نوفمبر 23, 2024 6:28 ص
123

د. محمد فتحي القرش

 (أكاديمي مصري) 99ش جمال عبدالناصر- النزهة- القاهرة 

DR_MOHAMED_ALKERH@YAHOO.COM

                                                                   0020226631873                                                       

       

الملخص

انطلقت تلك الدراسة من فرضية مفادها التداخل المتبادل بين الأمن والحرية والاستقرار ، وما لهذه الجدلية من تأثيرٌ قويٌّ على كثير من المجتمعات المعاصرة، إن تلك التي اندلعت بها انتفاضات وثورات، أوتلك المجتمعات التي تُطرح فيها هذه القضية في إطار إعادة الهيكلة التراتبية بين متطلبات الأمن واحتياجات الحرية ومبررات الاستقرار .

تم اعتماد التأصيل التاريخي ومنهج التحليل والتركيب لتفكيك تلك الإشكالية ثم إعادة تركيبها؛ وفق أطر ومفاهيم جديدة، وذلك في إطار ما يهدف إليه هذا البحث من تحقيق التوازن الموضوعي بين الأمن والحرية والاستقرار.

تضمَّنت تلك الورقة ثلاث محاور؛ الأول: جدلية تاريخية، والثاني: حتمية الأمن وقدسية الحرية، والثالث آليات الاستقرار، ليُختم البحث بأهم النتائج.

وتبين أن الاستبداد يُعدُّ خطرًا حقيقيًّا على الأمن القومي للدولة ومكوناتها الاجتماعية، ومن ثم –  ومن منطلق الحفاظ على الأمن – علينا ألا نقع في كارثية ومأساة الاستبداد والقمع، لأن هذا سينتج – عاجلاً أو آجلاً – الانفجار والفوضى وضياع الأمن، فالذي يبيع حريته في مقابل أمنه إنما يبيع حياته ويشتري الوهم.

إن المجتمعات تحقِّق تقدُّمها ورقيها وتحضرُّها بقدر إدراكها ووعيها لمعنى الأمن المتكامل ؛ بقدر وعيها بحتمية الأمن وقدسية الحرية، فقوة الوطن في كرامة مواطنيه.

ومن هنا تُلزمنا الوطنية والعقلانية  إدراك أن المسئولية هي المعادل الموضوعي للحرية، فلا تتحول الحرية إلى فوضى، ولا يتحول الأمن إلى استبداد، فطوبى للذين فهموا الحرية فلم يبتذلوها وللذين طبقوا الأمن فلم يستبدوا … طوبى للعقلاء.

 

The dialectic of security, freedom and stability

Dr Mohammed Fathi Al-Qarsh

(Egyptian academic) 99 Gamal Abdel Nasser St., El-Nozha, Cairo

 

summary

    This study started from the hypothesis that the mutual overlap between security, freedom and stability, and the strong influence of this dialectic on many contemporary societies, whether those in which uprisings and revolutions broke out or those societies in which this issue is raised within the framework of the hierarchical restructuring between the requirements of security and the needs of freedom and justifications for stability.

     Historical rooting and the method of analysis and synthesis were adopted to dismantle this problem and then reconstruct it. According to new frameworks and concepts, this research aims to achieve the objective balance between security, freedom and stability.

     This paper included three axes; The first: a historical dialectic, the second: the inevitability of security and the sanctity of freedom, and the third: stabilization mechanisms so that the research concludes with the most important results.

     And it turns out that tyranny is a real threat to the national security of the state and its social components, and then – and in terms of preserving security – we must not fall into the catastrophe and tragedy of tyranny and oppression, because this will result – sooner or later – explosion, chaos and loss of security, as whoever sells his freedom in exchange for his security He sells his life and buys illusion.

Societies achieve their progress, sophistication, and civilisation, according to their understanding and awareness of the meaning of integrated security. As far as it is aware of the inevitability of security and the sanctity of freedom, the strength of the homeland lies in the dignity of its citizens.

      Hence, patriotism and rationality oblige us to realize that responsibility is the objective equivalent of freedom so that freedom does not turn into chaos, and security does not turn into tyranny. Blessed are those who understood freedom and did not squander it and those who applied security and did not tyrannize… Blessed are the wise!

 

مقدمة    

تُعدُّ العلاقة بين الأمن والحرية والاستقرار من أكثر العلاقات تشابكًا وتعقيدًا، سواءً على مستوى التفكير النظري أو التطبيق العملي، ولهذه الإشكالية تأثيرٌ قويٌّ على كثيرٍ من المجتمعات المعاصرة، إن تلك التي اندلعت بها انتفاضات وثورات، أو المجتمعات التي تطرح فيها هذه القضية في إطار إعادة الهيكلة التراتبية بين متطلبات الأمن واحتياجات الحرية ومبررات الاستقرار.

وبناءً عليه تأتي أهمية تلك الورقة البحثية التي اعتمدت التأصيل التاريخي ومنهج التحليل والتركيب لتفكيك الإشكالية ثم إعادة تركيبها وفق أطر ومفاهيم جديدة، وذلك في إطار ما يهدف إليه هذا البحث من تحقيق التوازن الموضوعي بين الأمن والحرية والاستقرار، لأن بتلك المعادلة تتحقق قوة الأوطان وتحضرُّها.

ينطلق هذا البحث بتساؤل عن أهم الآراء والأفكار التي دارت حول الأمن والحرية والاستقرار؟ ثُم يأتي تحليل تساؤل مفاده ماهي طبيعة جدلية الأمن والحرية ؟ حيث تبيان طبيعة الأمن ومضمونه، والحرية ومعانيها، وبالأخير تتم مناقشة التساؤل عن حقيقة الاستقرار وأهم آليات تحقيقه؟

ومن ثمَّ تضمَّنت تلك الورقة ثلاثة محاور؛ الأول: جدلية تاريخية، والثاني: حتمية الأمن وقدسية الحرية، والثالث: آليات الاستقرار، ليُختم البحث بأهم النتائج.

 أولاً: جدلية تاريخية                            

شغلت قضية الأمن والحرية والاستقرار الفكر الفلسفي قديمًا وحديثًا، وذلك لما بين تلك المفاهيم من تداخل جدلي؛ حيث التأثير الإيجابي أو السلبي على بعضها بعضًا.

وبناءً عليه سنحاول – وبتركيز شديد- استخلاص ما يمكن أن يقارب أو يوضح تلك القضية من خلال الأفكار المختلفة، وذلك تطبيقًا للحوار الفلسفي والحضاري، بوصفه مدخلًا لتفكيك تلك الإشكالية، ومن ثمَّ إمكانية علاجها تحقيقًا للتوازن الموضوعي بين الأمن والحرية والاستقرار.

نتبين في الفلسفة اليونانية رأي”أفلاطون”Plato  (428–348ق.م)؛ حيث رأى أن نشأة الدولة يعود في الأصل إلى عدم استقلال الفرد وعدم قدرته على سد حاجاته بنفسه، وفي الجمهورية يشير إلى” أن الحرية هي غاية الديمقراطية”(أفلاطون 1974،فقرة 562) ولكن ما تلبث هذه الحرية أن تتحول إلى حريات غير مسئولة، ويفتقد الناس القدرة على التمييز بين الخير والشر أو العدل والظلم، ويندفعوا إلى إشباع غرائزهم دون وعي أو انضباط، وهذا ما يُسميه أفلاطون ديموقراطية الغوغاء، ومن ثم تتسبَّب هذه الديمقراطية في إقامة حكم الطغيان “حيث يقفز الطغاة الجهلاء إلى مقاعد السلطة فيقوم نظام الطغيان، وهو ذروة التدهور”(أنتوني،دى كريستي،كيتيث،مينوج.2012 ، ص139) ثم رأى أفلاطون أن أفضل أنظمة الحكم يتمثل فى الدولة المثالية التي يحكمها الفلاسفة  ” فليس هناك دولة أو نظام يمكن أن يبلغ الكمال إلا إذا تولى الفلاسفة مقاليد الحكم”(أفلاطون.فقرة600) فهؤلاء هم من سيحكمون لصالح المدينة”(أفلاطون.فقرة650)”فالحاكم الكفؤ يتسم بالحكمة لأنه فلسفي النزعة،عظيم الحماسة،ذو عزيمة وتصميم”( أفلاطون.فقرة620 ) ورأى”كارل بوبر” Popper, Karl  (1902-1994)أن هذا يُمثِّل فكرًا شموليًّا، ولذلك عدَّ فلسفة أفلاطون مع فلسفة”هيجل” Hejel , Friedrich  (1770-1831) و”ماركس”Marx , K arl  (1881-1883) من الفلسفات ذات التوجه الشمولي والاستبدادي، بل وأنها أسست للفاشية، لأن احتكار طبقة حاكمة، حتى لو كانت من الفلاسفة، يُعدُّ شمولية واستبداد، حيث حبَّذ أفلاطون الشكل القبلي للمجتمع، ومال إلى مجتمعٍ مغلقٍ شبيهٍ بذلك الذي كان سائدًا في اسبرطة، “وذلك بسبب بغضه الشديد للمجتمع الذي كان يعيش فيه، وحبه الرومانتيكي للشكل القديم للحياة الاجتماعية، وهو ذلك الاتجاه الذي أدى إلى صياغة قانون للتطور التاريخي لا يمكن تأييده أي؛ قانون الفساد أو الانحلال الكلي، وهو الاتجاه نفسه الذي يُعدُّ مسئولاً أيضًا عن العناصر غير العقلانية والوهمية والرومانتيكية التى لولاها لكان تحليله ممتازًا… فهو قد اشتق نظرياته من مذهب فلسفي خيالي، يذهب إلى أن تغيُّر العالم المنظور ما هو إلا نسخة باهتة من عالم ثابت غير منظورٍ”(كارل،بوبر ، 1998،ص90) وربما كانت النظرة الاجتماعية الطبقية والنظرة السياسية المتعالية هي التي أدت إلى اتهام فلسفة أفلاطون السياسية بالشمولية، وبناءً عليه جاء وصف كارل بوبر لبرنامج أفلاطون السياسي بالانغلاق والاستبداد”ويمكن أن يوصف هذا البرنامج وصفًا عادلاً بأنه برنامج استبدادي” (كارل،بوبر1998،ص92) وأدرك بوبر أن عدم وجود إرادة أو مشاركة فعلية وحقيقية للناس فى الحكم واحتكار السلطة إنما هو شكل من أشكال الحكم الشمولي، فهذه الطبقة الحاكمة تُعدُّ طبقة من الصفوة الممتازة المقفلة على نفسها، والتي  تمسك في يدها بكل أسباب القوة دون أن يشاركها في ذلك أحدٌ من عامة الناس، كذلك يتضح هذا الطابع الشمولي من خلال الطريقة التي يتم بها إعداد هذه الطبقة …على نحو يذكرنا بطريقة إعداد الكوادر في الأحزاب التي أنشأها هتلر ولينين”(أنتوني،دى كريستي،كيتيث،مينوج.ص139) ومع ذلك فإن بوبر ربما تحامل على أفلاطون عندما وصم فلسفته السياسية بالشمولية، لأن أفلاطون أكَّد على تربية تلك الطبقة تربية منتظمة تقوم على إنكار الذات، ولا شك أن فى هذا تقليص للفساد الذي هو المقدمة الرائعة للاستبداد، كما أن حكم طبقة الفلاسفة الذي نادى به أفلاطون كان ردًّا على تلك السلطة الفاسدة التي أعدمت أستاذه”سقراط”Socrates (469 – 399 ق.م) وكانت تلك السلطة تدعي أنها ديمقراطية، فأسماها أفلاطون بديمقراطية الغوغاء.

نظر “أرسطو”Aristotle  (384 – 322ق.م)إلى الدولة على أنها الكيان الطبيعي الذي يُعبِّر عن الميل للاجتماع السياسي “فالدولة هي الكيان الطبيعي للعائلة،لأن الطبع يدفع الناس بغرائزهم إلى الاجتماع السياسي”( أرسطو، ص95) وعلى الرغم من أن أرسطو لم يتحرر من العنصرية التي عانت منها الثقافة اليونانية في كثير من الأحيان، فإنه في فلسفته السياسية نجده يُحذِّر من السقوط  في الأطماع ومدى خطورة هذا على الدولة، يقول في كتاب (السياسة): “إن طمع الأغنياء قد خرب من الدولة أكثر ممَّا خرب طمع الفقراء”(  أرسطو، ص280  )كما أكد على أن” العدل ضرورة اجتماعية، لأن الحق هو قاعدة الاجتماع السياسي”(أرسطو، ص43) وفي ظل الإمبراطورية الرومانية تعرَّضت المسيحية لكثير من أوجه الاضطهاد، خاصة منذ حكم “نيرون” Neron , Claudio  (37–68م)الذي استمر حكمه من عام (54- 68م) وبعد ذلك أخذ صورة أكثر دموية مع حكم “دقلديانوس” Diocletianus  (244 – 305 م)  وكانت فترة حكمه من (284- 305 م )، وسُمِّي عصره بعصر الشهداء، وبعد ذلك اعتمد الإمبراطور”قسطنطين” (272–337م) المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك استمر قدر وفير من الاضطهاد لمن رفض ما قرَّره مجمع نيقية (325م) حول طبيعة المسيح.

وعاصر القديس”أوغسطين” Augustine  (354 – 430م) ظروف انهيار الإمبراطورية الرومانية، ورأى أن كل ما يتعلق بالعنف والشرور والانهيار في العالم الدنيوي إنما هو في واقعه نتيجة للأنانية والاستبداد وحب الذات والتملك “فالشر يمكن أن بنبعث بسبب الاستحواز على الأماكن والمناصب، وكذلك السيطرة وقهر الشعب”( Ebenstein,W,1962,p.173) ولم يدعو “أوغسطين” لإصلاح هذا الواقع المرير والمأساوي بقدر ما دعى إلى الاستسلام له، حيث رأى  ” أن  التباعد بين النظام الإلهي والنظام الدنيوي لا سبيل إلى إصلاحه، وعلى الفلسفة أن تتقبل هذه الحقيقة”( يوسف،كرم،1981،ص46) بل وبالإرتكان إلى الخطيئة الأولى برر أوغسطين العبودية وكذلك ذهب “توما الاكويني” Aquines,T(1225-1274) ” فلم يقر بالثورة على الحاكم المستبد، حيث يعتبر الاستبداد عقابًا من الله على الخطيئة الأولى”(  يوسف،كرم،1981،ص202) وكأن الحكام ليسوا من أبناء آدم على افتراض خطيئته وعدم توبته منها!!

وفي الفلسفة الإسلامية نجد عند الفارابي(260-339هـ)تأكيدًا على التنظيم الاجتماعي، والذي يُعطي للفرد الفرصة الحقيقية في النماء والتقدُّم “فكل واحد من الناس مفطورٌ على أنه محتاج فى قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته  إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيءٍ ممَّا يحتاج إليه…، فلذلك لا يمكن أن ينال الإنسان  الكمال – الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية – إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين يقوم كل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال”(أبونصر،الفارابي.1986 ،ص77) ويُعدُّ مبدأ العدل هو المبدأ المحوري للفكر السياسي في الحضارة الإسلامية، إذ أن العدل هو الشرط اللازم لتحقيق الأمن والاستقرار وقوة الأمة، يقول الفارابي “إن أجزاء المدينة ومراتب أجزائها يأتلف بعضها مع بعض ويرتبط بالمحبة، وتتماسك وتبقى محفوظة بالعدل، وأفاعيل العدل”(أبونصر،الفارابي ص70)  وأكد الفارابي ” أن العلم والفضيلة هما أساس المدينة الفاضلة الآمنة، أما الدولة الجاهلة فهي التي لا تعرف إلا شره الملك والثروة والعدوان”( أبونصر،الفارابي.1986 ص 110) وجعل “الماوردي”(364 –450 هـ) حفظ الدين وإقامة العدل وتحقيق الأمن من مهام الحاكم ” فهناك مهمات عشرة هي فرض عين على الحاكم في مقدمتها، حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعمَّ النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، وذلك حتى تستقيم المعايشة، ومن واجبات الحاكم أيضًا الأمر بإقامة الحدود التي تحمي محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده، والدفاع عن ديار الإسلام، وجمع الصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف، وعليه أيضًا أن يتبع طريقًا وسطًا في الإنفاق فلا تبذير ولا تقتير، وعليه أن يولي الأمناء، فالأموال بالأمناء محفوظة”( أبوالحسن،الماوردي.1982 ، ص55، 56)

وفي بداية عصر النهضة الأوروبية يُعدُّ واقع الفوضى وتفكك إيطاليا إمكانية لمعرفة مرجعية أمير”ماكيافيللي” Machiavelli, N  (1469-1530 م)حيث كان هذا الواقع آنذاك دافعًا أساسيًّا لما ورد من أفكار وآراء في هذا الكتاب، وتجسدت مقولة استبعاد الجدوى الأخلاقية باسم الجدوى السياسية”فليس على الحاكم أن يلتزم بالوفاء إذا ما تعارض مع مصالحه”(  نيقولا،ماكيافيللي.1960 ، ص 51) وارتبطت آراء ماكيافيللي بالواقع السيئ الاضطراري، ومن هنا كان إدراكه لخطورة ما قاله عن استبعاد القيم الأخلاقية، وأكد على أن هذا الاستبعاد اضطراري فرضته ظروف راهنة في واقعه الاجتماعي والسياسي، فذهب ماكيافيللي إلى أن” التمسك بالفضائل أمرًا مستحيلاً لأن الأوضاع لا تسمح بذلك”( نيقولا،ماكيافيللي.1960 ، ص52)كما أكد على أن الكنيسة قد ساهمت فى تلك المأساة بقدرٍ وافرٍ، ومن ضمن ذلك التدليس والإفساد الذي مُورس تحت مسمى صكوك الغفران !! وهذا يثبته قول ماكيافيللي “نحن ندين للكنيسة بما صرنا إليه من إلحاد وإعوجاج”(  نيقولا،ماكيافيللي، 1962،ص268) ولا شك أن ما قام به غالبية رجال الكنيسة -آنذاك – من أطماع وعدوان متنوع على حقوق الناس، وكذلك إرغامهم على الإيمان ببعض التناقضات، كل هذا كان وبالاً على الدين، حيث أصبح التقدم العقلي مرهونًا بالابتعاد عن تلك المظالم والتناقضات؛ يقول “كرين برنتون” إن مسار العقيدة العقلانية يتجه إلى الابتعاد عن المسيحية”( كرين،برينتون.تشكيل العقل الحديث. ،1984،ص 302) وقد تواصل ذلك التوجه للتناقض مع دين الكنيسة، وتبني الالحاد(*)

مما تقدَّم  يتبين لنا أن دعوة “ماكيافيللى” إلى عدم الاهتمام بالقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية أتى باعتباره ردَّ فعل مضاد، وربما متطرف، ضد أغلب أفعال وممارسات الكنيسة التي كانت أكثر تطرفًا، حيث مارست تدليسًا مقيتًا لتبريرالاستبداد والمظالم الاجتماعية باسم الدين، بل وقدمت الخنوع والاستسلام لتلك الموبقات من منطلق أن هذه هي تعاليم وعلامات الإيمان ومسوغات التدين، وهكذا سخر غالبية الأباطرة غالبية رجال الدين لتبرير استبدادهم، ولم يكن هذا التسخير دون مقابل، فلقد اقتسم أغلب رجال الكنيسة السلطة والثروة، وامتلاك الأراضي الشاسعة، واقتسموا هذا مع الأباطرة، وبسبب تلك المآسي صار التحرُّر من الاعوجاج يستلزم التحرر من هذا الدين الكنسي، ثم فى القرون التالية – ومن بدايات الثورة الفرنسية – صار التحرُّر من الاستبداد والطغيان السياسي ملازمًا للتحرر من هذا التدليس

______________________

(*) ويتضح ذلك بوجه خاص في كتاب (نظام الطبيعة) للفيلسوف الفرنسي بارون دي دولباخ Holbach (1723- 1787م)

الذي مارسته الكنيسة في ذلك الوقت.

وفي بدايات العصر الحديث شهدت إنجلترا حالة من الصدامات والحرب الأهلية واندلاع العديد من المخاطر الداخلية والخارجية، كما أن الرأسمالية بدأت تأخذ حيزًا في المجتمع  الإنجليزي، ومن ثم رأى الفيلسوف الإنجليزي”هوبز” Hobbes,T (1588 – 1679) أن ذلك يبشر بمجتمع السوق الذي فيه يشتري ويباع كل شيء بما فيه البشر وقيمهم، وأيضًا كان هناك الخطر المحدق حيث تربص الأسطول الإسباني، وفي ظل كل هذا الرُّكام من الفوضى والخوف  والهلع(*) الذي لحق بالمجتمع الإنجليزي – الذي عدَّه”هوبز” تجسيدًا للنوع البشري- اندفع إلى القول بسلطة “حكم (الليفاثان أو السلطة المطلقة”( Hobbes, T..Leviathn. 1904,p240  ) وهكذا يكون دافع الاستبداد والتناحر على الحكم وأحداث الفوضى والخوف سببًا في الخلط بين السلطة القوية والسلطة المستبدة.

إن السلطة القوية هي بلا شك مطلوبة لاستقرار المجتمع وأمنه، ومناط بها التنظيم الجيد والعادل للمجتمع، أما السلطة المستبدة فهي تقمع الناس، وتفاقم هذا القمع يؤدي إلى الانفجار ، وهذا يثبته التاريخ القديم والحديث، ومن ثم تكون تلك السلطة المستبدة هى المسبب الأصلي لاندلاع الفوضى والخوف، ولكن فى كل الأحوال يجب أن يُذكر فضل”هوبز”حيث أكد على أن “الناس ولدوا متساوين في حبهم لحريتهم، وأن لهم حقوقًا لا يمكن أن يتنازلوا عنها يُطلق عليها اسم الحقوق الطبيعية، وهي حقوق موجودة لدى كل إنسان بالطبيعة، أعني أن العقل يفترض وجودها لدى كل فرد وهو يُحتِّم علينا التسليم بها”(  إمام،عبد الفتاح، 1985،ص 333) ومن هنا كان فضل “هوبز”في نظرية العقد الاجتماعي، والتي أدت دورًا عظيمًا في الفكر الأوروبي والعالمي، حيث ظهور الأفكار التحررية عند”جون لوك”  Locke, J(- 1632 1704) التي كانت سببًا أساسيًّا فى تقدُّم إنجلترا وقوتها، وغالبية الدول الأوروبية، بل وساهمت أيضًا في  التحرر الأمريكي، حيث دافع عن المساواة بين البشر” فقانون الطبيعة يؤكد أننا جميعًا متساوون ومستقلون equal and independent”( Locke , J,107) ويتمثل دور الحكومة وسلطتها السياسية في تنظيم المجتمع ” حيث وضع القوانين التي تهدف إلى تحقيق أهداف المجتمع، وفي مقدمتها المحافظة على حياة الفرد وحريته”( Locke  , J, 160 )

وإذا ذُكر”جون لوك” فلابد أن يُذكر الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو”Rousseau,J (1712-1778)حيث تحذيره من انتهاك الحرية وإهدار القوانين، يقول روسو:”إذا لم يعد الأمير يسوس الدولة وفق القوانين

وإنما يغتصب السلطان السياسي، آنذاك يقع تغيير بارز للعيان، وهو ليس للحكومة وإنما الدولة هي ما ينكمش، وأعني أن الدولة الكبيرة تنحل، ومن ذلك تتحول داخلها أخرى مؤلفة من أعضاء الحكومة فقط ولا تكون عند سائر الشعب

_________________________________

(*) وعبر ” هوبز” عن هذا بقوله : ولدت أنا والخوف كتوأمين

 

وإنما يغتصب السلطان السياسي، آنذاك يقع تغيير بارز للعيان، وهو ليس للحكومة وإنما الدولة هي ما ينكمش، وأعني أن الدولة الكبيرة تنحل، ومن ذلك تتحول داخلها أخرى مؤلفة من أعضاء الحكومة فقط ولا تكون عند سائر الشعب سوى السيد عليه والطاغية، وهكذا يجري الأمر يحيث أن تغتصب الحكومة السيادة حتى يفسخ الميثاق الاجتماعي”( جان جاك، روسو.2011  ص، 183)

ويُعدُّ نموذج هيجلHegel, F    (1770 – 1831) حلقة الوصل بين الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وذلك لما مثله من إعادة صياغة للأفكار السابقة، ثم تأثيره الكبير على كثير من الفلسفات التي تلته في الفكر المعاصر، أكد هيجل على أهمية سلطة الدولة والتنظيم الاجتماعي؛ حيث أدرك في تصوره للحرية الحاجة إلى السلطة “فالعقل هو الذي يجعل من الضروري أن يدخل الناس في علاقات تعاقدية”(  Hegel , F,1962,p242  )إن إدراك حقيقة الحرية سيدفع إلى الإيمان بسلطة الدولة فيما يرى هيجل “فإذا ما عرف الفرد المعنى الحقيقي للحرية فإنه بالضرورة سيختار المشاركة في تقدُّم المجتمع والفرد والبشرية بإرادته الحرة”( مجاهد، عبد المنعم ، 1985 ص 49  ) وهكذا ارتبط تصور هيجل عن الحرية والدولة ارتباطًا وثيقًا بتخوُّفه ورفضه للجوانب السلبية والمدمرة التي يمكن أن يقع فيها البعض باسم الحرية .

وأكد الفيلسوف الإنجليزي” جون ستيوارت ميل”  John , Stuart ,Mil( 1873 – 1806 ) على الحريات وعلى عدم الإقصاء، فالحرية هي التي تُحقِّق منفعة المجتمع، بل ومنفعة الإنسانية كلها، يقول ميل” لا ريب فى أن كشف الستار عن بعض ما يجهل الناس يُعدُّ  من جلائل الأمور، وأن إقامة الدليل على خطأ الناس في بعض المسائل الدينية أو الدنيوية ذات الخطر والشأن، هو عمل من أجل ما يستطيع الإنسان تأديته لصالح المجتمع البشري، بل هو في بعض الأحيان خدمة وأثمن هدية يستطيع المرء أن يقدمها لإخوانه في الإنسانية “(ميل، جون ستيوارت، ص 54  )

ثانيًا: حتمية الأمن وقدسية الحرية   

يُعدُّ الأمن مطلبًا أساسيًّا لكل إنسان، كما أنه ضرورة وجودية للاستقرار المجتمعي، ومن هنا  تأتي الأهمية القصوى لأن تركز الأجهزة الأمنية وتتمسك بمهمتها المقدسة في حماية أمن المجتمع، ولذلك فإن من الأخطاء الفادحة في حق الشرطة والأجهزة الأمنية أن نلقي على كاهلها كل العبء الثقيل في مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهذا يجعلها في مواجهة مستمرة مع أطياف وقوى المجتمع . نعم ليس من الوطنية أو العقلانية أن نلقي على كاهل الأجهزة الأمنية كوارث الاقتصاد والسياسة، فهذا إساءة لتلك الأجهزة وإضرارًا بحياة رجالها، وإضرارًا بالوطن كله، وهذا يتطلب معالجة سريعة وحقيقية للمظالم الاقتصادية والتصدعات الاجتماعية والكوارث السياسية.نعم من العقلانية إدراك الطبيعة المتكاملة للأمن، وفي مقدمته الأمن الاقتصادي والأمن السياسي، فهل الشخص المنكسر أو المهدد اقتصاديًّا، هل هو شخصٌ آمن ؟! إن أسوأ ما يمكن أن يتعرَّض له الإنسان هو الانكسار الاقتصادي، وفي ظل الطائفية الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، الكل مهدد بالسير لهذا الإنكسار، أيضًا يحتاج كل إنسان إلى الأمن السياسي، فلا يكون عُرضة للافتراس الشخصي- بدنيا ومعنويا-في أي وقت وتحت أي مبرر، وأيضًا الكل معرض لهذا الافتراس، خاصة إذا توحَّشت وتغولت النزعة الاستبدادية، وعلينا في هذ الإطار إدراك أن استمرار النزعة الاستبدادية، إنما يعني مزيدًا من الخُسران للدولة وأمنها القومي.

إن المستبد يدخل مجتمعه في مستنقع التصدعات الاجتماعية والاختلالات السياسية؛ مما يضر بكل مؤسسات الدولة، وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى دخول ذلك المجتمع في دوامات من العنف والاقتتال؛ بل وربما تصل الأحداث إلى كارثية الانهيار، إذا لم يتم تدارك الأمر بالحوار العقلاني والعدل المجتمعي.

ومن ثم يُعدُّ المستبد خطرًا حقيقيًّا على كل مكونات المجتمع، حتى بما في ذلك الجهاز الشرطي، لأنه يضعه دائمًا فى مواجهة الشعب وحقوقه، بل ويعدُّ المستبد خطرًا داهمًا على الدولة وأمنها القومي، فبقدر ما يستقوي المستبد على شعبه، بقدر ما يضعف أمام الآخرين .

إن من كوارث الاستبداد أنه يتسبب في تسميم العلاقة بين الشعب والأجهزة الأمنية، وهذا عندما يحولها إلى مراكز لحماية تسلطه واستبداده أكثر من كونها مؤسسات لحماية أرض الوطن وأمن المواطنين، وهذا يُفسر عمل المستبد على إضعاف المجتمع حيث مصادرة مؤسساته والاستحواز عليها، حتى بما فيها المؤسسة الدينية فيأخذ طابع الدولة الدينية المستبدة  – ومثالها الأوضح سلطة القرون الوسطى الأوروبية؛ حيث إهدار حقوق الإنسان يقول فرح أنطون” إن الملك الجامع في يديه السلطة المدنية والدينية يكن دائماً فوق حقوق الإنسان”( فرح أنطون، ص 165 )

وغالبًا ما تتصاحب المظالم الاقتصادية والاختلالات السياسية مع الخلل التعليمي، وأيضًا انتشار الأمراض والتفاوت المدمر في المجال الصحي، وتعمد نشر التجهيل والتدليس على المواطنين، وهذا في مقابل قيام المستبد بتقوية أجهزة القمع لحماية وجوده، ولكن في نهاية الأمر يتكتل المجتمع ويحدث الانفجار المجتمعي، بما يتضمنه من صدامات مع أجهزة الأمن وتشتت مجتمعي. ولا يتحقق الاستقرار الحقيقي إلا عندما تحقق الثورة مطالبها.

ومن ثم على السلطات الحاكمة التي تتسم بالعقلانية، إدراك أن الخوف لا يُحقِّق استقرارًا دائمًا، لأن الخوف يومًا إلى زوال، ولذلك علينا التحرُّر من وهم وكارثية الأمن القمعي، الذي يُعدُّ في مقدمة أسباب ضعف المجتمعات وانهيار  الدول،  لأنه لا يُحقِّق استقرارًا دائمًا، بل في محصلته يُولِّد انفجارًا سياسيًّا واجتماعيًّا وجنائيًّا. نعم علينا أن ندرك أن الاستبداد والإقصاء يوفر بيئة مناسبة لاحتدام الصراع واندلاع العنف والصدام وضياع الأمن، ومن ثمَّ فإن النظام الاستبدادي يتحمل الخسائر والتضحيات الناتجة عن الثورة، لأنه لم يعطِ  فرصة للإصلاح إلا بتلك الثورة.

إن الشعوب لا تلجأ إلى الثورة إلا إذا ضاعت تمامًا الكرامة الإنسانية، ولم يعد هناك أمل أو طريق للحصول على تلك الكرامة إلا بالثورة، وهنا إما أن تحقق تلك الثورة أهدافها وإما يظل المجتمع في حالة من الانقسام والعنف، ولا تعود العلاقة الإيجابية بين المجتمع والأجهزة الأمنية ولا يتحقق الاستقرار الحقيقي؛ إلا عندما تُحقِّق الثورة أهدافها السياسية والاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية معالجة قضايانا ومشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بقدر كبير من العقلانية والتوازن والموضوعية.

إن المجتمعات لا تحتاج استقرارًا وهميًّا قائمًا على القمع، بل في حاجة ماسة لاستقرارٍ حقيقيٍّ قائمٍ على العدل؛ استقرارٌ يقوم على تحقيق الكرامة لكل المواطنين، ومن ثم فإن من يعتدي ويغتصب حريات الناس بادِّعاء تحقيق الأمن، كالذي يرى القشة في عين أخيه، ولا يرى العصى التي في عينيه.

وعلى المجتمعات التي اندلعت فيها انتفاضات أو انتصرت فيها ثورات أن تُعيد الثقة للأجهزة الأمنية، فالتخريب أوالاعتداء على مؤسسات الدولة أو الممتلكات العامة أو الخاصة كل هذا ليس ممارسة للحرية، لأنه يضيِّع الكثير من أوجه الأمن، ومن ثم يجب منعها ومواجهتها وفقًا للقانون، ومن هذا المنطلق يأتي التأكيد على قدسية الحرية وحتمية الأمن.

ويجب التأكيد على الدور الوطني للشرطة،وبطبيعة الحال جميع المؤسسات الأمنية، ولا يُفهم من ذلك أننا نُنادي أو نُكرِّس القمع، بل ننادي بإعادة المهمة الحقيقية لتلك الأجهزة والمؤسسات في حماية المواطنين وحفظ الأمن العام والدفاع عن أرض الوطن، وفي ذلك تحقيق للأمن؛ أمن الجميع سواءً حُكَّامًا أو محكومين.

وتُلزمنا الوطنية والعقلانية إدراك أن المسئولية هي المعادل الموضوعي للحرية، فلا نقع في فوضى باسم الحرية، لأن هذا يعني التخريب والتدمير، وكذلك لا نقع  في تسلُّطٍ واستبداد باسم الأمن، لأن هذا يعني القمع والقتل، مما يدفع إلى الانفجار وإعادة متاهات وكوارث الفوضى !! ولا يتأتى العلاج إلا بالتوازن بين  الحرية والأمن ، فلا تتحول الحرية إلى فوضى، ولا يتحول الأمن إلى  استبداد .

ومن الأهمية القصوى أن تعمل المجتمعات التي حقَّقت قدرًا كبيرًا أو معقولًا من التقدُّم ورفاهية شعوبها على الحفاظ على تلك المكتسبات، فالثورات ليست فعلا ترفيهيًّا، بل فعلٌ اضطراريٌّ ينتج عنها الكثير والكثير من الضحابا والخسائر الفادحة، فلنحافظ على أوطاننا التي ننعم فيها بالحياة الكريمة .

إن من أهم ركائز الأمن التمييز بين السلطة القمعية والسلطة القوية، السلطة القمعية تمارس طغيانًا وفسادًا واستبدادًا وتكبُّرًا ضد مجتمعها ومواطنيها، ومن ثم فإن تلك السلطة القمعية والفاسدة إنما تُعدُّ أكبر خطر على الدولة وأمنها القومي الحقيقي التي هي في الأساس أرض وشعب وسلطة؛ فالمظالم المستمرة لتلك السلطة الظالمة هو الذي يُؤدي في النهاية إلى الانفجار المجتمعي وسقوط الأنظمة، ومن ثم فإن هناك فرقًا بين السلطة القمعية التي تُهين مواطنيها وتفرط في مواردها، وبين السلطة القوية التى تحُقق الهدف من وجودها وهو التحقيق الفعلي للحياة الحرة والكريمة لكل المواطنين، والمحافظة على حقوق الوطن، فهذا هو جوهر الأمن القومي للدولة .

إذن لا تعود قوة الدولة في صورتها الوطنية إلا بالتوجه إلى تحقيق العدل واحترام الحريات، وهذا يتطلب العزيمة والإخلاص، فالاستبداد ضعف والعدل قوة، وما أجمل تلك العبارة التي قالها الحكيم والحاكم الإثيني”صولون”Solon (640– 560ق. م) عن (أن الدكتاتورية مقامٌ عالٍ، من السهل الوصول إليه، لكن من الصعب التنازل عنه) نعم، من السهل أن تكون مستبدًا، ولكن من الصعب أن تكون عادلاً، فالاستبداد لا يحتاج إلا إلى الجبناء، أما العدل فيحتاج إلى الشجعان .

إن الأمن لا يكون بظلمة الفساد والإفساد والاستبداد والقمع، فهذا إخلالاً بالأمن وإضرارًا برجاله، إن المفهوم الصحيح للأمن يتحقق من خلال بنية ثقافية واجتماعية واقتصادية وقانونية وإعلامية، ويكون ذلك بالعدل وتنوير العقول والإخلاص للوطن، ونشر ثقافة الحوار والحرية والتسامح، وهذه الثقافة وتلك القيم يساندها ويدعمها مواد دستورية وقوانين ملزمة لكل أطياف ومؤسسات المجتمع، إن هذه المفاهيم والصياغات والقيم أساس التعايش، ومن ثم هي التي تعطي  للمجتمعات أمنها واستقرارها وقوتها.

ويقينًا إن تلك المعالجة ليست بالأمر الهيِّن أو البسيط، فالطبيعة البشرية مليئة بنزعات الاستحواز وشره التملك والتسلط، ولكنها أيضًا زاخرة بالقدرة على انتهاج العدل والتضامن والعطاء الإنساني، وإلا ما أمرنا الله بذلك؛ فهو سبحانه لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، وهو عمل عظيم يحتاج إلى عزيمة الرجال وإخلاص الشرفاء وإقدام الشجعان، وتضحيات النبلاء، وبصيرة الأذكياء؛ يحتاج إلى قوة الإرادة، بل وفى بعض الأحيان يتطلب الإرادة الفولازية، فبقدر تغلُّبنا على أطماعنا وأهوائنا، بقدر تحقيقنا لقوة مجتمعاتنا ورقيها السياسي والاقتصادي وتنامي قدراتها على التأثير الإيجابي والعطاء الإنساني لكل بني البشر، فالإنسان هو تلك المحاولة الدائمة للارتقاء  والبناء الإنساني .

من هذا المنطلق يأتي الدفاع عن الحرية ضد كل من يحاول الافتئات عليها باسم الأمن أو باسم الاستقرار؛ لأن تغوُّل القمع هو الذي يؤدي إلى الاعتداء على الأمن وإراقة الدماء، ومن هذا المنطلق يأتي الدفاع عن الحرية؛ لأنه يتضمن في حدِّ ذاته دفاع عن الأمن وحفاظًا على رجاله.

إذن – ومن منطلق الحفاظ على الأمن – علينا ألا نقع في كارثية ومأساة الاستبداد والقمع، لأن هذا سينتج – عاجلًا أو آجلًا – الانفجار والفوضى، فالذي يبيع حريته في مقابل أمنه، إنما يبيع حياته و يشتري الوهم، ومن هنا يأتي التأكيد على قُدسية الحرية وحتمية الأمن.

وتُحقِّق المجتمعات تقدُّمها ورقيها وتحضرُّها بقدر إدراكها ووعيها لمعنى الأمن المتكامل؛ بقدر وعيها بحتمية الأمن وقدسية الحرية، وقاية وتلازمًا، فالحرية لا يمكن التضحية بها في مقابل الأمن، لأن ذلك سيتضمَّن ضياعًا لكليهما، حيث تتحول السلطة الطبيعية إلى استبداد قمعي وفاسد، وهذا عدوان على تماسك الوطن وأمن المواطنين، وذلك أخطر ما يكون على الأمن القومي، لأن قوة الوطن في كرامة مواطنيه.

ومن ثم أيضًا على المجتمعات التي أُصيبت بالصدامات والانقسامات إدراك أن الطريق الآمن ليس هو الإقصاء والرصاص والرزوح تحت الركام الكارثي للطائفية الدينية والمذهبية والاقتصادية، فهذا طريق الشيطان وضياع الأوطان، ومن ثم يجب على من تورط في هذا الطريق الكارثي التخلص منه، وعلى الجميع الحذر من هذا السقوط.

إن الطريق العقلاني لتماسك الوطن وتحقيق تقدمه هو إدارة الخلافات بطريقة حوارية سلمية تستبعد الإقصاء وتعتمد المشاركة والعمل الفعلي لصالح المواطنين، فالحرية حقٌّ للجميع، كما أن التسامح الديني والفكري والجدال الحسن وتقبل الاختلاف والإيمان بقضية التنوع ، كل ذلك يعد قيم أساسية لتقدم ورقي المجتمعات، والله سبحانه كفل الحرية الدينية، قال تعالى ” لا إكراه في الدين”(سورة البقرة آية 256) ومن ثم يكون الحساب الذي هو فقط حق لمن خلق وإليه المصير، وهذه المبادئ هي التي تُحقِّق تماسك المجتمع وأمنه وتقدمه وتحضره، أيضًا معالجة الخلافات لا تكون بالإقصاء والقتل ولكن بالحوار والإقناع، وذلك وفق الإطار الدستوري والقانوني واحترام إرادة الناس المتمثلة في الارتضاء المجتمعي أو في نتائج الانتخابات الحرة والنزيهة، نعم من العقلانية والوطنية انتهاج الحوار والعدل والكرامة وتفعيل الحقوق والواجبات المتساوية والمتبادلة بين كل مكونات المجتمع؛ فبهذا نحقق التعايش والأمن ونعيد الانتماء ونزيده قوة ونبني الوطن ونحقق استقراره وازدهاره .

إننا نُقيِّم هنا ما يمكن أن نُسمِّيه (الحرية الآمنة) التي لا تسيئ فهم الحرية ولا تبتذلها، لأن في ذلك إساءة وتهديد للحرية نفسها بالعودة إلى الاستبداد، بدعوى القضاء على الفوضى، ثم ما يسببه الاستبداد والقمع من انفجار وتجدد للفوضى وغياب للأمن، وهكذا تدور المجتمعات في حلقة مفرغة ودوامات من العنف والإرهاب المتبادل ونفق مظلم من المأساة والتدمير والانقسام المجتمعي، والضعف السياسي والاقتصادي.

إن الحرية الآمنة تدرك كل هذه المعضلات فتتغلب عليها، إنها حرية محصنة ضد الفوضى لأنها تعي قيمة الاستقرار القائم على المشاركة الإيجابية والعدل واحترام الحريات والمحافظة على أمن المجتمع وقيمه الأخلاقية، ومن مسئوليتنا  الإنسانية والوطنية إدراك أن من طالبوا ويطالبون بالحرية أبدًا لا يريدون الفوضى، بل يريدون أن تحصل الشعوب على حقوقها في الكرامة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وفي ذلك تقدم الدول ورقيها.

إنها حرية آمنة لأنها تدرك أن المسئولية هي المعادل الموضوعي للحرية، حرية آمنة لأنها ليست حرية رأسمالية متطرفة ومنفلتة أو عشوائية، بل حرية آمنة لأنها رأسمالية تنموية ووطنية، وكذلك حرية تشجع الاستثمار سواءً وطنياً أو أجنبياً، مع التزام الدولة بالعدالة الاجتماعية التي هي أساس الاستقرار الاجتماعي.

وليس من الخفي الارتباط الواضح بين أجواء الحرية بوصفها مقدمة ومناخًا مصاحبًا للتقدُّم العلمي، وهذا نفسه ما حدث في انتقال أوروبا من العصر الوسيط إلى العصر الحديث “أليست الحرية عنصرًا جوهريًّا لرعاية العلوم؟ ألم يكن ضروريًّا للعالم أن يفوز بحريته ويتحرر من قيود العصر الوسيط”( برينتون،كرين، 1984،ص 126 ) وحتى إذا ما حقَّق تقدمًّا تقنيًّا في ظل أجواء القمع، فإنه قابل دائمًا للانهيار في أيامٍ معدوداتٍ، ولنا في تجارب التاريخ العظة والعبرة.

ومن ثم على كل المجتمعات، سواءً تلك التي اندلعت فيها انتفاضات وثورات أو تلك التي تعمل على التراتبية بين قيم الأمن والحرية والاستقرار، إدراك أن الحرية الآمنة تصنع الإنسان الكفء القادر على تحمل المسئولية تجاه مجتمعه ووطنه من أجل تقدُّمه وقوته وتحضره.

وتلك هي الحرية الآمنة؛ حرية العقلاء والأقوياء القادرين على سنِّ القوانين العادلة والالتزام بها، حكامًا ومحكومين، بوصفهم مواطنين أحرارٍ في مجتمع قويٍّ متماسك ومزدهر ومتقدم، ويقول الجابري”إن الديمقراطية تقتضي أولاً وقبل كل شيء، احترام حقوق الإنسان؛ وحقوق الديمقراطية بوصفها حرية التعبير وحق إنشاء الجمعيات والأحزاب، وحرية التنقل والحق في الشغل، وحق المساواة والعدل ودفع الظلم …إلخ، وهذه الحقوق الديمقراطية لا تقبل التأجيل ولا التفويت”(    الجابري، ص 8) إنها حرية آمنة لأنها تحافظ على الحرية نفسها باحترامها لحرية الآخرين، فحريتي آمنة بقدر ما يأمن الآخرين على حرياتهم .

إن الشخصية المتوازنة هي التي تتسم بالوعي فتكافح من أجل الحرية وقوة الوطن، ثم تحيا الحرية المسئولة التي تُحقِّق كرامة المواطن، وفي إطار هذا علينا التعلُّم من أخطائنا وأن نحترم إرادة الأغلبية الحرة والنزيهة؛ ففي ذلك الكفاح والوعي وتحمل المسئولية الوطنية حفاظ حقيقي على الوطن وإنقاذ للدولة.

نعم هذه المفاهيم والصياغات تحتاجها الكثير من المجتمعات، فالبحث عن الحرية أو الحصول عليها يرتبط في  الوقت نفسه بالتأكيد على هذه الصيغ التنظيمية التي تُحقِّق الأمن والاستقرار الذي هو الإطار العام لممارسة الحرية في معناها الإيجابي والعقلاني.

ثالثًا: آليات الاستقرار

بتلك المعادلة من حتمية الأمن وقدسية الحرية تتمكن المجتمعات من امتلاك آليات الاستقرار والتقدم والقوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث تصبح الحرية قوة متجددة للرأي والتنوع الإيجابي والإثراء والانتاج والعطاء والإبداع في كل مناحي الحياة، فذلك كله يعني الأمن القومي للدولة، وإن كثيرًا من المجتمعات في حاجة ماسَّةٍ إلى تفعيلٍ للحوار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ونحتاج إلى أن نذهب للقاء بعضنا بعضًا، ونحن مستعدون للحوار وليس للقتال.

إن ذلك الحوار الإيجابى هو سبيلنا للوقاية والتخلص من الطائفية والعرقية والجهوية، وذلك بالتأكيد على العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي، ومن ثم تحقيق أمن الوطن وقوته، وهذا هو الحوار الإيجابي الذي لا يتدنى إلى الإيذاء، بل يتسم بالاحترام المتبادل، فنحن نحتاج للحوار بالكلمات لا للتراشق بالإهانات، حوار لا يسقط في الإساءة والإسفاف، بل يعتمد العقلانية والإنصاف، فهذا هو المستوى الراقي من النقاش، وذلك هو الحوار الذي يبني الأوطان، إذن فلندرك أن المسئولية هي المعادل الموضوعي للحرية، ومن ثم علينا التعلُّم من أخطائنا، لتتحول التعددية من بؤرة تناحر وصدام إلى قاعدة ثراء وقوة، وبذلك مهما تعددت الأفكار أو اختلفت الآراء، يظل الوطن هو الكل المتماسك.

تتمكن الدولة عن طريق التوازن بين الحرية والأمن من تحقيق الاستقرار الإيجابى والمستمر، وليس الاستقرار الوهمي القائم على االفساد والاستبداد والقمع، لأنه-كما تقدم- مهما طال أمده فهو في النهاية يؤدي الى الانفجار والفوضى والدمار، ومن ثم فإن تقويض هذا الطغيان والمطالبة بالحرية والكرامة والعدل، والعمل على تحقيق ذلك، إنما هو الطريق العقلاني لتحقيق الاستقرار والتقدُّم الحقيقي.

أيضًا من أسس الحكم الرشيد إدراك أن القبضة الأمنية وحدها قد توجد هيبة مؤقتة للدولة، ولكنها أبدًا لا تُحقِّق وحدها مكانة للدولة، وفرق شاسع بين هيبة الدولة المؤقتة ومكانة الدولة، فهيبة الدولة المؤقتة ناتجة عن القمع والخوف، ومن ثم الكراهية وإمكانية دائمة لاندلاع الغضب والعنف وسقوط الأنظمة، أما مكانة الدولة فنتاج عمَّا تعتمده الدولة من عدل وحقوق وخدمات حقيقية لكل المواطنين؛ فمكانة الدولة تأتي من احترام القانون، سواءً في المنطلق العادل في التشريع أو في التفعيل الشامل على الجميع، فمكانة الدولة تأتي من رزانة وعقلانية الحكم، ومن ثم يأتي التماسك الوطني والروح الجماعية لتحقيق التقدم الإنتاجي والحفاظ على الأمن وتأكيد القوة، نعم من مسئوليتنا، حكاًما ومحكومين إدراك  أن العدل أساس الاستقرار، وأن الحرية أساس التقدم.

ويرتبط ارتقاء المجتمع بمدى تحرُّره من الانتماءات السلبية والنزاعات الفردية المتطرفة، حيث يأخذ الانتماء للوطن موقعه الطبيعي بوصفه قضية الوجود والمصير، وهذا الانتماء للوطن يؤكد على المواطنة لكل أفراد المجتمع من دون إقصاء أو تهميش لحقوق أيٍّ من هؤلاء الأفراد، ومن ثم يصبحون مواطنين لهم كل حقوق المواطنة وواجباتها، ويأتي في مقدمة تلك الحقوق حق العيش الحر والكريم لكل المواطنين دون استثناء، وهذا يتطلب حق التعليم والعمل، وكذلك المساواة أمام القانون الذي يفترض أن يكون تعبيرًا عمليًّا عن قيم العدل والحرية والكرامة،  وأيضًا الحق في حرية الاعتقاد والتنقل وحرية التفكير والإبداع والمشاركة في قضايا الوطن، وهذه الحقوق تستلزم بعدد من الواجبات وترتبط بها وفي مقدمتها احترام القانون والحرص على المصالح الحقيقية للوطن وما يتطلبه البناء الاجتماعي من العمل للخير العام للمجتمع، وكل هذا ينتج ويزدهر بنشر ثقافة المواطنة، فالمواطنة هى العضوية الكاملة في مجتمع يتم فيه توفير الفرص المتساوية بين كل أفراده بوصفهم مواطنين، كما أنها تعني الحقوق والواجبات المتبادلة بين الفرد والمجتمع.

إذن المواطنة هي الرابطة التي تتفوق على جميع الروابط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفرعية سواءً عرقية أو إثنية أو مؤسسية احتكارية أو طائفية عدوانية،  وذلك لأن المواطنة هي التي تستطيع احتواء كل هذه الانتماءات الفرعية  والجزئية، وذلك لصالح الانتماء الكلي للوطن، وبالتالي إذا حدثت انقسامات أو تمزُّقات فإن اعتماد المواطنة حقوقٌ وواجبات يُحقِّق علاجًا لهذه السلبيات والأزمات التي يمكن أن تتعرض لها الدولة الوطنية، فإن المواطنة تُعدُّ ركيزة وحدة الدولة، كما أنها تؤدي إلى تطور المجتمع وتقدُّمه، وبذلك نرى أنه لابد من التأكيد على مبدأ المواطنة وتعميقه، لأن هذا يُعدُّ سدًّا قويًّا أمام هذه المخاطر، فهي تُمثِّل أساس التماسك والأمن الاجتماعي والسيادة الوطنية، فالتأكيد على حقوق المواطنة من عدالة وحرية يعالج التفكك العرقي أو الإثني أو الطائفي، وذلك عن طريق إجراءات وآليات احترام كرامة كل المواطنين، والتأكيد على حرية العقيدة، والتوزيع العادل للموارد والخدمات والارتقاء بالبنية الأساسية لكل أرجاء الوطن، وبذلك نعالج التهميش ومخاطر التمرد والانفصال، كذلك من المسئولية الوطنية اعتماد آلية الفرص المتكافئة لكل المواطنين، واعتماد معيار الكفاءة والمشاركة في كل ما يتعلق بشئون الدولة.

كذلك كلما اقتربنا من العدل في العلاقات بين الدول، كلما كنا أقرب لتحقيق السلام والأمن، فكما أن الاحتلال والعدوان أصل الصدام فإن العدل والعطاء أصل الاستقرار، إن أكثر ما يُهدِّد الأمن الدولي هو اندفاع البعض نحو العدوانية وفرض حتمية الصدام والعمل على نهب حقوق الآخرين، ومن ثم فرض حتمية الصدام والعنف وكارثية الدموية بما يُشتت المجتمعات ويدمر بنيتها الحاضرة والمستقبلة، مع أن هذا الصدام وتلك الكارثية  ليست قدرًا محتومًا، فالعالم يتسع للجميع تعاونًا وعطاءً، وهذا لا ينفي التنافس بل والصراع بين الدول، وذلك في إطار التوجه لمزيدٍ من التقدُّم والرُّقي من أجل صالح المجتمعات.

ويُعدُّ انتهاج التعليم المثمر من أهم آليات تحقيق الاستقرار، وذلك عن طريق ارتباطه بسوق العمل ومن ثم يتحول التعليم من مصدر للبطالة والفقر إلى مصدر للعمل والاغتناء، فكل هذه الإجراءات تُحقِّق الأمن الاجتماعي ويزدهر بها الانتماء الوطني والأمن القومي.

إن هذا التعليم المثمر الذي به تزداد فرص العمل سيُساهم في تحقيق الأمن الاقتصادي خاصة للشباب، ومن ثم الأمن المجتمعي العام ، فالشباب إذا لم نشغله بما هو مفيد له ولمجتمعه، فسينزلق إلى ما يضر به نفسه ومجتمعه.

تتسم المجتمعات الآمنة بالتوجه لقيم العدل والحوار وحرية الرأي والفكر، بعيدًا عن الجور والظلم الذي يُضيِّع أمن المجتمعات، بل ويُضيِّع أمن الظالم نفسه، فالظلم هو الجور والتطرف إفراطًا أو تفريطًا، وفي ذلك ليس عدوانًا على العباد فقط، بل وكذلك عدوانًا على النفس بسبب إفقادها للطمأنينة، فالظالم مهما اكتسب واستحوز، أبداً لا يثق ولا يطمئن حتى لأقرب الناس إليه، هذا عن الدنيا أما عن الآخرة فالحال هو الخسران المبين ألا وهو الخلود في نار جهنم، خاصة إذا ما أصر الظالم على ظلمه وتكبره وجبروته.

ومن ثم فإن الظالم- على ما يظهر فيه من خيلاء- إلا أنه في حقيقته يفتقد إلى الحكمة والعقلانية، حيث تأخذه العزة بالإثم فيستمرأ الباطل، ويظل في طغيانه وجهله إلى حين موته فيندم على ما فاته من العقل والحكمة والإنسانية    ” وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ “(سورة الملك،الآية”10″) ولذلك على الظالم أن يستيقظ قبل فوات الأوان، فمن الحكمة أن نذكر أنفسنا دائمًا بألا ننحدر إلى مستنقعات الاستبداد والظلم ، وأن يكون إيماننا طريقًا للتحرُّر من المظالم ” الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ “( سورة الأنعام،الآية”82”) فالعدل والأمن صنوان حيث طاعة الله في خلقه عدلاً وعطاءً، وابتعادًا عن الفحش والإيذاء والحقد والكراهية، والتزامًا بحسن الأخلاق وصلة الأرحام وكرم العطاء وقناعة الأتقياء.

إن أعلى درجات الأمن والطمأنينة هي طمأنينة الإيمان حيث معية الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يوقن أن هناك ربًّا خالقًا وهبنا الحياة ويعطينا الخير ويكافئنا على الصبر والكفاح جنة ونعيمًا، وهذا مصداقًا لحديث الرسول (ص) “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”(أبو الحسين، مسلم / 336)

ىتتحقق قدسية الحرية وحتمية الأمن بألا نبتذل الحرية في التناحر والاندفاع وراء الأطماع، والنزوات الباطلة تلك التي تعتدي على حقوق الناس، فهذا الابتذال لابد من إيقافه بالقوانين، نعم علينا التخلُّص من وهم الحريات أو الأهواء المطلقة التي لا تحترم كرامة الناس وإراداتهم الاجتماعية والسياسية وحقوقهم الاقتصادية، فهذا الركام الكارثي يؤدي إلى الانشطارات الاقتصادية والتصدُّعات والتشققات المجتمعية.

إن السلطة القوية التي تريد أن تحقق الاستقرار هي التي تجسد العدالة المجتمعية متبرئة بالفعل من الطائفية الاقتصادية، فقوة الدولة وتماسكها الاجتماعي يأتي بتمثيلها وتعبيرها عن كل مكونات وقوى الشعب وكل مناطق وأرجاء الوطن.

إن هذا الفهم والوعي يمكّن المجتمع من تحديد غايات التطور الاجتماعي وآليات تحقيق هذا التطور، بحيث يعم خيره على كل طبقات وفئات وشرائح المجتمع، ولا يحدث تفاوتات شاسعة وفجوات عميقة بين مكونات المجتمع،  ولا يقتصر على طبقة أو فئة أو جغرافيا معينة، ومن ثم لا يكون إلا تطورًا زائفًا ومضرًّا، بما يؤدي إليه من تشوهات وصدامات داخل بنية المجتمع، وكذلك بين المركز والأطراف، ومن ثم افتقاده للطبيعة التكاملية التي تفترضها البنية السوية والمتماسكة للمجتمع، وهذا ماينبئ دائمًا بتوترات وتصدعات مجتمعية لا ينفع معها ما قد يظهر على السطح من استقرار، فكثيرًا ما يكون هدوءًا وهميًّا يمكن أن يتحول إلى عاصفة وانتفاضة مجتمعية في أي وقت، ولا يتحقق استقرار حقيقي إلا بتحقيق تلك الانتفاضة لأهدافها ومطالبها السياسية والاقتصادية.

ويُعدُّ التخلُّص من وهم الحريات المنفلتة، بما فى ذلك الحريات الاقتصادية المتطرفة، من أهم آليات تحقيق الاستقرار والأمن القومي للدول، لأن هذا التطرف يزيد من احتمالات الخلل والتصادم المجتمعي، وأيضًا انتشار عصابات السرقة والبلطجة، ومن ثم زيادة مؤشرات العنف والجريمة والقتل داخل المجتمع، ومن ثم فإن الحريات الاقتصادية المنفلتة تؤدي في أغلب الأحيان إلى انهيار الأمن المجتمعي، حيث الانحدار المخيف لكثير من شرائح المجتمع إلى دوامات البؤس والحرمان. ولذلك من العقلانية – إذا أردنا بالفعل تماسك وأمن وقوة مجتمعاتنا ونهضة أوطاننا – التأكيد على أن الاستقرار والأمن الحقيقي والدائم يتحقق بقدر الاقتراب من العدالة الاقتصادية حيث تتحقق التنمية الاقتصادية المجتمعية المستدامة والأمن والسلام والاستقرار المجتمعي.

إن التنمية الاجتماعية المستدامة هي تلك التي تحقق قوة اقتصادية لكل المواطنين؛ حيث القدرة الذاتية على الحياة االحرة والكريمة، إن التنمية الاجتماعية المستدامة هي تلك التي تزيد القوة الشرائية للمواطنين، وذلك بدقة التخطيط وسلامة التوجه وزيادة الإنتاج، وكل هذا يتضح بانخفاض أو تحسن الأسعار وازدياد القيمة الاقتصادية للعملة الوطنية، وتوفير فرص العمل وزيادة القدرات الانتاجية وقدرتها على المنافسة في الأسواق المحلية والدولية. وبغير ذلك فهي ليست بتنمية حقيقية، أو على الأقل تنمية تعاني من الخلل البنيوي في الفهم والتوجه.

إذن على الجميع أن يتحمل أمن الوطن، وذلك بإصلاح الخلل الاقتصادي والحد من الفساد ومقاومة نهب أموال المجتمع ومقدراته الاقتصادية وافتراس ثرواته البشرية، وذلك الإصلاح يتطلب التخطيط لاقتصاد متوازن لا يصيب المجتمع بالانشطار الاقتصادي، بل يعطي فرصة العمل والكسب، وليس مجرد مساعدة مؤقتة مليئة بالذل والانكسار، إن الإصلاح المتكامل هو الذي يحقق بالفعل الحياة الإنسانية الحرة والكريمة لكل المواطنين.

إن ذلك الأمن الاقتصادي يعد ضرورة حتمية للقضاء أو على الأقل الحد من جرائم السرقة والإدمان والبلطجة وكل ما يصاحب هذا من اختلالات أمنية. ومن ثم فهو من أهم آليات الاستقرار المجتمعي.

إن ذلك الاقتصاد التوازني يعني التوازن بين الحرية الاقتصادية والعدالة المجتمعية، وهذا بتشجيع الاستثمار الوطني الجاد والأجنبي المباشر، حيث تنمية القدرات الإنتاجية وازدياد قوة الأمن القومي للدولة، والتوجه الفعلي لتطبيق إجراءات العدالة الاجتماعية من الابتعاد عن اقتصاد التبذير والسفه والتوجه إلى إقامة الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، بإقامة المشروعات الإنتاجية الكبرى، حيث التنمية الزراعية كمًّا وكيفًا عن طريق استصلاح الأراضي، وتوفير البذور والأسمدة بأسعار مناسبة، وكذلك التوجه للزراعات التعاقدية؛ حيث تمويل الدولة وإشرافها العلمي للزيادة الإنتاجية،  فبهذا يتحقق الأمن الغذائي الذي يُعدُّ من ركائز الأمن القومي،  وتوطين التقنية عن طريق تشجيع الاستثمار الإنتاجي في البلاد، ومن شروطه استعمال الأيدي العاملة الوطنية، وأصحاب الكفاءات الإدارية، وتحقيق صناعة وطنية حقيقية وتنافسية محليًّا وعالميًّا، وكذلك مساندة المشروعات المتوسطة والصغيرة، وبذلك يصبح اقتصادًا وطنيًّا يصبُّ خيراته في التنمية المجتمعية لصالح كل المواطنين، وفي ذلك أيضًا معالجة لقضية معدومي الدخل وذلك بتوفير فرص عمل حقيقية، واعتماد الأجور العادلة، ودعم محدودي الدخل، كذلك من إجراءات العدالة الاجتماعية إلزام القطاع الخاص بحد أدنى للأجور يناسب أعباء المعيشة والحياة.

إذن من العقلانية التوجه لذلك الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ونشر منظومة المبادئ والقيم الأخلاقية وتكريس الروح العلمية التي تعني اعتماد البراهين المنطقية والتفكير والتخطيط العلمي في كل مجالات الحياة، فتلك هي أهم آليات الاستقرار حيث ترسيخ المعادلة التكاملية بين الأمن والحرية.

 

الخاتمة

من خلال ما تقدًّم يمكن تحديد عددٍ من النتائج:

_ إن لجدلية الأمن والحرية والاستقرار تأثيرًا قويًّا على المجتمعات، وهذا يُفسِّر كثرة النقاشات الفلسفية حولها قديمًا وحديثًا، بداية من أفلاطون وصولاً إلى جون ستيوارت ميل، ومرورًا بالفارابي والماوردي، وقد شكل الموقف من تلك الجدلية طبيعة المجتمعات وبنيتها الثقافية والسياسية.

_ يُعدُّ الأمن مطلبًا أساسيًّا لكل إنسان، كما أنه ضرورة وجودية للاستقرار المجتمعي، ومن هنا  تأتي الأهمية القصوى لأن تركز الأجهزة الأمنية وتتمسك بمهمتها المقدسة في حماية أمن المجتمع، ولذلك فإن من الأخطاء الفادحة في حق الشرطة والأجهزة الأمنية أن نلقي على كاهلها كل العبء الثقيل فى مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن ثم فإن من  العقلانية إدراك الطبيعة المتكاملة للأمن، وفي مقدمته الأمن الاقتصادي والأمن السياسي.

_ يُعدُّ المستبد خطرًا حقيقيًّا على كل مكونات المجتمع، حتى بما في ذلك الجهاز الشرطي، لأنه يضعه دائمًا فى مواجهة الشعب وحقوقه،  بل ويعد المستبد خطرًا داهمًا على الدولة وأمنها القومي، فبقدر ما يستقوي المستبد على شعبه، بقدر ما يضعف أمام الآخرين .

_ إذن – ومن منطلق الحفاظ على الأمن – علينا ألا نقع في كارثية ومأساة الاستبداد والقمع، لأن هذا سينتج – عاجلاً أو آجلاً – الانفجار والفوضى وضياع الأمن، فالذي يبيع حريته في مقابل أمنه، إنما يبيع حياته ويشتري الوهم، ومن هنا يأتي التأكيد على قدسية الحرية وحتمية الأمن.

_ تحقق المجتمعات تقدُّمها ورقيها وتحضرها بقدر إدراكها ووعيها لمعنى الأمن المتكامل ؛ وبقدر وعيها بحتمية الأمن وقدسية الحرية، فقوة الوطن في كرامة مواطنيه.

_ وتُلزمنا الوطنية والعقلانية  إدراك أن المسئولية هي المعادل الموضوعي للحرية، فلا تتحول  الحرية إلى فوضى، ولا يتحول الأمن إلى استبداد.

_ بهذه الصياغات يتحقق الأمن المتكامل والاستقرارالحقيقي، حيث نكون أقرب إلى التوازن بين الأمن والحرية، آخذين بالحوار والتعايش بديلاً عن الصدام والإقصاء، ومطبقين لمبدأ المواطنة حيث الحقوق والواجبات المتبادلة بين الفرد والدولة، ومدافعين عن العدل لنكون أقرب إلى السلام الدولي، ومحققين سياسات التعليم المثمر، وحاصلين على الطمأنينة الإيمانية ، ومعتمدين سياسات الاقتصاد التوازني حيث التكامل بين الحرية الاقتصادية والإجراءات الفعلية للعدالة المجتمعية، هذا إلى جانب حرية الرأي والفكر والإبداع، فالعدل أساس الاستقرار والحرية أساس التقدم.

_ إن الدول يُمكنها أن تحقق استقرارها الإيجابي وتقدمها المنشود وتحضرها الإنساني بقدر إدراكها لتلك المعادلة الذهبية من تكامل الأمن مع الحرية، فالأمن مطلبٌ وجوديٌّ والحرية هي طريق الإصلاح، وتلك المعادلة عن الحرية الآمنة تُعدُّ من أهم ما يمكن أن نُقدِّمه من معادلات حضارية في الفكر العالمي، فطوبى للذين فهموا الحرية فلم يبتذلوها، وللذين طبَّقوا الأمن فلم يستبدوا …  طوبى للعقلاء.

قائمة المراجع

أولاً: المراجع العربية

القرآن الكريم

أرسطو . السياسة . ترجمة أحمد لطفي السيد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب،  9197.

أفلاطون . الجمهورية.  دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا. القاهرة:  الهيئة المصرية العامة للكتاب .1974.

الجابري، د.محمد عابد. الديمقراطية وحقوق الإنسان .ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية

الفارابي، أبو نصر. آراء أهل المدينة الفاضلة . تحقيق البير نصر نادر، ط4،بيروت: دار المشرق1986

الفارابي، أبونصر . فصول منتزعة. تحقيق د.فوزي متري، ط1، بيروت: دار المشرق

الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد . الأحكام السلطانية والولايات الدينية. بيروت: دار الكتب العلمية1982.

برينتون ، كرين . تشكيل العقل الحديث.ترجمة شوقي جلال.مراجعة صدقي خطاب، الكويت: عالم المعرفة, العدد 82، 1982

بوبر، كارل .المجتمع المفتوح وأعداؤه . ترجمة د. سيد نفادي. بيروت: دارالتنوير للطباعة والنشر 1998 .

دى كريستي،أنتوني، مينوج، كينيث. أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة في القرن العشرين.ترجمة وتقديم د.نصار عبدالله،القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب2012

روسو، جان جاك . في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي . ترجمة عبدالعزيز لبيب. ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة2011

عبد الفتاح، د.إمام . هوبز: فيلسوف العقلانية . القاهرة: دار الثقافة للنشر 1985

عبد المنعم، د.مجاهد .هيجل قلعة الحرية . ط1، دمشق:  سعد الدين للطباعة والنشر1985

فرح أنطون . ابن رشد وفلسفته . حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، الاسكندرية في 1 يناير سنة1903

كرم، يوسف . تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط . دار العلم، بيروت، لبنان 1981

ماكيافيللي، نيقولا. الأمير. تعريب خيري حماد. ط1بيروت: منشورات المكتب التجاري1960

ماكيافيللي، نيقولا . المطارحات . تعريب خيري حماد، ط1، بيروت: منشورات المكتب التجاري، للطباعة والنشر1962

مسلم،أبوالحسين .صحيح مسلم بشرح النووي. القاهرة: دار الريان للتراث 1407 هـ

ميل، جون ستيوارت . عن الحرية .  ترجمة طه السباعي، ط1، القاهرة:  دار المعارف

ثانباً: المراجع الأجنبية

Ebenstein, W.Great Political thinkers. Third Edition, Holt, Rineheart and Winston/ New York 1962.

Hegel, F . Philosophy of Righ . Trans by. T.M. Knox at the Clerenden

Press. Oxford, 1962.

Hobbes, T .Leviathn.the Text Edited by A.R.Waller,Cambridge: at the University Press1904  .

Locke , J  .Two Treatises of Government .  Edition corrected, printes for Thomas Tegg, W. Sharpe and Son.  London/ Also R Griffin and Co/  Glasgow, 1823                                                               .

 

 

 

 

 

                              

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *