أ. د. سعد محمد على التميمي
كلية التربية – الجامعة المستنصرية
Altamimy422@gmail.com
009647809133016
الملخص
لم تكن قضية القديم والجديد حالة متفردة في الأدب العربي ونقده،فهي ظاهرة عامة تشترك فيها الآداب الحية جميعا،وقد شهد العصر العباسي خلافا بين النقاد حول الشعر القديم والمحدث ،وقد وثق العلماء هذا الاختلاف في مصادرا لأدب والنقد على شكل أحكام وحوادث، وإذا كان الزمن سياقا لهـذا الاختلاف فانّ الألفاظ والمعاني قد مثلتا مجالين اختلف فيهما أنصار القديم وأنصار الجديد ،فإذا كانت الألفاظ رصينة وجزلة وقريبة من ألفاظ البداوة أعجبت أنصار القديم ،أما إذا كانت الألفاظ سهلة وسلسة وقريبة من اللغة الحضرية، فإنها لا تعجب أنصار القديم فيعيبونها، وكذلك الحال بالنسـبة للمعاني إذ كانت أيضا محط اختلاف بين أنصار كل مـن القديم والجديد ،وقد جاء هذا البحث ليتناول موضوع الـصراع بين القديم والجديد الذي كان فعلا شعريا تصدى له النقاد القدامى،وقد انقسم النقاد على ثلاثة اتجاهات؛ذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى تبني القديـم والانحياز له وبيان محاسنه وعناصر قوته،ورفض الجديد والتعريض بشـعرائه،ويمثل هـذا المحور معظم الرواة واللغويين مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة والأصمعي و حماد وابن سلام والامدي والمرزوقي وغيرهم،وقد كان وراء هـذا التعصب للقديم دوافع دينية وسـياسية،قومية،وتاريخية وثقافية فضلا عن الصنعة التي دفعتهم لتقديم وتفضيل الشعراء الذين اتخذوهم أساسا للاحتجاج اللغوي ،أما الاتجاه الثاني في التعامل مع الصراع بين القديم والجديد فقد مثله نقاد تبنوا حركة التجديد التي قادها الشعراء المولدون مثل مسلم بن الوليد وأبي نؤاس وأبي تمام،وابرز من نظّر لهـذا الرأي أبو بكر اﻟﺼﻮﻟﻲ الذي امتدح ما قام به أبو تمام من تجديد في المعاني والاستعارات والتشبيهات غير المألوفة في الثقافة آنذاك ،ولما كان التعصب ملازما لأصحاب هذين الاتجاهين فأنهما فشلوا في إدارة الاختلاف وقبول الآخر،أما أصحاب الاتجاه الثالث فقد وقفوا بتأن عند القديم والجديد وقرأوا كلا منهما في سياقه التاريخي والثقافي ،واستطاعوا أن ينصفوا القديم والجديـد فامتدحـوا الكفاءة والإبداع فيهما معا،وذموا الخلل والغلو والضعف في الاثنين،فأحسنوا إدارة الاختلاف وقبـول الآخر فاتسمت أحكامهم بالموضوعية وهذا ما نجده عند الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن المعتز والقاضي الجرجاني.
الكلمات المفتاحية: إدارة، الاختلاف، قبول، الآخر، النقدي
Managing difference and accepting the other in the struggle between the old and the new in the critical heritage
Name: Prof. Dr. Saad Muhammad Ali Al-Tamimi
Workplace: College of Education – Al-Mustansiriya University
Abstract
The issue of the old and the new was not a unique case in Arab literature and its criticism, as it is a general phenomenon in which all living literature shares and the Abbasid era witnessed a dispute between critics about ancient and modern poetry, and scholars have documented this difference in the sources of literature and criticism in the form of judgments and incidents, and if the time is In the context of this difference, the vocabulary and meanings represented two areas in which the supporters of the old and the supporters of the new differed, so if the words were sober, insignificant and close to the nomadic words, they liked the supporters of the old. For meaning, as it was also a point of difference between supporters of both the old and the new, the Research summary
This research came to deal with the issue of the struggle between the old and the new, which was a poetic act that the old critics confronted, and the critics were divided in three directions: The owners of the first trend went to embrace the old and bias towards it and show its merits and elements of its strength, rejecting the new and exposing its poets, and this axis represents most of the narrators and linguists, such as Abu Amr bin Al-Ala, Abu Ubaida, Al-Asma’i, Hammad, Ibn Salam, Al-Amdi and Al-Marzouki and others. National, historical, and cultural, as well as the industry that drove them to give preference to the poets who took them as a basis for linguistic protest, as for the second trend in dealing with the conflict between the old and the new Like him, critics adopted the renewal movement led by born poets such as Muslim bin Al-Walid, Abu Nawas, and Abu Tammam, and the most prominent one who considered this opinion was Abu Bakr al-Sowali who praised Abu Tammam’s renewal of meanings, metaphors and analogies unfamiliar in the culture at the time, and when fanaticism was inherent For the owners of these two trends, they failed to manage the difference and accept the other. As for the owners of the third trend, they carefully stood with the old and the new and read each of them in their historical and cultural context. They were able to do justice to the old and the new, so they praised the competence and creativity in them together, and they criticized the imbalance, hyperbole and weakness between the two, to improve the management of difference And the acceptance of the other, and their judgments were characterized by objectivity, and this is what we find among Al-Jahiz, Ibn Qutaybah, Al-Mubarrad, Ibn Al-Mu’taz and Al-Qadi Al-Jarjani
Key words: management, difference, acceptance, otherness, critical
المقدمة:
لقد ارتبطت نشأة النقد الادبي العربي القديم بسلسلة من العلاقات المتلازمة: بين الشعر والنقد كونهما متلازمين(إبراهيم 2008 ص6 ) ، وبين الشعر والقرآن ، فابن عباس يقول” الشعر ديوان العرب فاذا خفي علينا حـرف من القرآن الذي انزله الله بلغة العـرب رجعنا الى ديوانها فالتمسـنا معرفة ذلك منه”(علي1993 ج8ص663) وقـد وظف لمعرفة مكان البلاغة وللاحتجاج في تفسـير القرآن واثبات اعجـازه(الباقلاني 1982 ص22 ) ، وبين الشعر واللغة ، فقد كان الشـعر مادة اساسية في جمـع اللغة وتقنينها ووضع قواعدها اضافة الى القرآن الكريم، وقـد قسـم اللغويون الشـعراء على اربـع طبقات : طبقـة الجاهلين وطبقـة المخضـرمين الجاهلية والاسـلام وطـبقة الاسلاميين وطبقة المولدين وقـد كان هناك اجمـاع على الاسـتشهاد بالطبقتين الأوليين، أما الثالثة فيصح الاستشهاد بها الا انها لم تحقق الاجمـاع ، فقـد كان ابو عمـرو بن العلاء وعبدالله بن اسحاق وغيرهما من اللغويين يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة، وكانـوا يعدونهم من المولدين الذين لا يمكن الاحتجاج بشعرهم(البغدادي 1997 ج1 ص 6) وهذا التلازم نجده ايضا بين القرآن والبلاغة من خـلال الرغبة في تثبيت اعجاز القرآن ببلاغته ونظمه ، فبذلت جهـود كبيرة في هـذا المجال نتج عنها نشأة علم البلاغة، ثم تتجدد العلاقة بين البلاغة والنقـد كونهما متلازمين ومتفاعلين أيضا، اذ قام النقد العربي القديم في كثير من موضوعاته على البلاغة التي شكلت العمود الفقري له وقد دخل المؤثر الاجنبي في الثقافـة العربية بعد تداخل العنصر العربي بغيره من الامم الاخرى التي دخلت الاسلام، يضاف الى ذلك فاعلية الترجمة وما أضافته للعربية من علوم وآداب وفلسفة كان لها الاثر الكبير في ازدهار مسيرة الثقافة بشكل عام وكل من الشعر والنقد والبلاغة بشكل خاص، ففي الشعر تجسد الأثر من خلال حركة التجديد التي قادها الشعراء المولدون، وفي البلاغـة والنقـد يتجلى الأثر اليوناني بشكل واضـح في جهود عـدد من البلاغيين والنقاد، اذ نشأت اتجاهات نقدية مهمة تأثرت بكتابي أرسطو(الشعر) و(الخطابة) وقـد انصب النقد في نشأته الاولى ولعدة قرون على الشـعر وقضاياه (اللفظ والمعنى، القديم والجديد، البديع، الاعجاز، السـرقات الشعرية، الطبع والصنعة) وقد برزت قضية القديم والجديد بشكل مميز من بين هذه القضايا اذ حازت على اهتمام الشعراء والنقاد ، وعلى الرغم من ان هـذه القضية حاضرة في كل عصـر الا انها شـكلت ظاهرة شعرية ونقدية معا في القرن الثالث الهجري، فحركة التجديد التي بدأت نهاية العصر الاموي على يد بشار ابن برد توسـعت في العصر العباسي من خلال عدد من الشعراء المولدين ، وما نتج عنها من صراع بين القديم والجديد، قد حازت على اهتمـام النقاد العرب بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم واختلفوا حولها، اذ شـكل موضوع الصراع نقطة الاختلاف بين الشعراء واللغويين والنقاد، ويأتي بحثنا هذا لنقف فيه عند ادارة الاختلاف من قبل الاطراف المختلفة ومدى نجاح هذه الاطراف في تحقيق العدالة والموضوعية في الحكم بين طرفي الصراع وتحقيق ثقافة تعددية تقوم على قبول الآخر.
جدلية القديم والجديد في التراث النقدي العربي:
لم تكن قضية القديم والجديد حالة متفردة في الادب العربي ونقده، فهي ظاهرة عامة تشترك فيها الآداب الحية جميعا(حسين 2012 ص333) ،اذ لم يخل ادب أمة من الأمم من نشوء تيار أدبي ونقدي يتعصب للقديم ويدعو الى الالتزام به وتقليده(العزاوي 2011 ص119) يقابله تيار آخر يدعو للتجديد ومواكبة الحضارة، وقد شهد العصر العباسي الاختلاف بين النقـاد حـول الشـعر القديم والمحدث ، وقد وثـق العلماء هذا الاختـلاف في مصادر الأدب والنقد على شكل احكام وحوادث ،واذا كان الزمن سياقا لهذا الاختلاف فان الالفاظ والمعاني قـد مثلتا مجالين اختلف حولهما أنصار القديم وأنصار الجديد ، فاذا كانت الألفاظ رصينة وجزلة وقريبة من ألفاظ البداوة أعجبت انصار القديم ، أما اذا كانت الألفاظ سهلة وسلسـة وقريبة من اللغة الحضرية، فإنها لا تعجب أنصار القديم فيعيبونها، وكذلك الحال بالنسبة للمعاني اذ كانت ايضا محط اختلاف بين أنصار كل من القديم والمحدث، فالفريق الاول يفضلها قريبة مـن البداوة أما الفريق الثاني فانه يريدها مـواكبة للعصر لتعكـس التحضر والمدنية ، واذا كان الـصـراع بين القديم والمحدث فعـلا شعريا تصدى له الشعراء، فقـد أدى الى نشـأة حركة نقدية حاولت التنظير لطرفي الصراع ،وقد نتج عن هذا الاختلاف اراء عدة ذهب احدها الى تبني القديم والانحياز له دون النظر الى مقوماته وألفاظه ومعانيه ، التي اتسمت بعض الاحيان بالضعف، ورفض الجديـد دون التحـقق من مقوماتـه التي تشـتمل على البراعة والبديع ، ويمثل هـذا المحور معظم الرواة واللغويين ورأي آخـر ذهـب الى مناصرة حركة التجديـد التي قادها الشـعراء المولدون والدفـاع عنها كونها حركـة تعبر عـن عصرها وبيئتها وتعكـس ما وصـلت اليـه الثقافة والمعرفة ، ويمثل هـذا الرأي الشـعراء الذين تصـدوا للنقد ايمانا منـهم بانهم أقـدر على تقييم النص الشـعري لأنـهم الاعـرف به ، وكـلا الرأيين السـابقين قاما على التعـصـب والغـاء الآخـر، فلم ينجحا في ادارة الاختلاف بموضوعية وحيادية .
انّ الاختلاف سمة ثابتة على مر العصور و كل جديد سيصبح فيما بعد قديما فحركات التجديد موجـودة في كل عصر تتفاوت في مسـتوى تأثيرها في الذائقة العامة بحسب طبيعة الحركة واذا كان اصحاب هذين الرأيين قد اخفقا في قبول الاخر وادارة الاختلاف بشكل موضوعي قائم على قبول ما يطرحه المحدثون ،فقـد ظهر رأي آخـر في القـرن الثالث الهجري كان يعبر عنه بالرأي التوافقي الذي يقـوم على قبـول طرفي الاختلاف وعـدم اتخاذ موقف مسـبق اتجـاه كل منها ، اذ يمتلك أصحاب هذا الرأي من النقاد رؤيـة للاختلاف تقوم على ربط الشعر بعصره وبيئته فضلا عـن ثقافـة الشـاعر وبراعـته وذكائـه ، فجاءت لتشـكل محاولة في ادارة الاختـلاف بموضوعية وحياديـة قـد تكون نسبية ، اذ ان مسـألة الانحياز في العلوم الانسـانيـة هي نسبية وهـذا ما اكـده رولان بارت مـع مجموعـة مـن المفكريـن فـي ضـرورة اضـفاء الطابـع النسـبي على قراءاتنا(سعيد 2016 ص82) ويعبر عن هـذا المحور مجموعة من الشعراء والنقاد واللغويين.
التعصب للقديم والغاء الآخر:
لقد حقق الشعر العباسي طفرة نوعية من خلال التجديد في الالفاظ والمعاني نتيجة للتحولات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي هيمنت على الواقع آنذاك ، وقـد وقف مجموعة من الشعراء والنقاد نـدا لهذ الانتقال ، متمسكين بالقديم ومدافعين عنه داعين الى تقليده ،و رافضين حركات التجديد على مسـتوى اللفظ والمعنى ، مما ادى الى بقاء الشعر القديم مركـزا مهيمنا على الذائقة العربية وأصبح الشعر المحدث في نظر هـؤلاء النقاد هامشـا وطارئا لا يعتد به وقد تبنى الشـعر القديـم اللغويون والرواة وبعض النقاد كأبي عمـرو بن العلاء وابي عبيـدة والاصمـعي وخلـف الأحمر حمـاد وابن ســلام و الآمـدي والمرزوقي وغيرهم، وعند البحث في دوافع وأسباب هذا التعصب للشعر القديم ورفض الشعر المحدث ،فإننا نجد دوافع عدة كانت وراءه واسهمت في بلورته وتشكيله كاتجاه نقد يواضح وهذه الدوافع هي:
أولا: الدافع الديني والسياسي:
الدين والسياسة عنصران متلازمان والتصدي للحكم عمل في صميم الدين فسلطة الخلافة ذات بعد ديني وسياسي، لذلك شــكلا معا دافعا اسـاسيا قام عليه موقف الانتصار للقديم والدفـاع عنه، دون النظر الى جودة النص وصحته وبلاغته وجماله ، فقـد تبنى الاسـلام الشعر الجاهلي بوصفه شـكلا شـعريا يخدم الدين بألفاظه وتراكيبه، فهو وثيقة ضرورية لتفسير لغة القرآن وفهمها وهو حجة لإثبات اعـجاز القرآن (ادونيس1994 ص202) وبلاغته ، وهـذا ما يفسـر لنا فشـل اللغويون والرواة وبعـض النقـاد في ادارة الاختلاف بين القديم والمحـدث وتعصبهم للقديـم ، فهـم لم يفضـلوا الشعر الجاهلي لذاتـه بل للغته “فالأئمة والعلماء بطبيعة منازلهم الدينية حراص على القديم”(حسين 2012 ص334) لما كان العلماء قد ربطوا الشعر بالقرآن ، وأن السـلطة دينية فقـد كانت تدفع نحو الحفاظ على القديم لاقترانه باللغة والقرآن وذلك بسبب حاجة الرواة واللغويين للشـاهد في تفسير ألفاظ القـرآن وتراكيبه ، وقـد كان الخلفاء يقربون الرواة واللغويين ويقدمونهم على غيرهم فهم اما كتاب لهم أو مؤدبون لأبنائهم ،وقد كان الخلفاء اكثر ميلا للقديم وهذا ما جعل الشـعراء المحدثين يحافظون على البناء القديم للقصيدة في بعض قصـائدهم التي مدحـوا فيها الخلفـاء العباسيين ، فضـلا عن ان انتشار العلماء المؤدبين في قصور الخلافة، وهم في الغالب من اللغويين والرواة افرز ثقافة ارستقراطية تقوم على تبني القديم بشكل خاص كونه رديف القرآن .
ولما كان النقد في القرنين الاول والثاني يقوم على اللغة فقد جاءت الاحكام لتستقصي الأصول المعرفية لقواعـد اللغة المعيارية خدمة لقضايا مرتبطة بالنصوص الدينية فلم ينجح اللغويون في ادارة الاختلاف وهذا ما عكسـته المجالس العلمية والحوارات الادبية التي كان تدور بين العلماء من جهة وبين العلماء والشعراء مـن جهـة أخرى ،فأبو عمرو بن العلاء(154هـ) لم يحسـن ادارة الاختلاف اذ يتعصب للقديم بناء على مرجعيته الدينية والسياسـية فـلا يفضل رواية شـعر جرير والفرزدق، رغم اقراره بجودته فيقول ” لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته”(ابن قتيبة 1967 ص62) ،وفي حادثة أخـرى يعجب أبو عمرو بشـكل كبير بشـعر الاخطل الا انـه يرفض تقديمـه على الشعراء الجاهليين لتأخره عنهم فيقول “لو ادرك الاخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه جاهليا ولا اسلاميا”(الاصمعي 1980 ص13) فالانتصار للقديم اصبح عند اللغويين اصلا لابد ان يتبع ، اما الجديد فقـد اصبح فرعا خارجا على قواعد اللغة غير ملتزم بضوابطها ، ويسير الاصمعي (216هـ) على نهج استاذه ابي عمرو بن العلاء في التعصب للقديم وعدم الاعتراف بالشعر المحدث اذ انشـده اسحاق بن ابراهيم الموصلي :
هلْ الى نظرةٍ اليك سبيلُ فيبلّ الصدى ويُشفى الغليلُ
أنّ ماقلّ منك يكثرُ عندي وكثيـرٌ ممن تحبُ القليلُ
فقال والله هذا الديباج الخسرواني، لمن تنشدني ؟فقلت: انهما لليلتهما، فقال: لا جرم والله ان أثر التكلف فيهما ظاهر”(القاضي الجرجاني1966 ص50) ، ولم يذهب بعيدا عنهما ابن الاعرابي(231هـ) الذي سمع شعرا لأبي نؤاس فأقرّ بانه من احسن الشعر ليستدرك بان القديم أحب اليه وفي موضـع آخر يصف شعر المحدثين فيقول “انما اشـعار هؤلاء المحدثين مثل ابي نواس وغيره مثل الريحان يشم يوما ويذوي فيرمى به ، واشـعار القدماء مثل المســك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا “(المرزباني 1995ص286) يروى عن الاصمعي انه قال: “حضرنا مأدبة، وأبو محرز خلف الأحمر، وابن مناذر معنا، فقال له ابن مناذر: يا أبا محرز، إن يكن امرؤ القيس والنابغة وزهير ماتوا، فهذه أشـعارهم مخلدة، فقس شـعري إلى شعرهم قال: فأخذ صفحة مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبا “(القيرواني1981ج1ص196) ، ويذكـر أن أبا مناذر عرض على ابي عبيدة قصيدة له في رثاء عبد المجيـد عارض بها أبـا زبيـد الطائي وطلب اليه أن يحكم بينها وبيـن قصيدة أبي زبيد قائـلا :” احكم بين القصيدتين واتق الله ولا تقل: ذاك متقادم الزمان وهـذا محدث متأخر، ولكن انظر الى الشعر واحكم لأفصحهما واجودهما”(ابن المعتز1976ص122) ، وهذا الربط بين الانتصار للقديم والدين والسياسة ، دفع الآمدي الى انتقاد ابي تمام رائد مدرسة التجديد التي ثبتت أسسـها في القـرن الثالث الهجري بقوله ” وأظنه سمع بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زهير بن ابي سلمى لما قال فيـه : كان لا يعاظل بين الكلام ولا يتتبع حوشـيّه ولا يمدح الرجـل الا بما الرجال ، فلم يرتضي ما قالـه عمر وأحبّ ان يسـتكثر مما ذمـه وعابـه”(الآمدي 1994ج1 ص293) فهـذا التوظيـف للخطاب السـياسي والديني يعكـس مجانبـة الموضوعية ، مما يدلل ان تعصب الرواة واللغويين للقديم لا يرجع الى اعتبارات فنية أو جمالية ، بل لدوافع خارجية دفعتهم لإلغاء الاخر، ليفشلوا في ادارة الاختلاف نتيجة لانحيازهم الكبير والواضح وقد يرجع” السبب في تعصبهم للقديم لتسليمهم بأنماط ثابتـة من التعبير وليس لهم القدرة على تغيير ذائقتهم الادبيـة بأساليب جديـدة ومعان مبتكـرة ، والانســان اذا ما تلبسـته مواقـف فكريـة معينة عـدو لما يجهل فـلا يمتلك القـدرة على الكشـف ويكتفي بمـا عـرف ليتحصن به ويقيـم مـن حـوله الاسـوار تشبثا بمواقفه”(الخياط 1974ص16) ،فهؤلاء النقاد واللغويون اصبحت لهم قناعة بان تفسيرا لدين يتوقف على الشعر القديم، وانّ السـلطة مرتبطـة بالدين فانحازوا للقديم وتغافلوا عن المشتركات بين الشعر القديم والمحدث ولم يستطيعوا تقبلهما معا، فكان لابد من قبول أحدهما (القديم) والغاء الآخر (المحدث) فالتقويم الشـعري والديني والسياسي كان استمرارا للقديم، فالأفضل في الشعر هو من سار على منوال القديم(أدونيس ج1ص318).
ثانيا-دافع الصنعة:
لقد كان جل أنصار الشعر القديم من الرواة واللغويين ،وقد شكل الشعر القديم المادة الاساسـية في عملهم الذي تمثل في جمع اللغة والاحتجاج عليها بالشعر القديم ،وتوظيف هذا الشعر لشـرح وتفسير مفردات وتراكـيب القرآن الكريم ، ليصبـح الرافد الثاني مـع القرآن في وضـع القواعـد الاساسية لعلوم العربية ، وقـد حـددوا المعرفة اللغوية بزمن معين بحدود منتصف القرن الثاني الهجري ليكون الشعر القديم المادة الأساسية لعملهم الذي يكتسـبون منه رزقهم ،واصبح الشـعر القديم مادة حرفتهم وصناعتهم قد دفعتهم مهنتهم الى التعصب للقديم ،وبذلك كانت الصنعة هي الدافع وراء قبول القديم ورفض الجديد دون النظر الى قيمة النص .
ثالثا-الدافع القومي:
لقد كان الدافع القومي أحد اسباب انحياز اللغويين وبعض النقاد للشعر القديم ،فقد بدأت القومية تبرز بشكل واضح في العصر الاموي، اذ كانت السلطة تعتمد بشكل كبير على العنصر العربي أما غير العربي فقد كان معـزولا(أدونيس ج2ص13) ،ولما كان شعراء العصر الجاهلي والاسلامي من العرب الذين نظموا الشعر بسليقة عربية أصيلة ،وانّ الشعر القديم حفظ مآثر العرب وتاريخهم وأيامهم التي يتفاخـرون بـها ، وان النقاد واللغويين كانـوا من العرب المتعصبين لعروبتهم ، ولما كان معظـم الشعراء المحدثين من المولدين ، وقـد احدثوا تجديدا في الالفاظ والمعاني وهاجمـوا القديم، فقد ربط المتعصبون الشعر القديم بالعربية والشعر المحدث بالمولدين ذوي الاصول غير العربية، الذين اتهموا بالشعوبية وتعرضوا للتكفير والقتل مثل بشار بن برد، فقد كان التعصب القومي احد الدوافع التي افقدت أصحاب هذا الرأي الموضوعية .
رابعا-الدافع التاريخي والثقافي:
لما كان الشعر العربي القديم قد امتد لعدة قرون في الجزيرة العربية وقد كانت بيئته في معظمها صـحراوية بدوية فقـد تأسسـت وتجذرت ثقافة ألف عليها الشـعراء والرواة واللغويون ، وتربت عليها ذائقـة نقديـة على طريقة خاصة للشـعر ،ولمدة طويلـة امتدت لقرون عـدة لذلك فان تغييـر الذائقة فجأة ، قد لا يكون سـهلا على الجميع فهناك من يبقى متمسكا بهذه الثقافـة التي أصبحت تقليدا متعارف عليه بين الناس ، ولما كان الزمن هـو وعاء هذه الثقافة ومحركها ، فقد اتكأ عليه انصار الشـعر القديم في تفضيلهم القديـم ،اذ مثلت صـفة القـدم الحجـة القاطعـة والخـط الدفاعي الاخير في صد براعة بعض اشعار المحدثين وجمالها وابتكارها ، وهـذا ما أشـار اليه ابن قتيبة اذ يقـول ” إنى رأيت من علمائنا مـن يستجيد الشــعر السخيف لتقدّم قائله ، ويضعه في متخيّره ، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلّا أنّه قيل في زمانه، أو أنّه رأى قائله”(ابن قتيبة ص62 )وهذا التعصب لا يتماشى مع سنن الحياة التي يحكمها التصور والتجدد من زمن الى آخر .
التعصب للجديد ومهاجمة الآخر:
إذا كان التعصب للقديم قد هيمن على الساحة الثقافية والادبية طوال القرنين الأول والثاني الهجريين فان التعصب للجديد لم يكن غائبا عن الساحة رغم قلة مناصريه، اذ كان معظم شعراء هذا الاتجاه من المولدين، الذين هاجموا القديم الذي كان يمثل ثقافة السلطة، وهذا ما عبر عنه ابو نؤاس في علاقته مع الخليفة العباسي فعندما استهزأ ابو نؤاس بالوقوف على الاطلال بقوله (أبو نؤاس1992ص676):
قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس واقِفاً ما ضَــرَّ لَو كانَ جَلَس
اِترُكِ الرَبــــعَ وَسَــــلمى جانِباً وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس
بِنـتُ دَهــــرٍ هُجِــرَت في دَنِّــها وَرَمَـــت كُـلَّ قَـــذاةٍ وَدَنـَس
وقوله أيضا (أبو نؤاس1992ص57 ):
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
فلم يستهزئ بالإطلال فقط بل بالقديم ايضا، وجعل الاطلال قرينا للقديم الذي يجب ان يغادره الشعراء ليواكبوا العصـر بما تضمنه من تطور وازدهار في الجوانب المادية والفكرية ، الا انّ هذا لم يعجب السلطة(الخليفة العباسي)،فقد وشي به عند الخليفة لشربه الخمرة فسجنه ، وأخـذ عليه أن لا يذكرها في شعره(القيرواني 1981ج1ص232) ،عبر عن ذلك بقوله(أبو نؤاس1992ص21 ):
أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطلول مسـلط تضيق ذراعي أن أرد له أمــرا
فسمعاً أمير المؤمنين وطــاعة وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا
فالشـاعر هنـا يصرح بأن وصـفه للأطلال والقفر جاء تحت ضـغط السـلطة ، فهو لا يعتد بها ويسـخر منها ولم يكن الخروج على القديم من خلال رفض الوقوف على الاطلال، بل من خلال الالفاظ والتراكيب والمعاني التي حاول فيها ابو نؤاس وغيره من الشـعراء المحدثين ان يواكبوا عصرهم، وهذا ما أشار اليه الحسـن بن علي بن وكيـع الذي يرى أشـعار المحدثين” انما تروى لعذوبة ألفاظها ورقتها وحـلاوة معانيها وقرب مأخذها ، ولو سـلك المتأخرون مسـلك المتقدمين في غلبـة الغريب على اشعارهم ووصف المها والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت لان المتقدمين اولى بهذه المعاني، ولاسيما مع زهد الناس في الادب في هذا العصر وما قاربـه وانما تكتب اشـعارهم لقربها من الافهام”(القيرواني1981ص92) .
ومن ابرز الشعراء الذين حملوا شعار التجديد في العصر العباسي وكان سببا في حركة نقدية واسعة ،ابو تمام الذي اتهمه الآمدي بالخروج عن عمود الشعر على لسان البحتري عندما سـئل عن نفسه وعن ابي تمام فقال “كان أغوص على المعاني مني وانا أقوم بعمود الشعر منه”(الآمدي 1994ج1 ص22) ومن أهم مظاهر التجديد في شـعر ابي تمام المعاني والاخيلة ، التي تأثرت بثقافة العصر فكانت دقيقة وعميقة استطاع فيها الشاعر تحريك مشاعر الجمهور لما يملكه من فكر نافذ وذكاء خلاق، ويروى أن” أبا سعيد لقي ابا تمام فقال له يا ابا تمام لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ قال له: وانت يا ابا سعيد لم لا تفهم من الشـعر ما يقال؟”(الموشح ص366 ) وتؤكد هذه الحادثة أن لغة الشعر الجديد اتسمت بالعمق وتتطلب التأمل والتفكير من اجـل التواصل و التفاعل معها ، وقـد جاء أبو تمام بأسلوب جديد في الشعر يقوم على توظيف المعاني العقلية ،والاعتماد على البديع الذي أصبح ظاهرة لم تتحقق في شـعر من سبقه اليه مثل مسـلم بن الوليد و أبو نواس وبشـار ولا في شـعر من جاء بعـده مثل المتنبي و ابن الرومي وغيرهما ،لذلك فقد تنازع العلماء والنقاد في شعره.
وأبرز المدافعين عن الشعر الجديد الصولي الذي لخص انتصاره للحديث في دفاعه عن ابي تمام في كتابه (أخبار ابي تمام) الذي هاجم فيه القديم، ووقع فيما وفع فيه خصوم الجديد ،اذ رفض الآخر(القديم)وركز جهده في تفسير وتأويل مظاهر البديع في شعر أبي تمام فكان يرى بانه كان “يتعب نفسـه ويكـد طبعه ويطيل فكرهو يعمل المعاني ويستنبطها”(الصولي 1982 ص118) ،وكان يعده رأس مدرسـة الشـعراء المحدثين فهـو” مبتدئ لمذهب سـلكه كـل محسـن “(الصولي 1982 ص37) وخصـوم ابي تمام عنـد الصولي فئتان: الاولى الذين لم تستطيعوا فهم شعره فأسرفوا في التعصب عليه وتمسـكوا بالقديم لـذا يدعـوهم الصـولي الى التعلم وطلب المعرفة ، والتعمـق في التحليل ليتمكنوا من الحـكم على الشعراء، فالتعلم غير محظور على أحد ولا مخصوص به أحد،(الصولي 1982 ص14) اما الثانية فهم المعاندون الذين اتخذوا من خصومة ابي تمام سبيلا للمجد والشهرة(الصولي 1982 ص28) ، وقـد خلص الصولي من دفاعه ان تجربة ابي تمام خالية من العيوب ، ليكون حكمه ردّ فعل لما قام به خصـوم ابي تمام اذ لم يحسن ادارة الاختلاف بين تيارين من الشعر ساعدت في نشأتهما عوامل متعددة :سياسية وثقافيـة واجتماعية وحضارية ، اذ انتصر للشعر المحدث وتعصب له ورفض القديم وهاجمه، ليتبنى نظرة الأحادية لا تقوم على التعددية وترفض قبول الآخر.
ادارة الاختلاف وقبول الاخر:
لما كان التجديد والتغيير هو سنة الحياة ،ولما كان الشعر هو ابن بيئته، فمن الطبيعي ان تطرأ عليه بعض التحولات على مستوى المعاني والألفاظ والبناء بسـبب المتغيرات التي طالت الواقع من أحداث دينية وسياسية واجتماعية وثقافية وحضارية، واذا كان أنصار القديم وانصار الحديث مغالين ومندفعين دون روية في التعصب الى ما يرونه الافضل، والغاء الآخر الذي يرونه الاسوأ فانّ النقد العربي القديم لم يخل من جهود متميزة، وقف فيها بعض النقاد بتأن عند القديم والجديد وقرأوا كلا منهما في سـياقه التاريخي والثقافي، واستطاعوا أن ينصفوا القديم والجديد فامتدحوا الحسـن والكفاءة والابـداع فيهما معا ، وذمـوا الخطل والخلل والغلـو والسـطحية والضعف في الاثنين، فاحسنوا ادارة الاختلاف وقبول الاخر وانصافه مـن خلال ما اتصفوا به من موضوعية وحيادية في الحكم في هذه القضية ، وهذا ما نجده في جهود كل من الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن المعتز والقاضي الجرجاني ، اذ احتكم هـؤلاء النقاد الى النص الشـعري لبيان جودة القديم والجديد وبراعة صناعته. فالجاحظ الذي عرف بتعصبه للعنصـر العربي نجح في أن يكون موضوعيا وحياديا ولو بشكل نسبي، عندما انصف الشاعر المولد أبا نؤاس ومدح براعته وابداعـه وصنعته الشعرية اذ يقول: ” إن تأملت شعره فضّلته ،الاّ أن تعترض عليك فيه العصبية ،أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر ،وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء، فان اعترض هذا الباب عليك فانك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبا “(الجاحظ1965ص27) فهذا الموقف الواضح بمثابة رد على المتعصبين للقديـم دون النظـر في جماليات نصوصه وفتح الباب امام النقاد الذين جاؤوا بعده لينصفوا الجديد من خلال التخلص من التعصب ،اذ تبعه ابن قتيبة الذي قرر ادارة الخلاف بموضوعية لتصبح واحدة من الأسس التي يقوم عليه منهجه اذ يقول”: ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر على آخر مختارا له ، سبيل من قلد ،أو استحسن باستحسان غيره ، ولا نظرت الى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه ،والى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره ،بل نظرت بعين العدل الى الفريقين ،وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه” “(ابن قتيبة ص63) ،فابن قتيبة يؤكد على الموضوعية في ادارة الاختلاف من خلال النظر بعين العدالة ،ثم يوضح أسلوبه الذي انتهجه في تصنيف الشعراء والحكم على ابداعاتهم بالاستحسان والاجادة ،أو الرداءة ،اذ يقول ” لم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ، ولا خص به قومًا دون قومٍ، بل جعل الله ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل ،وجعل كل قديم حديثا في عصره “(ابن قتيبةص63) ولم يذهب المبرد بعيدا عن الجاحظ وابن قتيبة اذ تحلى بالموضوعية والانصاف فلم يتعصب للقديم ولا للحديث، فالحكم على النص يعتمد على جودته وحسنه وقدرة الشاعر على صياغة المعاني الشـعرية، وكان ينظر للشعر بعيدا عن عصره،” فليس لقدم العهد يفضل القائل ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب ولكن يعطى كلا ما يستحق”(المبرد 1997ج1ص28) ،يضاف الى ذلك فان المبرد ذكر اخبارهم واشعارهم واستحسنها مرات وعابها مرات أخرى.
واذا كان ابن المعتز قد ذكر اخبار المولدين في طبقاته فانه دافع عن الشعر المحث في معرض تأصيله لمصـطلح البديع بقولـه ” قدمنا في أبواب كتابنا هـذا بعض مـا وجـدنا في القرآن واللغـة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلام الصحابة والاعراب واشعار المتقدمين من الكلام الذي سـموه المحدثون البديـع ، ليعلم ان بشـارا ومسلما وابا نؤاس ومن تقبلهم وسـلك سـبيلهم لم يسـبقوا الى هذا الفن ، ولكن كثر في اشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسـم فأعرب عنـه ودل عليه ثم ان حبيب بن أوس الطائي مـن بعـدهم شـغف به، حتى غلب عليـه وتفرع فيـه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض”(ابن المعتز2012ص9) فهو يريد ان يقول ان المولدين مبدعون وان هذا الابداع عرفه القدامى ايضا ، ويسـاوي ابن جني بين القديم والجديد في الاستشهاد يقول” ان المحدثين يستشهد بشـعرهم بالمعاني كما يستشـهد بشعر القدماء بالألفاظ “(القيرواني ج 2ص236) ، فإدارة الاختـلاف بشكل ناجح التي تقوم على نظـرة شاملـة تعتمد التعدديـة وقبول الآخر ، وهـذا ما جسـده القاضي الجرجاني اتخذ شـعار العدل في الفصـل بين القديم والمحدث اذ يقول :” وليس يجب اذا رأيتني أمدح محدثا وأذكر محاسن حضري أن تظن بي الانحراف عن متقدم ،أو تنسبني الى الغضّ من بدوي، بل يجب ان تنظر مغزاي فيه ، وأن تكشف عن مقصدي منه، ثم تحكم عليّ حكم النصف المتثبت”(القاضي الجرجاني 1966 ص15) ،فعند تفضيله لقديم أو جديد فانه يستند الى ما يتجسد الشعر من طبع مجيد وذكاء في صناعة وتآلف في الالفاظ والمعاني ” فالشعر علم من علوم العرب يشـترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه ، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الاحسان ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم والاعرابي والمولد “(القاضي الجرجاني 1966 ص39).
المصادر والمراجع
– أخبار ابي تمام ،الصولي ،تحقيق خليل محمود عساكر،بيروت ،1972 .
– ادوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية الى فضاء الهجنة والاختلاف، ترجمة واعداد محمد الجرطي، منشورات المتوسط، ميلانو، ط1، 2016.
– اعجاز القرآن، عبد القاهر الجرجاني، ت محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت،1982 .
– تاريخ النقد الادبي، د. طه احمد ابراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 2008..
– الثابت والمتحول، أدونيس، دار الساقي، بيروت، ط7 ،1994.
– حديث الاربعاء، د. طه حسين، مؤسسة هنداوي، القاهرة ،2012 .
– خزانة الادب، البغدادي، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4 ،1997
– الحيوان، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1965.
– ديوان ابي نؤاس، تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت 1992.
– الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق ،احمد محمد شاكر، دار المعارف ،القاهرة ط2 ،1967 .
– طبقات الشعراء ،ابن المعتز،تحقيق عبد الستار أحمد فراج،دار المعارف،مصر ،ط3.
– العمدة ،ابن رشيق القيرواني،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد،دار الجيل بيروت ،ط5 ،1981.
– الكامل في اللغة والادب،المبرد،تحقيق محمد ابو الفضل ،دار الفكر العربي، القاهرة ،ط3 ، 1997 .
– كتاب البديع ،ابن المعتز ،شرح وتحقيق عرفان مطرجي،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت ،ط1 ،2012 .
-كتاب فحولة الشعراء،الاصمعي ،تحقيق،ش.توري،تقديم د. صلاح الدين المنجد ،دارالكتاب الجديد، بيروت، ط2، 1980 .
– المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، د. جواد علي ،دار احياء التراث العربي ،بغداد ط،1993،1.
– الموازنة، بين شعر ابي تمام والبحتري، الامدي، تحقيق أحمد صقر، دار المعارف، مصر ،ط4 ،1994.
– الموشح، المرزباني، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ،1995 .
– النقد اللغوي عند العرب، د.نعمة العزاوي، مؤسسة دار الاسلام، بغداد، ط2 ،2011 .
-الوساطة بين المتنبي وخصومه ،القاضي عبد العزيز الجرجاني، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي ،مصر1966 .