أكتوبر 29, 2024 12:29 ص
10

د. وسن مرشد محمود

جامعة تكنلوجيا المعلومات والاتصالات – العراق

Wsn.aljuborie@gmil.com

009647700830118

الملخص:

تتلخص فكرة البحث حول شعر الشاعر عدنان الصائغ ، والتوقف عند القصائد التي اعلن فيها تنفسه للأوكسجين النقي في حرية كتاباته ضد كل ما هو ممنوع ، وغير مرغوب فيه من قبل الطرف الحاكم ،وشبه الحاكم أي الوجه المخفي الذي يعد اشد سطوة من الوجه المعلن .

إذ اعتكفت النتاجات الأدبية الحديثة بإزاء الرفض  للقيود جميعها ، والخروج على الممنوعات ، مع مناقشة القضايا الاجتماعية المعاشة، و الحفر في المسائل الضاغطة على سلوك الحياة اليومية للمجتمع بصورة عامة ، والإنسان بصورة خاصة.

ويسعى البحث إلى تقديم قراءة نقدية عميقة لنماذج  شعرية غزيرة المحتوى ، ومناقشة سعة خزين مضمونها الفكري ، والاجتماعي.

ومهمة البحث هو كشف وتقديم  نماذج شعرية مختلفة ، ايقنت بأهمية الرفض للضغوطات، ومنع تهميش الآخر في الأحيان اغلبها.

فكلما تطور الفكر زادت إشكاليات المجتمع ، والضغوط المسلطة عليه.

واعتمد بناء هيكلية القصائد على لغة واعية للضغوطات جميعها، وهذا سبب تقديمها الرافض للممارسات السلبية الموظفة بإزاء الآخر.

وانصب اهتمام البحث على قراءة مدى تأثير سلطة التاريخ وماضيه على الواقع الجديد، لنكتشف اننا نعيش تاريخ داخل تاريخ مظلم ، لا يرث غير الدمار والخراب.

واختتم البحث ببعض النتائج التي توصلت اليها الدراسة.

 

الكلمات المفتاحية: الفكر، المجتمع، الشعر الحديث، أهميته

Freedom of Thought in the Poetry of Adnan Al-Sayegh

Dr. Wasan Murshed Mahmood

 University of Information Technology and Communications (UoITC – Baghdad) – Iraq

Abstract :

This research explores the poetry of Adnan Al-Sayegh, focusing on the poems where he breathes in pure oxygen through his free writings against all prohibitions and undesired influences imposed by both the overt and covert ruling powers. The covert powers, more formidable than the overt ones, have constrained creative outputs and exerted immense pressure on literary productions.

This context explains why no poetic series is devoid of creative arts and the overt and covert authority over texts, which dominates and controls its poetic manifestations, rejecting and complying. The research particularly focuses on rejecting poems as a clear attempt to impose restrictions and combat ideas.

Modern literary productions have consistently opposed all restrictions and broken taboos, addressing lived social issues and delving into the pressing matters affecting the daily life behaviour of society in general and the individual in particular.

The research aims to provide a deep critical reading of rich poetic models and discuss the extensive intellectual and social content they hold. As thought evolves, societal issues and pressures increase.

The research problem lies in the attempt to select poetic models that follow a hidden, skilful style with high poetic consciousness and a meticulous language marked by awareness and intelligence—an attribute credited to the poet. This has motivated a critical drive with a keen writing passion, aspiring to be meticulous, to reveal the extent of the pressing other self’s control over creative pens and the details of our daily lives.

The research focuses on reading the extent of historical authority’s influence on the new reality, discovering that we live a history within a dark history, inheriting nothing but destruction and ruin.

The research employs the structuralist methodology in reading poetic texts and deciphering their ambiguous codes.

The study concludes with several findings.

Keywords: Thought, Society, Modern Poetry, Its Importance.

 

المقدمة:

إن الخزين الشعري المكثف لشعر عدنان الصائغ ، يتطلب جهد نقدي  دقيق وعالي ، بهدف تفكيك منظومته الشعرية ، وتسليط الضوء على مرجعياته  المتسللة داخل نصوصه الشعرية، وهنا لابد لنا من القراءة الدقيقة والفاحصة في نماذجه الشعرية .

إذ اتكأ الفكر الأيديولوجي المهيمن على زمام الحكم في السيطرة على مسارات الثقافة العراقية والعربية .

وقيد النتاجات الشعرية  بجملة كبيرة من الممنوعات التي سيطرت على الاقلام الابداعية، وسعت جاهدةً إلى تحويل الثقافة إلى تجارة ، بالأخص بعد استملاكها زمام الحكم وسيطرتها على الحياة اليومية، وفرضها  القيود  على المثلث الثلاثي  المرتبط بالسياسة ، والدين، والجنس، أي انها فرضت قيودها على تفاصيل الحياة الدقيقة ومستقبل الثقافة والوعي ، وتتحول هذه السيطرة إلى سلوكيات ومرجعيات  جميعها تتحول  إلى تقديس مستمر لا يمكن الاقتراب منه.

وهذا ما يفسر عدم خلاء أية سلسلة شعرية من الفنون الابداعية ومن السلطة الظاهرة والباطنة للنصوص ، التي تسيطر وتتحكم في معطياته الشعرية بنوعيها الرافض ، والمستجيب ، وينصب التركيز على الاشعار الرافضة منها بصورة خاصة ، في محاولة معلنة وواضحة لفرض القيود ومحاربة الافكار.

وهنا تأتي قدرة الناقد من ذلك الوعي الذي يُسهم في التعرف والكشف عن تلك المضمرات السلطوية داخل النص، وقراءة مدى امتداد النفوذ السلطوي وتسربه إلى هذه النتاجات الفكرية الحرة الرافضة لكل ما هو ممنوع ، وضاغط.

واسست حرية الفكر الثيمة الأساس في شعر الشاعر عدنان الصائغ  بصورة خاصة ، والشعراء المغتربين بصورة عامة ، فهو الشاعر الذي تأبطه المنفى جسداً وفكراً وروحاً ؛ لأن الوطن بالنسبة له الحياة الابدية ، واغترابه عنه بمثابة سجن مثقل بالقيود التي اضاعت مفاتيحها ،  وهذا سبب تمظهر الرفض كثيمة اساس في اشعاره ، بل ويتخذ منه العزة للذات المضطربة الموجعة والمثقلة بأنين الحزن،  والاشتياق.

وترتبط حرية التعبير بحرية الفكر إذ اصبحت حرية الفكر “مكفولة في البلاد المتحضرة وحدها”( ينظر:بيوري، 2010: 10) ، وهوبز يؤكد هذا الرأي بقوله : “إنَّ الإنسان يتمتع بالحرية في الحدود التي لا توجد فيها قوانين ، وعليه فالحرية لديه سكوت القانون”( الطعان، فياض ، مراد،2012: 239-240)، إذاً حرية الرأي  ترتبط ارتباطاً وثيقاً  بسكوت القانون  وفتح الباب لتعدد الفكر؛ لأنها  “صمام الأمان لكل أمة ، وكل مجتمع وكل نظام”(الدين، 1984: 53 )، إذاً فالشاعر إنساني النزعة بلا حدود ، فهو لا يكره ولا يتعصب، وهذا ما أكده بالقول:

”  على شفتي شجرٌ ذابل ، والفرات الذي لم مرَّ يروني ، ورائي نباح الحروب العقيمة يطلقها الجنرال على لحمنا ، فنراوغُ أسنانها والشظايا التي مشطت شعر أطفالنا قبل إنَّ يذهبوا للمدارس والورد ، أركضُ ، أركضُ ، في غابة الموت ،أجمع أحطابَ مَنْ رحلوا في خريف المعارك، مرتقباً مثل نجم حزينٍ،  وقد خلفوني وحيداً هنا ، لاقماً طرف دشداشتي وأراوغ موتي بين القنابل والشهداء . .”(الصائغ، 2002: ع9/54).

يسجل هذا النص الشعري حضوره الفعلي المرتبط بالموهبة ، إذ سجل الشاعر عن طريقه حرية فكرية مصحوبة بنمط تمرد معلن ضد السلطة الضاغطة، وحرية فكرها تقترن بكونها كتبت ونشرت داخل الوطن ، وفيها يطلق الشاعر صرخته قائلاً :(على شفتي شجرٌ ذابل ، والفرات الذي مرَّ لم يروني، ورائي نباح الحروب العقيمة يطلقها الجنرال على لحمنا …) ، فتكمن هنا  الإدانة والتمرد اتجاه السلطة .

ونظمت طريقة بناء النص الشعري بلغة  حوارية اقرب إلى لغة التواصل مع القارىء؛ لأن الألفاظ جاءت بسيطة ومألوفة  من الحياة اليومية (شفتي ، نباح الحروب ، أسنانها ، شظايا ، مدارس ، ورد ،أركض ، موت ، أحطاب ، خريف ، لاقماً طرف دشداشتي ، القنابل ، الشهداء . . .) ، بساطة هذه الألفاظ شكلت مدخلاً لنقد الآخر الضاغط بطريقة ذكية تحسب للشاعر لا عليه ،فضلاً عن العنوان الذي شكل تمرداً في كلمة(سهواً).

وليقول في “بائعة التذاكر”  التي تندرج تحت (نصوص مشاكسة قليلاً)(الصائغ،2004: 299-300، وينظر: الصائغ، 2006: 461 ، 462 ، 466 ، 536 -538  ) :

   .. تمرُّ الدقائقُ ..

           والطرقات . .

   سراب الأكفَّ. .

   وحافلةُ الحرب . .

   [ قربَ باب الإعاشة

    سينادي العريف (أصابعه خشنة كالشظايا ]

            سيمُّد له أصبعين يتيمين . . .

   .. في أول الحرب ، وأختصروا من أجازتهِ موعدَ الياسمين

   ومن كفهِ ثلاث أصابع

   لا بأس [

   ….

   …

   …. سوف يمر على الكشك مرتبكاً

   –  ربما سوف تشهق تراني

   غصوناً مقطعة

   …  ربما علمتها القذائف

   إنّ الأصابع – في الحرب-  

   … مثل التذاكر

سجلت القصيدة حرية فكرية معلنة بنفس شعري مختزن في ذات الشاعر ، إذ نجد معادلة بين (المذكر/المؤنث) ، ومعادلة بين (القوة/ الضعف) بصور مختلفة من شعر الشاعر ،ونلتمس بإن الشاعر يسعى إلى فكرة ان هذه العلاقات المزدوجة هي جذر المشكلات الاجتماعية ، وهو سبب تقديمه كأنّه يريد أنَّ يوصل للقارئ فكرة أنَّ هذهِ العلاقات هي جذر المشكلات الاجتماعية ، فيقدم المشكلات الاجتماعية (باب الإعاشة ، سينادي العريف ، اختصروا من أجازته ، …الخ) وما تتضمنه من أسرار.

وعلاقة الرجل بالمرأة تقع هي الأخرى في متنها حكايات كثيرة تسرد لنا واقع المجتمع المعاش ، حيث لفظة (أصبع) لها لعبة ذكية في رسم أبعاد حرية الفكر ، حين تمارس شخصية الشاعر دور المتخفي لسرد ما يجول في داخله ، ونجد تلويناً أخر للأصابع ، التي عدّت نوعاً من الانفتاح المعلن في معجم الصائغ الشعري ، يقول في قصيدة ” لا اسم للحرب”(الصائغ، 2008: 41):

   إصبعاً ، إصبعاً

   ستقطّع كفَّ طفولتنا ، الحربُ

   تمضي بنا – في غرور المقاول – نحو مساطرها

   وتبيعُ الذي نبيع

   تجوّعنا ، ونكابرها بالوطن

   وتشتتُ أيامنا ، فنشاغلُ أيامها بالتمني

   وإذْ تستجير طيورُ الحنين

   بأعشاش أحزاننا

   سوف نبكي على [ وطن]

   ضيعوه ..

   فضعنا

نسج النص الشعري مضمونه من الذاكرة الاسترجاعية التي تحيده إلى الماضي البعيد ، واستثمار الرمز (الأصبع) مارس انحرافاً داخلياً ، يسير به إلى الانفتاح على حرية الفكر   الأمر الذي جعله يتنقل من الباطن الخفي إلى الظاهر المعلن والحقيقي (سوف نبكي على وطن ضيعوه فضعنا) ، وهذه تكاد تكون لحظة تأسي على الوطن الذي ضاع وتشتت في معترك الحروب الطويلة.

ومن زاوية اخرى نرصد قصيدة تحمل عنواناً لا ينتمي للمضمون الشعري بعنونته فهو اقرب للمعادلات الرياضية ، يقول في “تمرين لكتابة نص” (الصائغ،437) :

في زحمة الحرس المدّجج بالشتائم ، في الليالي الكالحات بلا

بصيص ، في أغانيك الحزينة خلف نافذة القطار ، وفي

بقايا الزاد والسفر الموحد نحو حامية المدينة ، في الرشاوي ، في المكاتب ، في التحمل ، في العراء …

في زحمة المتدافعين ، أضعتُ أول خطوتي

في زحمة المتراكضين ، أضعت آخر خطوتي

وبقيت وحدي في الطريق . .

نسج  النص الشعري مضمونه بطريقة حذرة وواعية ، لا تجد فيها اجابة صريحة وتبقى في دوامة الحيرة (وبقيت وحدي في الطريق)؛لأنها عبارة قلقة تقع بالقارىء امام  فرضيتين الأولى: العودة إلى الماضي ، أو مواكبة الحاضر، فهي عبارات تتصارع مع الذات الداخلية والخارجية، مما يؤسس لحظة اتخاذ قرارات صعبة ذات طابع يحمل من الحيرة الشيء الكثير  (وبقيت وحدي في الطريق . .)، فهي عبارة مرتبكة قلقة تقع بالقارئ أمام احتمالين، أما العودة إلى الماضي ، أو مواكبة الحاضر ، وهذا يدفع للقول : بإن القصيدة تكاد تقترب من التعبير عن مشاعر مختلطة بين الرغبة والخوف والرغبة بحرية الانفتاح الفكري المعلن.

ليقول في قصيدة “جائع” (م.ن : 475 ، وينظر : نشيد أوروك : 180 ، 181 ، 186 ، 191 ، 277 ، 375 ، 377 ، 379 ، 348  ).

   يترنحُ من جوعه

   ويدور

   ربما مطعم في رصيف المروءة

   لا يطردُ الغرباء

   كسرة أغفلتها كلابُ المدينة

   أو ربما

   آه ، لو يؤكلْ الشجرُ المتباهي بخضرته

   والخدودُ بحمرتها

   والكروش التي . .

   والعماراتُ . .

   لو يستسيغُ رغيف المذلة . .

   لو

   لقمة الدم . . لو

  …….

  ……

يرتفع الانفتاح الفكري  في هذا النص عن طريق توظيف (الجوع) ، الذي أستخدم كأداة للسلطة ، أي أنَّها تتخذ من الجوع أداة لأشغال الشعب بحثاً عن لقمة العيش بغية تمرير أعمالها و مصالحها ، فنجد النص بين لغة إباحيةٍ وأسلوب تحرر فكري جديد ، يحاول فيه الشاعر اجتذاب النفس المضطربة عن طريق لفظة ( آه ) ، فهي صوت ضمير تتوافق مع ذاته ، ليمضي عن طريقها في زج غضبه على الافعال الضاغطة ، فالقصيدة بأحداثها المتسلسلة تكاد تصدر قراراً ، بدأً من (يترنح من جوعه) وصولاً إلى ( لو..، لقمة الدم  . . لو ) ، تأتي لتختم لنا نهاية مأساوية بآمال تريد أنَّ تنفجر ، ويترك لنا الفراغ كأنه يريد أنَّ يتأوه ويتألم ، فيعيد تكرار ( لو) .

لتشكل هذه القصيدة حرية فكرية معلنة من دون اية مواربات ، وهذا يفسر بإن الانفتاح جاء نتيجة تراكمات الشعور بالظلم المنطوي على فرضية استبدادية لابد للشخص من ملازمتها تحت سلطة الظلم المنطوي على القهر والانصياع الاجباري للقوانين والانظمة الضاغطة

إذاً هذهِ القصيدة شكلت خروجاً واضحاً على السلطة عن طريق الحرية الفكرية التي كتبت بها  ، وهذا  ليس وليد الإحساس بالظلم الذي ينطوي على القهر والانصياع للقوانين والأنظمة المستبدة ، فالشاعر سجل حريته الفكرية  عن طريق لفظة (جوع)  .

وفي نص آخر نجده يقول:

شعر تمثال السيد الرئيس بالضجر

     فنزل من قاعته الذهبية

     تاركاً الوفود والزهور وأناشيد الأطفال،

     وراح يتمشى بين الناس الذين أندفعوا يصفقون له :

     ” بالروح بالدم  . . نفديك يا … “

     أنتعش التمثالُ

     وحين علمتْ تماثيلهُ الأخرى بالأمر

     نزلتْ إلى الساحات

     وراحت تتقاتل فيما بينها

     والناس يتفرجون

     لا يدرون   

   أيهم السيدُ الرئيس . . . ؟ ! ! ( م.ن:17)

النص اعلاه يبين مسار النص وحركته ، إذ يسير باتجاه سردي تكنيكي دقيق ، عن طريق حركة ثلاثية منتظمة للشخصيات ، والزمان، والمكان (تمثال السيد الرئيس ، الوفود ، بالروح بالدم) ، ومع هذه المخاتلة نلتمس الحرية الفكرية تسير بأتجاه مضمر عن طريق رمزية التمثال الرئيس، ومع كل هذهِ الحركة والمقولات نجد أنَّ المساحة الفكرية تتحرك بإطار مضمر ، عن طريق شخصية التمثال الرئيس ، الذي يمثل صورة ضد قناعة الشخصية الاستبدادية ، وإذ تتحرك التماثيل التي تمثل شخصية واحدة ، فنحن بإزاء تشابه شخصاني ، تضيع فيها الحدود على تقدير مساحة الشخصية الأصل / أمام الشخصيات الأخرى ، بحيث يفضي هذا الأمر إلى صراع من نوع جديد بين الشخص المتعدد الوجوه ، وهي اشارة إلى سلطة الاستبداد التي تخلق صورها المتعددة في كل مكان ، يقول :

   جالساً بظلَّ التماثيل

   أقلمُ أظافري الوسخة

   وأفكّرُ بأمجادهم الباذخة

   هؤلاء المنتصبون في الساَحات

   يطلقون قهقهاتهم العاليةَ

   على شعب يطحنُ أسنانهُ من الجوعِ

   ويبني لهم أنصاباً من الذهبِ والأدعية (م.ن : 454 ، وينظر: نشيد أوروك : 460 ).

إنَّ هذهِ القصيدة تنطلق في تصوراتها عن طريق الإفادة من الذاكرة السلبية للسلطات السياسية الاستبدادية ، إذ يؤشر عدنان الصائغ ذلك ، بقوله : (أمجادهم الباذخة) وكلمة (الباذخة) تحيل إلى الجانب غير المشرق والسلبي للنظام والأنظمة الاستبدادية ، والقرين الذي يثبت لنا ذلك جملة (يطلقون قهقهاتهم) ، و(شعب يطحن أسنانه ) وهذه التقنية في التوظيف للذاكرة داخل جسد القصيدة محاولة للإشارة إلى استبدادية الماضي وقسوته على الشعوب،  بدليل أنَّ التماثيل التي تشير إلى الماضي لم تكن أمجاداً ، وإنَّما من نصب واقعه

وفي نص آخر يقول:

      ارتبكَ الملكُ

   وهو يرى جنوده محاصرين

   مَنْ كل الجهات

   والمدافع الثقيلة تدّكُ قلاع القصِر

   صرخ:

   أين أفراسي ؟

–        فطست يا مولاي

–        أين وزيرُ الدولة

–        فرَّ مع زوجتك ياسيدي في أول المعركة ِ

   تنح الملك معُدلاً تاجهُ الذهبي

   وعلى شفتيه ابتسامة ٌ دبقةٌ :

   ولكن أين شعبي الطيب

   لمْ أعِدْ اسمعه منذ سنين

   فأنفجر الواقفون على جانبي الرقعة بالضحكِ

– لقد تأخرت يا سيدي في تذكرنا

نرقب الأفق(الصائغ،2003: 36)

تركيبة النص هنا مدمجة بين شخصيتين هما الشاعر والملك ، وقد يكون حوار دائر بصورة اخرى يرتبط بمخيلة الشاعر والملك، ونستنتج منه حوار يحمل تخوف من الطرف الضاغط (الملك) وهذا مايفسر ( الصراخ) ، واستفهام مطالبته ( أين أفراسي ؟) لتكون الإجابة ( فطست يا مولاي) ، وهي إجابة تشي بهز قناعات الملك والتقليل من قيمته ، لتدفعه هذهِ الإجابة لسؤال ثانٍ ( أين وزير الدولة) ، ليأتي الجواب ( فر مع زوجتك يا سيدي في أول المعركة) ، فهي إجابة تشي بالتحقير المباشر والعلني ، فلغة القصيدة نجدها قائمة على السخرية ، (وعلى شفتيه ابتسامة دبقة) كأن هذا النص دلالة على رغبة كسر عائق الصمت  ، أو كأنَّه مسار لتحريك النص ومجرى الأحداث نحو نقطة تحول ، (ولم يبق لنا سوى أنَّ نصفق  للمنتصر الجديد) ، نبرة استهزاء وشماتة جاءت على لسان الشعب ، لتشعر الملك بالأهانة والاحتقار ، فالقصيدة جاءت لتوضح لنا حقيقة الوضع المأساوي الذي يمر به الإنسان العربي في وطنه ، والشاعر أراد إيصال فكرة بأنَّ الملك شخص مهمش وجبان ، يظلم شعبه بالأسلحة ويفرض جبروته بالدروع ، والسواتر ، …الخ .

يقول الصائغ :

       صحت :

       يا صاحبي

       في الضياع الكبير

        أعني على غربتي

         بين نفسي وبيني

         بلادك ضيعتها …

         وانتهيت …

      وها أنت مثلي

      ضعتَ الدليل إلى باب روما

      رأيتُ الجنود يسدون كل المسارب دون الحدود

      فأخيت بين الرمال ، وقلبي

       وقلت :

    هو الدرب أبعد مما تظن

    إلى قيصر

    …

    …

    سنضرب في التيه

        ضرب القمار

فأما نرى البحر – يا صاحبي-

    أو نموت معاً ، غربة ...

           … في الرمال( الصائغ :26 ، وينظر: الصائغ: 14 ، 26 ، 80 ، 81 ، 82 ، 126 ، 200 ).

وظف النص حوارية بطريقة مزدوجة احداهما داخلية مع نفسه،والآخرى مع قلبه ( أعني، غربتي، نفسي ، بيتي، ضيعتها ، انتهيت ، ضعت ، يسدون ، آخيت ، قلبي …) في  محاولة منه للتعبيّر عمّا يلوج في داخله ، ويذهب من جانب آخر ليوظف معادلة تحمل من الشجن الشيء الكثير :

فأما نرى البحر – يا صاحبي –

أو نموت معاً ، غربة …

… في الرمال

إذ يغلف الشجن العبارات ، بطريقة ترك الفراغات ليترك المجال للقارىء في كتابتها، وهي اشارة في الوقت ذاته إلى كونه عاجزاً عن تحديد مصيره ومصير صاحبه، وهي معادلة الحرب المميتة التي لاتورث غير الخراب ،والدمار، واليتامى ،والجوع ،وهي صورة الغربة التي رسمها النص بريشة نقية تفصل بين الغربتين الداخلية والخارجية بريشة الشجن المثقلة بالهموم التي لا تتوقف.

وفي نص آخر يقول الصائغ :

البيوتُ  –  الأضابير

   البلاد   –  الأضابير

   الحروب –  الأضابير

   الكروش –  الأضابير

   النساءُ – إلـ

   يبدأ الصبحُ ..

   تفتح أول إضبارة

   تحتسي شايها …

   وتراقب خطوات الأضابير في الطرقات

   تراقب : باص (الطفولة) يعبر جسر (كهولتها)

     الشجر (الشرطة المورقين) أمام البناية ( راتبها)

   تقاطعُ أحلامنا – في الرصيف المقابل – تنورة مسرعة

صبغتها العيون المريبة بالأحمر المشرئب إلى الركبتين( م.ن:18)

يسعى الشاعر إلى توظيف لفظة (الأضابير) فإنَّه يبتعد بها عن التصريح و المباشرة التي قد تفضي به إلى التغيّب ، إذ جعل مَنْ (البيوت ، البلاد ، الحروب ، الكروش ، النساء) إضبارة و هي السيرة الذاتية للإنسان وما شابه ذلك ، أو هي كحزمة ، أو كملف ، تجمع فيه الأوراق الثبوتية للإنسان ، فعن طريق توظيف هذهِ اللفظة يسعى الشاعر إلى تقديم مواربة شمولية ، تتضمن الإدانة والتوصيف الدقيق لوضع الإنسان في ظل هكذا مناخ استبدادي .

  غير أنَّ (الأضابير) ظلت تلاحقُ قامته ، والمسدس

   بين الممرات

   تعبر توق البنفسج

      ويعبرني ،

   دونما كلمة

   غير عطر خفيف

   يذكرهم بالعلاوات

   قلتُ : يذكرها بالذي لن يعود

    وقلت : يذكرني بالأضابير

   إنَّ الأضابير : ثوب الحكومة لا ذكريات …

                          ولا قلب  

   إنَّ الأضابير : لا تتذكر وجه الموظف

   إنَّ الأضابير : نحن … ( م.ن : 254 – 255 ، وينظر: م . ن : 371 ، 404 ، 423 ،  436 ).

العنوان (الأضابير) بحد ذاته يشكل حرية فكرية غير معلنة بوضوح، ومن هنا يتجلى لنا التعارض بين السياسة الضاغطة ، والفرد الإنسان أو الشاعر … الخ ، وهو بالتالي صراع يبرز فيه صوت الشاعر ، فلفظة ( الأضابير) ذات قصد إيحائي من جهة الدلالة ؛ كون الأضابير وهي جمع لمفردة إضبارة عبارة تحمل الكثير من الشجن ، والعناء الذي يعانيه القلب ، والهم والتعب .

لكن العناء و الشجن الموظف داخل النص ، لا يعني لنا عجز الشاعر عن أنَّ يقيم تعارضاً بين الأنا والأنا الآخر ، لكن الشاعر لا يعمد إلى المباشر بل  يعمد إلى مقومات لغة التورية والمواربة عن طريق كشف القرينة التي تؤشر الدلالة البعيدة والقريبة – ف م.ن: 256 ي الوقت ذاته – التي تغلف لغة النص ، إذ لا يمكن أن يعد الخطاب الأدبي خلاصة واقعية لنشاط  اللغة (م.ن: 256 ، ونشرت هذهِ القصيدة في ، م . إسفار، ع 11-12 ، 1985 :160- 161).

وليختم نصه بقوله : (إنَّ الأضابير : نحن …)، ويترك هذا الفراغ ليرسم القارئ الصورة بنفسه .

ويسجل الحصار الاعلامي السلاح الضاغط على المثقف ، والسعي إلى تحويله إلى طاقة سلبية غير فاعلة ، وبدلاً من توظيف طاقاته الابداعية بالجانب الايجابي والافادة منها السعي الى تحويله إلى عامل غير فاعل

نجد إنَّ الحصار الأعلامي يبقى السلاح الضاغط على المثقف ،  فبدلاً من توظيف طاقاته الإبداعية والإنتاجية لصالح المجتمع  نجد تجديد الحصار عليه ، مما يدفعه إلى توظيف طرق ملتوية بهدف التعبير عما يلج في داخله ، ليقول:

أقولُ : غداً

   أتمددُ فوق النهار الفسيح

   يظللني الغيمُ  لا الطائراتُ

   أفتشُ بين القنابل والطين

   عما تبقى من العمر والأصدقاء

   أعبئ في رئتي الشوارع والياسمين

   وأمضي إلى البيت ، دون بيانات

   تقطع حلمي إلى جثث ومخاوف

       [ أيها الوطن المنتهى

           كل ما نملك

          وطن مثل  أحلامنا    

   وهوى يهلك . . . . ]

وأنا في عراء القذائفِ ،

     مَنْ أرتجي ؟

   رافعاً للسماء إنائي

   أوزع – بين ثقوب المواضع – وجهي

      وهذا الفضاء القتيل(م.ن :258 ، وينظر: م . ن : 443 ، 449 ، 465 ، 527 ، 531 ).

اسس الحوار قاعدة بناء النص الشعري هنا ، بطريقة السؤال المبني على الجواب ، بعد رحلة ممتعة للوصف والتصوير ، وهذا جله مراحل مبدئية لأتاحت الجو المناسب للسامع وتشويقه عن طريق استحضار الاشياء امامه بطريقة التوثيق (الطائرات ،القنابل ، جثث ، بيانات، مخاوف، الوطن المنتهى ، عراء القذائف ، ثقوب المواضع ،الفضاء القتيل)، لتحقيق التأثر والتأثير المباشر مع القارئ ، ونجده يقول في القصيدة ذاتها:

نحو غصن البلاد الذي يتفتق للتو

                أو يتيبس للتو

         وأقارن بين غصون الربيعِ

         وبين غصون القذيفة

         وأقولُ :صباح البلاد

         التي علمتنا التشتت

         بين كراسي المقاهي العتيقة ، والاعتراف المكهرب

         بين البيوت الخفيضة ، والمرأة الغادرة

         سوف تحشرنا في المواضع

         ملتصقين ، بصمغ المخاوف …

نرقب الأفق( ناصف، ، ع 193 ، 1995 : 286)

استمرارية الفعل المضارع (يتفتق ، يتيبس ، تشتت ، تحشرنا ) ، اشارة الى ان الحرب ستبقى مشتعلة ، وهي حرب شرسة قاتلة ، وعدوانية تأكل الأخضر واليابس، وتهدم طاقات الأوطان وتفني زهرة شبابه.

وإنَّ من أهم الأسباب التي تدفع بالشاعر وغيره من الشعراء إلى توظيف هذا النوع من الشعر ، هو الشعور بالظلم في مجتمع مضطرب فقدت فيه العدالة الاجتماعية قيمتها ، إذ إنَّ فقدان هذه العدالة ينتج مجتمعاً يسوده قانون الغائب ؛ ولأنَّ اختلال القيم الاجتماعية في مجتمع ما نتيجة لتدهور الظروف السياسية والاقتصادية يؤدي إلى ضياع هذهِ القيم والتخلي عن الكثير منها ، ليطلق شعره قائلا :

فهذا الزمانُ يعلمنا

    إنَّ نصفق للمقاتلين

    حينما يعبرون الرصيف إلى دمنا

    وهذا الزمانُ يعلمنا

    إنَّ نقصر قاماتنا 

     … كي تمر الرياحُ على  رسلها

    إنَّ نماشي القطيع إلى الكلأ الموسمي

    ولكنني …

    من خلال الحطام الذي خلفتهُ المدافعُ

    أرفع كفي معفرةً بالتراب المدمى …

         أمام عيون الزمان

    أعلمهُ كيف نحفرُ أسماءنا بالأظافر

         كي تتوهج : لا

    نحن الذين خرجنا من الثكنات

    نكش ذباب العواصم عن جرحنا

    أنخطئ -حين تمر بنا الشاحناتُ الطويلةُ –

     في عدد الشهداء الذين مضوا في رحاب القنابل

     وفي عدد الأصدقاء          

    الذين مضوا في الطوابير

    لكنني – والقصيدة ( لم ترها بعدُ عينُ الرقابة ) -( الصائغ: 273) .

يستعين الشاعر في نصه هذا بالحجج والبراهين للوصول إلى الإقناع ، وذلك قصد التأثير بالقارئ ، والتي عن طريقها يخلق جواً من التشكيل باستخدام تراكيب متوالية و متصلة بعضها ببعض حتى يفصل في شرح فكرته ، فالعمل الأدبي هو عمل تشكيلي ، بمعنى ما ، وهو تكوين لعالم كامل وفق رؤية خاصة للمحيط تحتويه وتتجاوزه بمستويات مختلفة باختلاف مبدع عن آخر، وكذلك استعمل الشاعر الفعل المضارع بصفة مستمرة داخل النص ، وهذا ما يؤكد اهتمامه بعنصر الحدث والزمن والحركة ( فهذا الزمان يعلمنا ، وهذا الزمان يعلمنا ، أمام عيون الزمان).

 

وعليه فالقصيدة السياسية الحديثة تحاول الخروج على الضغوط المسيطرة على الاقلام الابداعية ،وتحاول الخروج إلى حرية الفكر ، ويقول:

      ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر

         وإنمّا تأريخ  قهر

     حيث خمسون عاما ونحن نجتر العلف

     والخطابات …

    …وسجائر اللف

    حيث نقف أمام المشانق

       نتطلع إلى جثثنا الملوحة

    ونصفق للحكام

   .. خوفا على ملفات أهلنا المحفوظة في

    أقبية الأمن

    حيث الوطن

    يبدأ من خطاب الرئيس

 مرورا بشوارع الرئيس ، وأغاني الرئيس ، ومتاحف الرئيس ، ومكارم الرئيس، وأشجار الرئيس ، و معامل الرئيس ، وصحف الرئيس ، و إسطبل الرئيس ،وافران الرئيس، وأنواط الرئيس ، و محظيات الرئيس، ومدارس  الرئيس ، ومزارع الرئيس ، وطقس الرئيس ، وتوجيهات الرئيس …( م.ن:296).

نتلمس هنا أن للشاعر الفضاءات والسماوات ، وهي قصدية  منه كونها مساحة مفتوحة تتيح له المجال الأكبر للتعبير عما يلوج في ذاته المضطربة ، فجواز السفر صيغة عامة لا تحمل مدلول ، وجواز القهر اشارة مباشرة إلى فكرة الغربة .

وتتضمن القصيدة دلالات رمزية عالية ومهمة تحيل إلى الواقع العراقي  وتحولاته، واتخذ من السرد هنا فسحة للأفصاح عن ذاته الموجعة ،بتوظيفه لغة مباشرة ،ومعلنة  : (حيث خمسون عاماً ونحن نجتز العلف) ، وهذه فسحة لإدخال القصيدة ضمن فضاء ومحور جديد يشرك فيه الذات مع الذات الآخرى ، ويحمل النص اشارة ذكية استطاع الشاعر عن طريقها أن يقدم محور جديد يشرك فيه الذات مع الذات الآخرى لنقد الضغوطات السلطوية عن طريق الحرية الفكرية  بطريقة التورية المبطنة من دون ذكر للأسماء والشخصيات ، ووظف المباشرة المعلنة عن طريق تكرار كلمة السيد الرئيس(18)مرة ، ليقول:

      سأرتمي ، في أحضان أول كومة عشب تلوحُ لي من حقول بِلادي

      وأمّرغُ فمي بأوحالهاَ وتوتها وشعاراتها الكاذبة

      لكنني

      لن أطرقَ البابَ يا أمي

       إنهم وراء الجدران ينتظرونني بنصالهم اللامعة

      لا تنتظري رسائلي

      إنهم يفتشون بين الفوارز والنقاط عن كلَّ كلمةٍ أو نأمةٍ  

      فاجلسي أمام النافذة

      وأصغي في الليل إلى الريح

      ستسمعين نجوى روحي

            * * *

      أصيحُ : بلادي

      فأجفلُ

      هل تتذكّرُ أختامهم في الجواز

      الصبي الذي نام في السجن حتى استفاقَ

      على الصافرات تجّر المدينةُ من إبطها للملاجي ء

كان بين وميض سجائرهم ، وتنمل جلدكَ فوق البلاط

      مسافةُ في ظلَّ الجدار الذي يفصلُ البَحَر عن شفتيك

      الخطى تتباعدُ … (م.ن: 104 ، وينظر: م . ن : 35 ، 105 ).

                    …

* * *

   أصيحُ : بلادي

   وأشهق

   أحتاج حبراً بمقدار ما يشهقُ الدمعُ في فمنا

   لأكتب أحزان تاريخنا

   وأنسلُّ من مدن  كالصفيحِ إلى صدر أمي

   ألملمُ هذا الحنينَ الموزّع بين الحقائبِ

                         ….. والوطنِ المتباعدِ( الصائغ : 147 ).

إن مثل هذه القصائد يتطلب تعمق في الرؤية ، يستند النص فيها إلى النضوج  الفكري للشاعر، النابع من تراكمات الضغوط السلطوية التي هيأت الفكر الايديولوجي للعمل ليوظف عن طريقها نصه ، وليجد القارئ في أشعار الشاعر أساليب متعددة في العرض وتعرية وكشف للواقع وعيوبه ، من جرأة وتمرد ، ومواربة ، وهذه ما تولدت في النص إلا عن طريق الحرية الفكرية للشاعر ، والتي وثق عن طريقها ايقونته الشعرية الرافضة للضغوط جميعها.

   أقل قرعة باب

   أخفي قصائدي – مرتبكاً – في الأدراج

   لكن كثيراً ما يكون القرع

   صدى الدوريات الشرطية التي تدور في شوارع رأسي

   ورغم هذا فأنا أعرف بالتأكيد

   إنهم سيقرعون الباب ذات يوم

   وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية إلى جوارير قلبي

   لينتزعوا أوراقي

     و . . .

   حياتي

   ثم يرحلوا بهدوء ( م.ن:   11 ).

يحاكي النص ثيمتا القلق والخوف اللتان ترافقان الإنسان منذ الوهلة الأولى لولادته بمجرد ولادته ضمن اطار المجتمعات الضاغطة ، ومن هنا يبدأ مشواره في رفض هذه الممنوعات والتمرد عليها .

وعنونة القصيدة شاملة مانعة  تحيل بالشاعر إلى شريط ذكرياته الموجعة على الرغم من اختلاف اماكن كتابتها فالمكان بيروت والعقل العراق، والقلم يدون النبض الشعري وهو انشطار للذات ، أي أن الكلمة (لا) تحيل إلى إلا طمأنينة والشجن ، والكوابيس ليقول في قصيدة

(أشباح):

دائماً كنتُ أسمعُ أصواتهم الغريبة

وهي ترطنُ باسمي

ثم أقدامهم الحديدية وهي تصعدُ السلالمَ

ثم قبضاتهم على الباب

ثم فوهاتهم في صدغي ثم جثتي وهي تتدحرج

خلف هدير محركات سياراتهم

ثم صخب المتحلقين حولي وهم يتساءلون :

–        مَنْ أين أتو؟

لكنهم لم يأتوا

تركوا لي المشهد مفتوحاً

على أتساعِ الطلقة المؤجلة( الصائغ : 7-8 ، وينظر : الصائغ : 94 ، وينظر: م . ن : 98 ).

ويقول ايضاً:

   صرختُ  : بلادي

   فقصَّ الرقيبُ الحروفَ الأخيرةَ ،

   معتذراً  بالدخان الذي

   يحجبُ الأفق ، واللافتاتِ

    صرختُ:

   ففزّ نعاسُ الأميرة من هدبها

   برماً ،

   وتثائب سربُ الحمام

   على الشرفة الملكية

   فاستفز الجندُ أقواس آذانهم

   خلف ذئب الصدى( الصائغ : 111-112 ، وينظر: م . ن :113 ، وينظر :الصائغ: 18).

سجلت أداة النفي(لا) لعبها الخاص في كلمة (بلادي) ، وهي امكانية ضاغطة من شأنها تبقى متاحة ليقول:

   من قال : إنَّ القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاول

           في مقص الرقيب [ سينسى عويناته القزحية

                                .. فوق سرير البغي]

   فيشْطبُ – في الصبح –  نصف القصيدة

          كي تستقيم

             مع الميلان الأخير

       لوزن الوظيفة (الصائغ  : 18-19 ، وينظر: الصائغ  : 135 ، وينظر: الصائغ ، 2010 .  126 ).

انصبت حرية الفكر في هذه القصيدة على المزج  بين المرأة والسياسة ، وهي محاولة ذكية من الشاعر تحسب له لا عليه إذ استطاع أن يتملص من مقص الرقيب ، ويجعله ككفي ميزان لا يقيم العدل إلا بهما .

وهو الحاذق العارف بالضغط المتولد من مواجهة السلطة على الرغم من خروجه المباشر للكثير من اشعاره، إلا أننا نجده يقول في  (ك/و/ا/ب/ي/س) :

 … أ ب (تسمُ في وجهـ ( ـها ها ها (.. وهي تعد القهوة ة ة

   أبتسمُ و (هي تنفضُ إلـ (ـغبار ر عن السجاجيد د د

      والكتب ب ب  …

  أبتسمُ وهـ (ـي  تصغي لخطواتهم هم هم  م م . .

ثم لـ (ـرنين الجر س س س س

ثم وهي تهرعُ عُ عُ لـ (فتح البابِ بِ (- إنهم ليسوا

ضيوف ) ـنا)                         

ثم لعيونها وهي تختل) جُ جُ جُ أمام فوهات مسدساتهـ) – م – ــهم

ـهم

ث ث ) ــم ..

م

م

ننخرطُ فـ(ـي بكاءٍ مـ (ر ر ير ..

                         ر

                          ر( الصائغ: 140)

شكلت القصيدة آلية دفاع بكلمات طلسمية  من عنوانها إلى نهايتها ، ليكون النص عبارة عن دراما متشابكة ، تنقل الاضطرابات النفسية للشاعر، وهو دراما متشابكة ، ومن زاوية اخرى رسمت حروف الشاعر قصيدة ممزوجة بحرية فكرية عالية ، وواعية لنقد السلطات الضاغطة جميعها ، فيقول:

   يمُر القادةُ تلو

   القادة

   والساسة تلو الساسة

   ورجالُ الدين

   والمواربون

   والمعارضون

   والمقاولون

   وهم يتطلعون إلى لحومنا المكشوفة في الساحات العامة

   للذباب

   والشعارات

   ويفكرون بما سينتزعون منها في ثوراتهم المقبلة(م . ن :53 ).

     فالنص عرض لنا سلطة اجتماعية ضاغطة بالكامل على جميع مرافق الحياة ، والخروج على الضاغط الآخر الذي يولد الشعارات المزيفة متخذها وسيلة للتنويم المغناطيسي للشعوب ، وهنا تتحول الأوطان مكاناً  للسياحة والتجارة على حساب الآخر الضعيف الإنسان .

وعليه اصبحت حرية الفكر هي القلم الحر لصاحبها بها ومعها تطيب الذات الرافضة للقيود ، والخروج على الممنوعات الضاغطة جميعها .

وهذا هو سعي الصائغ ، فقد جاءت قصائده لتعبر عن حرية فكره الرافض لكل ما هو ممنوع وضاغط

 

المصادر والمراجع

( 1) ينظر: حرية الفكر، ج  بيوري ، تعريب محمد عبد العزيز إسحاق، تقديم إمام عبد الفتاح إمام ، القاهرة ،2010 :10.

( 2) إشكالية السلطة في تأملات العقل العربي عبر العصور ، د. عبد الرضا حسين الطعان و د. عامر حسن فياض  و د .علي عباس مراد ، وزارة الثقافة ، العراق – بغداد ، ط1 ،2012:  239- 240 .

( 3) شرعية السلطة في العالم العربي ، أحمد بهاء الدين ، دار الشروق ، 1984 :53.

( 4) عدنان الصائغ في مرايا الإبداع والنقد ، م. ضفاف ، عدد خاص ، ع 9، 2002: 54.

( 5) الأعمال الشعرية ، عدنان الصائغ ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط1 ، 2004: 299-300 ، وينظر: نشيد أو “هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها” قصيدة طويلة ، عدنان الصائغ ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت – لبنان ، ط2 ، 2006  : 461 ، 462 ، 466 ، 536 -538 .

( 6) عدنان الصائغ تأبط منفى “حوار ومنتخبات شعرية”، وليد الزريبي ، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم ، تونس ، ط 1 ،2008 ، 41.

( 7) الأعمال الشعرية :437 .

( 8) م.ن : 475 ، وينظر : نشيد أوروك : 180 ، 181 ، 186 ، 191 ، 277 ، 375 ، 377 ، 379 ، 348 .

(9 ) م.ن : 17 .

( 10) م.ن : 454 ، وينظر: نشيد أوروك : 460 .

( 11)مشي في حقول الألغام عن التجربة الإبداعية والحرب والمنفى ، حوارات مع الشاعر عدنان الصائغ ، دار لارسا ، السويد ، ط1 ، 2003: 36.

( 12) الأعمال الشعرية :26 ، وينظر: نشيد أوروك : 14 ، 26 ، 80 ، 81 ، 82 ، 126 ، 200 .

( 13) م.ن: 18 .

( 14) م.ن : 254 – 255 ، وينظر: م . ن : 371 ، 404 ، 423 ، 436 .

( 15)م.ن: 256 ، ونشرت هذهِ القصيدة في ، م . إسفار، ع 11-12 ، 1985 :160-161.

( 16) م.ن :258 ، وينظر: م . ن : 443 ، 449 ، 465 ، 527 ، 531 .

( 17) ينظر: اللغة والتفسير و التواصل ، د. مصطفى ناصف ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، عالم المعرفة – الكويت ، ع 193 ، 1995 : 286 .

( 18) الأعمال الشعرية : 273 .

( 19) م.ن:296.

( 20) ينظر: شهوة الكتابة وسلطة النقد، إسماعيل الملحم  ، م .الموقف الأدبي ، اتحاد كتاب العرب ، دمشق ،ع ، 430  ، 2007 .

( 21) م.ن: 104 ، وينظر: م . ن : 35 ، 105 .

( 22) الأعمال الشعرية : 147 .

( 23) م . ن  : 140 .

( 24) م.ن: 11 .

( 25) نشيد أوروك : 7-8 ، وينظر : الأعمال الشعرية : 94 ، وينظر: م . ن : 98 .

( 26) ديوان (و) : 111-112 ، وينظر: م . ن :113 ، وينظر : نشيد أوروك : 18.

( 27) نشيد أوروك : 18-19 ، وينظر: الأعمال الشعرية : 135 ، وينظر: ديوان (و) عدنان الصائغ ، الكوكب رياض الريس للكتب والنشر،  ط1 ، 2010 .: 126 . م . ن :53 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *