نوفمبر 23, 2024 4:33 ص
11

م. م. ورود خالد عبّاس

كلية الحقوق / جامعة النهرين / جمهورية العراق

waroud.khaled@nahrainuniv.edu.iq

009647703946486

الملخص

يسعى البحث إلى إبراز الصور الفنية التي جسدتها مطولة المواكب لجبران خليل جبران ، والتي تعد من أشهر ما كُتِبَ من مطولات في الشعر العربي الحديث ، وقد زخرت بالصور الفنية التي جسدها جبران بحسب نظرتهِ التأملية ، ونزعته الرومانسية للكون والحياة والطبيعة والذات ،وتبرز أهمية الدراسة في بيان التجديد الذي طرأ على حركة الشعر العربي الحديث على صعيدي البنية الفنية والموضوعية متمثلاً بقصيدة المواكب ، فحركة الشعر المهجري كانت إحدى التيارات التجديدية التي تأثرت بالأدب الغربي ، وانعكس ذلك التأثير في نتاجات شعرائها وأدبائها ، ويعد جبران خليل جبران أحد أهم أعمدة الشعر والأدب المهجري ، وهذه الحقيقة نراها جليةً من خلال ترجمة أدبهِ إلى أغلب لغات العالم ، والمتصفح لأدبه يرى فيه النزعات الرومانسية الحالمة ،فضلاً عن الاتجاهات الفلسفية التي تعتمد على التأمل عنصراً بارزاً لاسيما في أشعاره. تهتم مشكلة الدراسة في الكشف عن الفنون البلاغية وبيان أهميتها ودورها في توجيه الصور الشعرية التي زخرت بها المطولة والإيقاعات الموسيقية المتنوعة وأثرها في تناغم القصيدة وتنوع أصواتها ، واعتمدت الدراسة على المنهج التحليلي الوصفي في بيان الصور والدلالات الشعرية . انقسمت الدراسة على مبحثين ،سُبِقَت بمقدمة ، وتمهيد ،وانتهت بخاتمة أوجزت فيها أهم نتائج البحث .

الكلمات المفتاحية : ( الصورة الشعرية  ، جبران ، المواكب، الدراسة الفنية ،الدراسة الموسيقية )

An artistic study of the processions of Gibran Khalil Gibran

Waroud Kha College of Law / University of Nahrain

 Republic of Iraqled Abbas

 

Abstract

The research seeks to highlight the artistic images embodied in Khalil Gibran’s long processions, which is considered one of the most famous long poems written in modern Arabic poetry. It was filled with artistic images embodied by Gibran according to his contemplative view and his romantic tendency toward the universe, life, nature, and the self. The importance of the study is highlighted in a statement. The renewal that occurred in the movement of modern Arabic poetry at the levels of artistic and thematic structure, represented by the poem “Processions.” The movement of immigrant poetry was one of the renewal trends that was influenced by Western literature, and that influence was reflected in the productions of its poets and writers. Gibran Khalil Gibran is considered one of the most important pillars of poetry and migratory literature, and we see this fact clearly through the translation of his literature into most of the world’s languages. The reader of his literature will see dreamy romantic tendencies in it, as well as philosophical tendencies that rely on contemplation as a prominent element, especially in his poetry. The problem of the study is concerned with Revealing the rhetorical arts and explaining their importance and role in directing the poetic images that abound in lengthy and diverse musical rhythms and their impact on the harmony of the poem and the diversity of its voices. The study relied on the descriptive analytical approach in explaining the poetic images and connotations. The study was divided into two sections, preceded by an introduction and a preface, and ended with a conclusion in which the most important results of the research were summarized.

Keywords: (poetic image, Gibran, processions, artistic study, musical study).

المقدمة

نبذة عن حياة الشاعر جبران خليل جبران (1883 -1931م)

وُلِدَ الشاعر والأديب جبران خليل جبران بن ميخائيل بن سعد ، سنة 1883 م في إحدى القرى اللبنانية التي تسمى بشرى وتقع قرب نبع قاديشا ،كانت عائلته فقيرة وبيئته متأخرة ، هاجر عام( 1895م)  مع أمه وأخيه بطرس وأختيه ماريانا وسلطانة إلى بوسطن في الولايات المتحدة الشمالية (قبش، 1970: 295)،ولاشك أن حياة الفقر والألم جعلته يقسم بعدم العودة إلى بلاده وأن يمضي في بوسطن بقية حياته (سراج، دون تاريخ:289).

أرسله أخوه بطرس لتعلم الانجليزية والعربية فدرسها في مدرسة الحكمة لمدة أربع سنوات ، وفي سن العشرين شرّع جبران بالرسم والانشاء ، وفي أحد معارض رسومه تعرف على الآنسة ماري هاسكل ، وهي مديرة مدرسة بنات في بوسطن ، كانت هذه الآنسة هي المُغير لمجرى حياته إذ سافر إلى باريس في عامه الخامس والعشرين على نفقتها للتخصص في فن الرسم وهناك تتلمذ على يد أشهر نحّات ورسّام فرنسي رودان (قبش،1970: 295)، كما تعرّف على الشاعر الانجليزي وليم بليك الذي أُعجِبَ به وحاول تقليده في كل شيء ، كانت في حياة جبران فتاتان تنازع قلبه حبهما ، الأولى الآنسة ماري هاسكل (سراج، دون تاريخ :293) والثانية ميشيلين وتعمل مُدرِّسة في مدرسة الآنسة هاسكل (سراج، دون تاريخ:296)، مال قلب جبران إلى الآنسة هاسكل أكثر من ميله لميشلين فتقدم لخطبتها لكنه اندهش عندما لحظ في اجابتها بعض الشك وثارت كرامته وتمنى لو لم يقل شيئاً (سراج، دون تاريخ: 298)، كانت شخصية جبران متميزة في تفكيرها وخيالها وروحها وبيانها ، وتجري بألفاظ شفافة عميقة التأثر ، سواءً أكانَ ذلك شعراَ أو نثراً أو قصة أو حكمة أو خيالاً أو تأملات في الطبيعة والحياة (الناعوري، دون تاريخ :63).

وفي الثامن والعشرين من أبريل عام( 1920 م) تأسست الرابطة القلمية ،وذلك باجتماع كل من : جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة ،وعبد المسيح حداد ،وندرة حداد، وإلياس عطا الله، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة، ورشيد أيوب ، وقد أقرَّ هؤلاء المجتمعون إخراج الرابطة إلى الوجود ، ثم انتخب الحاضرون جبران عميداً لها، وميخائيل مستشاراً لها ،ووليم أميناً للصندوق(سراج، دون تاريخ : 85)، وفي عام    ( 1921) ظهرت مجموعة الرابطة القلمية واصداراتها الأولى تحمل عدداً وافراً من المقالات والقصائد، وكان حظ جبران واضحاً فيها، وعاشت هذه الرابطة قرابة احدى عشرة سنةً (1920-1931) ، وبموت أعضائها تبعثرت حباتها(الناعوري، دون تاريخ: 24) .

ابتدع جبران في الأدب العربي الحديث اسلوب (النثر الشعري )،ذو العبارة الموسيقية القصيرة وهو ما يسمى ( بالشعر المنثور ) ،وأخذ هذه الطريقة عن الأدب الغربي أو عن ( والت ويتمان ) الامريكي (الناعوري ،دون تاريخ : 67).

كانت حياة جبران عبارة عن سلسلة من الأحداث والمتغيرات مما انعكس ذلك جلياً في مؤلفاته التي صُبِغَت بالحزن والألم والثورة والتمرد ، فهو حيناً يكتب خيالاً عاطفياً وحيناً أحاسيس عميقة ، وحيناً شعراً فلسفياً تأملياً وأخرى موسيقياً عذباً ، وكل هذا إنما يعرب عن شخصية فياضة الأحاسيس والمشاعر في تفكيرها وخيالها (الناعوري ،دون تاريخ : 63)، ولجبران العديد من الآثار الشعرية والنثرية التي ضمنها نتاجاته الأدبية باللغتين العربية والانجليزية ،أما آثاره العربية فهي : ” الموسيقى ، عرائس المروج ، الأرواح المتمردة ، دمعة وابتسامة ، الأجنحة المتكسرة ، العواصف ، النبي ، المجنون ، وكتابان ثبّتَ فيهما عقيدة تناسخ الأرواح ، هما : النار الخالدة ، ورماد الأجيال ، حفار القبور ، ديوان شعر المواكب ” وهذا الديوان عرض فيه أبدع رسومه الشعرية الرمزية إلى جانب أبيات الحكمة (قبش، 1970: 296،295)، وأما آثاره الإنجليزية ،فهي: ” المجنون ، النبي ، السابق ، آلهة الأرض ، يسوع ابن الانسان ، رمل وزبد ، التائه حديقة النبي ” ،( قبش، 1970: 296 ) ،  وأما قصيدته المواكب ، فتعد أبرز نتاجاته الشعرية  ،وفي العاشر من أبريل( 1931 م )نفقد هذه الشخصية العميقة الاحساس والمشاعر التي طالما أطربتنا من خلال ما تتجسد به من شعر أو نثر عذب  الاحساس ، نفقد الأديب والشاعر جبران في أحد مشافي نيويورك حيث مات في ظلال الوحدة والغربة التي عاشها في تلك البلاد ، ونقل جثمانه من نيويورك إلى بشرى وأقيم له استقبال كبير واستقر في دير مار سركيس تلك الخلوة التي طالما حلم بها في حياته (سراج، دون تاريخ: 305).

 

التمهيد

الصورة الشعرية

تعرف الصورة في الشعر بأنها : “الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليُعبّر عن جانب من جوانب التجربة الكاملة في القصيدة ، مستخدماً طاقات اللغة وإمكانياتها في الدلالة والتركيب ، والايقاع ، والحقيقة ، والمجاز ، والترادف والتضاد ، والمقابلة ، والتجانس ، وغيرها من وسائل التعبير الفني “(القط ،1988: 391)،ويُعد التصوير الفني من خواص التعبير الأدبي ، فإذا كانت مادة الأدب هي ألفاظ اللغة وأنماطها التعبيرية ،فإن فنيته تتمثل في استثمار إمكانات تلك المادة ، وتوظيفها ، مما يخلق صورة أدبية تجسّد تجربة الأديب ، وتُوحي بأعماقها وأغوارها ، وأدق خلجاتها في وجدانه ، وهذه الخاصية هي التي ينماز بها الأدب عن غيره من ضروب التعبير الأخرى (طبل ،2005: 14).

إن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع (اسماعيل، 1972: 127) ، فهي تركيبة تتكون داخل نفس الشاعر أثر واقعة شعورية يتأثر بها ، وينميها بخياله ، فتتكون صورة شعرية تشد المتلقي ، وتؤثر فيه ،فلغة الشعر لغة شعورية محكومة بالعواطف الانسانية من حزن، وفرح ،وحب، وكره .

للصورة الشعرية وظيفتين ، فأما الأولى :فهي الوظيفة الجمالية ، حيث تحقق المتعة الجمالية من خلال القيم الايجابية التي تحاكي أشياء واقعية حيّة (نيتشة ،دون تاريخ : 166) ، وأما الثانية : فهي امتاع المتلقي وترغيبه بأمر معين أو تنفيره منه ، ويكون ذلك في مبالغة الصورة للمعنى ، فهي قادرة على تحسين الشيء أو تقبيحه ، ويُقال أن : المجاز ثلاثة أشياء : المبالغة والبيان والايجاز (ابن الأثير ،دون تاريخ: 132)،فالصورة :”إبداع خالص للذهن ” (راغب ،2011: 43)، والشعر لا تعتبر فيه المادة ، بل بما يقع في المادة من تخييل (القرطاجني، دون تاريخ : 83) .

أولى الرومانسيّون الصورة اهتماماً خاصاً ، ومجَّدوا العاطفة ، والفهم الذّاتي ، والشعور الخاضع للإحساس بالجمال ، وارتبط الجمال عندهم بالذوق ونسبيتهِ وفرديتهِ ، واعتدَّ الرومانسيّون بالخيال ، فكان مصدراً لصورهم ، وبذلك فقد اتسمت الصورة عندهم بأنها : شعوريّة تصويرية ، فالفكرة تتراءى من خلال الصورة ، فروح الشعر في صورهِ لا في أفكارهِ التجريدية (الصالح ،1994: 44) ،وقد مزّجَ الرومانسيّون مشاعرهم الذاتية من خلال الطبيعة ، واكثروا من تشخيصها وأنسنتها ، فتحدثت بلغة احساساتهم ؛ ولذلك انمازت صورهم بوحدتها وعلائقها المبتكرة  (الصالح، 1994: 45) ودارَّ شعراء المهجر في أفق الجمال الرومانسي ، فكان الخيال نبعاً أزلياً يرتشف منه الشاعر صوره التي تُعَبِّر عن جوهر الحياة الإنسانية .

قصيدة المواكب :

تُعد مطولة جبران المواكب واحدة من أهم المطولات في الوطن العربي وتتألف من مئتين وثلاثة أبيات نظمها في ثماني عشرة لوحة ،وكل لوحة منها تتكون من ثلاثة مقاطع، نظم المقطع الأول من (البحر البسيط) والمقطعين الآخرين من( مجزوء الرمل)(غزوان،2000 : 24).

هناك شيء يواجه كل من يمر نظره على هذه القصيدة ،إذ يمثل المقطع الأول صورة الموضوع الذي يتحدث عنه في حياة المجتمع، والثاني يُصوّر الغاب، والثالث يتقمص الغناء (عباس ونجم، دون تاريخ: 46) ،متمثلاً بصوت الناي الذي كما يراه نعيمة : ” يرمز للروح التي تلتقي فيها كل الأرواح فتؤلف لحناً واحداً كاملاً لا نفارَ فيهِ ولا تشويش ” (الناعوري، دون تاريخ: 101) ،وتتمثل القصيدة بصوتين ، صوت الشيخ الخارج من المدينة مُثقلاً بهمومها، وصوت الفتى الحالم العاري العازف على نايه ألحان السعادة المطلقة (قبش، دون تاريخ : 296)،وقد اختلف متذوقو المواكب في تعليل وتفسير هذا النداء الأخير ، أو القرار      ( صوت الناي) الذي يصاحب القصيدة كلها باختلاف وتعدد أصواتها ، فالناي قد يرمز إلى مبدأ التجاذب بين الأكوان ، أو إلى نظام الأبدية ، أو يمثل الحياة بكليتها ، أو هو رمز الوحدة والخلود (مجلة الأقلام،1987 : 70)،  والحقيقة أن قصيدة المواكب تمثل “حداً فاصلاً بين عهدين من حياة جبران ،عهد العواصف و الأحاسيس والتفجع، وعهد الفلسفة والتأمل والنظر البعيد ” (سراج، دون تاريخ : 300)،وقد  قال عنه ميخائيل نعيمة في ذلك  :” وجبران وإن كتم عن الناس شكواه إلا أنه كان يلاقي الكثير من الضنك المادي والمعنوي في عالمٍ لاهٍ عن اللبابِ بالقشور ، وعن النور بالظل ، ….فكانت المواكب نتيجة لتلك الحالة القلقة التي أحسها جبران ما بينَ قوتينِ تتجاذبانهِ ، قوة الإيمان بحكمة الحياة وعدلها وجمالها في كل ما تأتيه ، وقوة النقمة ….على ضعف الناس وخنوعهم وتواكلهم وكل ما في حياتهم الباطنية والخارجية من قذارة وبشاعة “(جبران، 1968: 24).

المبحث الأول

الدراسة الفنية للقصيدة

1-الصورة التشبيهية :

هي أحدى الأساليب البيانية الدالة على قدرة الشاعر وبراعته في فن التصوير ،فهي تعكس لنا عمق تجربة الشاعر وبعده الخيالي في عقد الصلة بين شيئين يتماثلان في وجوه ويفترقان بأخرى ، ويحتفظ كل واحد منهما  بخصائصه الأصلية ،وتتميز بأنها التقنية الوحيدة التي  يتموضع  طرفاها – المشبه والمشبه به- على سطح النص ،وتتدرج الصورة التشبيهية وضوحاً وخفاءً بحسب الأنواع والأساليب التشبيهية (المعمار،2022: 153).

درسَ المُبرّد( ت285 ھ )التشبيه وفصّلَ الكلام فيه ، وجعل حدّه في تشابه الأشياء ، وتباينها إذ يقول : ” واعلم أن الشبه حداً ، فالأشياء تتشابه من وجوه وتتباين من وجوه ” (المبرد ،د.ت: 54)، و يُعرِّف الرُّماني (ت 386ھ)التشبيه بقوله :” هو عقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل ولا يخلو التشبيه في أن يكون في القول أو في النفس “(الرماني، دون تاريخ: 80)،وأما عبد القاهر الجرجاني (ت471 ھ )فقد عرف التشبيه بقولهِ :” أن تثبت لهذا معنى من معاني ذاك ، أو حكماً من أحكامه كإثباتك للرجل شجاعة الأسد ، وللحجة حكم النور في إنك تفصل بينها في الحق والباطل كما يفصل بالنور بين الأشياء “(الجرجاني ،1954: 78)، ومن خلال الاطلاع على مطولة جبران نرى أن هناك صوراً تشبيهية أسهمت في إبراز الصور الشعرية التي كان لها تأثيراً بارزاً في صور ودلالات هذه المطولة ،ونلاحظ أن هناك أنواعاً من التشبيهات في المطولة :

أ-التشبيه التمثيلي :

عرفه القزويني (ت 739 ھ) بأنه : ” اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه “(القزويني، دون تاريخ: 304)،ونفتتح الحديث بقول جبران(جبران، 2014 : 204):

وما السعادةُ في الدنيا سوى شبح               يُرجى فإن صار جسماً ملّهُ البشَرُ

كالنهرِ يركضُ نحو السهلِ مُكتدحاً               حتى إذا جاءه يُبطي ويعتكرُ

يشبه الشاعر السعادة بالنهر الذي ينساب ماؤه نحو السهل، غير عابئ بشيء، بَيد أن ماء النهر سرعان ما يبطئ في انسيابه ويتعكر، حين يصل إلى هذه السهول ،وهو بذلك يشبه السعادة وهي شيء معنوي بحت بالنهر الذي يُعد شيئاً محسوساً نستطيع أن نراه ونلمسه، فالوصول إلى السعادة يكمن في الطريق السالك إليها ، وحين تتحقق السعادة تنتفي هذه اللذة ، فالصورة تمثيلة منتزعة من متعدد ، صورة حركة النهر واشتياقه للسهل ، وتعبهِ من أجل الوصول إليهِ ،توازي صورة الوصول للسعادة ولذتها ، لتخرج صورة تحقق الغاية ،والسكون بعدها ، ويقول في موضع آخر(جبران،2014: 199) :

كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهم       إن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

التشبيه تمثيلي المشبه الدين، والمشبه به التجارة، والاداة( كأن) ،ووجه الشبه موجود (أن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا ) ،إذ يشبه الشاعر الدين بالتجارة في حال اتقانهم العمل يربحون وفي حال اهمالهم لم يكسبوا شيئاً، ووجه الشبه صورة منتزعة من أحوال البيع والشراء ، الربح و الخسارة ، فصورة الدين عند هؤلاء الناس ، صورة كسب ، وهي موازية للربح والخسارة في التجارة ، فالدين هنا ضرب من المادية لا المحبة والروحانية .

ويتحدث الشاعر عن مفهومه الفلسفي والفكري العميق لمعنى الروح ، وعلاقتها بالجسم ، فغاية الروح البحث وراء ماهيّة الروح ، فلا تستطيع المظاهر المادية الاعلان عنها وعن وجودها ، فالروح هي الكمال الخالد الذي لا يعرف التلاشي والفناء (غزوان ،2000م: 43):

وغاية الرُّوح طيُّ الرُّوحِ قد خُفِيّت      فلا المظاهر تبديها ولا الصورُ

فذا يقول هي الأرواح إذا بلغت          حد الكمال تلاشت وانقضى الخبرُ

كأنما هي أثمارٌ إذا نضجت             ومرت الريح يوماً عافها الشجرُ

التشبيه تمثيلي والمشبه هو قوله الروح ،حيث يشبه الروح بالثمر إذا نضج يسقط عند مرور الريح ،وأداة التشبيه( كأن )، فالصورة منتزعة من متعدد ، صورة سقوط الثمار الناضجة ،أمام صورة الأرواح التي بلغت حد الكمال ، فحان وقت الرحيل في كليهما ، يقول د. هنيدي : ” إن غاية الوجود مضمرة في سر الروح الكلي الخالد وما الجسد للروح إلا بمثابة الرحم للجنين واليوم الذي تفارق فيه الروح الجسد هو يوم الولادة فالموت للإنسان هو بداية الحياة الخالدة ” ( مجلة الموقف الأدبي ، دون تاريخ :4).

إن ثنائية الوجود والعدم شغلت بال جبران كما شغلت بال أدباء آخرين ، إذ تتجلى قدسية الحياة من خلال قدسية الموت، فالموت كالبحر لا يستطيع اجتيازه إلّا من خفت أوزاره ، أما المحمّل بالأثقال الدنيوية وآثامها فمنحدر لا محالة في الموج والبحر الهائج ، فالموت كما يبدو لجبران فناء للجسد لكنه بقاء للروح ونسخ ديمومتها في عالم الطبيعة البريئة من الموت والقبور كما يراها صوته الثاني ، ويبقى غناء هذه الطبيعة هو الملاذ الروحي والوجداني لجبران وسر خلودها ، وأنين نايها وسر بقائها بعد فناء الوجود والعدمية (غزوان ، 2000م :45،44):

فالموتُ كالبحرِ من خفت عناصره         يجتازه وأخو الأثقالِ ينحدرُ

يشبه الموت بالبحر تشبيه التمثيل  ، لا يقطعه إلّا من كانت أثقاله وأحماله قليلة، وهنا يقصد الذنوب والأعباء الدنيوية التي يغرق الانسان فيها، التي تثقل روحه عند الوفاة ،كالذي يحمل كثيراً على ظهر السفينة فهو منحدر وغارق  لا محالة ،و أداة التشبيه ( الكاف) .

ب– التشبيه المركب :

تكتنز قصيدة المواكب بنوع آخر من الصور التشبيهية، وهو التشبيه المركب ويُعرَّف بأنه : “التشبيه الذي يتحد فيه المشبه والمشبه به ويكون مركباً من شيئين أو أكثر” (مطلوب ،2007: 342) ،ومن أمثلته(جبران، 2014: 199) :

فالناسُ إن شربوا سروا كأنهم          رهنُ الهوى وعلى التخديرِ قد فطروا

فالتشبيه هنا مركب ،يشبه الناس في سرورهم بحالة الشرب والسكر كالأسرى ويقصد هنا أسرى الحب( رهن الهوى استعارة مكنية تشخيصية) ،فهم كالأسرى لهذه الخمرة لتمكنها من التحكم في أفعالهم وأقوالهم، وأداة التشبيه (كأن).

إن شدة تعلق جبران بروحانية الحب جعلته مرشداً وواعظاً اجتماعيّاً ، فهو يرفض الخلاعة والحب الماجن، فالحب رمز للسمو الانساني لكنه في هذه البيئة لم يعد سوى متعة سريعة مبتذلة تقود الأجسام إلى الفراش بدل أن تقود الأرواح إلى منازل الرفعة والسمو، ومن ذلك قوله(جبران ،2014: 202) :

والحبُّ إن قادَتْ الأجسام موكبه        إلى فراشٍ من الأغراضِ ينتحرُ

كأنه ملكٌ في الأسرِ مُعتقلٌ            يأبى الحياةَ وأعوانٌ له غدروا

يأبى الحُب العيش إلا أن يكونَ طليقاً بجناحين يُحلّق بهما ، فنشوة الحب المعنوية تقتلها النشوة الحسيّة (المادية )،  والشاعر يشبه الحب بالملك الذي وقع في الأسر معتقل، وقد خانه الأعوان، فالغدر المتأتي من المحبين موازي لغدر الأعوان للملك ، والحالان يؤديان للانتحار والقتل ، و أداة التشبيه( كأن) ، ويقول(جبران،2014 : 203):

فالأُلى سادو ومادوا          وطغوا بالعالمين

أصبحوا مثل حروفٍ       في أسامي المجرمين

صورة الطاغين في الأرض (الأُلى ) المشبه ،الّذين عثوا في الأرض فسادً وتمادوا قد تلاشت و لم يبقَ منها شيء في عالم الوجود ، فلكل ظالم نهاية ،فهي كالحروف(المشبه به ) في أسامي المجرمين، أي إنها ذكرى غير طيبة وأداة التشبيه:( مثل ).

ج– التشبيه المجمل :

والتشبيه المجمل هو لون آخر تتألق به مطولة جبران ويُعرَّف بأنه :”التشبيه الذي لم يذكر فيه وجه الشبه، ومنه ما هو ظاهر يفهمه كل أحد مثل :زيد أسد ،أي : في الشجاعة، ومنه ما هو خفي لا يدركه إلّا من له ذهن يرتفع عن طبقة غير المثقفين” (مطلوب،2007: 341،340)، من ذلك قوله (جبران ،2014: 199):

إنَّما التخديرُ ثديٌ              وحليبٌ للأنام

تشبيه مجمل، ولا يوجد وجه شبه، إذ يشبه التخدير بالثدي، والأداة محذوفة ،أي: التخدير كالثدي.

ويربط الشاعر بين المعرفة الإنسانية وضرورة التمسك بها في لوحة العلم والمعرفة ، ولكنه يرى الواقع ضرباً من السخرية واضغاث أحلام ، فالعالم الحليم منبوذ ومحتقر ، بينما يجب أن يكون مثالاً يُحتذى به ، فيما يرى أن الطبيعة –الغاب خالية من العالم والجاهل ، ويجد في نقاء الطبيعة وصفاتها راحته النفسية ، من هنا فهو يشبه علم الناس بالضباب الكثيف في المساحة المفتوحة بقوله( جبران،2014: 201):

إن علمَ الناسِ طراً           كضبابٍ في الحقول

يشبه علم الناس بأجملهم بالضباب الذي في الحقول الواسعة ، شيء غير ملموس ،فلا يمكن الامساك به ، دلالة التلاشي وعدم الامساك ، وأداة التشبيه( الكاف)، وقوله( جبران،2014: 202):

إن بالأنهارِ طعماً                مثلُ طعم السلسبيل

يشبه الطعم الذي بالأنهار مثل طعم السلسبيل، الحلو المذاق ، وسهل المرور في الحلق لعذوبتهِ، والأداة       ( مثل)، فالطبيعة بكل معالمها جميلة عذبة سائغة .

وفي لوحة الحب تتجلى لنا نظرة الشاعر لتسمو بالحب إلى النظرة الروحية البعيدة عن الحب الجسدي ، وحين يتحدث عن الحب يرى فيه أشكالاً مختلفة ، بيدَ أن أكثرها شيوعاً عند البشر هو الحب الجسدي الذي يشبه العشب الأجرد في الحقل بلا زهر ولا ثمر ، وهذا الحب هو مصدر فناء الإنسان ،بقوله ( جبران،2014: 202):

والحبُ في الناسِ أشكالٌ وأكثرها                           كالعشبِ في الحقلِ لا زهرٌ ولا ثمرُ

يشبه الحب في الناس كالعشب في الحقل الأجرد الخالي من الزهر والثمر ،فهو حب غير مثمر ( حب مادي لا معنوي )، وأداة التشبيه( الكاف) ، صورة التلاشي والفناء والعدم ؛لأن الحب هنا مادياً يتلاشى بالوصول إلى الجسد البالي الفاني ، ويعود ليشبه الحب في الناس بالمرض بقوله( جبران،2014: 203) :

أن حب الناس داءٌ              بين لحمٍ وعظام

فيشبه حب الناس بالمرض، الداء المتوغل بين اللحم والعظام، والأداة محذوفة ، فتتجلى لنا صورة الحب المادية في الطبيعة البشرية فصورة الحب كالداء بين العظام يزول بزوال الأعراض المرضيّة . قال(جبران،2014: 205):

فالذي عاشَ ربيعاً       كالذي عاشَ الدهور

يشبه الشاعر الذي عاش سنة واحدة كالذي عاش الدهور كلها ،والأداة( الكاف) ، فتبرز صورة الحياة الإنسانية من خلال وجه الشبه المستخلص ( صورة التساوي) :

عاش ربيعاً  ←= →  عاش الدهور

قال( جبران، 2014: 206):

وسكوتُ الليلِ بحرٌ               موجه في مسمعك

يشبه سكوت الليل وهدوءه بالبحر وأمواجهِ المسموعة  ، والأداة محذوفة، ووجه الشبه المستخلص ما يُخبئه الأثنين أمواج البحر وسكوت الليل، والأسرار في كليهما ، وهي صورة تعكس فلسفة جبران  .

د- التشبيه البليغ :

ويعرَّف بأنه : ” التشبيه الذي يحذف فيه وجه الشبه وأداة التشبيه، وسُمِّيَّ مثل هذا النوع بليغاً؛ لما فيه من اختصار من جهة ،وما فيه من تشبيه وتخيل من جهة أخرى، لأن وجه الشبه إذا حُذِفَ ذهب الظن فيه كل مذهب وفتح باب التأويل “(مطلوب ، 2007: 330).

ينتقل الشاعر إلى مفهوم الحياة فيرى أن قليلاً من يرضى بالحياة كما هي ببساطتها وعفويتها بلا قيود الضجر ، وبهذه النظرة اليائسة يحوّل جبران نهر الحياة إلى كؤوس الوهم (الخمرة) التي يشربها الإنسان فيحس بالخدر والرّاحة الوهمية التي هي تعويض عن المرارة واليأس ، فالناس إذا شربوا وصلوا إلى النشوة الوهميّة (غزوان ،2000: 35،34)، وبهذا فهم قد حوّلوا الماء المقدس الذي يمدهم بأسباب الحياة إلى خمرة تنسيهم غاية وجودهم (مجلة الموقف الأدبي:2) ومن ذلك قوله( جبران،2014: 199):

لذاكَ قد حولوا نهر الحياةِ إلى         أكواب وهمٍ إذا طافوا بها خدروا

يشبه الحياة بالنهر (نهر الحياة) تشبيه بليغ، فالحياة تشبه النهر في جريانهِ بلا توقف ، فهي تمشي دون توقف، و يعود ليشبهها بالأكواب المليئة بالوهم، فلا حقيقة لها ، وهي نظرة فلسفية تأملية إلى الحياة وعدم جديتها ،و حقيقيتها . وعلى عكس اللوحات يبدأ جبران لوحته الأخيرة بصوت (الطبيعة – الغاب )، ويرى أن الطبيعة بما فيها هي الملاذ الوحيد عن العالم المليء بالزحام والجدل والضجيج والنفاق ، فالناس كالسطور المكتوبة من الماء ، بقوله (جبران،2014: 206):

إنما الناسُ سطورٌ             كُتِبَت لكن بماء

يشبه الناس بالسطور المكتوبة على الورق ،لكنها مكتوبة بالماء، فسرعان ما تتلاشى ويختفي أثرها ، دلالة عدم البقاء ،التلاشي والفناء (الرَّحيل )، وبهذه النظرة الفلسفية التأملية نراه يلجأ إلى الطبيعة بما فيها ليتخذها سكناً له بقوله( جبران،2014: 206):

هل جلستَ العصر مثلي      بين جفنات العنب

والعناقيدُ تدلت                 كثريات الذهب

فهي للصادي عيونٌ           ولمن جاعَ الطعام

وهي شهدٌ وهي عطرٌ            ولمن شاءَ المُدام

يشبه عناقيد العنب المتدلية، كالعيون ، (عيون الماء ) للعطشان ،والطعام للجائع ،والشهد، والعطر، والمدام  ( الخمرة)، وهو تشبيه تعدد فيه المشبه بهِ، فعلى نقيض ما جاءت به حياة البشر الصاخبة بما فيها من قصور وبيوت وتشييد وعمران يلجأ إلى الطبيعة المليئة بالسواقي والصخور الجميلة فيُصوّر عناقيد العنب المتدليّة والعشب الأخضر.

ھالتشبيه المفصل :

ويعرّف بأنه :هو التشبيه الذي يُذكر فيه وجه الشبه(مطلوب، 2007: 348) .

إن الدين عند الناس كالحقل الأجرد لا يزرعه إلّا أصحاب الغايات والمنافع ، فهو وسيلة لا غاية ، فمنهم من يرجو الجنة من تدينه ومنهم من هو جاهل وخائف من نار جهنم فإن عبادة هؤلاء متأتية من عقاب البعث ، ولولا رجاؤهم للثواب لكفروا ، فيصف الدين بهذه الحالة كأنه ضربٌ من التجارة القائمة على الربح والخسارة ، فالمواظبة على الدين ربح والإهمال خسارة ، بل أن دين الناس كالظل بقوله( جبران،2014: 199) :

أن دين الناس يأتي           مثل ظلٍ ويروح

يشبه دين الناس بالظل الذي لا يدوم على حالة واحدة ،وإنما يتلاشى أو يتغير مكانه، دلالة عدم المكوث والاستمرار (عدم الثبات) ، وأداة التشبيه (مثل )،ووجه الشبه المستخلص (حالة الاتيان والرَّواح – الظهور والاختفاء -بالنسبة لدين الناس )، أما عن حقوق الناس فهي كأوراق الخريف الصفراء بقوله( جبران،2014: 200):

وحقوقُ الناسِ تُبلى                   مثلُ أوراق الخريف

يشبه حقوق الناس مثل أوراق الخريف ،ووجه الشبه في حالة أن هذه الحقوق تذهب( تُبلى) ،وتصبح غير مُجدية، أي: عندما تصبح حقوق الناس معدومة( غير موجودة ) ،هي كأوراق الخريف الصفراء البالية التي تسقط ؛لأنها عديمة الفائدة، دلالة انتهاء الصلاحية في كل من حقوق الناس وأوراق الخريف ، وأداة التشبيه: ( مثل )، والعدل بين الناس كالثلج يذوب ( لاوجود له )بقوله( جبران،2014: 200):

إن عدلَ الناسِ ثلجٌ              إن رأتهُ الشمسَ ذاب

يشبه عدل الناس بالثلج الذي سرعان ما يذوب عند تعرضه لأشعة الشمس ، ووجه الشبه ( حالة ذوبان الثلج عند تعرضه لأشعة الشمس )،دلالة عدم وجود العدل بين الناس ، فمفهوم العدل يسخر منه جبران لعدم وجوده وتحققه على أرض الواقع ،  والأداة محذوفة ، وأما عن العزم في الناس فهو زائف لا وجود له بقوله( جبران،2014: 200):

إن عزمَ الناسِ ظلٌ         في فضا الفكرِ يطوف

يشبه عزم الناس بالظل الذي يطوف في فضاء الفكر، لكنه لا يثبت، فعزم الناس غير موجود، وقوله :(فضا الفكر ) تشبيه بليغ ، فيشبه الفكر من ناحية السعة بالفضاء المفتوح ، والأداة محذوفة ،ووجه الشبه :عدم الثبات ، وصورة الحب الجبراني تتجلى لنا في قوله( جبران،2014: 203):

والحبُ في الروحِ لا في الجسمِ نعرفه     كالخمرُ للوحيِ لا للسكرِ ينعصرُ

فيشبه الحب في روحانيته بالخمر الذي يُشرب لكي يوحي بالسُكر، لكنه لا يُسكِر ،والاداة (الكاف )،ووجه الشبه هنا غير مألوف إنما هو من ابتكار الشاعر روحانية الحب والخمر، فنشوة الحب الروحية مشابهة للخمرة الروحية التي توحي بالسكر ولا تسكر صاحبها  وفي اللوحة التاسعة ينتقل إلى اللطف والرّقة الإنسانية ، والخبث الذي له نفسان هما :الجبن ،والنذالة التي تفوح منها رائحة الحقد ضد الإنسان ، فجبران يحتقر النفاق والمنافق ، ويرى ذلك ضرباً من ضروب التخلف المدني ، فيقول ( جبران،2014: 201):

واللطفُ في الناسِ أصدافٌ وإن نعمت     أضلاعها لم يكن في جوفها الدررُ

فيشبه لطف الناس بالأصداف التي تبدو ناعمة في ظاهرها ،لكننا لا نعرف بواطنها، ورُبَّما كان باطنها العكس من ذلك، والأداة هنا محذوفة ، دلالة الاختلاف بين المظهر والجوهر ، وعن جمال الطبيعة يقول    ( جبران،2014: 206):

والعناقيدُ  تدلت           كثريات الذهب

يشبه عناقيد العنب، بثريات الذهب، والأداة( الكاف )،ووجه الشبه المستخلص هو حالة تدلي العناقيد والثريات الذهبية .

2-الصورة الاستعارية :

أحد أهم الأساليب البيانية لتشكيل الصورة الشعرية ، والتي تُحقق للشاعر القدرة على تجاوز المعنى المحدود من خلال اختراق العوالم اللامتناهية بخيالهِ ،وبناء الجديد واللامألوف ،عبر تشكيل لغوي يوحد الأشياء ويجعلها جنساً واحداً (المعمار،2022: 176)، وقد عَرَّفَها الجرجاني ت(471 ھ )بقوله : “الاستعارة هي ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الاصل ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه، أو امتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ولا يتبين في أحدهما اعراض عن الآخر “(الرماني، دون تاريخ : 85).

 الاستعارة المكنية : سماها القزويني الاستعارة بالكناية، وحدها قائلاً : “ويضمر التشبيه في النفس ، فلا يُصّرِح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ويدل عليه بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به من غير أن يكون هناك أمر ثابت حساً أو عقلاً أجري عليه اسم ذلك الامر فيسمى التشبيه استعارة بالكناية “(مطلوب والبصير ،2009: 342)،ومن أمثلة الاستعارة المكنية في المطولة قول الشاعر( جبران،2014: 198) :

فالشتا يمشي ولكن            لا يجاريه الربيع

فقد استعار الشاعر للشتاء المشي الذي هو لازمة من لوازم الانسان، فحذف المشبه به،( الانسان ) ،وأبقى على شيء من لوازمه وهو المشي ، وقوله( جبران،2014: 198):

وغيومُ النفسِ تبدو       من ثناياها النجوم

الاستعارة مكنية يشبه النفس الانسانية في حزنها  بالغيوم في السماء،(دلالة التحمّل)، فحذف المشبه به ،وأبقى على شيء من لوازمه وهي الغيوم ، وقوله( جبران، 2014: 198):

وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تُحركها      أصابعُ الدهرَ يوماً ثمَ تنكسرُ

الاستعارة مكنية، حيث شبه الانسان بالآلة التي تُحركها أصابع الدهر ، وهو بذلك قد جعل للدهر أصابع وحذف المشبه به(الانسان )، وأبقى على شيء من لوازمه، (الاصابع )، فالإنسان هو الذي يملك الاصابع وليس الدهر ، ثم سرعان ما تتعطل هذه الآلة (البشر) ويغدو سقيماً ، فتنكسر الآلة (البشرية) ،وقوله( جبران،2014: 202):

والحب إن قادت الأجسام موكبهُ            إلى فراشٍ من الأغراضِ ينتحرُ

ففي قوله: (الحب ينتحر) استعارة مكنية تشخيصية ، حيث يصوّر الحب المعنوي الشعوري اللاملموس بالشخص المادي الذي ينتحر ، عند تحقق الاغراض المادية منه ، فيُقتل الحب، وقوله( جبران،2014 : 204):

كالنهر يركض نحو السهلِ مكتدحاً          حتى إذا جاءهُ يُبطي ويعتكرُ

فيصوّر النهر في جريانه وتشوقه للسهل ،بصورة إنسان يركض ، واستعمل التعبير: (مكتدحاً) دلالة التعثر في الركض ، والتشوُّق والتلهف إليهِ ، وهي صورة حسية ملموسة مرئية ، في ركض الانسان وسعيه لغاياته وللسعادة ، التي ما إن وصل إليها حتى يَفتَّر (يبرد) فلا تعود تشوقه تلك السعادة ، وتلك هي طبيعة البشر الذي يظل يسعى للسعادة وحين ينالها تغدو أمراً اعتيادياً ، وقوله( جبران،2014: 205):

أعطني الناي وغنِّ                  فالغنا جسمٌ يسيل

فيتعاضد التشبيه والاستعارة التصريحية في اخراج صورة الناي وغنائه ، فيشبه الجسم بالماء وحذف المشبه وأبقى على شيء من لوازمه السيلان ، فهو كالماء الذي يسيل وينزل من مكان مرتفع ، وقوله( جبران،2014: 206):

وسكوت الليل بحرٌ                  موجهُ في مسمعك

وبصدر الليلِ قلبٌ                  خافقٌ في مضجعك

فالليل يسكت ويتشخص ، فيستعير له من لوازم الانسان النطق والسكوت ، ثم إنه يستعير اخرى الصدر والقلب الذي يخفق ، فيأبى الليل إلا الأنسنة في مواكبه ،وقوله( جبران،2014: 199):

والعدلُ في الارض يُبكي الجن لو سمعوا             بهِ ويستضحك الأموات لو نظروا

“بكاء الجن ” و” ضحك الأموات ” ..لو سمعوا ، لو نظروا ، استعارات مكنية تشخيصية ، فيعطيها من الصفات الانسانية الحيّة ،ما يجعلها قادرة بهِ على الضحك والبكاء والسمع والنظر .

 3-الصورة المجازية :

المجاز لغة : مادة جوز : ” جزت الطريق جوازاً ومجازاً والمجاز المصدر والموضع ”

اصطلاحاً : نقل الألفاظ من محل الى محل (مطلوب والبصير،2009: 314،313)،ويرى ابن الاثير (ت637ھ)أن المجاز :” هو ما أُريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة ، وهو مأخوذ من جاز من هذا الموضع إلى هذا الموضع ،إذا تخطاهُ إليهِ ، فالمجاز إذاً اسم للمكان الذي يُجاز فيه كالمعاج والمزار وأشباههما ، وحقيقته هي الانتقال من مكان إلى آخر ،فجُعِلَ ذلك لنقل الألفاظ من محلٍ الى محلٍ”(ابن الأثير، دون تاريخ : 85،84) ، ومن خلال دراستنا للمطولة نجد أن هناك صوراً مجازية أسهمت في بناء الهيكل العام للقصيدة، ومنها المجاز العقلي الاسنادي ، فيقول فيه(جبران،2014: 199):

والعدلُ في الناسِ يُبكي الجنَ لو سمعوا          بهِ ويستضحك الأموات لو نظروا

مجاز عقلي يصوّر العدل الذي يسود الارض، لو سمع الجن به يبكون، والاموات لو نظروا إليه يضحكون ،دلالة على عدم وجود العدل في هذه الارض  ، ويقول( جبران،2014: 206):

هلْ تحممتَ بعطرٍ              وتَنشفتَ بنور

مجاز عقلي، فالشاعر هنا يسأل الناس هل تحمموا بعطر؟ وتنشفوا بنور؟، والحقيقة أن العطر ليس للاستحمام، والنور ليس للتنشيف ،إنما هذا مجازا ، ويقول(جبران،2014: 206):

وشربتَ الفجرَ خمراً        في كؤوسٍ من أثير

مجاز عقلي فالخمر لا يشرب في كؤوس من أثير، فهي صورة مجازية .

 

4– الصورة الكنائية :

والكناية لون آخر من ألوان الفنون البيانية التي تُزيّن القصيدة ،ويُعرِّفها عبد القاهر الجرجاني (ت471ھ) بقولهِ:” أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني ، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ، ولكن يجيء الى معنى هو تاليه وردفه في الوجود ، فيومئ به إليه ، ويجعله دليلاً عليه “(الجرجاني ،دون تاريخ: 66) ،ويُعرِّفها القزويني (ت739ھ) بقولهِ :” الكناية لفظٌ أريدَ به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذٍ “(القزويني، دون تاريخ: 241)، ومن أمثلتها في المطولة قوله( جبران،2014: 198):

فإن ترفعتَ عن رغدٍ وعن كدرٍ            جاورتَ ظل الذي حارتْ بهِ الفِكَرُ

فتبرز الكناية في قولهِ :”جاورت ظل الذي حارت به الفكر” ،كناية عن موصوف “الله” تعالى، فلا يُصرّح بلفظهِ تعالى ، الذي حارت البشرية في عظمتهِ وقدرتهِ ، بل يذكر اللفظ المجاور ، ويختار أن يُكني عنه، وقوله( جبران،2014: 198):

وغيوم النفس تبدو                 من ثناياها النجوم

ف”غيوم النفس” كناية عن موصوف” الحزن ” ، وقوله( جبران،2014: 205):

والجسمُ للروحِ رحمٌ تستكِنُ به                  حتى البلوغ فتستعلي وينغمِرُ

فهي الجنين وما يوم الحمام سوى             عهد المخاض فلا سقطٌ ولا عسرُ

فيشبه الجسم بالرحم الذي تسكن الروح في داخلهِ ، فهي بمثابة الجنين الذي يكبر بداخل هذا الرحم ، حتى يحين موعد الولادة فيخرج من هذا الرحم ، ويكني ب”يوم الحمام” عن عملية خروج الروح من الجسم ، والوفاة، ليُشبهها ب”عهد المخاض” ،الولادة ، يوم الحمام = عهد المخاض ، فالاثنان فيهما عملية خروج ، خروج الرُّوح ، وخروج الطفل من الرَّحم ، وقوله (جبران،2014: 199):

والعدل في الارض يبكي الجن لو سمعوا             بهِ ويستضحك الأموات لو نظروا

فبكاء الجن كناية عن صفة عدم وجود العدل في هذه الأرض .

5-التضاد :

التضاد ،الضد : كل شيء ضاد شيئا ليغلبه ،والسواد ضد البياض ،والموت ضد الحياة ،والليل ضد النهار إذا جاء هذا ذهب ذاك(ابن منظور، دون تاريخ: 9/25)،والتضاد أن يجمع بين الضدين مع مراعاة التقابل (الجرجاني،1938: 53)، والتضاد هو التطبيق والتكافؤ والطباق والمطابقة والمقاسمة (المطرزي ، 1272ھ:19)، وقصيدة المواكب تزخر بالتضاد، ومنها قوله( جبران،2014: 198):

الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جبروا      والشرُ في الناسِ لا يُفنى وإن قُبروا

يظهر التضاد ،في قوله 🙁 الخير / الشر ) ،طباق ، وتظهر صورة التقابل بالضد بين الخير والشر من خلال الصورة التي يرسمها للمقارنة بينهما ف : الخير ← مصنوع ، في حالة الجبر ، و الشر ← لا يفنى ، حتى في حالة الموت والوصول إلى القبر ، وهي صورة تحمل دلالة المبالغة في الوصف ، وقوله( جبران،2014: 198):

والسرُ في النفسِ حزنُ النفسِ يسترهُ     فإن تولى فبالأفراح يستترُ

فيظهر التضاد في قوله : (الحزن / الفرح ) هي صورة طباق، وقوله( جبران،2014:199):

والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجن لو سمعوا         بهِ ويستضحك الأموات لو نظروا

يظهر التضاد في قوله : يبكي  /يستضحك ، سمعوا / نظروا ، وهي صورة مقابلة ،وقوله(جبران،2014: 201):

والحرُ في الأرضِ يبني من منازعه          سجناً له وهو لا يدري فيُؤتَسَرُّ

التضاد في قوله :الحرُ /الأسر/السجن، وقوله( جبران،2014: 206):

أعطني الناي وغنِ                         وأنسَ داءً ودواء

التضاد في قوله : داءٌ /دواء ، طباق، وقوله( جبران،2014: 207):

فالذي يحيا بعجزٍ                        فهو في بطئٍ يموت

يظهر التضاد بين الأفعال المضارعة في قوله : يحيا / يموت، واستعمال الأفعال المضارعة تعطي دلالة الاستمرارية .

المبحث الثاني

 الدراسة الموسيقية

1-الإيقاع الخارجي :

تُعد الموسيقى هي روح الشعر وبدونها يغدو النص جامداً لا حياة فيه، ولا يستطيع أن يشد القارئ لمتابعته والتفاعل معه ، فالقارئ إنما يستجيب استجابة مباشرة عندما تسهم الموسيقى في احداث الايقاعات النغمية في انساق النص سواء أكانت تلك الايقاعات داخلية تنبع من تجانس وتكرار بعض الحروف والمفردات التي تولد ايقاعا داخل النص (عصفور، دون تاريخ: 377)،وقد حدثت تغييرات في القصيدة العربية لاسيما في العصور الاندلسية من تجديد في الاوزان العروضية ، وعندما نصل إلى الشعر المهجري في العصر الحديث فإن الدكتور إبراهيم أنيس يرى: أن المهجريين استطاعوا أن يضيفوا للشعر أنغاماً وألحاناً جديدة ، فتارةً ينظمون على طريقة الموشحات الاندلسية ، وطوراً يبتكرون ويجددون في نظام القوافي (أنيس،1972: 287)،أي: أن المهجريين لم يتقيدوا بنظام الموشحات ، ولم يتوقفوا عندها ، بل كانت الموشحات وسيلة الى اكتشاف طرق جديدة في مجال تجديد شكل القصيدة الحديثة (عيد، 1975: 40)،وجبران خليل جبران أحد أهم أعمدة الشعر الحديث لاسيما الشعر المهجري وقد نظم أشعاره على منوال التجديدات الموسيقية والمطلِع على نتاجه الشعري ، على الرغم من قلته ، يرى أن ذلك النتاج يتضمن نسيجاً على وفق بحور وأوزان متنوعة ،وقصيدة المواكب أحد تلك النتاجات التي نظمها على أكثر من وزن شعري ، فهي قصيدة ذات حوار فلسفي ذي صوتين ، صوت الشيخ المجرب الحكيم ، الذي يُمثل الحكمة الناضجة المستمدة من تجربة الحياة وقد اتخذ” البحر البسيط” نغماً له (غزوان،2000: 24)،

والذي تفعيلاته(عريبي، دون تاريخ: 76):

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن            مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

ومن أمثلته (جبران،2014: 198):

الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جبروا        والشرُ في الناسِ لا يُفنى وإن قبروا

/0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0            /0///0 /0//0 /0/0//0 ///0

وصوت الشاب الذي يرمز الى الطبيعة بعفويتها وقد اتخذ “مجزوء الرمل” نغماً له(غزوان،2000: 24)،

والذي تفعيلاته(عريبي، دون تاريخ: 91):

فاعلاتن فاعلاتن                 فاعلاتن فاعلاتن

ومن أمثلته( جبران،2014: 199):

أعطني الناي وغنِّ           فالغنا خير الشراب

/0//0/0 ///0/0            /0//0/0 /0//0/0

ولعل اختيار جبران لبحرين مختلفين في مواكبه يكون قد أوقع تعبيراً عن اتجاهين مختلفين للحياة : “الحياة المعقدة في ظلّ الحضارة المادية وقيمها الزائفة”، “والحياة الاصلية الحقيقية بين أحضان الطبيعة حيث المساواة والمحبة والبُعد عن زخرف الحياة ونفاقها المصطنع “(غزوان،2000: 24).

2 -الايقاع الداخلي :

إن صلة الشعر بالموسيقى صلة مصيرية غير قابلة للفصل مطلقاً وهي صلة وثيقة تمتد في أغوار الجذور الاولى لنشأة الشعر، وتطورت هذه الصلة بتطور الفن الشعري حتى أصبح الشكل الشعري منظوماً ومحكوماً بهندسة موسيقية منظمة لا تقبل الخلل (عبيد،2001: 57)،والايقاع الداخلي يختلف عن الايقاع الخارجي في عدم ارتكازه على عنصر الصوت بمثل تلك الدرجة التي يرتكز عليها الايقاع الخارجي ،وهو بذلك لايهملها  بل يُخصبها بالمداخلة مع مستويات اخرى أكثر اتصالا بمكونات النص الاخرى: كاللغة ،والصورة،  والرمز والبناء العام ،ومن ثَمَ فإن الايقاع الداخلي يؤدي دوراً أساسياً في ربط الصلة بين بُنى النص وتماسك أجزائه ومحو المسافة بين داخل النص وخارجه وشكله ومضمونه (عبيد،2001: 57)،ومن مظاهر الايقاع الداخلي في القصيدة الحديثة التكرار والجناس ، وقد حَفِلَّت مطولة المواكب بأنواع شتى من التكرار التي أسهمت في تماسك بنية الايقاع الداخلي للقصيدة .

أ-التكرار:

يُعرَّف مفهوم التكرار على أنه: ” أن يأتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء أكان اللفظ متفق المعنى أم مختلفاً ، أو أن يأتي بمعنى ثم يعيده وهذا من شرط اتفاق المعنى الاول والثاني فإن كان متحد الالفاظ والمعاني فالفائدة في إثبات تأكيد ذلك الامر وتقريره في النفس وكذلك إذا كان المعنى متحداً وإن كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفاً ،فالفائدة في الاتيان به للدلالة على المعنيين المختلفين(مطلوب،1989: 37)،و في ديوان المواكب تظهر  أنواع وصور للتكرار، منها التكرار باللفظ، ومنها التكرار بالحرف ،ومنها تكرار الجملة .

1-التكرار باللفظ :وهذه اللفظة إما أن ترد بنفسها ،وإما بما يشتق منها، وإما بما يراد منها ، ومن ذلك قول الشاعر في المقطع الثالث (جبران،2014: 199):

فالناسُ إن شربوا سروا كأنهم                 رهنُ الهوى وعلى التخديرِ قد فُطِروا

فذا يعربدُ إن صلى وذاكَ إذا                  أثرى وذاكَ بالأحلامِ يختمر

فالأرضُ خمارةٌ والدهرُ صاحبها             وليس يرضى بها غير الأُلى سكروا

ففي هذه الأبيات وردت الألفاظ التالية : خدروا ،شربوا ، التخدير ، يختمر ، خمارة ، سكروا ، وهي تمثل تكراراً بالترادف أو الاشتقاق ،وقد يحدث التكرار على مستوى البيت الواحد كقوله( جبران،2014: 200):

وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ           وقاتلُ الروحِ لا تدري به البشرُ

وقد يتكرر أكثر من لفظ على مستوى البيت كما نلاحظ في البيتين المتواليين كما في قوله(جبران،2014: 198):

والسرُ في النفس حزن النفس يستره        فإن تولى فبالأفراح يستترُ

والسرُ في العيش رغد العيش يحجبه       فإن أُزيلَ تولى حجبه الكدرُ

2-التكرار بالحرف :

ومن أمثلة التكرار بالحرف، قول الشاعر(جبران،2014: 199) :

التكرار ب لولا :

فالقومُ لولا عقابُ البعثِ ما عبدوا          رباً ولولا الثواب المرتجى كفروا

التكرار ب لو كقوله(جبران،2014: 199):

والعدلُ في الارضِ يُبكي الجن لو سمعوا بهِ         ويستضحك الأموات لو نظروا

3-التكرار بالجمل

ويظهر ذلك في عدَّة عبارات ، ومنها:( ليس في الغاباتِ )هذه العبارة تكررت في معظم المقاطع، كما أنها وردت بشكل آخر بقوله :(ليس في الغابِ )،كما نلاحظ تكرار شبه الجملة: (في الناسِ )في العديد من المطالع (والدين في الناسِ )، (والعدل في الناسِ )، (والعلم في الناسِ ).

2-الجناس :

الجناس والتجنيس والمجانسة والتجانس كلها ألفاظ مشتقة من الجنس ، فالجناس مصدر جانس والتجنيس تفعيل من الجنس، والمجانسة مفاعلة منه؛ لأن إحدى الكلمتين إذا شابهت الاخرى وقع بينهما مفاعلة الجنسية، والتجانس مصدر تجانس الشيآن إذا دخلا تحت جنس واحد(مطلوب،2007: 264)، ويظهر الجناس على نوعين :

1الجناس التام: وهو أن تتفق الالفاظ في أربعة أمور هي :أنواع الحروف، وأعدادها، وهيئاتها ،وترتيبها نحو قوله تعالى : (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة )(مطلوب،2009: 433)(سورة الروم:55) ، وقصيدة المواكب لا تخلو من ألفاظ متجانسة صوتياً ذات دلالة تصويرية ،كقول الشاعر: مجانساً بين (على) حرف الجر و(علا ) الفعل، وهذا يعد من أمثلة الجناس التام بقوله( جبران،2014: 205):

وكم على الأرضِ من نبتٍ بلا أرجٍ            وكم علا الأفقِ من غيمٍ ما به مطرُ

2-الجناس غير التام الناقص  :وهو أن يختلف اللفظان في أمرٍ واحد من الامور التي بنت الجناس التام  ويتفقان في سائرها (مطلوب،2009: 433)،ومن أمثلة الجناس الناقص قوله(جبران، 2014: 200):

وأفضل العلمِ حلمٌ إن ظفرت بهِ              وسرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا

فالجناس في قول الشاعر: (العلم، الحلم ).

وقول الشاعر(جبران،2014: 206) :

أعطني الناي وغنِ            وأنسَ داءً ودواء

الجناس في قوله :(داءٌ ، دواء ).

الخاتمة

بعد هذه المسيرة البحثية نعرض هنا أهم النتائج :

1-تضمنت المطولة ثماني عشرة لوحة شعرية ،  و كل لوحة تضمنت ثلاثة مقاطع ، عرض لنا الشاعر فيها مفاهيم عدة لاسيما التي تأثر بها من خلال قراءته  للأدب الانجليزي والأمريكي فقد كانت تلك المقاطع تتحدث عن الحياة والغاب والطبيعة والنفس والفلسفة والموت ،وهي من أهم خصائص المدرسة الرومانسية في الأدب الغربي .

2-تمخض عن الدراسة الفنية أن المطولة اتسمت ببعض الملامح البيانية التي عكست لنا صوراً شعرية أجاد الشاعر فيها لاسيما التشبيه الذي كان له الأثر الأكبر في عكس تلك الصور ، كما كان لجانب الاستعارة وفنونها حظ وافر في إبراز الصور الشعرية لاسيما الاستعارة المكنية ، ويُعد المجاز من العناصر البلاغية التي اعتمدتها المطولة، ولم تخلُّ من عنصر التضاد؛ فمضامين المطولة قد عكست الواقع بكل تناقضاته من هنا كان لابد من وجود ذلك العنصر لعرض تلك التناقضات وتصويرها .

3-حفلت الدراسة الفنية بدراسة الجانب الموسيقي الذي استندت إليه المطولة ،فقد كانت الاوزان الخفيفة هي عماد المطولة لاسيما ( مجزوء الرمل والبسيط )،وكان لهما الأثر الكبير في توليد موسيقى القصيدة من خلال تناوب ورودهما في المقاطع، وكان لعناصر بلاغية أخرى كالتكرار والجناس أثر في توليد الايقاعات الداخلية للقصيدة .

التوصيات :

1-الإهتمام بالدراسات الأدبية والنقدية لاسيما البلاغيّة منها من خلال التطبيق البحثي ؛ ليتسنى لطالب العلم الأدبي معرفة الفنون والجماليات الأدبية واللغويّة الثرية لأدبنا العربي ، وما يتمتع به من فنون زاخرة .

2- اظهار أهم مميزات المدرسة الرومانسية في الأدب المهجري ، التي مزجت بين الأدب العربي والغربي ، وأحدثت تلك النقلة في مسار القصيدة العربية من خلال ترقيق الألفاظ والولوج إلى عالم الطبيعة ، والمزج بين الطبيعة والنفس والتوحد معها .

3- تبني الجانب البلاغي والموسيقي في كتابة البحوث الأدبية  ؛ لما فيها من إبراز الظواهر التي يكتنز بها النص .

4-دعم الباحثين في الدراسات الأدبية من خلال المشاركة في المؤتمرات والندوات والورش الأدبية .

المصادر :

– القرآن الكريم

–   مطلوب ، أحمد ، والبصير، كامل حسن ، (2009م) البلاغة والتطبيق  ،  ط1،مطابع بيروت الحديثة.

–  ابن الأثير ، ضياء الدين ، قدمه : الحوفي، أحمد ،و طبانة ، بدوي ،(د.ت)، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، دار النهضة ، مصر.

–  ابن منظور ، جمال الدين محمد بن مكرم(ت711ھ) ، لسان العرب ،( مج :9)،دار صادر ،بيروت .

–  إسماعيل ، عز الدين ، (1972م )الشعر العربي المعاصر ، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية  ،ط2، بيروت ، دار العودة .

–  الجرجاني ، عبد القاهر(ت471ھ)،تحقيق : شاكر ، محمود محمد ،  دلائل الاعجاز.

–  الجرجاني ، علي بن محمد بن علي ،(1938م ) التعريفات ،القاهرة .

–  الجرجاني، عبد القاهر (ت471ھ)،تحقيق: ھ . ريتر ،اسطنبول،(1954م) أسرار البلاغة ، مطبعة وزارة المعارف .

–  الرماني ، أبو الحسن علي بن عيسى (ت386ھ)، القاهرة ،دار المعارف.

–  القرطاجني ، أبو الحسن حازم(ت684ھ) ،تحقيق: ابن الخوجة ، محمد الحبيب ،  منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،دار العرب الاسلامي .

–  القزويني ، الخطيب جلال الدين (ت386ھ) ،الايضاح ،تحقيق: جماعة من علماء الأزهر الشريف ، القاهرة.

–  القط، عبد القادر ، (1988م)،الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر ،الناشر مكتبة الشباب ، شارع اسماعيل بالمنيرة  .

–  المطرزي ، أبو مظفر ناصر (1272ھ)، الإيضاح في شرح مقامات الحريري ، إيران .

–  المعمار ، ورود خالد ،(2022م)،الصورة البيانية في شعر التصوف من القرن الثالث حتى نهاية القرن السادس الهجريين  ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، كلية الآداب .

–  الناعوري، عيسى ،(د.ت) ،  أدب المهجر ،ط2، دار المعارف بمصر.

–  أنيس ،إبراهيم ، (1972م)،موسيقى الشعر، مكتبة الأنجلو المصرية ، ط4،المطبعة الفنية الجديدة  .

–  جبران ، جبران خليل ، تقديم : الخوري ، سامي ج، (2014م)،المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية، كتابنا للنشر ، طبع في لبنان  .

–  جبران ، جبران خليل ، تقديم : نعيمة ، ميخائيل ، (1961م)،المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران ،دار بيروت ،دار صادر للطباعة والنشر ،بيروت .

–  راغب ، عبد السلام أحمد ، (2011م)،وظيفة الصورة الفنية في القرآن الكريم،ط1.

–  سراج ، نادرة جميل ، (د.ت)، شعراء الرابطة القلمية ، دار المعارف في مصر .

–  طبل ، حسن ، (2005م)،الصورة البيانية في الموروث البلاغي  ،مكتبة الايمان بالمنصورة ، ط1 ،بيروت .

– الصالح ، بشرى موسى ، (1994م)،الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ،ط1 ،المركز الثقافي العربي .

– عباس ، إحسان ،و نجم ، محمد يوسف ،(1982م)  الشعر العربي في المهجر، أمريكا الشمالية ،ط3، دار صادر ،بيروت .

– عبيد ، محمد صابر ، (2001م)، القصيدة العربية الحديثة ، عن البنية الدلالية والبنية الايقاعية ،من منشورات اتحاد الكتّاب العرب ، دمشق.

– عريبي ، محسن علي ، (د.ت)، المدخل الى علم العروض ، جامعة بغداد.

– عصفور ، جابر ، (د.ت)، مفهوم الشعر ، دراسة في التراث النقدي والبلاغي  ، المركز العربي للثقافة والعلوم.

– عيد، رجاء ،(1975م)، الشعر والنغم ،دار الثقافة ، القاهرة .

– غزوان ، عناد ، (2000م)، أصداء، دراسات أدبية نقدية ،كلية الآداب ،جامعة بغداد ،من منشورات اتحاد الكُتّاب العرب .

– قبش ، أحمد ،(1970م)،تاريخ الشعر الحديث  ،ط5.

– مجلة الأقلام ، تموز 1987م.

– مطلوب ، أحمد ،(1989م)،معجم النقد العربي القديم  ،ط1،دار الشؤون الثقافية العامة .

– مطلوب ،أحمد ، (2007م)معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، مكتبة لبنان .

– نيتشة ، فردريش ، ترجمة : مصباح، علي ، (د.ت) ، انساني مفرط في انسانيته، منشورات الجمل ، بيروت ، لبنان.

الملحقات :

قصيدة المواكب(جبران،1961: 198-207)

 

الخيرُ في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا
والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
وأكثر الناس آلاتٌ تحركها
أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ
فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ
ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ
فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها
صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر

ليس في الغابات راعٍ.. لا ولا فيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن.. لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً.. للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً.. سائراً سار الجميعْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا يرعى العقولْ
وأنينُ الناي أبقى.. من مجيدٍ وذليلْ

* * *
وما الحياةُ سوى نومٍ تراوده
أحلام من بمرادِ النفس يأتمرُ
والسرُّ في النفس حزن النفس يسترهُ
فإِن تولىَّ فبالأفراحِ يستترُ
والسرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ
فإِن أُزيل توَّلى حجبهُ الكدرُ
فإن ترفعتَ عن رغدٍ وعن كدرِ
جاورتَ ظلَّ الذي حارت بهِ الفكرُ

ليس في الغابات حزنٌ.. لا ولا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ.. لم تجىءْ معه السمومْ
ليس حزن النفس إلا.. ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
وغيوم النفس تبدو.. من ثناياها النجومْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا يمحو المحنْ
وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الزمنْ

* * *
وقلَّ في الأرض مَن يرضى الحياة كما
تأتيهِ عفواً ولم يحكم بهِ الضجرْ
لذلك قد حوَّلوا نهر الحياة إلى
أكواب وهمٍ إذا طافوا بها خدروا
فالناس إن شربوا سُرَّوا كأنهمُ
رهنُ الهوى وعَلىَ التخدير قد فُطروا
فذا يُعربدُ إن صلَّى وذاك إذا
أثرى وذلك بالأحلام يختمرُ
فالأرض خمارةٌ والدهر صاحبها
وليس يرضى بها غير الألى سكروا
فإن رأَيت أخا صحوٍ فقلْ عجباً
هل استظلَّ بغيم ممطر قمرُ

ليس في الغابات سكرٌ.. من مدامِ أو خيالْ
فالسواقي ليس فيها.. غير أكسير الغمامْ
إنما التخديرُ ثديٌ.. وحليبٌ للأنام
فإذا شاخوا وماتوا.. بلغوا سن الفطامْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا خير الشرابْ
وأنين الناي يبقى.. بعد أن تفنى الهضاب

* * *
والدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ
غيرُ الأولى لهمُ في زرعهِ وطرُ
من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ
ومن جهول يخافُ النارَ تستعرُ
فالقومُ لولا عقاب البعثِ ما عبدوا
رباًّ ولولا الثوابُ المرتجى كفروا
كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهمْ
إِن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

ليس في الغابات دينٌ.. لا ولا الكفر القبيحْ
فإذا البلبل غنى.. لم يقلْ هذا الصحيحْ
إنَّ دين الناس يأْتي.. مثل ظلٍّ ويروحْ
لم يقم في الأرض دينٌ.. بعد طه والمسيح
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا خيرُ الصلاة
وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تفنى الحياةْ

* * *
والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ

ليس في الغابات عدلٌ.. لا ولا فيها العقابْ
فإذا الصفصاف ألقى.. ظله فوق الترابْ
لا يقول السروُ هذي.. بدعةٌ ضد الكتابْ
إن عدلَ الناسِ ثلجُ.. إنْ رأتهُ الشمس ذابْ
أعطني الناي وغنِ.. فالغنا عدلُ القلوبْ
وأنين الناي يبقى.. بعد أن تفنى الذنوبْ

* * *
والحقُّ للعزمِ والأرواح إن قويتْ
سادتْ وإن ضعفتْ حلت بها الغيرُ
ففي العرينة ريحٌ ليس يقربهُ
بنو الثعالبِ غابَ الأسدُ أم حضروا
وفي الزرازير جُبن وهي طائرة
وفي البزاةِ شموخٌ وهي تحتضر
والعزمُ في الروحِ حقٌ ليس ينكره
عزمُ السواعد شاءَ الناسُ أم نكروا
فإن رأيتَ ضعيفاً سائداً فعلى
قوم إذا ما رأَوا أشباههم نفروا

ليس في الغابات عزمٌ.. لا ولا فيها الضعيفْ
فإذا ما الأُسدُ صاحت.. لم تقلْ هذا المخيفْ
إن عزم الناس ظلٌّ.. في فضا الفكر يطوفْ
وحقوق الناس تبلى.. مثل أوراق الخريفْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا عزمُ النفوسْ
وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تفنى الشموسْ

* * *
والعلمُ في الناسِ سبلٌ بأنَ أوَّلها
أما أواخرها فالدهرُ والقدرُ
وأفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرت بهِ
وسرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً
عن قومهِ وهو منبوذٌ ومحتقرُ
فهو النبيُّ وبُرد الغد يحجبهُ
عن أُمةٍ برداءِ الأمس تأتزرُ
وهو الغريبُ عن الدنيا وساكنها
وهو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا
وهو الشديد وإن أبدى ملاينةً
وهو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا

ليس في الغابات علمٌ.. لا ولا فيها الجهولْ
فإذا الأغصانُ مالتْ.. لم تقلْ هذا الجليلْ
إنّ علمَ الناس طرَّا.. كضبابٍ في الحقولْ
فإذا الشمس أطلت.. من ورا الأفاق يزولْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا خير العلومْ
وأنينُ الناي يبقى.. بعد أن تطفي النجومْ

* * *
والحرُّ في الأرض يبني من منازعهِ
سجناً لهُ وهو لا يدري فيؤتسرْ
فان تحرَّر من أبناء بجدتهِ
يظلُّ عبداً لمن يهوى ويفتكرُ
فهو الأريب ولكن في تصلبهِ
حتى وللحقِّ بُطلٌ بل هو البطرُ
وهو الطليقُ ولكن في تسرُّعهِ
حتى إلى أوجِ مجدٍ خالدٍ صِغرُ

ليس في الغابات حرٌّ.. لا ولا العبد الدميمْ
إنما الأمجادُ سخفٌ.. وفقاقيعٌ تعومْ
فإذا ما اللوز ألقى.. زهره فوق الهشيمْ
لم يقلْ هذا حقيرٌ.. وأنا المولى الكريمْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا مجدٌ اثيلْ
وأنين الناي أبقى.. من زنيمٍ وجليلْ

* * *
واللطفُ في الناسِ أصداف وإن نعمتْ
أضلاعها لم تكن في جوفها الدررُ
فمن خبيثٍ له نفسان واحدةٌ
من العجين وأُخرى دونها الحجرُ
ومن خفيفٍ ومن مستأنث خنثِ
تكادُ تُدمي ثنايا ثوبهِ الإبرُ
واللطفُ للنذلِ درعٌ يستجيرُ بهِ
إن راعهُ وجلٌ أو هالهُ الخطرُ
فان لقيتَ قوياًّ ليناً فبهِ
لأَعينٍ فقدتْ أبصارها البصرُ

ليس في الغابِ لطيفٌ.. لينهُ لين الجبانْ
فغصونُ البان تعلو.. في جوار السنديانْ
وإذا الطاووسُ أُعطي.. حلةً كالأرجوان
فهوَ لا يدري أحسنْ.. فيهِ أم فيهِ افتتان
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا لطفُ الوديعْ
وأنين الناي أبقى.. من ضعيفٍ وضليعْ

* * *
والظرفُ في الناس تمويهٌ وأبغضهُ
ظرفُ الأولى في فنون الاقتدا مهروا
من مُعجبٍ بأمورٍ وهو يجهلها
وليس فيها له نفعٌ ولا ضررُ
ومن عتيٍّ يرى في نفسهِ ملكاً
في صوتها نغمٌ في لفظها سُوَرُ
ومن شموخٍ غدت مرآتهُ فلكاً
وظلهُ قمراً يزهو ويزدهرُ

ليس في الغاب ظريف.. ظرفهُ ضعف الضئيلْ
فالصبا وهي عليل.. ما بها سقمُ العليلْ
إن بالأنهار طعماً.. مثل طعم السلسبيلْ
وبها هولٌ وعزمٌ.. يجرفُ الصلدَ الثقيلْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا ظرفُ الظريفْ
وأنين الناي أبقى.. من رقيق وكثيفْ

* * *
والحبُّ في الناس أشكالٌ وأكثرها
كالعشب في الحقل لا زهرٌ ولا ثمرُ
وأكثرُ الحبِّ مثلُ الراح أيسره
يُرضي وأكثرهُ للمدمنِ الخطرُ
والحبُّ إن قادتِ الأجسام موكبهُ
إلى فراش من الأغراض ينتحرُ
كأنهُ ملكٌ في الأسر معتقلٌ
يأبى الحياة وأعوان له غدروا

ليس في الغاب خليع.. يدَّعي نُبلَ الغرامْ
فإذا الثيران خارتْ.. لم تقلْ هذا الهيامْ
إن حبَّ الناس داءٌ.. بين حلمٍ وعظامْ
فإذا ولَّى شبابٌ.. يختفي ذاك السقامْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا حبٌّ صحيحْ
وأنينُ الناي أبقى.. من جميل ومليحْ

* * *
فان لقيتَ محباً هائماً كلفاً
في جوعهِ شبعٌ في وِردهِ الصدرُ
والناسُ قالوا هوَ المجنونُ ماذا عسى
يبغي من الحبِّ أو يرجو فيصطبرُ
أَفي هوى تلك يستدمي محاجرهُ
وليس في تلك ما يحلو ويعتبرُ
فقلْ همُ البهمُ ماتوا قبل ما وُلدوا
أنَّى دروا كنهَ من يحيي وما اختبروا

ليس في الغابات عذلٌ.. لا ولا فيها الرقيبْ
فإذا الغزلانُ جُنّتْ.. إذ ترى وجه المغيبْ
لا يقولُ النسرُ واهاً.. إن ذا شيءٌ عجيبْ
إنما العاقل يدعى.. عندنا الأمر الغريبْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا خيرُ الجنون
وأنين الناي أبقى.. من حصيفٍ ورصينْ

* * *
وقل نسينا فخارَ الفاتحينَ وما
ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرةٌ
وفي حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ
وفي انكساراتِ هذا الفوزُ والظفرُ
والحبُّ في الروح لا في الجسم نعرفهُ
كالخمر للوحي لا للسكر ينعصرُ

ليس في الغابات ذكرٌ.. غير ذكر العاشقينْ
فالأولى سادوا ومادوا.. وطغوا بالعالمين
أصبحوا مثل حروفٍ.. في أسامي المجرمينْ
فالهوى الفضّاح يدعى.. عندنا الفتح المبينْ
أعطني الناي وغنّ.. وانس ظلم الأقوياء
إنما الزنبق كأسٌ.. للندى لا للدماء

* * *
وما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ
يُرجى فإن صارَ جسماً ملهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً
حتى إذا جاءَهُ يبطي ويعتكرُ
لم يسعد الناسُ إلا في تشوُّقهمْ
إلى المنيع فإن صاروا بهِ فتروا
فإن لقيتَ سعيداً وهو منصرفٌ
عن المنيع فقل في خُلقهِ العبرُ

ليس في الغاب رجاءٌ.. لا ولا فيه المللْ
كيف يرجو الغاب جزءا.. وعَلىَ الكل حصلْ
وبما السعيُ بغابٍ.. أَملاً وهو الأملْ
إنما العيش رجاءً.. إِحدى هاتيك العللْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا نارٌ ونورْ
وأنين الناي شوقٌ.. لا يدانيهِ الفتور

***
غايةُ الروح طيَّ الروح قد خفيتْ
فلا المظاهرُ تبديها ولا الصوَرُ
فذا يقول هي الأرواح إن بلغتْ
حدَّ الكمال تلاشت وانقضى الخبرُ
كأنما هي أثمار إذا نضجتْ
ومرَّتِ الريح يوماً عافها الشجرُ
وذا يقول هي الأجسام إن هجعت
لم يبقَ في الروح تهويمٌ ولا سمرُ
كأنما هي ظلٌّ في الغدير إذا
تعكر الماءُ ولّت ومَّحى الأثر
ضلَّ الجميع فلا الذرَّاتُ في جسدٍ
تُثوى ولا هي في الأرواح تختصر
فما طوتْ شمألٌ أذيال عاقلةٍ
إلا ومرَّ بها الشرقيْ فتنتشرُ

لم أجد في الغاب فرقاً.. بين نفس وجسدْ
فالهوا ماءٌ تهادى.. والندى ماءٌ ركدْ
والشذا زهرٌ تمادى.. والثرى زهرٌ جمدْ
وظلالُ الحورِ حورٌ.. ظنَّ ليلاً فرقدْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا جسمٌ وروح
وأنينُ الناي أبقى.. من غبوق وصبوحْ

* * *
والجسمُ للروح رحمٌ تستكنُّ بهِ
حتى البلوغِ فتستعلى وينغمرُ
فهي الجنينُ وما يوم الحمام سوى
عهدِ المخاض فلا سقطٌ ولا عسرُ
لكن في الناس أشباحا يلازمها
عقمُ القسيِّ التي ما شدَّها وترُ
فهي الدخيلةُ والأرواح ما وُلدت
من القفيل ولم يحبل بها المدرُ
وكم عَلَى الأرض من نبتٍ بلا أَرجٍ
وكم علا الأفق غيمٌ ما به مطرُ

ليس في الغاب عقيمٌ.. لا ولا فيها الدخيلْ
إنَّ في التمر نواةً.. حفظت سر النخيلْ
وبقرص الشهد رمزٌ.. عن فقير وحقولْ
إنما العاقرُ لفظ.. صيغ من معنى الخمولْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا جسمٌ يسيلْ
وأنينُ الناي أبقى.. من مسوخ ونغولْ

* * *
والموتُ في الأرض لابن الأرض خاتمةٌ
وللأثيريّ فهو البدءُ والظفرُ
فمن يعانق في أحلامه سحراً
يبقى ومن نامَ كل الليل يندثرُ
ومن يلازمُ ترباً حالَ يقظتهِ
يعانقُ التربَ حتى تخمد الزهرُ
فالموتُ كالبحر مَنْ خفّت عناصره
يجتازه وأخو الأثقال ينحدرُ

ليس في الغابات موتٌ.. لا ولا فيها القبور
فإذا نيسان ولىَّ.. لم يمتْ معهُ السرورْ
إنَّ هولِ الموت وهمٌ.. ينثني طيَّ الصدورْ
فالذي عاش ربيعاً.. كالذي عاش الدهورْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا سرُّ الخلود
وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الوجود

* * *

أعطني الناي وغنِّ.. وانس ما قلتُ وقلتا
إنما النطقُ هباءٌ.. فأفدني ما فعلنا
هل تخذتَ الغاب مثلي.. منزلاً دون القصورْ
فتتبعتَ السواقي.. وتسلقتَ الصخورْ
هل تحممتَ بعطرٍ.. وتنشقت بنورْ
وشربت الفجر خمراً.. في كؤُوس من أثير
هل جلست العصر مثلي.. بين جفنات العنبْ
والعناقيد تدلتْ.. كثريات الذهبْ
فهي للصادي عيونٌ.. ولمن جاع الطعامْ
وهي شهدٌ وهي عطرٌ.. ولمن شاءَ المدامْ
هل فرشتَ العشب ليلاً.. وتلحفتَ الفضا
زاهداً في ما سيأْتي.. ناسياً ما قد مضى
وسكوت الليل بحرٌ.. موجهُ في مسمعكْ
وبصدر الليل قلبٌ.. خافقٌ في مضجعكْ
أعطني الناي وغنِّ.. وانسَ داْءً ودواء
إنما الناس سطورٌ.. كتبت لكن بماء
ليت شعري أي نفعٍ.. في اجتماع وزحامْ
وجدالٍ وضجيجٍ.. واحتجاجٍ وخصامْ
كلها إنفاق خُلدٍ.. وخيوط العنكبوتْ
فالذي يحيا بعجزٍ.. فهو في بطءٍ يموتْ

* * *

العيشُ في الغاب والأيام لو نُظمت
في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر
لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ
فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ
وللتقادير سبلٌ لا تغيرها
والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *