكن اختزالها في النقاط التالية :
- اكتساب الخبرة العملية في صناعة الكتاب ونشره.
- تحويل المخطوطات اليدوية إلى كتب مطبوعة تيسيرا لقراءتها وتحقيقها.
- تشجيع حركة الترجمة وتعميم التوزيع والفائدة المعرفية.
- تحقيق الاتصال المباشر مع فئات القراء وضمان تفاعلهم مع المقروء.
- o تسويق الأفكار بطريقة سهلة وسريعة .
- إغناء المعلومة بإرفاقها بالصور والرسومات و الجداول .
- تخزين المعلومات وحفظها ثم إتاحتها للقراء.
هكذا استطاع الكتاب المطبوع أن يبرز قدرته على احتواء الكون والبشرية والحضارات والأفكار والمعتقدات في كل أبعادها الزمانية والمكانية والتواصلية خارج القيود الفنية والتأليفية التي ميزت المخطوطات اليدوية قديما، ” إذ اعتبر كيانا ماديا مستقلا قد يكون إخراجه ضمن مجلد واحد أو أكثر سواء أكان ترقيم الصفحات متصلا أم منفصلا، ويمكنه أن يتناول موضوعا واحدا أو عدة مواضيع متجانسة أو تجمعها خاصية واحدة أو أكثر”، (السامرائي ، 1993، ، ص68 بتصرف) هذا رغم طول مدة إنجازه وإخراجه في صورته النهائية ثم وصوله بين يدي القارئ.
وتبعا لتطور صناعة الكتاب ظهرت أنواع أخرى من الكتب إما جديدة أو معدلة للسابق مثل :
- الكتاب المتخصص وهو أحادي الموضوع إذ ينصب اهتمامه على مجال علمي أو فكري أو نقدي و أيضا أدبي واحد، وقد يكون من تأليف باحث واحد أو عدة باحثين.
- النوع التربوي وهو الذي يندرج ضمن المقررات والبرامج التعليمية حسب تنوع موادها وأسلاكها ويكون غنيا بالحمولات المهارية والقيمية والمفاهيمية.
- النوع المركب “وهو الكتاب الحصيلة الذي يغطي عموم الأحداث السنوية والأخبار والإنجازات، وغالبا مايكون مصحوبا بالإحصائيات التوضيحية والصور والقوائم المرجعية” (صادق ، 2005، ص 69).
- النوع العام وهو الذي يشمل المعاجم والمراجع والسير، وكذلك الأطالس والكشافات والأطروحات الجامعية.
2 النقلة النوعية للكتاب ومهنه:
مع تزايد الإنتاج الثقافي وتضخم عدد الكتب وحجم المعلومات التي أصبحت متاحة، غدا من الصعب بمكان التحكم والسيطرة على النسب الهائلة في مصادرها ومعالجتها وتخزينها ثم استرجاعها، وهذا ما دفع المهتمين بصناعة الكتاب ومهنه إلى التفكير في حل سريع، سهل، وفعال لاحتواء هذا الكم الزاخر، من خلال اختراع ماسمي بالكتاب الإلكتروني، وهو شكل حديث مهمته إنتاج ونقل المعلومات والمعرفة المكتوبة وتخزينها بواسطة الحواسيب ووسائل الاتصال البعيدة المدى من طرف المؤلفين أو الناشرين إلى المستفيدين مباشرة ” أو من خلال شبكة اتصالات عالمية أو على وسائط ممغنطة أو مليزرة، ضمن ملفات قواعد بيانات متاحة عن طريق الاتصال المباشر أو الأقراص المتراصة” (الوردي ومجبل ، 2002، ص 73) والتي ساهمت في تراجع كلفة القيمة الإنتاجية للكتاب الورقي، وضمنت مرونة في التفاعل والإفادة والتلقي وأيضا في التسويق والدعاية بواسطة بنوك المعلومات الإلكترونية.
فالثورة التقنية والمعلوماتية التي نعيشها الآن حولت الكتاب من الوعاء الورقي إلى وعاء تقني أضاف الكثير من الإمكانات الكتابية التي لم تكن متاحة في شكلها التقليدي، وكمثال على ذلك تحديد النص الأصلي بلغة (standard generalised markuplan JSGML)،”وهي تقنية تسمح بتجديد المسودات المكتوبة وتعرف العناوين الكبرى والفرعية، إضافة إلى الفقرات والحواشي مع تطوير قدرة الإنتاج إلى مئات النسخ بطريقة أتوماتيكية “، ( فرج ، 2009، ص 115)وهذا ما جعلنا أمام أنواع حديثة من الكتب منها كتب الإنزال (books dounload) وكتب الطباعة المخصصة ( dedicated readers)، وكتب الطباعة حسب الطلب (books printingon demand)، والكتب المتاحة عبر شبكة الويب ( web-accessible book)، وهذا الشكل الجديد ما هو إلا نتيجة حتمية لما أصبح يفرضه منطق مجاراة العولمة والحداثة التقنية و المعلوماتية والاتصالية، والتي سعت بكل إبداعاتها في صناعة نوع جديد من الكتب إلى تأمين السيطرة على هذا الكم الهائل من المعلومات وإعدادها للقراء بالسرعة والشمولية والدقة التي استوجبتها الثورة الرقمية في كل المجالات، بما فيها أوعية التأليف والإنتاج والتلقي. وقد لخص الدكتور سعيد الهجرسي مراحل تطور مصادر المعلومات وصناعة الكتب في قوله: ” إن مصادر المعلومات هي الذاكرة الخارجية للإنسان، وهي امتداد لذاكرته الداخلية. ولكنها تتميز بكونها امتدادا ماديا محسوسا يعتمد على الوسائط الخارجية، وعبر العمر الزمني لأوعية الذاكرة الخارجية. ولقد مرت هذه الوسائط بثلاث مراحل أساسية، أولها المرحلة قبل التقليدية التي تمثلت في الحجارة والطين والعظام والجلود والبردي، ثم المرحلة الثانية التقليدية وشبه التقليدية والتي تمثلت في الورق وتطوراته الصناعية قبل وبعد الطباعة، وأخيرا المرحلة غير التقليدية التي تشمل الأوعية المحوسبة والمليزرة على اختلاف أنواعها. ” (الهجرسي ، 1980، ص73).
3 الكتاب الإلكتروني بين الجودة الخدماتية ورضى القارئ :
جاء هذا العنوان للتعبير عن قلق فكري يمكن ترجمته إلى سؤالين منطقيين هما: هل قارئ اليوم لا زال يبدي نفس الرضى عن خدمات الكتاب كما كانت بالأمس في ظل التغييرات التقنية الحديثة التي همت صناعته ومهنه ووظائفه؟ وما هي المعايير التجديدية التي صاحبت تطوره؟
مما لا شك فيه أن الجودة الخدماتية للكتاب هي فلسفة ورؤية صناعية ومهنية تضمن له الاستمرارية والحفاظ على الصدارة ضمن حاجات واهتمامات إنتاجية غير متوازنة بين ما هو ورقي وما هو رقمي، أي في ظل المنافسة الشرسة حول عمليات التسويق والنشر، سواء عبر دور النشر التقليدية أو عبر المواقع الإلكترونية الحديثة. والتجويد الخدماتي ليس أمرا كماليا أو ثانويا وإنما هو مطلب أساسي، وضرورة فرضتها الزيادة الهائلة في أعداد المستفيدين وفي حجم العروض الخاصة بالمنتوج الفكري وظهور الحاجة إلى الأداء العالي.
وقد وردت تعريفات كثيرة للمصطلح تتقاطع بينها ” لتؤدي في النهاية دورا متكاملا يشمل الصفات التي يتميز بها المنتج والخدمة التي تبنى على قدرة هذا الأخير على توفير حاجات المستهلك”، (الترتوري ،2009، ص 26)بهدف تحقيق “الملاءمة
والمطابقة والوفاء لتلك الحاجات والقابلية للتحسين باستمرار” (ملحم ، 2011، ص13).فبدلا من البحث اليدوي الذي كان يشمل مختلف التصنيفات والفهرسة والترميز، أصبحنا نلاحظ أدوارا متصلة بالمجال التقني من بينها :
- تنظيم وتدبير الأوعية الكتبية الإلكترونية وتحيينها رقميا.
- مراجعة الخصاص المعبر عنه من طرف القراء حسب اهتماماتهم الفكرية والبحثية السريعة والآنية.
- التقييم السريع للأداء الخدماتي للكتاب وللاختصاصين في مهنه باعتماد قياسات الأداء المتطورة و توحيد معاييرها دوليا.
- o “التواصل الآلي بين القارئ وأخصائيي الخدمات المرجعية دون الحاجة للذهاب بشكل شخصي إلى مكان تواجد الكتاب” (جرجس، مرجع سابق، ص 78).
ومن البدهي أن الأدوار الجديدة ستؤدي إلى ظهور مصطلحات ومفاهيم حديثة كالفهرسة الآلية، قوائم وقواعد المعلومات الرقمية، الدليل الرقمي، الخدامات المرجعية الرقمية التزامنية وغير التزامنية، التسويق الإلكتروني، التحميل الإلكتروني، المهارات البرمجية، الجودة الرقمية للإفادة من الكتب، المعالجة اللغوية المزدوجة لبيانات الكتب، اختصاصيي تصميم وتحليل النظم، التأهيل الرقمي، الإتاحة الرقمية لذوي الاحتياجات الخاصة. كل هذا من أجل الوصول إلى درجة الملاءمة لحاجيات القارئ من خلال التخطيط للأهداف والمتغيرات ودراسة الاهتمامات المعلنة وغير المعلنة ثم تبني نهج تجويدي مناسب.
لقد مكن الاكتساح المهول للكتاب الإلكتروني والوصول بكل سهولة إلى مصادر المعلومات، من تحقيق التغذية الراجعة الفورية بفضل الاطلاع اللامحدود واللامشروط للقراء، والاستئثار بالنصيب الأوفر من النشر الذي كان محصورا في السابق في الكتاب الورقي. وهذا ما جعل العلاقة والمشهد الثقافيين يتحولان من الاتجاه الأحادي
أو الفردي إلى اتجاه تناوبي، تتبادل فيه الأدوار بين المؤلف والقارئ.
وعلى العموم يمكن إجمال الوظائف الجديدة للكتاب التفاعلي في المزايا الآتية :
- o ” توفير الوقت والجهد والتكلفة المادية في عمليات الطبع والنشر والتوزيع بدلا من التباطؤ في الإخراج النهائي للكتاب.” (الهوش ، 2002، ص 174/175 بتصرف).
- التقويم الذاتي والآني للأخطاء الناتجة عن السرعة أو عدم تمكن ذاكرة الحاسوب من قراءة الكلمة
و ضبطها إملائيا.
- أصبح الكاتب هو المتحكم في كل عمليات الكتابة الإلكترونية التي كانت في السابق من مهام مساعدي الناشر، فهو المنظم والمخزن والمسترجع لمنتوجه متى شاء وأينما رغب، بل وبإمكانه تحديث معلوماته
واستبدالها بأخرى.
- تيسير عمليات الاقتناء إلكترونيا.
- بإمكان القارئ اعتماد القصاصات ونسخها وإلصاقها في المواضع المرغوبة.
- o ” تغيير النظرة الاحتكارية للمعرفة ولمصادر المعلومات إلى الامكانيات المتعددة لإتاحتها وتقاسمها”(حشمت ، 1985 ، ص 74).
- توفير الدعاية اللازمة للكتاب ولمؤلفه.
- أصبح الوسيط الإلكتروني بديلا عن دار النشر، فهو الأداة الأساسية في الإبداع والنشر والتوزيع.
- إلغاء الحدود الزمانية والمكانية في الوصول إلى المعلومات.
لكن الجميل لا يكتمل جماله أمام بعض الإكراهات التي قد تقف حاجزا أمام إتمام متعة الكتابة والقراءة إما بسبب الإجهاد البصري والتعرض للانعكاسات الضوئية المضرة بالعين، أو بسبب انقطاع الكهرباء، أو إفساد المنتوج أثناء اقتحام بعض الفيروسات للمعطيات ومحوها، دون أن نغفل ” ضياع حقوق الملكية الفكرية والتصرف اللامشروع في إنتاج الآخرين ونقله ثم إضافته إلى منتوج فكري آخر” (أسامة ، 2004، ص81).
4 المسار الرؤيوي للكتاب ومصوغات التعددية :
اذا كان الكتاب الورقي قد قدم للنقاد مفاهيم محددة حول الأوعية الحاملة وحول مفهوم الكتابة ومقاصد الكاتب وأيضا أبعاد التلقي، إضافة إلى حدود الزمان والمكان والكلمة والمعنى، فإن الكتاب الإلكتروني هدم الحواجز والخندقة الثقافية وكذا آفاق الانتظارات البحثية والنقدية، ليقدم مفاهيم جديدة لازالت قيد السؤال والدراسة، منها :
أ- العلامة ضمن نسقية اللغة والفنون التجنيسية:
جاء في كلام الدكتور سعيد يقطين أن الكتابة عبر الوسيط الإلكتروني ” تتحول من النمط التناظري إلى النمط الرقمي، حيث يصبح النص والصورة الثابتة أو المتحركة والصوت أو الملف مشفرا إلى أرقام، لأن هذا التحويل هو الذي يسمح لها أن تصير قابلة للاستقبال والاستعمال بواسطة الأجهزة المعلوماتية”، (يقطين ، 2008، ص141)،و بهذا الشكل الحديث تتجاوز الكتابة نمطيتها الخطية التتابعية والسكونية التي تستلزم من الكاتب أن يكون ملما بآليات وضوابط الإملاء وبالمنهجية التنظيمية في عرض أفكاره وتلقيها، لتصبح فوق المفاهيم النقدية التي كانت في السابق تفصل بين من ينتج وكيف ولماذا، وبين من يستهلك ويقرأ، فميزت بالتالي بين القارئ الواقعي والضمني، وبين الآفاق المتعددة للتلقي الجيد والإنتاج الهادف، لهذا كنا أمام صنفين من الكتب: الأول الكتب المنظرة والثاني الكتب الناقدة ذات الجودة العالية، وكانت لدينا أعراف تسمح بالتمييز بين ما يصلح ومالا يصلح للنشر، وحتى قدماؤنا لم يكونوا يحددون الكتابة بالمنبر والمقام فحسب، بل وأيضا بالمادة وبالوعاء الذي يحملها.
ومما لاشك فيه أن القلق الذي ساور أفلاطون في زمنه عندما دون حوارات سقراط الشفهية وأصر على أن الانتقال من الحيز المنطوق والمجادل إلى الحيز التوثيقي ما هو إلا صورة مشوهة تمنع المكتوب من الدفاع عن نفسه أو الإجابة عن الأسئلة، هو نفسه القلق الذي ساور المؤلف والمبدع والمتلقي مع استخدام الوسيط الإلكتروني، حيث أتاح هذا الأخير مساحة مجانية لتفريغ الطاقات والآراء وأصبح يعكس طريقة تفكير “وأسلوب حياة وعمل جديدين ناتجين عن حضور الوعي والتفكير الرقميين وكذا الرؤية الفلسفية الرقمية للأشياء.” (نفس المرجع، ص 92).
وقد أدت هذه النقلة من النص الأحادي العلامة إلى النص المتقاطع إلى ظهور شكل جديد من العلامات ذات الأبعاد التعديدية والتوافقية المحركة للنص، والجاعلة إياه أكثر دينامية وتفاعلية بفضل إذابة الفواصل بين مختلف الأجناس الكتابية والأشكال الفنية، مما جعل الكتابة منفتحة على الإحالات التناصية : من الكلمة إلى الرسوم والصور والموسيقى والألوان والصوت والمسرح والروابط، حيث يعدّ كل واحد منها جزءا مساهما في بناء الكتابة والدلالة وإنتاج المعنى ذي النسق والمعمار السيميائيين المنفتحين والموجهين للقراءة، من خلال الإيحاء بالمحتمل الدلالي للخطاب وإمكانية إبداع نصوص لا متناهية. وما كنا نعتبره في السابق نصا منغلقا ومكتملا غدا اليوم عبارة عن شذرات ومقاطع وروابط تتعدد عوالمها الافتراضية وأصواتها كما نادى بذالك ميخائيل باختين، وحريات تداولها كما قال ميشيل فوكو، وشبكياتها النصية كما صرح بذلك رولان بارت، مع إلغاء بنائها الهرمي الخطي كما جاء في كتابات جان فرانسوا ليونارد.
ب- انزياحية الكتابة والتلقي والمفاهيم النقدية:
بما أن الكتاب الإلكتروني أصبح فضاء للإنتاج والتلقي والتواصل خارج المعايير التقليدية التي كان يتسم بها الكتاب الورقي، فإن العلاقة التواصلية بين المؤلف والقارئ اتخذت منحى جديدا خارج الاحتواء الفكري والفني (التراث، الإبداع، الأساليب، الضوابط النحوية والإملائية…)، وهو منحى يتميز بالاشتراك في ثقافة جديدة هي الثقافة الرقمية و” التلاعبات الافتراضية الزمنية والمكانية واللغوية، وهذا ما أدى إلى تجلي أزمنة متشعبة، منها: زمن التذكر وزمن الإنتاج والكتابة ثم زمن القراءة والتلقي وأخيرا زمن التفاعل والاستجابة” (الخرينج ، 2005، ص66)، ونفس الشيء فيما يتعلق بالأمكنة، فهناك المكان الخاص بالكاتب وما ينتجه قبل عملية الإرسال ثم المكان المنفتح على الذاكرة الإلكترونية المستقلة التي تخزن وتحفظ المعلومات من النسيان والضياع، إضافة إلى المكان المنفتح على المواقع الناشرة المنفلتة من التحكم والسيطرة لأنها تدخل في سلسلة غير متناهية من الاستنساخ والتعديل، دون إغفال الدور الأساسي للمتلقي المتلاعب بدوره بالعلامات والأيقونات اللغوية وغير اللغوية بفضل السيولة المعلقة والمضادة للتعليقات التي أصبحت تشكل أحيانا رصيدا نقديا أضخم من النص الأصلي، وخارج الرقابة وضمن الحرية اللامحدودة التي جعلت منه مبدعا ومنتجا ومرسلا موازيا للكاتب والكتاب الأصليين.
ومما لا شك فيه أن الكتاب الإلكتروني قد انفتح على صيغة أخرى من التعددية تتعلق بالبدايات والنهايات التفاعلية بين فئات من المتلقين والمرسلين الذين يتشاركون فعل الكتابة. وهكذا أصبحنا أمام كتاب قيد التشكيل والبناء تلتقي فيه وعبره أراء وأفكار منسجمة وداعمة أو معارضة ومضادة، قادرة على تشكيل جماليات التأثير والتناظر والإمتاع والإقناع وتجديد الوعي بالكتابة والنقد، بعيدا عن الجاهزية والاستهلاك السلبيين، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض الإكراهات المصاحبة لهذه العملية، كممارسة فعل الكتابة والنقد عبر أسماء مستعارة أو مجهولة الهوية، وضرورة التفكير في مناهج نقدية جديدة قادرة على تقديم أدوات تحليلية وتفسيرية تستطيع احتواء كل الأنساق والأبعاد الإيديولوجية، والفنية الجمالية، والقيم المعرفية، والقضايا الفكرية والإبداعية في سياقات تأويلية رقمية، إذ لا يمكن اعتبار كل ما يكتب نقدا بناء وتوجيهيا، لاسيما أن الوسيط الإلكتروني أصبح بإمكانه أن يقدم مفهوما جديدا للاستحقاق والشهرة مختلفا عما كان دارجا في الماضي، حيث كان الكتاب الورقي يحتاج إلى لجنة قراءة وتحكيم ومصادقة، وأحيانا تعديلات، لتكون كل هذه العمليات شاهدا على جودة المنتوج. والواقع يخبرنا يوما بعد يوم بأن النشر والشهرة يقدمان مجانيا لمن يستحق ومن لا يستحق لأنهما تحولا إلى تجارة ربحية مرتبطة بمدى سعة مساحة الأصدقاء والمعارف و المؤيدين أو المعارضين للمنتوج الإلكتروني.
إن الكتاب في مفهومه العام اعتبر ثقافة وعالما شاسعا من الفنية والشغف الذاتي بصناعة عوالم واقعية ومتخيلة تصل إلى حد التلاحم والذوبان، وهو أيضا حياة ودرجات من التفكير الذي يروم إحداث التغيير الدينامي والمستمر في ذهنية القارئ وسلوكه وعاداته القرائية والرؤيوية. وفي ثقافتنا التقليدية جمعتنا بالكتاب الورقي علاقة الحميمية والقرب عن طريق الإحساس الحقيقي بوجوده المادي، وكانت الكتابة الخطية مقرونة بمدى تجويد الخط، وكان بإمكاننا أن نستبدل النسخة بأخرى أو نبيعها أو نعلم صفاحاتها بأشياء رمزية قد يكون لها اتصال روحي بوجداننا وبالآخر، واليوم أصبحنا في حيرة ذاتية إزاء المفاضلة بين الكتاب الورقي أو الإلكتروني وبين الوسيط المادي أو التقني، وكذالك بين المتعة المباشرة أو الافتراضية، وبين القراءة المتروية أو السريعة، وبين التلقي الهادف والأحادي الاتجاه أو التلقي المنفلت والزئبقي الناتج عن سرعة الاستهلاك، وبين الكتابة الرصينة والجادة أو المتساهلة، والقائمة طويلة بين وبين…
ختام القول :
قديما قال الجاحظ عن الكتاب بأنه “هو الذي ان نظرت إليه أطال امتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك، وجوَّد بيانك وفخَّم ألفاظك وعظّم صدرك وحباك تعظيم الأقوام ومنحك صداقة الملوك، يطيعك في الليل طاعته بالنهار وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحتقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك” (الجاحظ ، 1998، ص120)، إلا أنه ومع الثورة الرقمية انقلبت لدينا معايير التواصل والإنتاج، وفرضت لغة العصر الجديدة وسيطا جديدا غيّر المداخيل المفاهيمية للكتاب ولمهنه وصناعته، وهذا واقع طبيعي استدعاه تطور الفكر البشري في رؤيته الإدراكية للعالم وللأشياء، والذي أدى بدوره إلى تطور في الحاجيات والوسائل،
أي من قلم وورقة ودار نشر، وقانون ملكية فكرية حامية إلى مجموعة من الأجهزة التقنية التي عوضت الطواقم البشرية والمهنية، وسمحت بالتدفق الكتابي في غياب الرقيب الذاتي والقانوني والأمانة العلمية والمتعة الهادفة.
والنتيجة هي أن الكتاب الإلكتروني رغم أنه فرض نفسه كبديل قوي عن الكتاب الورقي غير أنه يظل مفتقدا لرونقه الجمالي، ولاحترافيته الموضوعاتية بسبب هيمنة السطحية المعرفية والضحالة الفنية، بدلا من الساعات والأيام التي كان يقضيها الكاتب في التخطيط لموضوع كتابه ولمحاوره، وحيث أصبح الأمر لا يكلفه سوى قراءة خاطفة لبعض التعقيبات والتعليقات المقتضبة والسريعة التي قد توحي له بالفكرة وتلهمه الكتابة.
المراجع:
- 1 -ابن خلدون، عبد الرحمان ، (2008) ، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1.
- 2 -الجاحظ ، أبو عثمان ، (19981998، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، مج 2، ط7.
- 3 -أسامة، أحمد بدر ، (2004) ، الوسائط المتعددة بين واقع الدمج الإلكتروني للمصنفات وقانون حماية حقوق الملكية الفكرية، دار الجامعة الجديدة للنشر، ط1.
- 4 -الترتوري ، محمد عوض ،(2000) ، إدارة الجودة الشاملة في المكتبات ومراكز المعلومات الجامعية، دار حامد، ط1.
- 5 -جرجس ،حاسم محمد، وبديع ،محمود القاسم ، (1998) ، مصادر المعلومات في مجال الإعلام والاتصال الجماهيري، مركز الإسكندرية للوسائط الثقافية والمكتبات، ط1.
- 6 -حشمت ،قاسم، (1985) ، خدمات المعلومات : مقوماتها وأشكالها، مكتبة غريب، ط1.
- 7 -الخرينج، ناصر متعب ،(2005) ، تحديد احتياجات المستفيدين من خدمات المكتبات بكلية التربية الأساسية ومصادرها وإمكانياتها بدولة الكويت، دار المريخ للطبع والنشر.
- 8 -السامرائي ،إيمان فاضل ، (1993) ، مصادر المعلومات الإلكترونية وتأثيرها على المكتبات، المجلة العربية المعلوماتية، مج 14، ط1.
- 9 -صادق ،أمينة مصطفى، (2005) ، مصادر المعلومات الإلكترونية في المكتبات وأثرها في الاتصال العلمي، الجمعية المصرية للمكتبات والمعلومات، ط1.
- 10 -صوفي، عبد اللطيف،(1988) ، مصادر المعلومات : أنواعها، أصول استخدامها واتجاهاتها الحديثة، دار طلاش، ط1.
- 11 -عبايدة ،حسان،(2005) ، استخدام الحاسوب في المكتبات ومراكز المعلومات، دار الصفاء للنشر والتوزيع، ط1.
- 12 -فرج ،أحمد أحمد ، (2009) ، دراسات في تحليل وتصميم مصادر المعلومات الرقمية، مكتبة الملك فهد الوطنية، ط1.
- 13 -فروخ ،عمر، (1992) ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، ج1، ط6.
- 14 -ملحم ،عصام أحمد توفيق ، (2011)، أطروحة جامعية، مصادر المعلومات الإلكترونية في المكتبات الجامعية، جامعة الملك فهد للعلوم الأمنية.
- 15 -الوردي ،زكي حسين، ومجبل ،لازم المالكي، (2002) ، مصادر المعلومات وخدمات المستفيدين في المؤسسات المعلوماتية، الوراق للنشر والتوزيع، ط1.
- 16 -الهوش، أبو بكر ، (2002) ، التقنية الحديثة في المعلومات و المكتبات : نحو إستراتيجية عربية لمستقبل مجمع المعلومات، دار الفجر للنشر والتوزيع، ط1.
- 17 -يقطين ،سعيد، (2008) ، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية،المركز الثقافي العربي، ط1.