م.د. أسيل عبود جاسم
العراق/بغداد/جامعة بغداد/كلية التربية للبنات/قسم اللغة العربية
aseel@coeduw.uobaghdad.edu.iq
009647906998630
الخلاصة
الجسد هو الجانب المادي المحسوس للإنسان ، أما الجانب غير المادي أو المعنوي و الذي نستطيع أن نطلق عليه مجموعة من المصطلحات مثل: الروح أو النفس أو الفكر أو العقل ، وهي مجموعة من العبارات التي قد لا تؤدي معنى واحد بذاته لكنها تؤدي معنى الجانب المعنوي أي غير المادي ، وفي أحايين كثيرة قد تستعمل لفظة مكان أخرى دون قصد أو تمييز ، وفي اللغة العربية يفضل بعض الباحثين أو النقاد أو المفسرين توظيف لفظة النفس ، فالروح علمها عند الله كما ذُكر في القرآن الكريم ، فلجأنا في البحث إلى توظيف لفظة الروح لأنها الأكثر تداولا في ميدان اللغة و الأدب بشكل خاص ، فضلا عن تداولها في المجتمع بشكل عام ، وربما لأنها قد تكون أقرب للمشاعر الجياشة وأصدق مقالا في التعبير عن مكنونات الشاعر العاشق لاسيما إذا كان العاشق هو جميل بن معمر ومعشوقته بثينة ، إذ شكلت الروح مع الجسد لديه علاقة غريبة من نوعها ، فيظهر الشاعر محاربا لأحدهما و منتصرا للآخر تارة ، وتارة أخرى قد تتحد الروح مع الجسد عند الشاعر العاشق ،وفي كلا الحالتين ينسج الشاعر عالما فنيا آخر للمرأة المثال ، والذي يطمح إليها كل عاشق ، فتخرج لوحاته بنسق منسجم في الشكل والمضمون عمادها الروح والجسد.
الكلمات المفتاحية : جميل بثينة ، الروح ، الجسد ، صراع ،الصور الفنية.
The lover poet Jamil Buthaina and the struggle of the soul and body in his artistic images
Dr Aseel Abod Gasim
Iraq/Baghdad/University of Baghdad / College of Education for Women / Department of Arabic language
Abstract
The body is the physical, tangible aspect of the human being, and the non-material or intangible aspect that we can call a group of terms such as soul, self, thought, or mind, and it is a group of expressions that may not lead to a single meaning on their own but rather lead to the meaning of the intangible side, that is, the non-physical, and at times Many may use the word place without intending or distinction, and in the Arabic language some researchers, critics, or commentators prefer to employ the word soul, because the soul knows it with God, so we resorted in research to employing the word soul because it is the most widely used in the field of language and literature in particular, as well as Circulating in society in general, and perhaps because it may be closer to the passionate feelings and the most sincere article in expressing the components of the lover poet, especially if the lover is Jamil bin Muammar and his lover Buthaina, as the soul was formed with the body and has a strange relationship of its kind, so the poet appears as a fighter for one of them and victorious for the other At times, and at other times, the soul may unite with the body of the lover poet, and in both cases the poet weaves another world for the ideal woman, to which every lover aspires, so his paintings emerge in a harmonious form in form and content, their pillars are soul and body.
Key words: Jamil Buthaina, soul, body, conflict, Artistic image.
المقدمة
الروح والجسد من الثنائيات التي وضعت في كفتي ميزان ، وهما نقيضان وضعا على هاتين الكفتين وجسّدهما الإنسان على أرض الواقع عبر الصراع الدائم بينهما، فالروح تحلق به في علياء المعاني السامية، والجسد يجذبه بما يختاره له من رغبات وشهوات شتى، ومن أبدع من الشاعر (الفنان) الذي يستطيع أن يجسد هذا الصراع في شعره، ومن أبلغ من الشعراء العاشقين وهم يقصون علينا قصص الهوى والعشق ويتجاذبون طرفي الصراع في أشعارهم، فوقع الاختيار على شاعر عُرف برقة أشعاره وجمال صوره الفنية، والتي تعكس عشقه وهواه الذي تيمه وزاده هياما وحبا بمعشوقته (بثينة) التي ارتبط اسمها باسمه وخلدهما التأريخ الأدبي على مر الزمن، وتغنى بأشعاره العاشقون في كل زمان ومكان. واعتمدنا في بحثنا على المنهج الاستقصائي التحليلي للنصوص الفنية للشاعر للوقوف على حقيقة هذا الصراع الذي وظف فنيا في أشعاره. إذن هذا الصراع بين الروح والجسد هو حلقة الوصل لزمن سحري خلّاب عاش فيه الشاعر جميل بن معمر ومحبوبته بثينة فحاولنا أن نسبر أغواره والذي نحاول أن نفسر من خلاله فنية هذه الظاهرة الغريبة في اجتماع النقيضين، وهناك حق مشروع للتساؤل، هل فعلا سما الشاعر بالروح عن الجسد؟ وهل انتصر أحدهما على الآخر في شعره؟ .وهل استطاع الشاعر أن يهزم نفسه الأمّارة بالسوء أمام تلك المثالية السمحة التي يؤمن بها الشاعر العذري؟ (خليف، 1961، الصفحات 10-19)
وبين عشق للروح وعشق للجسد، يتجلى إبداع الشاعر الفنان الذي رسم لوحات تغنى بها المغنون سواء قيلت في الجسد أم الروح أم كلاهما معا.
إضاءة:
الشاعر جميل بثينة (82هـ) يعدُّ من الشعراء الغزليين المعروفين ذكره صاحب الأغاني(365ه) بأنه شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية (الاصفهاني، 2002،ج8، ص 289). وأحله ابن سلّام(231ه) في الطبقة السادسة وتبين أن شعراء هذه الطبقة هم من الحجازيين الغزليين الذين يجمعون بين البلد والغرض الشعري (الجمحي، د.ت،ج2، ص 648-669). والشاعر كثير عزة من الشعراء الذين لازموا جميل بن معمر فقدمه كثير على نفسه وأنشد من شعره، فقال عنه هو أشعر الناس (الاصفهاني، 2002،ج8،ص312). ونرى أن ابن رشيق(463ه) ذكره في كتابه العمدة وقال: بأن العرب لم تقل بيتا أغزل من بيت جميل بقوله (القيرواني، د.ت،ص289):
لكلِّ حديثٍ بينهنَّ بشاشةً وكلِّ قتيلٍ عندهُنَّ شهيُد
وهو من قوم إذا ما تنفسوا العشق ماتوا كما نقل في كتب تأريخ الأدب تلك الكتب التي تابعت حذافير قصص عشق العذريين ” إذ قيل لأعرابي من العذريين: ما بالُ قلوبكم كأنها قلوبُ طيرٍ تنماثُ كما ينماثُ الملحُ في الماء؟ أما تجلَّدون؟! قال: إنِّا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها. وقيل لآخر ممن أنت؟ فقال من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته عذريٌّ وربُّ الكعبة” (ابن قتيبة، 1996،ج2،ص434). ويذكر ابن المعتز(296ه) بأنَّ شعر جميل بشكل عام يعدُّ شعرا مليحا عذبا ومطبوعا جيدا هينا. (ابن المعتز،1967،ص163) وخلاصة هذه الأقوال تنتهي إلى أنّ جميلا كان مقدما على شعراء الغزل، حتى ذهب بعض النقاد إلى القول بأنه من أشعر أهل الجاهلية والإسلام في الغزل. (ديوان جميل بثينة، د.ت،ص14)
إذن رسم الشاعر خطا فنيا جديدا له، عُرف به واشتهر بذلك بين شعراء عصره ألا وهو (الغزل العفيف) أو (الحب العذري)، فنحن نقف أمام شاعر واضح الشخصية اهتم الناس والرواة بأشعاره، كما اهتم بها مغنو المدينة ومكة، وهي أشعار أحبها الجمهور وتغنى بها لاسيما بمعشوقته بثينة فتحابا صغيرين في السن ، ولم تلبث أن ألهمته الشعر فأحبها حبا جمّا انتهى به إلى الهيام بها. (ضيف، د.ت، ص367) وأصحاب هذا الحب عُرفوا بالشرف والطُهر والنزاهة والعفة والابتعاد عن الادعاء والفحش في أشعارهم. (أحمد، 1982، ص 17) إذن حقيقة الروح والجسد ستكون واضحة المعالم في استنطاق نصوص الشاعر الفنية، لاسيما أنَّ للشاعر فلسفة خاصة في الحب، نحاول الوصول من خلالها إلى أي كفة كان الشاعر يميل أكثر الروح أم الجسد؟ أم كلاهما معا؟! لكي تتضح لنا فنية النصوص وإبداع الشاعر فيها برسم الثنائية التي شكلّت فكرة العشق والهوى لديه.
صراع الروح وتجلياتها في صور الشاعر الفنية :
إنّ ولادة النصوص الشعرية في ظل هذه التجليات تنطلق لرسم عوالم فريدة وغريبة من نوعها، فالشاعر يستغني عن المرأة كجسد، ويدخل في حالة وجدانية يمكن أن نسميها باللذة أو النشوة والاستمتاع بعشق يسمو بالروح في عالم يقترب من القداسة نوعا ما، فقد ملأت بثينة روح الشاعر كما ملأت سمعه وبصره فهو لا يستطيع أن يعيش بدونها ولا يمكن أن يتصور الحياة إلا من خلالها. (المختار، د.ت، ص 93) فالمعشوقة مقدّسة بكل ما فيها، وتظل تلك الروح الهائمة في عالمها محلِّقة وتشعر بلذة الانتشاء وبالتالي تنعكس تلك الروح المصاحبة لرقة الشعور في نصوص الشاعر الإبداعية، فالمشاعر تزدهر لأنها تنبع من الأعماق وبالتالي معاني العشق تتمثل بعمق أكثر لدى الشاعر لأنه عاشها وامتزج بها، فتأتي فنية الروح في الصور صافية ومصقولة ولا يمكن لها إلا أن تتطابق مع فنية الأشياء وأصالتها التي تعبر عنها. (المختار، د.ت، ص95) .
وإذا ما بحثنا عن الروح وتجلياتها الفنية لوجدناها مادة وفيرة في نصوصه الشعرية، والتي أنتجت بدورها صورا مختلفة ومتنوعة نطالع فيها لهفة المحب وظمأه لمعشوقته عبر رسم الزمان والمكان والأحداث التي نُسجت بأسلوب فني، والتي عبرت عن التجربة الشعورية لجميل وأحاسيسه الصادقة تجاه معشوقته بثينة، ونرى الصورة الفنية التي تتكون منها المواد الأولية بنسجها والتي تتمثل في الواقع، والفكر، والعاطفة، واللاشعور والخيال. (عبيد، 2011، ص 96) ويعدُّ تعلُّق العاشق بالمعشوق أعلى درجات الهيام والصبابة لاسيما إذا كانت الروح هي الهائمة والحائمة في سماء المعشوق وروحه، وهي لفظة ترددت في أشعار جميل بكثرة ولها دلالات عدة كلها تدل على التشبت والتمسك بالشيء بقوة. (ابن منظور،2010،مادة علِق).
فالشاعر في لوحته يبثُّ مجموعة من العوالم الخفية التي أتى بها تدريجيا في ترتيب هذا التعلُّق فرسم زمنا ومكانا مفتوحين لا نهاية لهما في إشارة منه إلى عمق هذا العشق وشدته في اتحادهما معا روحيا، مضفيا عنصر المبالغة والغلو المعروفة عند الشعراء في وصف مشاعرهم الجياشة، فالعالم الأول لم يُخلقان فيه بعد ورغم ذلك أرواحهما قد تلاقت وتعلقت مع بعضهما البعض، ويستمر هذا التعلُّق إلى العالم الثاني وهما نطفتان لم تتشكلا للخروج بعدها للعالم الثالث عالم الطفولة، وفي العوالم الثلاثة نرى هواه وعشقه الذي تيَّمه واتحد به مع المعشوقة وذاب في كيانها وذابت في كيانه ، فنما هذا العشق والوله ليكبر ويزداد كلما كبرا معا ويُضفي الشاعر بنسجه هذا القدسية التي تصون هذا العشق ويضعه في عهد موثق لا ينتقض، فهو باق في كل أحواله، حتى وإن وصل إلى العالم الآخر عالم الموت في ظلمة القبر واللحد، ومن هنا نرى التعلُّق الروحي الذي يسمو بصاحبه فيمتزج الغير في الأنا بثنائية أحادية. (شلق، 1985، ص 46) فنسمعه يقول (ديوان جميل بثينة، د.ت، ص 77):
تعلَّق روحي روحَها قبل خلِقنا ومن بعدِ ما كُنا نِطافا وفي المهدِ
فزادَ كما زِدنا، فأصبحَ ناميا وليسَ إذا مِتنا بمُنتقضِ العهــــــــــــــدِ
ولكنهُ باقٍ على كلِّ حالــــــــــةٍ وزائِرُنا في ظلمةِ القبرِ واللحــــــــــــــدِ
ولطالما نجد في نصوص الشاعر ذكر الحياة والموت، هذه الجدلية الفنية التي وظفت في نصوصه وكانت الروح حاضرة فيها دوما ، وأصبحت الحياة عبارة عن مكان معزول ناءٍ دون بثينة، وأصبح الموت هو المؤنس الوحيد للشاعر حين يصبح قبره مجاورا لقبر معشوقته، فما فائدة الحياة بدونها والعيش بلاها، وإذا ما دققنا في النص التالي نجده مليئا بالضديات مثل:(نحيا-نمُت)،(نهاري-الليل)،(كتمان الحب-البوح بالحب) أو ما يُوحي بالضد مثل:(طول الحياة-سُوى عليها صفيحُها)،فضلا عن الجناس الناقص مثل:(روحي-روحها)،(ضريحي-ضريحها) والذي أكسب النص تدفقا في المشاعر و أضفى جمالا وروعة و رسم الشاعر لوحة تفيض رقة وعذوبة في تشكيل لغته الشعرية التي تخلب ألباب العاشقين، فحين لا يراها نهارا تتلاقى أرواحهما ليلا وهذا يكفي العاشق الهائم بمحبوبته ويُنهي النص بتساؤل غريب مع نفسه يوضح فيه حيرة العاشق وفي الوقت نفسه يُجيب ، فهل يكتم حبه أو يبوح به للحبيبة؟! راجيا أن تتحقق له الراحة المنشودة، فالنص يصور لنا مجموعة من العواطف الملتهبة بالعشق، والمعبرة عن الحالة الوجدانية المتجانسة الممتزجة بالشوق والحرمان، فأضفت فنية عالية في تجاذب الوجد والوله الذي يولد الانسجام الشعوري المترابط بالمشاعر والأحاسيس، وبالتالي حقق النص وحدة فنية في جوه العام. (الهادي، 1986، ص 489) فنراه يقول (ديوان جميل بثينة، د.ت، ص 51):
ألا ليتنا نحيا جميعا، فإن نمُت يُوافِ لدى الموتى ضريحِي ضريحُها
فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ إذا قيلَ قد سُوى عليها صفِيحُــــهـــــــــــــــــا
أظلُ نهاري لا أراها، وتلتقــــــــي مع الليلِ روحي في المنامِ وروحهــــــــــــا
فهل لي في كتمانِ حبي راحةٌ وهل تنفعَنِّي بوحةٌ لو أبــوحُهـــــــــــــــــــــــــــــــــا
ولازلنا في رحاب النسج الروحي الفني الذي يشكله الشاعر بإبداعه المشحون بسمة الروحانية فتتجلى لنا رهافة الحس وصدق اللهجة بالتعبير، وحرارة العشق الملتهبة في روح الشاعر ووضوح البيان ونصاعته، إذ يتخلل في ثناياه وطياته أجمل عشق لأصدق مشاعر. (ضيف، د.ت، ص 368). فمن أبلغ منه في تحريك القلب، وإثارة العاطفة المشوبة باللوعة التي تخلِّفها بثينة في روحه، فلا يكاد الشاعر أن يهم بذكرها حتى ينصرف إلى بثِّ ما يُلاقي في سبيل حبها من تباريح الهوى والجفاء والبعد والحرمان والبخل في المشاعر والأحاسيس التي تترك نفس الشاعر مريضة مسقمة، فهي الداء والدواء للروح العليلة، التي يطلب منها الشاعر أن تحييها بالوصل فنراه يعزف على الوتر الحساس في النص باجتماع الأضداد التي تزيد من فنية النص، مثل: (السقم – الشفاء)، (الطاعة – العصيان)، (الجود بالوصل – البخل بالوصل)، فأصبحت اللغة الشعرية توحي بالرقة والعذوبة واللين الذي يتطابق مع عشق الشاعر وشدة هيامه وأسره، فضلا عن نهاية القافية بالهاء المهموسة التي زادت النص نغما حزينا يوحي بالتوسل والرجاء والضعف (الجزري، 2001، ص 26) أمام هذا الحب، فكأنما الروح هي التي تنطق بمكنون الهوى ، فنسمعه يقول (ديوان جميل بثينة، د.ت، ص 21):
وكيفَ بنفسٍ أنتِ هيجتِ سُقمَها ويُمنعُ منها يا بثينُ شفـــــــــــــــــــــاؤها
لقد كنتُ أرجو أن تجودي بنائلٍ فأخلفَ نفسي من جداكِ رجاؤها
فلو أنَّ نفسي يابثينُ تُطيـــــــــــــعُني لقد طالَ عنكُم صبرُها وعزاؤها
ولكن عصتني واستبدت بأمرِها فأنتِ هواها يا بثينُ وشاؤهــــــــــــــــا
فأحييِّ هداكِ اللهُ نفسا مريضةً طويلا بكُم تهيامُها وغناؤهــــــــــــــا
والشاعر يجعل لعشقه الهائم في عالم المعشوقة الروحي زمنا مفتوحا غير محدد مع مكان يسميه ويحدده لينطلق منه إلى لذة الحرمان ونشوة العذاب في إنشاء محاورة شعرية منسوجة بالألم والأنين وأسبغ الشاعر هالة القدسية لملاكه الجميل مما يُضفي البهاء على نسج لغته الشعرية، فللشاعر لغته الخاصة المختلفة عن لغة باقي البشر، فهو يجد في مرونة لغته وسعتها المتنفس الوحيد الذي يأويه. (السامرائي،د.ت، ص 18).
فها هو يخاطب نفسه مترددا لينسى حبها إلا أنه لا يستطيع الفكاك من هذا الحب، فهو كدَّين متأخر في عنقه لا يستطيع أن يفيَّ به ، و تارة أخرى يخاطب داعي الحب أو صوت الحب وكأنَّه صوت سماوي يناديه من مكان بعيد تسكن خلفه المعشوقة ليلبيَّ نداءه، ويسعى إليها فيُسبغ سمة الروحانية التي نراها عادة في تلبية الحجيج لنداء الله وحج بيته، وهو مأمور بالتلبية و السعي للمحبوبة بقوله:لبيكَ لمَّا دعانيا ، ثم يحول الخطاب في النص للمعشوقة مباشرة ويبدأ بنسج صورة فيها شي من القدسية المعتادة عند جميل، فالشاعر ينعم بحبها إن رضيت ويشقى به ويتكدر عيشه إن لم ترضَ، وهو في كلا الحالتين مستمتع بنشوة عذابه المستمر معها فهي لم تُبقِ للشاعر لا روحا ولا جسدا يأويه، لدرجة أنَّ الصديق والعدو يرثى لحاله إن رآه. إذن استطاع جميل بعشقه الروحي هذا أن يبنيَّ له عالما خاصا وصياغة نماذجه وفق رؤيته التي يطرحها في خطابه الشعري وبالتالي يمتلك الشاعر التأثير الذي يمتد لقرون طويلة. (عبيد، 2011، ص 102) فنسمعه يقول (جميل بثينة، د.ت، ص 221) :
إذا قُلــــــــــتُ أَنســـــــــاهَا تردَّدَ حبُّـــــــــــها كذي الدَّينِ يقضي مَغرما ما كانَ كاليا
أقولُ لداعي الحُـــبِّ والحِجرُ بيننَا و وادي القُــــــــــــــــــرى :لبيكَ لما دعانيــــــــــــــا
وأنتِ التي إن شئتِ كدَّرتِ عِيشتي وإن شئتِ بعــــــــد اللهِ أنعمتِ باليــــــــــــــــــــــــــــا
وأنتِ التي مامن صديقٍ ولا عدىً يرى نضـــــــــو ما أبقيتِ إلا رثى ليــــــــــــــــــــا
صراع الجسد وتجلياته في صور الشاعر الفنية :
الجسد هذا الوعاء الذي يحفظ الروح ويحملها بين طياته، لم يكن حضوره في نصوص الشاعر حضورا باهتا أو مرَّ مرور الكرام، فهو بعد الاستقصاء والتحليل شكلَّ حضورا قويا في صور الشاعر جميل بثينة الفنية أيضا، ويعلل الباحثون وجود هذه الصور بأنَّ الشعراء هم من البشر وهم يختلفون عن عامة الناس بشعورهم المرهف الدقيق والفياض الذي نراه يظهر بوضوح في أشعارهم. (حسين عبد الله، 1978، ص 290). ويمكن أن يشكلَّ الجسد في الصورة الفنية اللذة الأبدية التي لا يمكن أن ينالها الشاعر إلا بعد عناء وتعب وهي التي تشحن لذته الروحية بين الفينة والفينة، وتمدهُ بطاقة الحب، فحبُّ الرجل للمرأة لابد أن يشوبه إعجابا جسديا بجمالها الذي يشتاق إلى لمسه وتقبيله. (المختار، د.ت، ص 77) ولا يمكن أن نكبلَّ الشاعر في رسم حدود معينة لفنه، ولا نستطيع أن نُخَّطِىء الشاعر فيما تناوله من صور تنبض بالحياة وتفاصيلها التي رُسمت بفنية عالية من قبله، فهو يُمجد الجسد ويشتاق لشمه وعناقه ولمسه، فالصور التي جاءت على شكل حادثة أو قصة مع المعشوقة اكتسبت واقعيتها ومصداقيتها من خلال الشخصيات الواقعية أو التي تخيلها الشاعر وجدانيا أو فكريا بل وحتى جسديا، وأصبح المتلقي يتعايش معها ويتشارك في انفعالاتها واستجاباتها، فضلا عن وجود تقنيتي الزمان والمكان فيها، في إشارة من الشاعر لتمثيل الواقع المعاش و إبراز جو النتاج القصصي وتعزيز المعنى العام للنص. ( فرحان، 2010، ص 233) وزخر الأدب العربي بقصص العشاق ومجالسهم وزياراتهم لمعشوقاتهم ليلا أو نهارا، وجميل بثينة من الشعراء الذين كان لهم نصيب من هذه الزيارة التي تشفي غليل الشاعر، وتروي عطش حبه واشتياقه لمعشوقته بثينة، والتي صورها في قصصه الشعرية وذكر أوصافها وجمالها الذي خلَّب لبُّه، فيعرض الشاعر بعض المواقف الحوارية التي تبين جرأة صاحبها ومعشوقته، والمغامرة التي يقوم بها للوصول للذَّته الأبدية حتى و إن كانت مؤقتة. فأسلوب الشاعر الفني تمكنَّ من أداء وظيفته في بناء العمل الشعري، عبر ربط الأحداث والأشخاص التي تؤدي الدفعات الشعورية بين الطرفين، مما يؤدي إلى تحليل وتعزيز الموقف الغزلي فضلا عن إنماء عناصره. (الهادي، 1986، ص 417) وهاهو جميل يقص علينا مغامرته في البحث عن مكان الحبيبة ووصوله للحيِّ متخفيا لوجود أهلها القاطنين فيه، حتى إذا ما ألمَّ ببيتها ودخل فيه خفية، يبدأ الحوار في بثِّ مخاوف بثينة من دخول جميل لبيتها وأقسمت عليه بالخروج منه وهددته بإخبار والدها والحيِّ إن لم يخرج ،ولم يكن من الشاعر إلا ليذعن لطلب المعشوقة بالخروج من بيتها لأنها أقسمت بفضحه أمام الحيِّ، هنا يظهر عنصر المفاجأة الذي تخلل هذه القصة و زاد من روعة العرض في الشكل والمضمون، وسرعة الحدث الذي أدى إلى أن تتراجع بثينة عن يمينها حين تبسمت فعرف جميل أنها لم تكن جادة في قسمها، فلا إثم عليها إن لم تبرَ به، وهنا يأتي الحل الذي أراح جميل بهذا الحدث وزادت روعة العرض والتشويق والإثارة، حينما تتناول بثينة رأس جميل بين يديها المخضبتين الرقيقتين بكل هدوء دون تشنج أو توتر، عندها يرتوي جميل ويرتشف من بثينة قبلة تروي ظمأه وعطشه الشديد لها، ولابد أن يكون للقبلة طعما يصفه الشاعر ليزيد من روعة محاسن المحبوبة ، فوصف طعم القبلة بالماء البارد الممزوج بالخمر، فارتوى غليل جميل ومعشوقته بهذا اللقاء الذي يبين نزعات النفس التي تتصاعد من شدة الشوق فيكون لها سحر ووقع خاص لا يفسر، ويبلغ الطرفين بذلك لذة الحب الأبدية حتى وإن كانت مؤقتة أو قصيرة، إلا أنَّ فيها متعة رائعة فضلا عن نشوة النصر التي تحققت في تخطي أي عقبة في طريق العاشقين. (جلال العظم، 1999، ص 39) وهاهو الشاعر يفسر هذا الحب بقوله (جميل بثينة، د.ت، ص 41-42):
مازِلتُ أبغي الحــــــــــيَّ اتبعُ فَلِّـــــــهم حتى دَفعتُ إلى ربيبةِ هَــــــــــــــــــودجِ
فدنـــــــــــــــــــــوتُ مُختفـــيا أُلِمُّ ببيتِــــــــــــــها حتَى ولجتُ إلى خَفِيِّ المولــــــــــــجِ
قالت: وعيشِ أخي ونعمةِ والدي لأُنبِّهنَّ الحــــيِّ إن لم تخــــــــــــــــــــــــــرجِ
فَخرجتُ خوفَ يَمِينها فتبسمتْ فَعلِمتُ أنَّ يمينَها لم تَحــــــــــــــــــــــرجِ
فتناولتْ رأَسي لتعـــــــــــرفَ مسَّهُ بمُخضَّبِ الأطراف غيرَ مُشنجِ
فلثمتُ فاها آخذا بقرونِـــــــــــــــــــــــها شُربَ النَّزيفِ ببردِ ماءِ الحَشرجِ
ومن الصور التي تستوقف المتلقي هي صور وصف الجسد، وكيف أن الشاعر تمكن برقة ألفاظه وعذوبتها، وحرارة عاطفته المتأججة بفعل الهيام الذي يعيشه مع بثينة أن يصفَّ جمالا عربيا أصيلا تتوق له كل نفس بشرية من الجنس الآخر، فرسمها بريشة فنان أخذ الجمال الجسدي حيزا لا بأس به في نصوصه الشعرية ، فالشاعر حين يصف الجمال ويشعر به ويغدو للخيال الأثر الكبير في تشكيل الصور ومن ثم إعادة إنتاجها دلاليا، يصبح النص مفعما بالطاقة التأثيرية الفعَّالة فيغدو النص حينها نظاما جماليا متكاملا في الشكل والمضمون. (فرحان 2017، ص 126).
ويحشد الشاعر في نصه التالي مجموعة من الدلالات والصور التي تشحن النص وتؤججه بالعاطفة المشوبة بالرغبة، فالصور الحسية من شمية ، ولونية ، وحركية تتناثر في النص وينسج الشاعر من خلالها الجمال الجسدي لمحبوبته بدفقات شعورية فتنتظم اللغة الشاعرة وتتشكل بالمفردات والتراكيب ومخارج الحروف وفق الأوزان والحركات وفصاحة الألفاظ التي تتوافق مع كل حالة من حالات الشعور والعاطفة ، عندئذ يصبح للشاعر نصيب من الشاعرية والملكة الفنية. (العقاد، 2004، ص 23-24) التي تؤهله لرسم معالم المعشوقة الجمالية بدقة واحترافية عالية، فالأسنان المفلَّجة كالأقحوان الأبيض بل هي أشد بياضا وجمالا من الزهر الأبيض نفسه -صورة لونية- آزرتها رائحتها الطيبة-صورة شمية- التي تعبق بها سواء في جسدها أو فمها ، فهي مختلفة عن سائر بني جنسها من البشر ، ويقيم الشاعر مقارنة بالصور الحسية -ليبرز جمال المحبوبة- بين رائحة فمها العطرة وبين رائحة بقية البشر حين يحدد الوقت –بُعيد الكرى- الذي تفسد فيه روائح الفم ، بينما تبقى رائحة فم المعشوقة محتفظة بطيبها وعبقها كزهرة الخزامى ، أو كقنينة عطر من المسك يفوح شذاها حين تُفتح –صورة شمية، لونية- ثم يسترسل الشاعر في رسم صفاتها الجسدية الجمالية ، فهي ممتلئة الجسد ، بيضاء ناعمة الملمس ،منَّعمة مرَّفهة ،يصيبها الإعياء إذا ما مشت شبرا، رقيقة جدا لدرجة أنها لاتتحمل أن يُخدش جلدها أو يُجرح من صغار النمل –صورة حركية ،لونية- وهي تفرح باشتداد الريح حين تمشي لأنها تكشف عن امتلائها فيصنع الشاعر مقارنة أخرى في صورة أخرى للنسوة اللاتي يحزنَّ ويثرنَّ ويلعنَّ الرياح إذا اشتدت لأنها تفضح هزالهن-صورة حركية-وهكذا تتوالى تباعا صور الجمال الجسدي لبثينة في شعر جميل ، وهي لوحات ناطقة معبرة عن إعجابه بها وشدة هيامه بكل جزيئة من جزيئات جسدها ، فنلحظ في هذا الوصف فنية رسم الجسد وتجلياته وربما كانت هذه الأوصاف من الأسباب التي أهلَّت بثنية في أن تنال الخلود في أشعاره.وها هو يصفها وهي تطل عليه بعد أن يسفر الليل وينكشف ، فيقول (جميل بثينة، د.ت، ص 44-45):
وقامت تراءَى بعد ما نامَ صُحبتي لنا وسوادُ الليلِ قد كادَ يَجلحُ
بذي أُشر كالأقحوانِ يزينُـــــــــــــــــــــــــــــــــهُ نَدى الطَّلِّ إلا أنهُ هو أَملحُ
كأنَّ خُزامى من عالجٍ في ثيابِهــــــا بُعيدَ الكرى أو فأرمِسك تُذَبَّحُ
كأنَّ الذي يبتَزُّها من ثيابِــــــــــــــــــــــــــــــها على رملةٍ من عالجٍ مُتبَطِّـــــــــــــــــــــــــــــــــحُ
وبالمِسكِ تأتيكَ الجُنوبُ إذا جَرت لكَ الخيُر أم ريَّا بثينةَ تَنفــــــــــــــــــــــــــــــــــــحُ
من الخفراتِ البِيضِ خَودٌ كأنَّــــــها إذا ما مَشت شبراً من الأرضِ تُنزحُ
مُنَّعمةٌ لو يَدرجُ الذَّرُّ بينَــــــــــــــــــــــــــــها وبين حواشِي ثوبِها ظلَّ يُجـــــــــــــــــــــرحُ
ترى الزُّلُّ يلعنَّ الرياحَ إذا جرت وبثنةُ إن هبَّت لها الريحُ تَفــــــــــــــــــــــــرحُ
وهذه الصفات الجمالية لبثينة مبثوثة في أشعاره، إذ لم يقتصر شعره على الروح دون أن يكون هناك مطالب للجسد، وهذا هو شأن المحب الولهان الهائم في عشق المحبوب وهنا تحدث مفارقة الحب فالمشاعر حين تضطرم في صدر العاشق وتثار نار العشق التي تذيب عقله وتتلف جسده حتى تفقده السيطرة والتغلب على الشهوة، فنراه يراعي هذه الشهوة ويؤججها بتقريب الثمرة المشتهاة ثم يمتنع عن اقتطافها. (جلال العظم، 1999، ص 25-33) وهذا بالضبط ما فعله جميل مع بثينة، فهو يرسمها في أشعاره كتمثال بالغ الروعة والجمال ويُضفي عليها من السمات التي تجعلها في نظر المتلقي (المرأة المثال) فالشاعر بذكره لصفاتها الجمالية يستثير في المتلقي حاسة البصر ليبهره وبالتالي يأخذه في عالمه السحري الخاص ليستكشفه بنفسه، فها هو جميل يعرض جملة من هذه الصفات والتي رسمت بدقة متناهية وفنية عالية في اللفظ والمعنى وبدأ الشاعر ينسج نصه بصفات تترى للمحبوبة من رأسها لأخمص قدميها وحشد مجموعة من الصور والدلالات التي توضح نفس جميل الشعري الطويل، فأثرَّ بشكل واضح على فنية القصيدة لديه وأصبحت نصوصه الشعرية ساخنة لا تهدأ، حتى تحدث في نفس المحبوبة الشوق والحب والهيام بشكل خاص وبالتالي الإعجاب الكبير الذي ينالها في مجالس الأدب بشكل عام. (المختار، د.ت، ص 74) وهو يفضل وجود هذه الصفات في جميلته لأنها تشعره بالدفء عند احتضانها في يوم شديد البرد، فنسمعه يقول (جميل بثينة، د.ت، ص 58):
صادت فؤادي بعيِنيها ومُبتســـــــــــــمٍ كأنَّهُ حين أبدتهُ لــــــــــــنا بَــــــــــــــــــــــــــردُ
عذبٌ كأنَّ ذكيِّ المِسكِ خالطَـــــــــهُ والزنجبيلُ وماءُ المُزنِ والشُهُـــــــــــدُّ
رجَراجةٌ رَخصَةُ الأطرافِ ناعمةٌ تكادُ من بُدنها في البيتِ تَنخضدُ
خَدلٌ مُخَلخَلُها وعثٌ مُؤزِّرُهــــــــــــــــــــا هيفاءُ لم يَغذُها بُؤسٌ ولا وَبــــــــدُ
هيفاءُ مُقبلةً عجــــــــــــــــــــــزاءُ مدبــــــــرة ً تمت فليسَ يُرى في خَلقِها أَودُ
نِعمِ لِحافُ الفتى المقرورُ يجعلُها شِعارَهُ حينَ يُخشَى القُرُّ والصَّردُ
صراع الروح والجسد في صورة فنية موحدة :
تتحد الروح مع الجسد عند الشاعر في بعض صوره الفنية أثناء حديثه مع النفس العاشقة، فيتأجج الحب الروحي والجسدي معا في ثنايا لوحاته المملؤة بأسرار العشق والهوى، ونراه يلهج بصبابته متضرعا متوسلا بمعشوقته تارة، وتارة أخرى يلوح بالصفات الجمالية للحبيبة التي هيجت نار عشقه، فتكون اللغة الشعرية معبرة في نصوص الشاعر عن هويته الذاتية، ويصبح الشاعر هو بطل قصته ويظهر صوته جليا في ثنايا لغته الشعرية، وتصبح النصوص قريبة من النفس لأن الوظيفة الانفعالية تظهر بصورة جلية و واضحة فيها أكثر من غيرها فضلا عن حاجتها لخيال خصب متعدد الرؤى، وذلك بتوظيف أنواع الضمائر المتعددة كالمخاطب والمتكلم، وهو يعد اختيارا جماليا واعيا أكثر منه في الدلالة على علامة البوح أو الاعتراف المباشر من الشاعر. (أبو ناضر1979، ص 122) ، وهاهو الشاعر يَطرب بذكر الحبيبة ويهتاج في قلبه الشوق لها، حين يسمع صوت الحمام الباكي-صورة حسية- فتُثير في نفسه ذكريات موجعة ، لأنَّ هذا الحب قديم جديد لا ينقطع فيه استمرارية أزلية، فالشاعر لا يستطيع كتمان الغصة التي ولدَّها هذا الحب في الروح والقلب، ولا يستطيع أن يُداري دموعه التي اهتاجت في عينيه، وهذه الذكرى ذيلَّها الشاعر بصورة فنية حسية-لمسية،لونية- قد لا يستسيغها المتلقي إلا أنها مؤثرة جدا إذا ما أمعنا النظر في تفسيرها وتحليلها فذكراها كبثرٍ مقرَّحٍ في قلبه يهتاج ألما كلما حاول أن يزيله أو يعالجه ، ولكن لا فائدة تُرّجى منه فهو نابت فيه متصل بجذور قلبه المضطرب والمتشتت بذكرى الحبيبة وهذه دلالة واضحة على شدة ألمه وشقائه بهذا الحب وولهه وولعه بالمحبوبة ، فبدأ النص الشعري بانفعال حزين ومؤلم في الوقت نفسه، وهذه هي وظيفة الشعر فالانفعال بالنص يمثل الحالة الانفعالية لمنشئ النص (الشاعر) ويسميها النقاد في الأدب بالوظيفة الانفعالية في الشعر. (العاني، 1999، ص 239) وها هو الشاعر يبثُّ لوعته وشوقه للمعشوقة بقوله (جميل بثينة، د.ت، ص 127-128) :
طَربتُ وهاجَ الشوقُ مني وربمـــــــا طَربتُ فأَبكاني الحمامُ الهواتفُ
وأصبحتُ قد ضَمَّنتُ قلبي حزازةً وفي الصدرِ بَلبالٌ تليدٌ وطارفُ
فكم غُصَّةٍ في عَبرةٍ قد وجدتُـــــــها وهَيجَّها مني العيونُ الــــــــذوارفُ
إذا ذكرتكِ النفسُ ظَلتُ كأننَّـــــــــي يُقرِّفُ قرحاً في فــــــــــــؤاديَّ قارفُ
ثم بعد ذلك يسترسل الشاعر في وصف حبيبته وذكر صفاتها الجسدية في رغبة منه إليها، فكأنها فاكهة محرمة على الشاعر يرى جمالها ولا يستطيع أن يأكلها، فعبَّر في النص عن موقفه من هذا الجمال تعبيرا انفعاليا ذاتيا شعوريا، وبينَّ الحالة الانفعالية التي يمر بها الشاعر في خلق نصه الشعري، ورغم الألم والحرمان وشدة الشكوى من البعد كللَّ الشاعر النص بروعة الصياغة والأداء الفني العالي له. (مرسي وآخرون، د.ت، ص 22) فرسم صورة لمعشوقته التي أحبها حبا جمَّا وكلِف بها وتمنى لو أنها تعدل وتنصفه في حبه، فجاء النسج في غاية الروعة لجمال المحبوبة وصفاتها الجسدية فهي سوداء العيون، رخصة ناعمة، ممتلئة الجسد ضخمة البنية، بطيئة السير، طعم ريقها ممزوج بالخمر، ورائحتها ذكية كالمِسك، ويشير الشاعر بقصدية لتلك المعشوقة التي هام فيها الفؤاد وشغف بها القلب الذي يتعذب بحبها، فنسمعه يتغزل بها و يقول (جميل بثينة، د.ت، ص 128) :
كَلِفت بحَمّاءِ المدامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعِ طَفــلةٍ حبيبٍ إلينا قُربُها لــــــــــــــــــــــــــــــو تُناصِفُ
من اللُّفِ أفخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاـذاً إذا ما تقلَّــــــبت من الليلِ وهناً أثقلتَهَا الـــــــــــــــــــــــــروادِفُ
قَطوفُ الخُطَا عند الضُّحى عبلةُ الشَّوى إذا استعجلَ المشيَ العِجالُ النَّحائِفُ
أناةٌ كأنَّ الريــــــقَ منها مُدامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ بُعيدَ الكَرى أو ذافهُ المِســـــــــــكَ ذائِفُ
فتِلكَ الـــــتي هامَ الفؤادُ بذكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِها سَفاهاً وبعضُ الذكرِ للقلبِ شاعِفُ
الخاتمة:
وفي نهاية هذه الرحلة القصيرة في نصوص الشاعر المعبرة عن حالته الوجدانية نحط الرحال على مجموعة من الاستنتاجات التي خرج بها البحث:
- الشاعر جميل بثينة من الشعراء الذين وضعوا لهم بصمة أدبية فنية خاصة بالشاعر، ونالها بجدارة دون منازع بشهادة الأقدمين والمحدَّثين من الأدباء والنقاد.
- لسنا بصدد عرض عفة الشاعر من عدمها بقدر فهم هذه الجدلية التي تدور حول الصراع الذي وظف بصورة فنية في نصوصه الشعرية و حاول الشاعر أن ينحاز لأحدهما، لاسيما الروح التي برزت بقوة في أشعاره، وخلق منها صوراً في منتهى الروعة، فالروح عند الشاعر والمعشوقة تدور في فلك المعاناة والبعد والاشتياق وألم العشق الذي لا يقاوم.
- الجسد وصراعه مع رغباته كان حاضراً وبشدة في صور الشاعر، وفنية هذه الصور لا تقل جودة أو روعة عن التصوير الفني للروح ومعاناتها، فكما عانت الروح عانى الجسد من الحرمان وحاول الشاعر أن يعوضه بلذة النشوة التي يشعر بها في وصف الجمال الخارجي لمعشوقته، فكونَّ أنموذجا للمرأة المثال التي يرغب بها الجنس الآخر في كل وقت وحين.
- الانتصار للروح أو الجسد في شعر جميل بثينة والصراع الدائم بينهما واثبات وجود أحدهما في شعره حلقات متصلة مع بعضها البعض وهذه هي علة العشق، ولايزال الباحثون كل يدليِّ بدلوه من المنظار الذي يراه مناسباً حسب الزمان والمكان والظروف بشتى أنواعها منذ وقت الشاعر وحتى وقتنا هذا في سبيل فهم هذا الصراع الذي خُلق منه شعر جميل بثينة.
- لا يمكن للروح أن تعيش دون الجسد، ولا الجسد يستطيع أن يعيش بلا روح، فأحدهما يكمل الآخر شئنا أم أبينا ذلك ،وباجتماعهما في نصوص الشاعر تحققت المعادلة الفنية الصعبة بينهما وكان نتاج الشاعر منهما كماً من اللوحات والقطع الفنية التي أذهلت أهل العلم والأدب .
- 6- الروح والجسد وتلك الفنية العالية التي برزت في شعر جميل بثينة كانت كحلبة مبارزة وصراع دائم بينهما وكل منهما يُعد مبارزاً مغواراً لا يُشق له غبار في روح النص وتجلياته التي اكتملت كأنموذج أدبي راق في مجال العشق والهوى.
Conclusion:
At the end of our short journey in the poet’s texts expressing his emotional state, we travel on a set of conclusions that came out of the research:
1- The poet Jamil Buthaina is one of the poets who gave them a literary imprint of their own, and he deservedly obtained it unchallenged by the testimony of the ancients and modernists of writers and critics
2- We are not in the process of presenting the poet’s chastity or lack thereof, as far as understanding this argument revolving around the duality that the poet tried to take sides with one of them, especially the spirit that has emerged strongly in his poetry, and he created images of it at the end of magnificence. Irresistible love.
3- The body and its desires were very present in the pictures of the poet and the artistry of these pictures is no less good or wonderful than the artistic depiction of the soul and its suffering, just as the soul suffered from the deprivation and the poet tried to compensate him with the pleasure of the euphoria that he feels in describing the external beauty of his lover, so he was a model for the example woman That the opposite sex desires at all times.
4- Victory for the soul or the body has not been investigated in the poetry of Jamil Buthaina, and this is the reason for love. Researchers continue to make their changes from the telescope that he deems appropriate according to the time, place and circumstances of all kinds from the time of the poet until our time.
5- The soul cannot live without the body, nor the body can live without the soul, for both of them complete the other, whether we like it or not, and by meeting the texts of the poet, the technical equation between them is achieved.
6- The duality of the soul and the body and that high artistic aspect that emerged in Jamil Buthaina’s poetry as a battlefield and a constant struggle between them, and each of them is considered a swordsman who does not have any dust in the spirit of the text and its manifestations that were completed as a fine literary model in the field of love and passion.
قائمة المصادر والمراجع
ابن الجزري. (2001). شرح متن المقدمة الجزرية . المكتبة الأزهرية للتراث.
ابن المعتز. (1967). طبقات الشعراء. القاهرة: دار المعارف.
ابن رشيق القيرواني. (د.ت). العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. دار مكتبة الهلال.
ابن سلام الجمحي. (د.ت). طبقات فحول الشعراء. دار المدني في جدة.
ابن منظور. (2010). لسان العرب. لبنان: دار صادر-بيروت.
ابو الفرج الاصفهاني. (2002). كتاب الاغاني. بيروت: دار صادر.
الدينوري ابن قتيبة. (1996). الشعر والشعراء. القاهرة: دار المعارف.
جنان قحطان فرحان. (2010). الحب والعشق في المصادر الأدبية. بغداد: اطروحة دكتوراه /كلية التربية للبنات /جامعة بغداد.
حميد المختار. (د.ت). جميل بثينة والحب العذري. بغداد: مكتبة الشروق.
د. يوسف خليف. (1961). الحب المثالي عند العرب. مصر: دار المعارف.
د.إبراهيم السامرائي. في لغة الشعر. عمان: دار الفكر للنشر والتوزيع الأردن.
د.جنان قحطان فرحان. (2017). سحر الابداع وفرادة التعبير. الشارقة: دار الثقافة.
د.شجاع مسلم العاني. (1999). قراءات في الأدب والنقد. دمشق: اتحاد كتاب العرب.
د.شوقي ضيف. (د.ت). العصر الإسلامي. القاهرة: دار المعارف.
د.صلاح الدين الهادي. (1986). اتجاهات الشعر في العصر الأموي. القاهرة: مكتبة الخانجي.
د.علي شلق. (1985). جميل بثينة (الحب المتسامي). دار المدني للطباعة والنشر.
د.محمد حسين عبد الله. (1978). الحب في التراث العربي . الكويت: سلسلة كتب ثقافية ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب.
د.محمد عبد القادر أحمد. (1982). دراسات في أدب ونصوص العصر الأموي. مصر: مكتبة النهضة المصرية.
د.موريس أبو ناضر. (1979). الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة. بيروت: دار النهار.
دليلة مرسي وآخرون. (د.ت). مدخل إلى التحليل البنيوي للنصوص. لبنان: دار الحداثة -بيروت.
ديوان جميل بثينة. (د.ت).تحقيق:د.حسين نصار، مصر: مكتبة مصر /دار مصر للطباعة.
صادق جلال العظم. (1999). في الحب والحب العذري. دار المدني.
عباس محمود العقاد. (2004). اللغة الشاعرة. نهضة مصر للطباعة والتوزيع.
كلود عبيد. (2011). جمالية الصورة. لبنان: مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت.